الرجل الذي أطفأ الشمعة يتحدث إليَّ ، السعال يأكل نصف كلامه ، يتوالى السعال ،وتتوالى الكلمات المتقطعة الوازنة ، التي لم أعهدها في كلامه أثناء حديثنا المتكرر معا ، في ذات المكان الذي اعتدنا أن نملأه صخبا وضحكا متعاليا ، بتنا نملأه عبثا ، نملأه سموا بمحاذاة سكونه ونحن نتجاذب أطراف حديث أسهب في الشجن ، وسادت كُنْهَه أسرار من حقيقة لا يمكن حجبها .
جلس بين دخانين ،الدخان الذي يتدفق من سْبْسِيِّهِ وفمِه ،والدخان المتصاعد من الموقد ،كان دخانا يملأ سماء الجهة التي يقبع فيها . هكذا صار صاحبي . فهو آمِنٌ من دخانٍ يعتقده متنفَّسا وهو أذى ، وحَذِرٌ من دخانٍ كان من الأذى أبعد وأنأى.ألصق الأذى بما لا يجد منه لذَّة ونشوة ، وشفَع لدُخّانه الذي يلازمه فقال :
- هذا الدخان يكاد ينال من عَيْنَي، وهذا أستشعر فيه سرَّ وجودي، إن الطبيعة جعلت الخير كله في اللذة التي يستشعرها الجسم من شيء كهذا لا ذاك .
كان كل مرة ينحني ليملأ تلك القطعة الطينية الآجوريّة من سْبْسِيّه مخَدّرا ، ثم يحمل قطعة خشب ملتهبة ليضرم النار فيما حوته .
هو ذلك الذي يرتشف من نشوة يعتقدها عالمه الذي يجد فيه كل ملذاته ،فيحرق الحزن ويرمي بالتعب ،ويستقر هناك في عالم غير العالم الذي يحْيَا فيه الجميع ،منحني الرأس ،يحكي عن ماضيه ، يكلِّم المكان والنار ،والمخدّر،... يرسل آهاته ،وزفراته، ينعي كل ما ولَّى و انصرم ويخشى كل آتٍ .
سَرَى في حديث بين سواد الليل ،وشخوص الأمكنة التي أفنى فيها سنوات عمره ، يحكي للّيل حكايات جدّته ، التي حدثته عن السّكْر والخَمر والمُخمرات،......وتلَت عليه أحاديث تصدح بلُب القول ، وتذكر على صدى حكاياتها ،وصايا ونصائح الأولين.
كَيَوْمٍ خريفي تعبر ساعاتِه أربعة فصول ، أسدَلت علامات الغضب ظلماتِها على وجهه ، وهو مُشْمَئِزٌّمما هو فيه ، فنطق بنبْرة ملؤها حزن عميق :
- أنا على يقين أنني تائه ،رغم علمي أن ما أنا فيه ،لا يغدو كونه نزوة ،لم تجد الحزم والعزم ،لتفادي كل الفتن التي تحدث بداخلي، وتقض مضجعي ، هي فصام يأكلني ، يصيرني مزدوج الأنا ،أَنَا يبْعدني عن حافة الإحتراق ،وأنَا آخَر يُدنِينِي ويقَرِّبني من لهيب النار المشتعل فيناديني الهَوس الذي يتراقص مثيرا كل كياني ، فأعاود إشعال ما بتلك القطعة الصغيرة من الطين الأحمر من مخدّر .
رفع رأسه ،كتَم أنفاس نار "سْبْسِيِّهِ" ، وأخْمَدَ نار الموقد ، و هو يعِدُنِي بأنه لن يعود إلى عالم المواقد ،ولا إلى أجواء الدّخان الذي يشْخَص فيه بصَره ،وتؤرقه فيه الأحاديث المفرحة و الباعثة على الأمل ،حتى استشعر السراب في كل شيء .
صمَتَ قليلا ،لم أحاول إثارته لمتابعة حديثه ، لم ينظر إلي ، ربتُّ على كتفه ،وقلت له :
- أنا من يدعوك لتخلد للنوم هذه المرة ، فحالك الليلة أسوأ من حالي تلك الليلة.
ردَّ :
- لن أعود غدا إلى هنا !!
- قلت له :هكذا تقول كل مرة ، فما يأتي بك إلى هنا كان أقوى منك ومني ، لذلك فنحن أتباع دخان آيِل إلى سراب .وعين السراب أن لا نجد مخرجا للعودة إلى عالمنا الذي نتوق إليه ،فنشرد ونطلب الخلاص... صمَتَ قليلا، ثم نهض للنوم .
- الساعة الثالثة صباحا ، ناداني وسعاله يملأ الغرفة المجاورة :
- أريد أن أشعل" السْبْسِي "
-هل أنت من أخذ أعواد الثقاب التي كانت على الرَّف بالقرب من موقد النار ؟