في تمام الساعة الرابعة فجرا انتهيت من صياغة أسئلتي الأولية بعد قراءة متأنية للسيرة الذاتية لشمعون، وقد كونت فكرة جيدة عن الرجل، بل الحق يقال أنني كونت فكرة جيدة عن جده الذي عاش في القرن التاسع عشر والذي كان مقربا من السلطان آنذاك وجارا له ، لدرجة أن هناك من المؤرخين من قال أنه كاد يورّثه ، وأنه لما تزوج أقام له عرسا ملوكيا، وأنه لما مات بكى في جنازته بكاء مريرا وخالف بذلك كل البروتوكولات المرعية..وضعت رأسي على الوسادة بعد أن انتهيت من ترتيب أوراقي وأسئلتي..وقد قرأت فيما قرأت أن ذلك الجد كان حكيما وصبورا جدا وله دراية كبيرة بأحوال الناس وبارعا في فنون الطبخ وفي مغازلة النساء ولذلك جعله السلطان مستشاره في أمور السياسة والحب..
عفوا عفوا أقصد الحكم.. فقدت تركيزي بعد ليلة ساهرة فقررت الكف عن التفكير ومحاولة النوم حتى أستطيع ملاقاة حفيد مستشار الملك وأنا في كامل قواي الفكرية ، ثم أذن الفجر فكان ذلك سببا إضافيا للنوم ملأ جفوني أو بالأحرى التظاهر بالنوم..
الساعة السادسة صباحا لا أعرف هل نمت أم لا..لكن لا بد من مغادرة الفراش والبدء في التحضير النهائي للموعد الذي يعد بالنسبة لي موعدا مصيريا لأنه الموعد الذي سيتقرر من بعده هل سأصبح صحفيا أم لا كما أخبرني مدير التحرير مهددا وهو يكلفني بمهمة عمل لقاء صحافي مع شخصية كثر الجدل حولها..أسرعت في جمع الأوراق وترتيب الأسئلة للمرة العاشرة أو يزيد وخرجت من المنزل مسرعا فلم يبقى على اللقاء إلا ساعة ونصف تقريبا ، ولا أعرف لماذا اختار شمعون الساعة الثامنة صباحا للقائي ؟ هل لأنه ينام مبكرا أو أنه لا ينام ؟ ، وبالمناسبة هو كاتب يهودي مغربي شهير ومن أهم كتبه القاسم المشترك الذي يتحدث فيه عن التاريخ المشترك بين المغاربة المسلمين واليهود وما يجمع بينهما من صلات وأواصر.
" لم يكن جدي الأول نبيا ولا شارك في قتل نبي، ولم يكن والدي خبيث الطباع مثل أخيه الذي غادر الرباط ذات صباح نحو فلسطين ولم يعد.." هكذا ابتدأ شمعون سيرته التي ضمنها كتابه الأكثر شهرة "القاسم المشترك" ، وأضاف بأسلوب هادئ عميق أن والده طرد مجموعة من اليهود جاءوا من فلسطين ليقنعوه بالعودة إلى إسرائيل لكنه أجابهم والزبد يخرج من فمه "أنتم الذين يجب عليكم العودة إلى أوطانكم وأن تتركوا أطفال العرب وشأنهم.. " يقول شمعون في كتابه أنه كان حاضرا لما هدد والده بالقتل من طرف تلك المجموعة وأن والده طردهم وقال لهم بلا مواربة " أنكم خنتم المغرب الذي احتضنكم منذ قرون خلت عندما ذهبتم لاحتلال فلسطين وأنكم لو طردتم من هناك فذلك يعني أنكم ستبقون بلا وطن ، فالمغاربة يستحيل أن يستقبلوكم مرة أخرى ويأمنوا شركم.." والجميل أن شمعون لم يأتي على ذكر إسرائيل إلا في مواضع معدودة ودائما من باب القدح وكان باستمرار يذكر فلسطين.. أنا لا أصدق..صراحة أنا أستغرب أن يكتب شمعون مثل هذه الأشياء وهو الذي استقبل مرة عناصر من الحكومة الإسرائيلية في بيته وساهم ولو بشكل غير مباشر في تحسين صورة إسرائيل لدى المغاربة عبر وسائل الإعلام والثقافة..هكذا قيل عنه لكن لا توجد دلائل بل فقط أخبار متناقلة في الجرائد، الشيء الوحيد الذي قد نمسكه عليه كدليل على ولائه لإسرائيل رغم أنه من وجهة نظري لا يرقى لأن يكون دليلا قاطعا أنه قال يوما في برنامج تلفزيوني أنه يعتز بالكفاح اليهودي وقد اعتبره البعض دليلا صريحا على أن شمعون هذا صهيوني متخفي بجلباب مغربي..لكن كل أولائك الذين اعتبروا قوله ذلك دليلا على صهيونيته كانوا من الإسلاميين وفسروا حديثه عن الكفاح تفسيرا راديكاليا ، لكني لا أظن أنه قصد بحديثه افتخاره بإسرائيل بل فقط هو رد عفوي قاله للمذيع الذي استفزه بقوله أن اليهود لا تاريخ لهم أو بالأحرى لا تاريخ نظيف لهم، فرد عليه بذلك الجواب كنوع من الغيرة والعصبية وليس بدافع من تفكير وسياسة..من جهة أخرى يجب أن أشير إلى أن من واجب الصحافي توخيا للموضوعية والدقة ألا يأخذ أخباره من التلفزيون أو من أي وسيلة إعلام أخرى ، بل عليه أن يستقيها مباشرة من أفواه أصحابها وحتى إن اضطر إلى ذلك فعليه أن يهتم بالسؤال بقدر اهتمامه بالجواب وأن يراعي ظروف الحوار الدائر وخلفياته الإيديولوجية ومساحة الحرية فيه وأن يستخلص الخبر من كل التأويلات وأن يبحث عن الموضوعية ما استطاع ،على كل حال أنا أحس، وطبعا هذا لا يكفي في ميدان الصحافة ،أحس أن شمعون هذا يكن لإسرائيل ولاء من نوع ما وأن علي أن أكتشف ذلك ليرضى علي رئيس التحرير، لا بد أن أستدرجه ليقول خيرا في إسرائيل، أنا واع بصعوبة الأمر وخطورة الموقف لكنني أشعر بأن لي قدرة فكرية ومهنية تمكناني من اجترار أي محاور إلى ما أريد وتقويله ما لا يريد.
اقتربت من منزله الذي يوجد بالضاحية وطرقت الباب ففتح لي البواب وسألني بطريقة فظة وغير مبررة "هل من الخدمة؟" فأجبته "أنا الصحافي الذي.." لم يدعني أكمل وقال وهو يهم بإقفال الباب في وجهي "الأستاذ مشغول" قلت له أن لي موعدا معه فرد علي بسؤال أحرجني "في أي وقت ؟" ثم أقفل الباب فنظرت إلى الساعة بسرعة واكتشفت أنه مازال على الموعد نصف ساعة وتراجعت إلى الوراء مرتبكا وتذكرت أن شمعون يقدس الوقت لدرجة أنه كتب كتابا كاملا عنونه ب "إن لم تقطعه قطعك" يتحدث فيه عن أهمية الوقت وخطورته، ومن الطرائف التي صاحبت صدور هذا الكتاب أن صحفيا كتب عمودا قال فيه أن شمعون رجل دموي لأنه استعمل مفردات قاسية في عنوان كتابه، وقد علق شمعون على المقال قائلا أنه اقتبس العنوان من مثل عربي..
انتظرت قليلا قرب المنزل حتى يحين موعد اللقاء، وذهبت إلى زاوية من الشارع لانتظار الموعد لكن وما إن وقفت حتى جاء إلي شرطي وسألني عن سبب وجودي هناك فقلت له أنني صحافي و..فقاطعني بمهنية عالية قائلا "ارحل عن المكان فورا" حاولت إقناعه بأن لي موعدا مع الأستاذ شم..لكنه أعاد على مسامعي جملته المفضلة "ارحل عن المكان فورا" فرحلت عن المكان لكن بتثاقل..كنت أقدر أنني سأقابل رجلا مهما لكنني لم أكن أعرف أنه مهم للدرجة التي تجعل مني أنا مجرد رجل بلا أهمية، حزنت كثيرا.. في الحقيقة غضبت وتمنيت لو أنني الآن تحت الفراش أحلم بعالم بلا شرطة وبلا بوابين..رغم ذلك لم أستسلم وبقيت أجول في الشارع القريب، وكان غضبي لم يصل لدرجة أن آخذ قرارا بألا أعمل اللقاء الصحافي وأطرد بالتالي من الجريدة قبل أن أشتغل فيها، على كل حال فالصحافي ليكون صحافيا ناجحا عليه أن يكون بلا عقد وفي بعض الأحيان بلا كرامة..لن أرحل وسأقابل ذلك الرجل الذي تحيط به الأسرار وسيارات الأمن من كل جانب..واقتربت من منزله مرة أخرى وطرقت الباب والذي لم أكن أنتظره أن يفتح لي شمعون الباب بنفسه..غريب..وفي وجهه ابتسامه رقيقة رائع.. نظر إلى ساعته وقال لي بصوت رخيم مرحبا سبحان الله..، نسيت كل ما جرى بعد تلك الابتسامة الهادئة وغير المتوقعة وارتحت فعلا بعد قوله مرحبا التي زينت ملامحه وأخجلت ملامحي..ولم يعد يهمّني ما قاله البواب ولا جملة الشرطي المفضلة ولم تعد تغريني أحلامي..نحن شعب عاطفي بلا شك، نتأثر بكلمات المجاملة ونتعصب لأخطائنا كما تتعصب العاهر للقطائها..أعترف أنني أخطأت لما طرقت الباب قبل الموعد وأعترف أنني احترمت شمعون حين فتح لي الباب في الموعد رغم أنني لا استلطفه..هو رجل في غاية الأناقة وقد زادته قامته الطويلة وشعره الذي ملأه الشيب وجلبابه الفاسي هيبة ووقارا أو هكذا بدا لي للوهلة الأولى، ورغم كبر سنه فلا تستطيع وأنت تراقب حركته وطريقة كلامه وضحكاته المتواصلة أن تقول عنه أنه شيخ..هو رجل غامض وغموضه يجعلك تحتار بين كرهه كرها مميتا وبين الإعجاب به..خيرني بين الجلوس في الحديقة أو الدخول إلى الداخل فاخترت الداخل وقد كانت بي رغبة كبيرة في معرفة ما يوجد بداخل هذا الرجل الغامض ، جلسنا في غرفة المكتب ولا أستطيع أن أصف روعة ذلك المكتب..لن أقول كلمة واحدة في وصفه لأنني فعلا لا أستطيع..تحس وأنت فيه أنك في حضرة مل..أو رئي..لا لا أستطيع.
أخذ قلما كان موضوعا فوق المكتب تأمله قليلا وبادرني بالسؤال لما رآني منشغلا بإخراج أوراقي.."من أين سنبدأ من الداخل أم من الخارج ؟" صمت قليلا وأكمل وكأنه يرغب في إزالة توتري أو كأنه يسليني بكلامه وأنا منهمك في الإعداد للحوار "يقال أنك لمعرفة أخبار الداخل يجب أن تستمع لإعلام الخارج" فقلت معلقا وراميا للكرة في ملعبه "ما رأيك أنت ؟" فقال وقد اكتسى وجهه بعض الجدية والحزم "رأيي أنك تقتطع الوقت من الساعة التي خصصناها للقاء في أشياء.." لم يكمل، فأغضبني أنه لم يكمل أكثر مما أغضبني كلامه نفسه ، ودفعني الغضب إلى أن أكف عن كل شيء وأقول له بكل وضوح " لنبدأ من إسرائيل" فرد بهدوء مستفز "أفضل أن نبدأ من المغرب لأنه البلد الذي أعرفه أكثر، ومن تم ننتقل إلى كل العالم" وافقته وسألته وأنا مهتم بألا يظهر على وجهي أي تعبير " وماذا تعرف عن المغرب ؟" صمت برهة.. تنهد بحزن ثم قال "هل أنت صحافي أم مخبر ؟" لم يعجبني تعليقه فقلت متحديا "وما الفرق ؟" لم يعجبه سؤالي فقال "أنت تذكرني بأيام عصيبة مررت بها" "ما هي؟" "أفضل أن نؤجل اللقاء" "لما ؟" "لأن الوقت غير مناسب" " لكنك أنت من اخترت الوقت؟" الآن فقط عرفت أنه غير مناسب.." لم أجب فقال "اعتبر اللقاء قد تم واكتب ما شئت " قام من على مكتبه وكنت قد وقفت قبله، طبعا سأكتب وسأفضح شخصية هذا الذي يدعي أنه مغربي.. لم أتحرك عن المكان الذي أقف فيه في انتظار أن يخرج هو فأتبعه لأنني في الحقيقة نسيت خارطة الطريق إلى الباب..لكنه بقي واقفا ينظر إلي وكأنه ينظر إلى طفل يريد معاقبته لكنه مشفق.. ثم قال.." ما لم يعجبني فيك أنك جئت وفي ذهنك أحكام مسبقة كالمخبر تماما..مخبر نازي أو..لا أعرف.." "من فضلك ، أنا في بيتك ولا مبرر لك في إهانتي..فابتسم وجلس مرة أخرى وقال.." أعتذر، لكنك أنت من بدأت باستفزازي..يمكننا الآن أن نكمل حوارنا لو قبلت طبعا.." فجلست وفي ملامحي استغراب وحيرة فقال " بشرط أن تدع عنك هذه الأوراق ولنكن عفويين.." بالإضافة إلى أن هذا الشمعون رجل غامض وذكي فانه يشترك مع جده الذي كان مستشار الملك في صفتي الحكمة والصبر ويجيد فنون التحول والمراوغ وقد عرف كيف يورطني في احترامه ليدير الحوار لصالحه ، ويجعل من نفسه الضحية ويفرض علي أن ألعب دور الشرير أو المخبر كما وصفني ، لكنني لم استسلم طبعا وفاجأته بسؤال.." يقال عنك أنك من مؤيدي إسرائيل بماذا تجيب..؟" تهيأت لكتابة ما سيقول لكنه أخذ القلم وخط بعض الخطوط في الورقة التي أمامه وقال " نعم.." كتبتها بسرعة وجاءني شعور أني قد انتصرت بالضربة القاضية وأن تكملة الحوار مع هذا الشخص لا تهم وتصور أمامي العنوان الذي سيعلو حواري الصحافي هذا " شمعون يعترف بتأييده لإسرائيل" ، يا له من نجاح كبير حققته من الجولة الأولى ومن أول لقاء لي في حياتي المهنية ، لقد ربحت فرصتي في أن أكون صحافيا كبيرا..غير أنه أكمل وقد أضاف خطوطا أخرى إلى الورقة " نعم ، هكذا يقال عني لكنني بريء مما يقولون وأزعم أنني مغربي أكثر منهم " خاب أملي وخاب معه ظني وتهدم عنواني فوق رأسي كما تتهدم مقصورة من الحجارة فوق بركة من الوحل ، فسألته وأنا أمد بصري إلى الورقة التي بين يديه لأستبين ماذا تعني خطوطه فلم أفلح " وهل يلغي كونك مغربي أن تكون إسرائيليا ؟ فكثير من اليهود المغاربة يعيشون الآن في إسرائيل وبعضهم يحتل مناصب مهمة ومازالوا يحتفظون بالجنسية المغربية" فقال معارضا "في هذا الأمر بالذات القانون الذي يسري علي هو قانون حقوق وواجبات وليس قانون سياسة ومصالح..هل فهمتني ؟ أنا حر ، وأعتقد أن مجرد ذهابي إلى إسرائيل يعني أنني لست مغربيا..ما رأيك أنت؟" " أنا اتفق معك طبعا"..قلتها مبتسما..فقال مستبشرا.." الحمد لله الآن فقط سنبدأ حوارانا بموضوعية وبلا أحكام مسبقة "..وتحدثنا كما أراد، سألته عن كل شيء وكان يجيب بذكاء غريب وتفصيل أغرب حتى أنني كنت أكتب الفكرة الأساسية وأدعه يفصل وأحول اهتمامي إلى طريقته في الكلام وإلى ملامحه فكان يبدو بجلبابه الفاسي وكلامه الموزون كفقيه من جامع القيروان وكرئيس عصابة عندما يتكلم متعصبا لكن ببرودة دم..ثم سألته " لماذا قلت في البداية أنني أذكرك بأيام عصيبة مررت بها ؟ " ابتسم ورفع يده دلالة على تجاوز هذا السؤال وبعد أن صمتت عن قول السؤال التالي إصرارا مني على معرفة الجواب قال بهدوء وبصوت عميق وبتأثر واضح ومفاجئ " حاولت مرارا أن أنسى تلك الأيام لكنها فعلا لا تفارق ذاكرتي خصوصا عندما يشكك أحد في وطنيتي..لقد تعرضت للتنكيل فقط لأنني متشبث بمغربيتي..هل سبق أن تعرضت أنت أو أحد من عائلتك للتعذيب والسجن لأنك مغربي ؟ " فاجأني السؤال فقلت بطريقة آلية ودون تفكير "لا" ثم تابع بنفس النبرة الحزينة العميقة " أما أنا فقد دفعت ثمنا باهظا على مغربيتي..في يوم من الأيام خطفت من بيتي من طرف جنود فرنسيين أيام الاستعمار..حاولوا إقناعي بأن أتخلى عن جنسيتي المغربية وأخون بلدي فرفضت فكان جزائي السجن..أتعرف أين سجنت ؟ لا طبعا لن تعرف ولا أحد من الذين يكرهونني يعرف أنني سجنت في الجزائر.." وبكى.. شمعون يبكى ؟ لماذا ؟ لم أساله لكنني تأثرت لبكائه.." ألهذه الدرجة ؟ " مسح دموعه وهو يبتسم وقال.." لا عليك..هكذا هم الرجال عندما يكبرون ترق قلوبهم وينشغل فكرهم بالصور القديمة.." وبدأ يتحدث عن تاريخه مع الاستعمار وكيف أنه ساهم في المقاومة الشعبية منها والسياسية ، وأدخلني دون أن أدري إلى عالمه وجعلني أكف عن الكتابة وفي بعض الأحيان حتى عن الاستماع وأتوه في عالم من الصور والأخبار لا أعلم ما الحقيقي منها وما الكاذب ، وفجأة قام من مكانه وشغّل موسيقى هادئة وهو يقول " إنها لمزار..أتحبه ؟ " عاد إلى مكانه وأنا أراقبه ولا أفهم منه شيئا وقال دون أن يترك لي المجال للرد على سؤاله " أنت ربما تستغرب لما فتحت لك قلبي إلى هذا الحد؟ أنا كذلك استغرب ولا أعرف لماذا..ربما لأنك مازلت صغيرا وفي عينيك براءة المبتدئ ، أو ربما لم يعد يهمني ما سيقال عني.." وفهمت من تعليقه هذا أنه يطلب مني عدم نشر ما جرى من تأثره وبكاءه، ثم أكمل بهدوء " أتريد أن أعطيك دليلا على مغربيتي ؟ " توقف عن الكلام قليلا وغاب مع موسيقى مزار، وبدا لي للحظة أنه لن يقول شيئا..وأنه ربما نسي ما قال وليس بعيدا أنه سينظر إلي بعد قليل ويسألني سؤل المجانين في مثل هذه الحالة من أنت ؟ وكيف دخلت هنا ؟ وربما يخرج مسدسه المرخص ويطلق على رأسي ما تيسر من الرصاص ن أو يستنجد بالشرطة مدعيا أنني إرهابي فتنقلب حياتي رأسا على عقب ، والمرعب في الموقف كله أنني نسيت طريق الباب..لكنه ابتسم أخيرا إلى حد الضحك وكأنه كان يقرأ أفكاري وقال "سأعطيك دليلا على مغربيتي لكن بشرط أن تعطيني أنت كذلك الدليل على مغربيتك.." لم أستطع ..لم أستطع أن أفهم مقصده وتساءلت في نفسي هل يوجه إلي تهمة بخصوص جنسيتي أو شيء من هذا القبيل..والمخجل في الأمر هو أنه جعلني فجأة فاقدا لأي دليل مقنع على مغربيتي،هذه ليست مبالغة وليست إعطاء للرجل فوق ما يستحق بل أكاد أقول أنها ليست مدحا في حقه ولا تواضعا مني ، بل هو واقع طبيعي وقانون من أهم بنوده كما قال شمعون نفسه في كتابه القاسم المشترك أن الوطن ليس أوراقا أو وثائق بل هو إحساس عميق بالحب والانتماء بين مجموعة من الناس يعيشون على نفس الأرض..لا أعرف ما مدا صحة أقواله لكنني أعترف صدقا أن كلامه جذبني وأن أفكاره جعلتني اقتنع أن هناك أشياء غير متوقعة وان هناك دائما أشخاص يصعب تصنيفهم أو اتهامهم.." بهذا المعنى يبدو أننا سنقع في مشكلة " هكذا سألته فرد وهو يبتسم.." فهمتك تقصد أننا سنضطر إلى سحب الجنسية عمن لا يمتلك تلك المواصفات..؟ "تماما هذا ما أردت قوله.." " هي مشكلة طبعا لكنها مشكلة أولائك الذين لا يشاركون في البناء ولا يشعرون بالحب تجاه الآخرين ويقتلونهم لمجرد أنهم يختلفون معهم في الرأي أو الدين ، لكن هذه المشكلة لن تستمر ستزول بمجرد أن يستدركوا الأمر ويكفروا عن زلاتهم ويتنازلوا عن إرهابهم.." احضر الخادم القهوة ووضعها فوق طاولة أمام رجلي ثم خرج دون أن ينبس بكلمة أو نفس ، ثم قام شمعون وجلس في الكرسي المقابل لي وصب القهوة بنفسه دون أن أتوقف أنا عن طرح أسئلتي " هل تدعو بهذه الفكرة إلى وضع تعريف جديد للوطن وشروط أخرى للمواطنة ؟ " "ربما " ، قدم لي فنجان القهوة بطريقة متحضرة وفكرت للحظة أنه سبق له أن اشتغل كنادل في شبابه في إحدى مقاهي باريس أو لندن.." شكرا " " من فضلك.." ، عاد إلى مكتبه فقلت بعد أن ارتشفت القهوة " لكن ما ذنب الذين لا يجدون ما يعملون ؟ أو الذين يظنون أنهم بتصرفاتهم التي لا نقبلها نحن يخدمون الوطن ؟ فكر معي جيدا وستكتشف أننا لو أسسنا وطننا على الحب ووضعنا أمامنا قضية مشتركة ووجدنا ما يمكن أن يكون قاسما مشتركا بيننا لن تعترضنا مشاكل من هذا النوع ، فأنت لن تكون مغربيا إلا إذا أعطيت الدليل على انتمائك للمغاربة بكل اتجاهاتهم ، وانتمائك إليهم يعني عملك من أجل إسعادهم وضمان استقرارهم " ، لم أفهم بالضبط ماذا كان يقصد شمعون من ذلك كله وأنا بالتأكيد صحافي فاشل كما قال لي رئيس التحرير وأنا أقدم له محتوى لقائي مع شمعون وأبشره بالوطن الجديد الذي دعا إليه والذي يبدأ تأسيسه بإيجاد القاسم المشترك بين المغاربة بكل أعراقهم ودياناتهم..لم يدعني أكمل وقال لي بطريقة فظة اختر لك مهنة أخرى فأنت إنسان مؤدب ولا تستطيع الاصطياد في الماء العكر..وبعدها قهقه مستهزئا وقال " هاذ الشي لي بقالنا"وانتابني للحظة إحساس بأنني ضيعت على نفسي فرصة لأن أكون صحافيا ، وتذكرت كيف ودعني شمعون وفي عينيه كل معاني الحب والانتماء ، وكدت أبكي لأنني كنت فعلا في حاجة لأن أعرف المزيد عن القاسم المشترك بيننا دون أن أفقد عملي .