في آخر ساعة دوام كانت شلالات الغبطة تنحدر بشدة فتغمر قلب الدكتور عاموس، وتبلل ابتسامة ناعمة نضجت منذ قليل كانت تتهادى وهي تموج على طول فمه.
ولم يتوقف الأمر بالدكتور عند هذا الحد، ففي لحظة الحظ تلك التي لا يعرف كيف ملصت خلسة من قبضة النحس، وأشعرته أنه يعيش في أمتع لحظات حياته.. تذكر نكتة جميلة كان قد سمعها عن العرب بعد انتهاء الحرب على غزة، فأخرجت فمه عن نطاق سيطرته.. وفرقع ضحكة لعلعت في جو المكتب وكادت أن توقعه عن الكرسي، لكنه لم يقع.. واستمر لوقت غير قليل ميتا من الضحك كأن أحدا يزغزغه أو يحك له على جرب. ثم عدّل الدكتور جلسته وهو لا يزال يضغط على نفسه ليغالب فمه وضحكته معا، خشية أن يكبس عليه أحد فجأة ويمسكه مقهقها لوحده فيفضحه بين الدكاترة والموظفين.. فارتد بظهره إلى الوراء والصقه تماما بظهر الكرسي، وأمال رأسه وركزه إلى أقرب مكان يصله قفاه قبل قمة المسند، لأن الدكتور قصير بالكاد يبلغ ثلثي طول رجل عادي، وبجلسته هذه صار فمه مصوبا بدقة نحو ساعة الحائط في الجهة المقابلة، وما زال فيه بقية ضحك اخفق في كتمه.
وأكثر ما كان يغبط الدكتور عاموس حينها ويبهج قلبه أن غدا هو أول أيام إجازته السنوية، التي انتظرها بشوق كبير وصبر طويل لا يفرغ، كشوق وصبر طفل عربي للعيد الذي يجيء بعد رمضان. وفوق هذا كله فإن اليوم هو عيد ميلاده، وزوجته تنتظر وتتفتت وقد أضناها طول الانتظار، ولهذا تلفنت عليه منذ الصبح مرات ومرات.
ثم بطرف أنفه الطويل الذي في وسطه مطب أومأ الدكتور عاموس إلى البواب، الذي جلب لتوه كوبا ساخنا من الشاي الخفيف بالنعناع، أن يغلق الباب وراءه وهو خارج.
وبدأ الدكتور عاموس يرشف الشاي وراح يترنم وهو يتلذذ طعمه وسخونته، وقد أعجبته نكهة النعناع التي تعلمها من العرب قبل سنين طوال، واستطعمها بمزاج هادئ وأحسها وهي تسري دافئة في حلقه تلّينه وتلطفه، بعد هذا تنساب بنعومة وتنزل على قلبه لتحييه. ثم لم يجد الدكتور مانعا وهو مرتاح مستلذ من ضحكة خفيفة دسها بسرعة خاطفة بين رشفتين، دون أن يلمحه أحد.
لكن حصلت مشكلة صغيرة لم تخطر أبدا إلى البال، عكّرت مزاج الدكتور عاموس وأنزلته من جنات بهجته.. حين كان سارحا يستحلب حلاوة ماضيه وحاضره وغده.. وفي نفس الوقت كان يتسمع إلى طرقات منغمة لها رتابة تتوق لها نفسه، تحدثها نقرات الأحذية وهي تغدوا وتروح وتخفت أحيانا مبتعدة في الممر، وأحيانا تقترب وتعلو وينسكب نقيقها على أذنيه في ضوضاء مخنوقة ولذيذة.. في هذه اللحظة اقتحم الباب واجتاح مكتبه جسد ضخم يجري ويدب مثل الفيل، وكل ما فيه من كومات لحم ودهن كانت ترّج، هو الممرض مردخاي.. الذي اندفع يجأر بصوت خشن هو إلى الخوار اقرب..
- دكتور.. بلا مؤاخذة.. مصيبة.. أنا وأنت رحنا في ألف داهية.
انتفض الدكتور في مجلسه وأدار بسرعة رأسه ليقلع ببصره نحو القادم والعاصفة التي أثارها، وانقبضت خدوده ثم تشنجت، وسحلت نظارته وتجاوزت المطب وكادت تسقط لولا أنها علقت بطرف أنفه المعقوف.. ثم وقبل أن يهضم صدمته وكان لحظتها لا يزال متلفعا بدهشة مريبة.. دمدم صائحا..
- لمستني.. طربتني.. يا راجل أرعبتني.. مالك.. إئيش فيه.
وقبل أن ينطق الممرض مردخاي بأي حرف، راح بيد مرتعشة كعادته في الأوقات العصيبة يحسس على صلعته الأنعم من ورق الدوالي، وكانت حينئذ تفج بحمرة فاقعة، وقد رشحت بعرق غزير، فبدت كأنما انصب عليها قنينة بأكملها من عصير الفراولة عالية التركيز.. وقال بصوت خشن متقطع شارك في تشكيل نبرته الدهن الكثير المتدلي من صدغيه المنفوخين مثل الرغيف المخبوز.. &n bsp; &nb sp; - في واحد مجنون هرب من العنبر..عنبر رقم ثلاثة يا دكتور.
- عنبر رقم ثلاثة؟ من هو هذا المجنون الذي جرؤ على الهرب؟
- المجنون رقم 1948.. واسمه يكوب يا دكتور.. انخرب بيتنا.
- يكوب؟ رحنا في ألف داهية.. انخرب بيتك يا عاموس.. كيف هرب؟
- أصل في واحد من العاملين نسي الباب مفتوحا.
- الباب! والله ضعت يا عاموس واللي كان كان.
أحس الدكتور عاموس بطوق حديدي يضيق حول رقبته ليخنقه، ففك ربطة عنقه في حنق زائد وأبقاها مفكوكة خشية أن تطلع روحه ويفطس، وزادت حمرة وجهه وهو يشيط ويغلي، ولو وضعت حينئذ على خده طرف سيجارة فمن المؤكد أنها ستولع. حتى إن أعصابه لم تحتمل اهتزاز الطاولة بسبب ملامستها كرش الممرض مردخاي الذي كان واقفا يرجف من الخوف، فصرخ الدكتور وراح يفرغ جام غضبه وقد سلط كل صراخه على وجه مردخاي، وهو يطلب منه إبعاد كرشه عن حافة الطاولة.. بعدها قرعه بنظرة طويلة وثقيلة.
ثم بغضب أكبر قام الدكتور عن كرسيه وراح يرمي بصره الزائغ عبر النافذة إلى الخارج، وسقط قلبه عندما شاهد المجنون يكوب في الباحة الواسعة هائجا مثل الزوبعة. وقد هجم عليه ما يقارب عشرة من العاملين الشديدين والممرضين للإمساك به، وكان في هجومهم جد وتصميم على إرجاعه إلى العنبر.. واندلعت معركة.
هجم عليهم المجنون يكوب الذي رقمه1948بمؤخرته الضخمة، ونطحهم بها نطحة قوية لا تهاون فيها ولا استهتار، فأوقع فيهم إصابات مباشرة، وقد ارتطموا بأعمدة البطون والحديد.. ويكوب اللهم لا حسد له مؤخرة متينة مثل الفولاذ، رغم أنها منفوشة.. وبلغ عدد المصابين ستة أشخاص، وإصابة كل واحد منهم كانت مختلفة ومتفاوتة عن إصابة الآخر، وكان احدهم إصابته خطيرة وما زال يرقد في غرفة الإنعاش فاقدا الوعي إلى الآن. ثم بعد هذا بسرعة هجم على الآخرين.. وركل اثنين منهم وكاد يفسخهم بقدمه المبططة مثل الوسادة. وليس هذا فقط.. إنما استل أسنانه وعض واحدا منهم عضة من عضاته التي لا تخيب وغرز أسنانه في فخذه، فمزقه و طلع هبره كبيرة من لحمه قد تزن نصف كيلو.. وهناك واحد ربنا سلمه ونجا بنفسه حين هرب بعد أول خبطة لم تصبه، بالخطأ.
بالطبع لم يستغرب الدكتور عاموس نتيجة المعركة رغم انقباض قلبه.. بل إنه توقعها بكل تأكيد. فهو خير من يعرف يكوب وأفعاله السوداء التي كلها معارك وشجار مع العاملين وبقية المجانين في العنبر. وعادة ما تنشب معاركه عندما يغفل الممرضون أو الأطباء عن إعطائه جرعة مهدئة تمده بهدوء العاقلين.
وتساءل الدكتور ولم يكن قد توقف عن رفع ساقا وتنزيل أخرى، في صوت مرتفع فيه توجس وحيرة وذعر بقدر ما فيه من غضب، عن ذلك الذي يستطيع أن يهزم المجنون يكوب رقم 1948؟ فهو ذو جسد ضخم كأنه شخصان لصقا مع بعضهما ليبدو كبغل يقف على ساقيه.. ورأسه مضلّعة وكبيرة ما شاء الله تملأ سلة.. وفمه واسع جدا يتدلى منه براطيم مثل الجمل، تجعله مغريا لأي خياط لو رآه أن يركب له سحّابا.. وأسنانه والعياذ بالله طويلة كمسامير نمرة عشرة، اختلط صفارها مع سوادها، وهي حادة جدا كأنه تعود أن يحكّها ليمضيها بمبرد أو بحجر جلخ. وأميز ما يميز يكوب أنه لا يتكلم ودائم الصمت.. ولا يفتح فمه إلا فيما ندر، عند الضرورة الملّحة أو في المناسبات.. وإذا حصل في يوم ما وفتحه فلا يقفله ثانية إلا بعد أن ينهش به بطنا، أو يقضم رقبة، أو يمزق مؤخرة، أو يمزع فخذا أو ذراع.. وعديدة هي المرات التي فتح بها فمه وقطع شرايين وأوردة.. بعدها يغلقه في وداعة وباله رائق مثل عين الديك.
وعظمت المشكلة وأدرك الدكتور عاموس أن ورطته عويصة، وكاد يفقد صوابه ودمه فار عندما رأى المجنون يكوب وهو يهرب أمام عينيه إلى خارج المستشفى.. فراح من فوره يتصل برجال الأمن، لكن قلبه لم يرتح وظل يفرتك ويطقطق. وفي هذا الوقت بالذات كانت معظم مدن إسرائيل كعادتها في وقت الذروة.. غارقة في زحمة ليس لها أول وليس لها آخر.
اختار الدكتور عاموس أقوى ممرضين عنده، وعدّة عاملين لهم أجساد متينة وضخمة كالفيلة، وراحوا يلاحقون يكوب من شارع إلى شارع. والمجنون رغم جسده الضخم إلا أنه كان يسبقهم بمسافات طويلة.
فجأة توقف يكوب قرب السوق غير بعيد عن المستشفى، وانتشل قبعة لها حافة عن رأس واحد من المارين وكفأها على رأسه، ثم بسرعة فائقة نشل قبعة أخرى ووضعها فوق الأولى.. ولم ينس في طريقه أن يخطف نظارتين شمسيتين من أحد المحال ووضعهما فوق بعض على عينيه.
ثم برشاقة لا حد لها صعد المجنون بلا أي اكتراث للناس من حوله إلى أحد الكراسي العامة.. وراح رغم ندرة كلامه يلقي خطبة سياسية رنانة تلهب المشاعر، وقد انفكت كل عقد لسانه مرة واحدة وتحول بقدرة قادر إلى خطيب بارع موزون الكلام.. وألّتم حوله كل منّ في السوق، والبعض أغلق دكانه وجاء يتفرج ويسمع في انبهار كلاما مثل العسل.. وواحد من الموجودين أعجبته الخطبة وأججته وأشعلت قلبه، فانطلق ككلب السلق واحضر إلى يكوب مكبرا للصوت يعمل بالبطارية، فعلت كلماته وتضخمت وزلزلت الدنيا، فتدفقت الناس في الحال وتجمعت من كل فج عميق.
صار كل الحاضرين في المكان ينصتون إلى يكوب في ارتياح كبير، وسعادة غريبة لا توصف دغدغت مشاعرهم وهيجتها، وكانوا يهتفون له ويصفقون في حرارة تنبعث من نيران أعماقهم.. وواحد منهم تطوع حين دب فيه الحماس واحضر له كوبا باردا من عصير البرتقال ليرطب ريقه، فجرعه يكوب في لمح البصر على نفس واحد، ثم صارت الأكواب بعد هذا تساق إليه رائحة غادية من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب.. وكلما شرب علا صوته أكثر وصفا وجلجل في الفضاء. وراح يكوب المجنون خصيصا ينتقي شعارات وكلمات تطربهم وتسّكرهم وكانوا كلهم يذوبون فيها وينصهرون، وتبحبحت لها الأسارير الراضية في وجوههم وانفرجت في فرح غامر.. لأن فيها شتائم ضد العرب.. وبعضها تصفهم بأنهم كلاب وفئران ويجب طردهم من كل أرض إسرائيل، شبرا شبرا.. وكان يكوب يطالب أيضا بضرب السد العالي في مصر.. وله بنوك أخرى من المطالب.
وبينما يكوب منسجم وهو في حموة كلامه ضايقه سلك معدني طويل كان يتدلى من إحدى الشرفات ويصل قرب أذنه ليلمسها، فمد فمه ولقطه بخفة بين شفتيه، ثم بقضمة واحدة قطعة وخلص من همه.
وصل الدكتور عاموس ومن معه إلى المكان. ولمّا رأى كل هذا راح بلسانه يبحث عن ريق يبلعه فلم يجد في فمه أي ريق، فصار يحاول أن يبلع ذهوله وقد بدأ رغم البرد ينضح بالعرق ويشعر أن الدنيا مثل الجمر. وذهل لتصفيق الناس حوله تصفيقا حادا ما انفك يرتفع ويعلو أكثر وأكثر، ونبرة يكوب تزداد قوة وهي تلعلع وترن وتملأ أرجاء الدنيا كلها من مداها إلى مداها.
تقدم الدكتور من أحد ضباط الأمن الواقفين على جنب في المكان، واخبره بجد لا هزل فيه أن يكوب واحد مجنون، وقد هرب من مستشفى الأمراض العقلية، ثم عرفه بنفسه وقال له أنا الدكتور عاموس الذي أعالجه. لكن رجل الأمن وبخ الدكتور وأنبه بنظرة فيها ازدراء وقلة احترام. فابتعد الدكتور عن الضباط وفي نفسه ريبة واحتقان لا ينفقئ. وفي هذه اللحظة تمنى الدكتور لو أن معه مسدسا ليقتل يكوب وينتهي الأمر، ثم يطير بعد ذلك إلى البيت ويقتل زوجته التي لم تكف عن الاتصال به بالموبايل كل عشرة دقائق، كي تذكره بعيد ميلاده، وتستعجله.. وفي آخر مرة أغلق الموبايل، وبأقصى قدره عنده طير في الهواء بصقه علها تصلها حيث تجلس لوحدها في البيت.. مع رتل طويل من الشتائم الدسمة.
وبعد دقائق عاد الدكتور غير يائس يحاول ثانية مع ضابط الأمن، وقال له أنا لا استطيع أن أعود دون يكوب، أنت عارف ما هي المسؤولية..أرجوك ساعدني في إرجاعه إلى العنبر.. واليوم هو عيد ميلادي، وقد تأخرت وتعبت من ملاحقته وانقطع نفسي.. وقد تعودت أن أعالج كل مجنون من مجانيني وأظل وراءه لا اتركه حتى انقله إلى بر العاقلين. لكن رجل الأمن ردّ عليه في هزل جاف اقرب إلى التوبيخ وراح يقرع الدكتور ويبهدله.. وقال له في غيظ ما رأيك أن تقف أنت في مكان يكوب وتتحدث بدلا عنه وتخطب بمثل هذا الكلام الرائع الذي يفش الخلق، ويفرح النفس.. ثم تابع وقد علت وجهه ابتسامة واسعة مستهترة.. هل ما تسمعه هو كلام مجانين؟.. هيا ابتعد من هنا وإلا سوف اعتقلك وأحبسك.. أما راجل مجنون صحيح!.. وفوق هذا عامل حالك دكتور!.. ناقص بعد قليل أن تقول عن نفسك وزير صحة.
ثم توسم الدكتور خيرا بحلقة شباب واقفين مبسوطين حوله كانوا ينصتون باهتمام إلى يكوب، وفي وجوههم تلوح علامات الإعجاب والإكبار له.. فحدثهم الدكتور برجاء وتوسل إليهم بأدب أن يساعدوه مع معاونيه في اختراق الزحمة والقبض على يكوب.. فغرق الشباب في ضحك صاخب رنان، وظنوا أن الدكتور مجنون، وابتعدوا عنه بسرعة كالهارب من مرض خطير معد، واختفوا في وسط الزحمة خشية أن يؤذيهم أو يلحق بهم مكروه.
ولمّا تبهدل الدكتور تقدم ليتحدث مع الضابط في يئس كبير وأمل أقل، وكان لحظتها بلا نظارة لأنها وقعت وداس عليها الناس فطار عقله، فصار يرمش ويخبط جفونه مع بعضها، حتى انقلعت رموشه من كثرة الخبط.. تقدم ليطلب من الضابط كما في المرات السابقة أن يلقي القبض على يكوب لأنه خطير.. وقبل أن يبدأ بالتوسل وقفت سيارة شرطة قدمت في الحال.. وتحدث ضابط الأمن مع من فيها وهو يشير بإصبعه والشرر يقدح في عينيه نحو الدكتور عاموس.. وقال لهم انقلوه فورا إلى مستشفى المجانين.. عامل نفسه دكتور.
وبدأ الدكتور عاموس يرشف الشاي وراح يترنم وهو يتلذذ طعمه وسخونته، وقد أعجبته نكهة النعناع التي تعلمها من العرب قبل سنين طوال، واستطعمها بمزاج هادئ وأحسها وهي تسري دافئة في حلقه تلّينه وتلطفه، بعد هذا تنساب بنعومة وتنزل على قلبه لتحييه. ثم لم يجد الدكتور مانعا وهو مرتاح مستلذ من ضحكة خفيفة دسها بسرعة خاطفة بين رشفتين، دون أن يلمحه أحد.
لكن حصلت مشكلة صغيرة لم تخطر أبدا إلى البال، عكّرت مزاج الدكتور عاموس وأنزلته من جنات بهجته.. حين كان سارحا يستحلب حلاوة ماضيه وحاضره وغده.. وفي نفس الوقت كان يتسمع إلى طرقات منغمة لها رتابة تتوق لها نفسه، تحدثها نقرات الأحذية وهي تغدوا وتروح وتخفت أحيانا مبتعدة في الممر، وأحيانا تقترب وتعلو وينسكب نقيقها على أذنيه في ضوضاء مخنوقة ولذيذة.. في هذه اللحظة اقتحم الباب واجتاح مكتبه جسد ضخم يجري ويدب مثل الفيل، وكل ما فيه من كومات لحم ودهن كانت ترّج، هو الممرض مردخاي.. الذي اندفع يجأر بصوت خشن هو إلى الخوار اقرب..
- دكتور.. بلا مؤاخذة.. مصيبة.. أنا وأنت رحنا في ألف داهية.
انتفض الدكتور في مجلسه وأدار بسرعة رأسه ليقلع ببصره نحو القادم والعاصفة التي أثارها، وانقبضت خدوده ثم تشنجت، وسحلت نظارته وتجاوزت المطب وكادت تسقط لولا أنها علقت بطرف أنفه المعقوف.. ثم وقبل أن يهضم صدمته وكان لحظتها لا يزال متلفعا بدهشة مريبة.. دمدم صائحا..
- لمستني.. طربتني.. يا راجل أرعبتني.. مالك.. إئيش فيه.
وقبل أن ينطق الممرض مردخاي بأي حرف، راح بيد مرتعشة كعادته في الأوقات العصيبة يحسس على صلعته الأنعم من ورق الدوالي، وكانت حينئذ تفج بحمرة فاقعة، وقد رشحت بعرق غزير، فبدت كأنما انصب عليها قنينة بأكملها من عصير الفراولة عالية التركيز.. وقال بصوت خشن متقطع شارك في تشكيل نبرته الدهن الكثير المتدلي من صدغيه المنفوخين مثل الرغيف المخبوز.. &n bsp; &nb sp; - في واحد مجنون هرب من العنبر..عنبر رقم ثلاثة يا دكتور.
- عنبر رقم ثلاثة؟ من هو هذا المجنون الذي جرؤ على الهرب؟
- المجنون رقم 1948.. واسمه يكوب يا دكتور.. انخرب بيتنا.
- يكوب؟ رحنا في ألف داهية.. انخرب بيتك يا عاموس.. كيف هرب؟
- أصل في واحد من العاملين نسي الباب مفتوحا.
- الباب! والله ضعت يا عاموس واللي كان كان.
أحس الدكتور عاموس بطوق حديدي يضيق حول رقبته ليخنقه، ففك ربطة عنقه في حنق زائد وأبقاها مفكوكة خشية أن تطلع روحه ويفطس، وزادت حمرة وجهه وهو يشيط ويغلي، ولو وضعت حينئذ على خده طرف سيجارة فمن المؤكد أنها ستولع. حتى إن أعصابه لم تحتمل اهتزاز الطاولة بسبب ملامستها كرش الممرض مردخاي الذي كان واقفا يرجف من الخوف، فصرخ الدكتور وراح يفرغ جام غضبه وقد سلط كل صراخه على وجه مردخاي، وهو يطلب منه إبعاد كرشه عن حافة الطاولة.. بعدها قرعه بنظرة طويلة وثقيلة.
ثم بغضب أكبر قام الدكتور عن كرسيه وراح يرمي بصره الزائغ عبر النافذة إلى الخارج، وسقط قلبه عندما شاهد المجنون يكوب في الباحة الواسعة هائجا مثل الزوبعة. وقد هجم عليه ما يقارب عشرة من العاملين الشديدين والممرضين للإمساك به، وكان في هجومهم جد وتصميم على إرجاعه إلى العنبر.. واندلعت معركة.
هجم عليهم المجنون يكوب الذي رقمه1948بمؤخرته الضخمة، ونطحهم بها نطحة قوية لا تهاون فيها ولا استهتار، فأوقع فيهم إصابات مباشرة، وقد ارتطموا بأعمدة البطون والحديد.. ويكوب اللهم لا حسد له مؤخرة متينة مثل الفولاذ، رغم أنها منفوشة.. وبلغ عدد المصابين ستة أشخاص، وإصابة كل واحد منهم كانت مختلفة ومتفاوتة عن إصابة الآخر، وكان احدهم إصابته خطيرة وما زال يرقد في غرفة الإنعاش فاقدا الوعي إلى الآن. ثم بعد هذا بسرعة هجم على الآخرين.. وركل اثنين منهم وكاد يفسخهم بقدمه المبططة مثل الوسادة. وليس هذا فقط.. إنما استل أسنانه وعض واحدا منهم عضة من عضاته التي لا تخيب وغرز أسنانه في فخذه، فمزقه و طلع هبره كبيرة من لحمه قد تزن نصف كيلو.. وهناك واحد ربنا سلمه ونجا بنفسه حين هرب بعد أول خبطة لم تصبه، بالخطأ.
بالطبع لم يستغرب الدكتور عاموس نتيجة المعركة رغم انقباض قلبه.. بل إنه توقعها بكل تأكيد. فهو خير من يعرف يكوب وأفعاله السوداء التي كلها معارك وشجار مع العاملين وبقية المجانين في العنبر. وعادة ما تنشب معاركه عندما يغفل الممرضون أو الأطباء عن إعطائه جرعة مهدئة تمده بهدوء العاقلين.
وتساءل الدكتور ولم يكن قد توقف عن رفع ساقا وتنزيل أخرى، في صوت مرتفع فيه توجس وحيرة وذعر بقدر ما فيه من غضب، عن ذلك الذي يستطيع أن يهزم المجنون يكوب رقم 1948؟ فهو ذو جسد ضخم كأنه شخصان لصقا مع بعضهما ليبدو كبغل يقف على ساقيه.. ورأسه مضلّعة وكبيرة ما شاء الله تملأ سلة.. وفمه واسع جدا يتدلى منه براطيم مثل الجمل، تجعله مغريا لأي خياط لو رآه أن يركب له سحّابا.. وأسنانه والعياذ بالله طويلة كمسامير نمرة عشرة، اختلط صفارها مع سوادها، وهي حادة جدا كأنه تعود أن يحكّها ليمضيها بمبرد أو بحجر جلخ. وأميز ما يميز يكوب أنه لا يتكلم ودائم الصمت.. ولا يفتح فمه إلا فيما ندر، عند الضرورة الملّحة أو في المناسبات.. وإذا حصل في يوم ما وفتحه فلا يقفله ثانية إلا بعد أن ينهش به بطنا، أو يقضم رقبة، أو يمزق مؤخرة، أو يمزع فخذا أو ذراع.. وعديدة هي المرات التي فتح بها فمه وقطع شرايين وأوردة.. بعدها يغلقه في وداعة وباله رائق مثل عين الديك.
وعظمت المشكلة وأدرك الدكتور عاموس أن ورطته عويصة، وكاد يفقد صوابه ودمه فار عندما رأى المجنون يكوب وهو يهرب أمام عينيه إلى خارج المستشفى.. فراح من فوره يتصل برجال الأمن، لكن قلبه لم يرتح وظل يفرتك ويطقطق. وفي هذا الوقت بالذات كانت معظم مدن إسرائيل كعادتها في وقت الذروة.. غارقة في زحمة ليس لها أول وليس لها آخر.
اختار الدكتور عاموس أقوى ممرضين عنده، وعدّة عاملين لهم أجساد متينة وضخمة كالفيلة، وراحوا يلاحقون يكوب من شارع إلى شارع. والمجنون رغم جسده الضخم إلا أنه كان يسبقهم بمسافات طويلة.
فجأة توقف يكوب قرب السوق غير بعيد عن المستشفى، وانتشل قبعة لها حافة عن رأس واحد من المارين وكفأها على رأسه، ثم بسرعة فائقة نشل قبعة أخرى ووضعها فوق الأولى.. ولم ينس في طريقه أن يخطف نظارتين شمسيتين من أحد المحال ووضعهما فوق بعض على عينيه.
ثم برشاقة لا حد لها صعد المجنون بلا أي اكتراث للناس من حوله إلى أحد الكراسي العامة.. وراح رغم ندرة كلامه يلقي خطبة سياسية رنانة تلهب المشاعر، وقد انفكت كل عقد لسانه مرة واحدة وتحول بقدرة قادر إلى خطيب بارع موزون الكلام.. وألّتم حوله كل منّ في السوق، والبعض أغلق دكانه وجاء يتفرج ويسمع في انبهار كلاما مثل العسل.. وواحد من الموجودين أعجبته الخطبة وأججته وأشعلت قلبه، فانطلق ككلب السلق واحضر إلى يكوب مكبرا للصوت يعمل بالبطارية، فعلت كلماته وتضخمت وزلزلت الدنيا، فتدفقت الناس في الحال وتجمعت من كل فج عميق.
صار كل الحاضرين في المكان ينصتون إلى يكوب في ارتياح كبير، وسعادة غريبة لا توصف دغدغت مشاعرهم وهيجتها، وكانوا يهتفون له ويصفقون في حرارة تنبعث من نيران أعماقهم.. وواحد منهم تطوع حين دب فيه الحماس واحضر له كوبا باردا من عصير البرتقال ليرطب ريقه، فجرعه يكوب في لمح البصر على نفس واحد، ثم صارت الأكواب بعد هذا تساق إليه رائحة غادية من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب.. وكلما شرب علا صوته أكثر وصفا وجلجل في الفضاء. وراح يكوب المجنون خصيصا ينتقي شعارات وكلمات تطربهم وتسّكرهم وكانوا كلهم يذوبون فيها وينصهرون، وتبحبحت لها الأسارير الراضية في وجوههم وانفرجت في فرح غامر.. لأن فيها شتائم ضد العرب.. وبعضها تصفهم بأنهم كلاب وفئران ويجب طردهم من كل أرض إسرائيل، شبرا شبرا.. وكان يكوب يطالب أيضا بضرب السد العالي في مصر.. وله بنوك أخرى من المطالب.
وبينما يكوب منسجم وهو في حموة كلامه ضايقه سلك معدني طويل كان يتدلى من إحدى الشرفات ويصل قرب أذنه ليلمسها، فمد فمه ولقطه بخفة بين شفتيه، ثم بقضمة واحدة قطعة وخلص من همه.
وصل الدكتور عاموس ومن معه إلى المكان. ولمّا رأى كل هذا راح بلسانه يبحث عن ريق يبلعه فلم يجد في فمه أي ريق، فصار يحاول أن يبلع ذهوله وقد بدأ رغم البرد ينضح بالعرق ويشعر أن الدنيا مثل الجمر. وذهل لتصفيق الناس حوله تصفيقا حادا ما انفك يرتفع ويعلو أكثر وأكثر، ونبرة يكوب تزداد قوة وهي تلعلع وترن وتملأ أرجاء الدنيا كلها من مداها إلى مداها.
تقدم الدكتور من أحد ضباط الأمن الواقفين على جنب في المكان، واخبره بجد لا هزل فيه أن يكوب واحد مجنون، وقد هرب من مستشفى الأمراض العقلية، ثم عرفه بنفسه وقال له أنا الدكتور عاموس الذي أعالجه. لكن رجل الأمن وبخ الدكتور وأنبه بنظرة فيها ازدراء وقلة احترام. فابتعد الدكتور عن الضباط وفي نفسه ريبة واحتقان لا ينفقئ. وفي هذه اللحظة تمنى الدكتور لو أن معه مسدسا ليقتل يكوب وينتهي الأمر، ثم يطير بعد ذلك إلى البيت ويقتل زوجته التي لم تكف عن الاتصال به بالموبايل كل عشرة دقائق، كي تذكره بعيد ميلاده، وتستعجله.. وفي آخر مرة أغلق الموبايل، وبأقصى قدره عنده طير في الهواء بصقه علها تصلها حيث تجلس لوحدها في البيت.. مع رتل طويل من الشتائم الدسمة.
وبعد دقائق عاد الدكتور غير يائس يحاول ثانية مع ضابط الأمن، وقال له أنا لا استطيع أن أعود دون يكوب، أنت عارف ما هي المسؤولية..أرجوك ساعدني في إرجاعه إلى العنبر.. واليوم هو عيد ميلادي، وقد تأخرت وتعبت من ملاحقته وانقطع نفسي.. وقد تعودت أن أعالج كل مجنون من مجانيني وأظل وراءه لا اتركه حتى انقله إلى بر العاقلين. لكن رجل الأمن ردّ عليه في هزل جاف اقرب إلى التوبيخ وراح يقرع الدكتور ويبهدله.. وقال له في غيظ ما رأيك أن تقف أنت في مكان يكوب وتتحدث بدلا عنه وتخطب بمثل هذا الكلام الرائع الذي يفش الخلق، ويفرح النفس.. ثم تابع وقد علت وجهه ابتسامة واسعة مستهترة.. هل ما تسمعه هو كلام مجانين؟.. هيا ابتعد من هنا وإلا سوف اعتقلك وأحبسك.. أما راجل مجنون صحيح!.. وفوق هذا عامل حالك دكتور!.. ناقص بعد قليل أن تقول عن نفسك وزير صحة.
ثم توسم الدكتور خيرا بحلقة شباب واقفين مبسوطين حوله كانوا ينصتون باهتمام إلى يكوب، وفي وجوههم تلوح علامات الإعجاب والإكبار له.. فحدثهم الدكتور برجاء وتوسل إليهم بأدب أن يساعدوه مع معاونيه في اختراق الزحمة والقبض على يكوب.. فغرق الشباب في ضحك صاخب رنان، وظنوا أن الدكتور مجنون، وابتعدوا عنه بسرعة كالهارب من مرض خطير معد، واختفوا في وسط الزحمة خشية أن يؤذيهم أو يلحق بهم مكروه.
ولمّا تبهدل الدكتور تقدم ليتحدث مع الضابط في يئس كبير وأمل أقل، وكان لحظتها بلا نظارة لأنها وقعت وداس عليها الناس فطار عقله، فصار يرمش ويخبط جفونه مع بعضها، حتى انقلعت رموشه من كثرة الخبط.. تقدم ليطلب من الضابط كما في المرات السابقة أن يلقي القبض على يكوب لأنه خطير.. وقبل أن يبدأ بالتوسل وقفت سيارة شرطة قدمت في الحال.. وتحدث ضابط الأمن مع من فيها وهو يشير بإصبعه والشرر يقدح في عينيه نحو الدكتور عاموس.. وقال لهم انقلوه فورا إلى مستشفى المجانين.. عامل نفسه دكتور.