اراد ان ينتحر . بعد ان اعجزته الدنيا ، وضاقت به كل الدروب . فانسل خلسة الى عمارة عالية ، ظل يرصدها منذ وقت طويل وكانها فتاة جميلة يراود عندها احلامه ، وامنياته .
وقف عند الطابق الثلاثين . اراد ان يلقي بنفسه من هناك الى الارض . نظر الى الاسفل . فدارت براسه الدنيا . فبدا مترنحا . فهو لاول مرة يرى الارض من هذا البعد الشاهق . تمسك جيدا بالسياج المحيط بالبناية بعد ان اشاح بنظره بعيدا لئلا يشعر بالدوار الذي تنتجه فوبيا الارتفاعات العالية . فكر في نفسه :
لو سقطت من هنا فسوف اندثر تماما . وسوف لن يتبق من جسدي شيء . مع ان طابقا واحدا او طابقين اثنين يكفيان للموت . دون الحاجة الى ان ينهرس لحمي مع التراب فيضيع مثل معجون طماطة منكفيء .
احس برهبة الموت تنتابه فبدا يلف ويدور امامها ، وهو الذي كان يخطط لمثل هذه اللحظة منذ زمن طويل .
فلأنزل قليلا . قال .
نزل طابقين . اقترب من السياج مرة أخرى نظر إلى الأسفل حذرا .
- لاتزال الأرض بعيدة جدا بما يكفي للموت . هنا سوف تضيع معالمي ولن يستطيع احد ان يتعرف على جثتي . فلأنزل قليلا اكثر . نزل طابقين اثنين آخرين . أراد أن ينتحر . يلقي بنفسه من هناك وينتهي كل شيء .
لكن من يدري ماكنت أعانيه قبل أن انتحر . فلأكتب شيئا أتناول فيه معاناتي .
تناول ورقة وقلما تعوّد دائما ان يحملهما معه حتى في الايام العادية فهو كاتب ، وهو يمارس الكتابة بشكل اعتيادي ومستمر . ولكنه احس بهاجس الكتابة يجذبه اليه الان . جلس وهو في الطابق العشرين او اقل منه قليلا ليكتب شيئا عما يشعر به عند هذه اللحظة . قال لعل من يستطيع ان يعثر على بقايا جثته ان يفهم شيئا مما كان يعانيه في حياته . كتب :
كنت الوذ بالحياة علها تبعث الفرح يوما ما في روحي . لكني وجدت ان تلك الروح هي ما يبعث الشك في التمسك في اسباب بقائي ان الشك في مبررات الحياة هي مايجعل الإنسان يندفع نحو الموت حلا لإشكالاته . أنا أحس السبل كلها مغلقة وكأنما هي فعلة فاعل اكبر من إرادتي .
نظر الى نفسه وتساءل عما اذا كان قد حل بعض اللغز عما يعتريه من غموض .
لملم الورقة وضعها في جيبه . لم يكن متاكدا ، فيما اذا القى بنفسه من الطابق العشرين ان تظل الورقة في جيبه او فيما اذا كان سيبقى عنده جيب اصلا لياتي لقراءتها احد ؟ .
فكر في نفسه قال :
انا اريد ان انتحر واتخلص من الحياة ولا اريد ان انتقم من نفسي . هناك في الحياة موت . وهناك في الحياة ايضا موت وتمثيل بجثة الميت وعبث فيها . فلماذا امثل بروحي لعبة العبث تلك ؟ هل اريد الانتقام ؟ الست انا نفسي ضحية الانتقام ؟ اذن ماهو ذنب نفسي لكي اقوم بكل ذلك ضدها ؟
وراح يفكر في وسيلة ينتزع من خلالها الحياة من جسده بوساطتها ، دون ان يمارس فعل الانتقام بذلك الجسد .
لو كانت لي القدرة وكنت بظروف اعتيادية طبيعية لمارست فعل الانتقام ضد اولئك الذين اوصلوني الى هذه الحالة . بدلا من ان اذهب لايذاء جسدي ، الى حد التشويه .
وفكر انه يضيع الفرصة على نفسه للخلاص . بهذه الحجج التي لاطائل من ورائها . ذلك ان فكرة الانتقام من الاخرين هي نوع من الميول العدوانية ضد المجتمع . وهو مايرفضه كمثقف وواع . ولولا تلك الثقافة وذلك الوعي ماوصل الى هذه النقطة الحرجة من حياته ولعاش سويّا كما يعيش غيره . فان فكرة الثار تبعده تماما عن حالة السلام التي يريد ان يصل اليها بروحه . كان مصرا على الموت . ولكن كان يريده موتا يحفظ له ماء وجهه ، ووجه عائلته من بعده . وان يبعد عن نفسه صفة الجبن الذميمة التي يقال انها تخالط نفوس المنتحرين قبل لحظات ممارستهم فعل الانتحار .
وراح كيانه يرتجف قليلا . ان المقدِم على الانتحار يحتاج الى شجاعة كافية وقناعة تجعله يمارس عملية مفارقة الحياة التي أحبها وتعلق بها مع كامل أحلامه ورغباته ، ضاربا قوة الشد التي تسلطها غرائزه باتجاه معاكس لفعل الموت . ليكتشف وليس ذلك لأول مرة إن الإصرار على الموت مع عدم وجود اثار للمرض على جسده مع صحة كاملة وقوى جسدية لم يخالطها شيء . انها ليست مجرد حالة اراد ممارستها في لحظة ما من لحظات حياته التي يحس انه يجلس خلالها على الحافة بلا اتزان آيل للسقوط في أي لحظة ، بإرادته .
لقد جاء إلى هنا ، الى هذه العمارة العالية التي أغرته بعلوها حين كان يفكر طويلا في وسيلة سهلة للموت والخلاص ، وقد مرت بباله جميع البدائل التي يعرفها . انه ومنذ مدة ليست بالقصيرة ينظر الى تلك البناية التي صارت بالنسبة له هدفا تحرره من حياته الشقية وهاهو ذا يكاد يصل الى رجائه وغايته وهو يقف في البناية يتنقل بين طوابقها الثلاثين ، بحريّة من لاشيء لديه ليفقده ، وهو الذي يبحث لنفسه عن موت مشرّف ونظيف .
ولكن ماذا لو القيت نفسي من الطابق الاول او الطابق الثاني ولم امت ؟ عندئذ سوف اصاب بالعوق المزمن وقد اتحول الى معتوه . وراحت فكرة العته تدمر افكاره . فان الجنون لا سعادة فيه رغم انه يفقد الانسان العقل الذي يكون في معظم الحالات ماساة الانسان . ولكن ايضا في هذا الزمن سوف يتقاذفه الاطفال بالحجارة ويصدونه ويصرخون في وجهه انى ذهب بمجرد احساسهم بحالة جنون لانسان يقترب منهم .
ميت مهروس خير لي من معتوه في زمن لا منأى للعاقل فيه من جحيم الحياة .
اراد الموازنة بين الموت والخروج بجسد سالم مع خروج الروح منه . وهي موازنة صعبة معقدة جدا بين الروح والجسد . وراح ينزل بنظره وفكره بين الطوابق الخمسة الاولى صعودا ونزولا وهو يقيس المسافة بعينيه وعقله ، بعد ان اخذ يرى المارة بوضوح اكبر . وابتداء من هذه اللحظة ، راح يتهم نفسه بلا جديتها في ماهو مقدم عليه . لقد اصابه الخور وهو يتخيل نفسه وقد سقط ولم يمت . او انه صار ميتا وقد انهرست عظامه مع لحمه وأديم الارض .
وراح يتخيل المشهد المرعب لجسده المهروس .
ستموت وستوارى التراب وسينتهي كل شيء وهذه هي النتيجة الحتمية للموت .
وذهب خياله الى الجبهات الحربية وكيف كانوا يجمعون اشلاء الموتى لكي يرسلوها الى اهاليهم في اكياس تشبه تلك التي تجمع فيها نفايات البيوت ايام اللاحرب واللاسلم .وهو الذي لم يشهد في حياته اياما للسلام التام ولم ير نفسه الا وهو مهدد بالموت مع انه لم يمت . وربما لو انه مات منذ ذلك الزمن لانقطعت صلته بهذا العالم ولم يصل به الحال الى هذا الوضع القلق المتعب . وضع من يبحث عن خلاصه بين السماء والارض . بين طوابق العمارة والجاذبية الارضية .
قر قراره اخيرا ان ينزل الى الطوابق الخمسة الاولى . ليلقي بنفسه من هناك . ولم يحدد الطابق المؤكد ولكنه سوف يبتدا بالطابق الخامس . ليتاكد له نظريا على الاقل ماذا سيحدث له . وحين نزل الى الطابق الخامس . تاكد له انه مرتفع كثيرا . حوالي خمسة عشر من الامتار او يزيد مع انه سمع عن كثيرين ماتوا من ارتفاع ثلاثة امتار . ورغم ذلك فقد استمر يفكر في حل اسهل . حل وسط . يتخلص فيه من ماساته التي يعيشها وهي التي تتراوح بين رغبته في الموت مع وضع مشرف لما يتبع سمعته وجسده .
وفكر ان خياراته مع الموت هنا بدت ضئيلة . واحس بجسده قد بدا مصابا بالخور والضعف نتيجة الحركة المفرطة والصعود والنزول بين طوابق العمارة . وراح يفكر في مغادرة العمارة العالية والعودة اليها في وقت اخر بعد ان يكون قد تعرف على الموت فوقها مع حالة نفسية اكثر استعدادا للموت . او ان يبحث عن وسيلة اخرى من وسائل الموت الرحيم وما اكثرها .
في تلك اللحظة كان حراس العمارة وساكنيها قد احسوا بشخص ما يكاد يثير الرعب في وضعه غير الاعتيادي وهو يصعد وينزل امام كاميرات المراقبة . فقرروا القبض عليه . فتم اخبار الشرطة التي حبسته بعد ان القت القبض عليه .
قذفوا به في السجن بتهمة غير مؤكدة . ربما التهيؤ لحين تفجير العمارة وهي تهمة لايستطيع احد ردها عن نفسه الا اذا اعطى مسوغا معقولا لوجوده في تلك العمارة طيلة النهار . حتى اذا راح يحاول تخليص نفسه بالقول اني كنت احاول ايجاد طابق ذي ارتفاع معقول اردت القاء نفسي منه . وجد من يسخر منه . ذلك ان لااحد يصدق احدا يريد الموت بمقاس مناسب له يحافظ فيه على طراوة جسده امام الموت . ان المشكلة مع الموت انه غير معقول بشيء . فكيف يمكن تصديق شخص يريد الموت يخاف على جسده من الانهيار الكامل . ويخاف على سمعته من الاتساخ .
في بداية اعتقاله نسي تماما فكرة الانتحار امام مشاغله الجديدة . ولكنه بعد ذلك ابتدا يخطط للموت من جديد . اذ لم يطرا على حياته طاريء يعيد المصالحة بينه وبين الحياة .
ولذلك راح يفكر لنفسه عن طريقة جديدة للموت تتناسب مع ماهو فيه من وضع في داخل سجنه الذي سيبقى فيه الى ماشاء له حظه . مع ملاحظة انه لم يكن ليصل الى حل حينما كان طليقا يتمتع بكامل حريته وعليه الان الوصول الى حل وهو سجين .