لم أكن أوَدُّ الدخول إلى ذلك المنزل ،ولكنني وجدت نفسي مضْطرا لدخوله ،فذلك الصّياح المتَعالي ذات عشية ،حتَّم علي معرفة ما يجري لتلك المسكينة ،التي لم أعتد منها إلا على صمتها ،الذي لطالما أرغمني على إعطاء الإعتبار لعِدة أسئلة تراودني كلما رأيتها .
كانت على ذا الحال تتلفظ بكلمات، إن خرجت على لسان امرأة ،ما كنت لأعدها ضمن نساء هذا الكون - كامرأة يجملها ضعفها ويعلو أفق عالمها المودة والرحمة والحنو ،فهي كتلك الطبيعة التي تضُم إلى حناياها كل الكائنات التي تحيا عليها ،مشتاقة لتنَوع فصولها ،واختلاف أيامها – اللواتي أَبَنَّ عن نضجهن ونبوغِهِن عبر الزمن .
غدوت مشدوها ،لم أنبس بكلمة ،الأب يتحرك في جيئة وذهاب من ركن إلى ركن وهو يسدل زفرة تلو الأخرى، ثم يسْحَب له مزيدا من هواء فناء المنزل ،الأم تتساءل عما ألمَّ بابنتها في غمغمة لا أفهمها، فهي لم تعهد منها شيئا غير الصواب وما يليه،الطبيب لم يعرف من أمرها شيئا ،واكتفى من علمِه وتجربته بوصفة لا تفي بالغرض،هذا ما علمته آنذاك .
كنت أقبع وسط دوامات خجلي،وأنا جار غريب لم يعهد منه الجميع إقحام نفسه في شؤون الغير ،ولكنني ما وجدت سبيلا للإفصاح عن مساعدتي سوى أن أطرق الباب ،وأدخل كما دخل آخرون وأخريات .
هي ذي تضرب وجهها ،وبعض آثار أظافرها بادية عليه وعلى يديها وذراعيها .
تبدو للناظر منهكة القوى تارة ،وقوية وثائرة وشريرة، تارة أخرى .
هي حمّى تسترق منها صمتَها المعهود لتُصَيِّرها هذه الأخرى الغريبة عنَّا وعن أسرتها في هذا الآن،تُغيِّبُ ذلك الصمت الذي يجمِّلها لتنحى به إلى حيث النكبات والأزمات. .
من يعرف سابق حالها ، يحسب صمتَها لم يكن إلا تجميعا لما يصدر منها الآن ولم تفصح عنه إلا مُرغَمة .
كل ما لا يمكن أن يُقال ،ها هي ذي تقوله ، لا تعلو سماءها قيم ولا حدود ولا نهايات ، منطلقة كأنها مركبة تعبر منعرجات و منحدرات "تيشكا الأطلس" بلا فرامل ،لم ألق بَالا لِشَاب وهو يدخل بذات الصفة التي دخلتُ بها ، كانت ترفس برجليها كل ما بجوارها ،أو تضربه بيديها ،وفي لمح البصر دسَّ قرصا صغيرا في فمها ،تساءلتُ في دخيلتي ،ما يكون ذلك الشيء ؟وما يكون ذلك القرص الصغير ؟
قامت من مكانها ،نظَرَت حولها ، مسحت وجهها ،حملت محفظتها في عجلة من أمرها لتخرج إلى العمل.
قالت وهي متجهة صوب الباب الموصَد: لا أعرف ما حدث ،ولكنني أجد نفسي تأخرت قليلا عن العمـل ، ثم انصَرفَـت والكـل مندهش لما كان من صدى صمتها .