تعطلت كل الأفكار في رأسه حين دخل فضاء المقهى، وناوشه شعور بأنه عاد إلى الوراء عشرات السنين في سلم الحداثة.. فالمكان ليس فيه من المقهى إلا الاسم الذي كتب بخط رديء على صفحة قصدير بالية.. هي أرض بلا سقف، انتظمت في شكل مصطبات مبلطة متدرجة تنتهي عند حافة سحيقة تطل على البحر.. أُثثت بطاولات وكراسي موغلة في البدائية.
وقف في الممر الأول يمسح بعينيه الفضاء محاولا أن يرمق طاولة شاغرة، لكن كثافة الظلام حجبت عنه الرؤية فاضطر إلى الانحدار يستطلع المصطبة تلو الأخرى. وفي كل مرة كان ينفر مهرولا إما بسبب روائح الحشيش التي تباغت أنفه أو بسبب قبلا ت ماجنة تفرقع من فرط عبث الريق بالريق.
أخيرا عثر على طاولة فارغة في الممر الأخير المطل على الحافة.. أغلب الظن أنها تبقى شاغرة لصعوبة الجلوس فيها، حيث تجثم عليها شجرة منسية يبدو أن أغصانها لم تشذب منذ مدة. اضطر إلى كسر بعض العيدان التي قد توخز الظهر، وجلس منتشيا بغنيمته. كان أكبر انتصاراته أنه أَوْلى ظهره للأضواء والمدينة التي توليه ظهرها باستمرار. وأطلق نظراته في المدى البعيد تخترق الظلام.. لم ير إلا مصابيح نائية لا تضيء إلا نفسها، وعلى مقربة منها رأى ضوءا يظهر ويغيب.. أدرك أنه منار يدور. واستبد به الضوء المشاكس الهارب من كل اتجاه، ورأى هالة الضوء تكبر وتقترب منه حتى أحاطته أضواء بكل الألوان، وألفى نفسه في قاعة فسيحة تعبق بأطياف الغواية والجمال. بدا أنيقا يختال وسط حضور كبير في سهر مشهود هو نجمه.. كان يغني وهم ينصتون ويتفاعلون. وطاوعته اللحظة فتفتقت جوارحه شعرا ونغما. لم يغن أغنية معروفة، إنما كان ينتج الكلمة بتلقائية ويلونها بوجدانه وإحساسه:
وأطياف الغد تأتي وتروح
وأحلام المهد تأبى أن تبوح..
هو ذا صدرك يلقي بأطراف الثوب
والليل يفني شهوة التعساءْ..
فكيف يا سيدة العشق تحرمين الأبناءْ
وتمنحين ثديك الغرباء؟!!
وكيف يا نار بك يحتمي شارد الظل
وفي حضنك تتعرى الوردة في شبق الأنواءْ؟!!
... "
كانت الكلمات تنبثق من جوفه حارقة، يلوكها في فمه بألحان تنفجر في دواخله كالبركان، يحركها بعضلات بطنه حتى لا يتسلل الصوت إلى الجالسين على مقربة منه فيظنوا به مسا. رأى نفسه مرة أخرى يختال في وداعة المعتز بنفسه، ورأى الناس حوله ينفجرون غواية، والفتيات يرقصن عاريات البطون. وبرغم جفاء الكلمات استساغ أن يرى الناس يرقصون، ما دام هذا زمنا ترقص فيه الأجساد حتى على أنين المفجوعين.
ظل يردد كلماته ويستعرض في خياله شريطا مطولا من الحاسدين والحاقدين والمحتقِِِِِرين، ويشمت في اندحارهم أمام انتصاره العظيم، إلى أن مل، وأخذت دائرة الضوء تنحسر تدريجيا حتى خبت كما تخبو الشمعة حين تلفظ آخر الأنفاس، فعاد إلى مكانه في الظلام تحت الشجرة وفي قلبه انتشاء غامض. وجد كأس شاي على الطاولة.. لم يتذكر متى جاء به النادل. ضمه بكلتا راحتيه.. رشف منه رشفتين عميقتين، وراح يتأمل مليا صفحة البحر، لكنه لم ير إلا الظلام، فسحب عينيه ناحية المنار. وعادت الأضواء من جديد.. رأى نفسه في ملعب كبير لكرة القدم، وسمع الجماهير تهتف باسمه. تداولته الحيرة؛ هل يلعب في الدفاع أم في الهجوم؟! لكنه قرر أن يحرث الملعب طولا وعرضا، فشرع يجري ويسدد ويلهث ويسقط.. دون أن يتبين بالتحديد مع من يلعب وضد من. لم يهمه ذلك الأمر.. كان كل همه أن يرى نفسه شامخا عالي الكعب منتصرا على أعدائه الحاقدين ومتغلبا على نكساته وانكساراته. ولما أنهكه الحرث واللهاث تحول إلى حراسة المرمى؛ يعترض الركلات ويتصدى لعنف التسديدات. كان يتفاعل مع كل لقطة جسديا، من مكانه تحت الشجرة، فأحس بوخز قوي في الظهر اضطره إلى إنهاء المباراة دون حسم نتيجتها، وانشغل بكسر الغصن الحاد الذي نغص عليه جلسته وحلمه الكبير.
هام بنفسه لحظات خالجه فيها إعجاب غريب بتعاظمه. كان الجو بدأ يبرد، والبحر يلطم صخور الحافة لطمات خفيفة يمتد صداها الواني فتزيد من شبق العشاق الماجنين، وتضاعف لوعة الحشاشين ورعشة المحبطين. تفاقمت رعشته وانكمش على نفسه يضم ساعديه إلى صدره، وركز نظرته نحو البحر مصرا على رؤية أديمه رغم أنف الظلام. لكنه فشل ، فاستسلم لجلوسه الهادئ. وفي لحظة شرود ومض في وعيه خاطر مباغت: " أنت هارب.. فاشل. تقول إن الحياة قبو كبير، وها أنت تهرب إلى قبوك الصغير.. وتقول إن الناس كالدود؛ دودة تلتهم دودة، وتنسى أنك دودة كبيرة تلغي الآخرين وتستبيح أشياءهم. تدعي أنك ترفض فجور الناس، وتدين قِسمة الذئب وفداحة الظلم والإقصاء... وها أنت تستلهم فجور نفسك فترسم البطون ترقص لك عاريات.. وتَقسم قِسمة الذئب فتسرق الأضواء حتى وأنت في قلب الدجى. وتظن نفسك مثاليا ومتفردا؟؟ والحقيقة أن لا فرق بينك وبين الذين تهرب منهم وتحاكمهم في الظلام.. كل ما في الأمر أن الحياة لعبة يلعبها اللاعبون، ومن لا يستطيع يلعبها في الظلام؛ يستبد ويدوس ويعبث ويستبيح... مثلك أنت. كلكم سواء؛ جرجركم حب الذات وتمثال البريق، فصرتم له ذاعنين صاغرين مستسلمين ... ونسيتم عبرة الإنسان. كلكم سواااااءْ..."
اهتزت أعماقه اهتزازا قويا، وأطرق يتأمل هذا الخاطر اللعين الذي أنكر عليه الفرادة والتميز. واستبد به شعور بالعبث عكر عليه أجواء الانتشاء بوهم التعاظم. لكن غمزات المنار انتشلته مرة أخرى، واتسعت دائرة الضوء من جديد لتصير شمسا ساطعة تجثم على الجباه. كانت الحشود غفيرة تملأ الدرب.. رأى نفسه محمولا في نعش على الأكتاف، وسمعهم يقولون عنه أنه كان زين الشباب..عاش في صمت ومات في صمت.. كان لا يرفع عينيه عن قدميه.. وإذا تكلم فإنه لا يكلم إلا نفسه... ولعلعت الزغاريد من السطوح تشايع موكبه الرهيب. انفجرت في نفسه حرقة اعتزاز، وأحس بفخر عجيب إذ حملته الأكتاف؛ هي ذات الأكتاف التي طالما هزأت به. أدرك ببداهة أن الموت منزه عن المزايدات على عكس الحياة. وأثر فيه أنْ رأى الذين جافوه في حياته يحتفون بموته، وهاهم يودعونه وداع الأبطال، ويحكون عنه أنه كان وكان وكان...
اختنقت الأنفاس في حلقه، وتجمد الدمع في عينيه كزجاجتين كريمتين، رأى من خلالهما موكب الرحيل إلى مثواه الأخير. ولما سقطت الزجاجتان وجد نفسه في قبوه وظلامه تحت الشجرة.. لا شمس ولا موكب ولا موت، ووجد نفسه يبكى.. لم يدر هل يبكي لموته أم لحياته. وأسلم ظهره للشجرة يستريح من سَكراته غير عابئ بوخزات الغصون.
سرح يتعايش مع هدير البحر وهو يلطم الصخور لطمات صارت أقوى. ومع كل لطمة تتهاوى نفسه في فجوة سحيقة ملؤها خوف وانتشاء غامضان، كما لو أنه يطير في الفضاء بلا جناحين. وتتوقف اللطمات هنيهات، فيجول بناظريه في الآفاق البعيدة المظلمة، لكن سرعان ما يباغته البحر بلطمة أقوى تخضخض كيانه من جديد، فيتيه في دوامة من الخوف والارتعاش من لا شيء ...
تفاقم لديه إحساس بالدوران والفراغ، وفكر في العودة إلى البيت. ناوشه تخوف من مشقة اختراق الشوارع والأضواء، لكنه سرعان ما اطمأن إلى أنه صار كالبطارية، مشحونا بهلوسات وخيالات وظلال كافية لمقاومة تلك المشقة. رشف من كأس الشاي رشفة أخيرة عميقة مفعمة بالزفرات والتأمل في السواد. واختلس نظرة سريعة إلى المنار المسافر في غياهب التيه التي لا تنتهي، وغادر المكان. ولما ابتلعه الشارع بدا متعثرا مترددا كأرنب فاجأته الأضواء...