"لا شيء ارق من الماء,ولا شيء أقسى منه واعتى.حقا أن الحقيقة تبدو مثل ضدها" لاوتسه
لما تزمجر الطبيعة بصخبها,وتفتح السماء محابسها بفيوض المياه المدرارة,وتطفح الوديان بسيولها الجارفة,فان شعورا غريبا ينتاب الإنسان وهو يتأمل بعيون مبهورة عظمة الجبال وهي ترسل من قممها دفقا يكتسح الأرض الجرداء,وتعصف بقوة خارقة كل ما تصطدم به لتغدو الطبيعة بجلالها مرادفة لشيطان أبله يفتك بالوجه الآخر لها,الهادئ,البديع,فتصبح الفوضى العارمة باختلافها الموحش صفة ملازمة لها
تكسوها حلة غريبة من جمال ساحر...
هناك في الأعالي بعيدا عن القرية النائمة في سبات مستديم,تجثم أعلى قمة جبلية بهيبتها وسط أدغال وعرة.القرية محاصرة بالجبال من جميع جهاتها وتحف بها وديان متاخمة لحدودها تمنع امتدادها.شعاب ترسم أخاديد على وجهها اليابس والجاف.اصفرار يلونها بأصباغ الحزن الهامشي, الدفين في تربتها كسر من أعصى الأسرار.نباتات الشيح ترقصها الريح على نغمات الفجاج التي تنفخ أصداء زمهرير ها في الامتداد الذي لا يحده البصر.سكانها ينتظرون الشيء الذي لن يأتي.
يرفعون ادرعهم الى السماء توعدا يكتنفه وجوم ظاهر يمتزج بأسى عميق,ولما يتعبون من تحديهم الأخرق الذي تكيف مع ضراوة الطبيعة يلقون رؤوسهم نحو الأرض حسرة وندما على قدر حط رحاله في هاته الأرض المقفرة الباساء.أشجار زيتون رمز لقرى متناثرة تلف البلدة الصموتة لتشكل منظرا بدائيا لعصور البداوة المؤودة...
الجو في صحو تام,السماء بزرقتها وفي عمقها شمس تغمرها سحب رمادية مشتتة في أجوائها.وبما أن العطلة الصيفية برتابتها وحرارتها المفرطة,فان الأطفال الصغار لم يجدوا متنفسا لهم سوى المضي إلى الوادي الذي يشق البلدة إلى أنصاف تتوزع عليها ساكنتها.ينبوع ماء هو ملاذ السكان المجاورين للوادي ليملئوا قرابهم وقواريرهم بماء بارد في غمرة صهد قاتل ويبس شبه تام لصنابير الماء الصالح للشرب...
في احد الأيام الصيفية وجدت جميلة وهي فتاة في الخامسة عشر من عمرها نفسها في عمق الوادي,رافعة حوافي سروالها لتدغدغ رجليها في السيل الضئيل المنبعث من الينبوع.كان الوقت ظهيرة,وكانت السماء تتلبد بغيوم رمادية في اتجاه القمة العالية.تعود الناس على أنها سحب سارية تعبر دون أن تمطر.تناست جميلة نفسها بين عذوبة الماء وأحلامها الطفولية لأنها قدمت إلى الوادي دون هدف واضح.الا انه هناك في مسافات بعيدة منها سيل جارف قادم يجمع مياه الشعاب التي تصب في اتجاهه ليشكل قوة ساخطة تتقدم لتلج القرية التي كان سكانها يحتمون بقيلولة معتادة تبعث في نفوسهم إحساسا بالهناء الوهمي الذي يكسر المنطق الأعمى الذي يلف حياتهم...
لم تنتبه جميلة لهدير الوادي الصاخب الهادر كمارد يقصف حوافي وجنبات الوادي الملعون بوابل من لكمات تسقط اطمارا متتابعة,محدثة رجات تزعزعت لها أطراف البلدة بأسرها.لون غديري لفيض ساخط آت من قمة جبل يسمونه القرن العالي...
هاهو يتقدم نحوها حتى فاجئها بصوته المهيب.التفت وراءها وهمت دون شعور تحث الخطى لتعبر نحو الضفة الأخرى.لكن لسوء حظها ولاضطرابها المفاجئ لم تتمكن من اختيار الضفة الأقرب.هرولت تحت صياح بعض الأطفال الدين تمكنوا من عبوره.فزعت وسقطت.. وهي تقوم لتواصل الركض حتى داهمها الوحش الكاسر بعنفوانه ليحملها رفقة الأغصان المكسورة وجذوع الأشجار المقتلعة وقوارير الزيت وهي تطفو مثل قوارب تائهة.خيام اقتلعها في طريقه,نصبها الرحل الرعاة الدين يأوون وسط الوديان.حمار في منظر تراجيدي يسبح والسيل يجرفه بقوة.بدأت جميلة في الصراخ الصاعق ثم همد صوتها تحت وطأة تضاعف مستوى الماء,لان عرض الوادي يضيق وهو يشرف على مداخل البلدة...
علا الصياح كل أطراف الوادي.وهم شخص بإلقاء نفسه لينقدها,إلا انه لم يتمكن من دلك.قوة المياه تتسارع وعرض الوادي يتسع.سرعان ما عاد أدراجه خائبا بمساعدة أصدقائه...ولولات النساء وهن يلقين بنظراتهن يتابعنها بحسرة حزت لها الصدور وتنهدت لها القلوب.فزع الجميع وهم يهرولون على طول الوادي في الضفتين عسى أن معجزة ما ستحدث لانقادها.لكن هيهات فهيهات.شلال صغير ينتظرها بهوة سحيقة ارتمت بين أحضانه لتغيب مدة فتظهر ثانية وهي تطفو على الماء جثة هامدة...
تأسف الجميع وحزنوا لمصير جميلة,ضحية الوادي وقربان إنساني لمواسم القحط والجفاف.لقد وجدوا جثتها في مخرج البلدة لفظتها السيول جانبا.ودهب الناس في جنازتها حشودا يشيعون موتها الفاجعي.قائلين على أنها زفت عروسا للفيض المدمر...
بعد أسبوع من الأسى المخيم على البلدة وعلى وجوه الساكنة,الدين لم يعد حديثهم سوى جميلة.وفي ليلة من ليالي آب,كنت قد خرجت مع صديقي بعد وجبة العشاء لنتمشى قليلا ونتناجى إلى بعضينا البعض.تكلمنا عن قوة الطبيعة وضعف الإنسان.سألته:
-ما قولك صديقي في طغيان الطبيعة المتمردة؟
أجابني بنبرة هامسة:
-للطبيعة منطقها والإنسان غير قادر على معرفة كنهها.
بادرته قائلا:
-وهل تظن أن تطور الإنسان قادر على مواجهة هده الكوارث؟
شرد وهو ياخد نفسا من سيجارته التي تومض حلكة الليل التي تسيجنا وقال:
-الإنسان في تطوره الآني لم يقدر على حل مشاكل تخص وجوده ككائن حر فما بالك بمواجهة الطبيعة.مقاربة لا تكافؤ فيها ستفتك به حتما.
وصل بنا المسير إلى قنطرة الوادي الآخر في الطرف الأيمن من البلدة.وقفنا نتأمل سكونه المخيف.تمتم صديقي بكلمات اقرب الى نبوءة محتملة:
-أخشى ياصديقي أن يفاجئنا هو الآخر بسخطه فتحدث كارثة أخرى...
قلت له الا تعلم قول المثل الشعبي: دوزعلى الواد الهرهوري.ما دوزعلى الواد السكوتي...
افترقنا وعدنا إلى بيوتنا في غمرة ليلة برزت في سمائها بضع نجوم متوهجة...
في الغد. وفي الظهيرة التقينا كما العادة في المقهى.ونحن نحتسي قهوتنا,بدأت عاصفة تدوي ببروقها ورعودها.فجأة انهمرت أمطار غزيرة ولم نستطع نحن أن نبرح أماكننا لتناول و جبة الغداء.سمعنا صراخا يعلو البلدة من ناحية الوادي الآخر.حشود من ساكنته خرجوا يهرولون ويندبون ديارهم التي فاضت سيول الوادي لتكتسح منازلهم كما تغمر الأمطار الصيفية حنطة المزارعين ومحصولهم.حركة استنفار غير عادية وتسارع من كل الشبان لانقاد ما يمكن انقاده من الأرواح البشرية.أما ما عدا دلك فهو يسبح في الفيض المتجه لملاقاة سيل الوادي الأخر في نقطة أشبه بأمواج البحر العتبة.الأفق انسد بمياه رمادية وبنسيم اختلط برائحة التراب الندية.توقفت الأمطار وخرجنا أنا وصديقي بدورنا راكضين نحو المكان الذي وقفنا فيه بالأمس ليلا.صدمنا للوهلة الأولى غير مصدقين ما نراه أمامنا.هم يحثني أن نتقدم أكثر.المنظر مهيب لدرجة لا تصدق.البلدة محاطة بوديان شيطانة فتكت بجغرافيتها وهددت وجودها في البقاء...
سمعنا بعد أن خفت جلبة العويل والصراخ همهمات تتكلم عن إيجاد فاطمة خادمة احد البيوت المتاخمة للوادي جثة صرعتها السيول المتدفقة.فاختنقت وسط غرفة حيث وجدوها بعد أن همد الوحش الكاسر تحت اطمار من الطين الأحمر...
جميلة وفاطمة ضحيتان للسيول الجارفة.قرابين للوديان الفارغة في مواسم القحط.وضعت ذراعي على كتف صديقي وضممته إلي بقوة قلت له هامسا:
-انظر عزيزي كيف أن الطبيعة همجية إلى هدا الحد.لم تتوانى الحياة تخنقنا كل لحظة.وها هي السيول العمياء تبصم وجودنا بقهر آخر...
أجابني وهو يتفصد عرقا:
-صدقت نبوءتي البلهاء يا صديقي
الجو في صحو تام,السماء بزرقتها وفي عمقها شمس تغمرها سحب رمادية مشتتة في أجوائها.وبما أن العطلة الصيفية برتابتها وحرارتها المفرطة,فان الأطفال الصغار لم يجدوا متنفسا لهم سوى المضي إلى الوادي الذي يشق البلدة إلى أنصاف تتوزع عليها ساكنتها.ينبوع ماء هو ملاذ السكان المجاورين للوادي ليملئوا قرابهم وقواريرهم بماء بارد في غمرة صهد قاتل ويبس شبه تام لصنابير الماء الصالح للشرب...
في احد الأيام الصيفية وجدت جميلة وهي فتاة في الخامسة عشر من عمرها نفسها في عمق الوادي,رافعة حوافي سروالها لتدغدغ رجليها في السيل الضئيل المنبعث من الينبوع.كان الوقت ظهيرة,وكانت السماء تتلبد بغيوم رمادية في اتجاه القمة العالية.تعود الناس على أنها سحب سارية تعبر دون أن تمطر.تناست جميلة نفسها بين عذوبة الماء وأحلامها الطفولية لأنها قدمت إلى الوادي دون هدف واضح.الا انه هناك في مسافات بعيدة منها سيل جارف قادم يجمع مياه الشعاب التي تصب في اتجاهه ليشكل قوة ساخطة تتقدم لتلج القرية التي كان سكانها يحتمون بقيلولة معتادة تبعث في نفوسهم إحساسا بالهناء الوهمي الذي يكسر المنطق الأعمى الذي يلف حياتهم...
لم تنتبه جميلة لهدير الوادي الصاخب الهادر كمارد يقصف حوافي وجنبات الوادي الملعون بوابل من لكمات تسقط اطمارا متتابعة,محدثة رجات تزعزعت لها أطراف البلدة بأسرها.لون غديري لفيض ساخط آت من قمة جبل يسمونه القرن العالي...
هاهو يتقدم نحوها حتى فاجئها بصوته المهيب.التفت وراءها وهمت دون شعور تحث الخطى لتعبر نحو الضفة الأخرى.لكن لسوء حظها ولاضطرابها المفاجئ لم تتمكن من اختيار الضفة الأقرب.هرولت تحت صياح بعض الأطفال الدين تمكنوا من عبوره.فزعت وسقطت.. وهي تقوم لتواصل الركض حتى داهمها الوحش الكاسر بعنفوانه ليحملها رفقة الأغصان المكسورة وجذوع الأشجار المقتلعة وقوارير الزيت وهي تطفو مثل قوارب تائهة.خيام اقتلعها في طريقه,نصبها الرحل الرعاة الدين يأوون وسط الوديان.حمار في منظر تراجيدي يسبح والسيل يجرفه بقوة.بدأت جميلة في الصراخ الصاعق ثم همد صوتها تحت وطأة تضاعف مستوى الماء,لان عرض الوادي يضيق وهو يشرف على مداخل البلدة...
علا الصياح كل أطراف الوادي.وهم شخص بإلقاء نفسه لينقدها,إلا انه لم يتمكن من دلك.قوة المياه تتسارع وعرض الوادي يتسع.سرعان ما عاد أدراجه خائبا بمساعدة أصدقائه...ولولات النساء وهن يلقين بنظراتهن يتابعنها بحسرة حزت لها الصدور وتنهدت لها القلوب.فزع الجميع وهم يهرولون على طول الوادي في الضفتين عسى أن معجزة ما ستحدث لانقادها.لكن هيهات فهيهات.شلال صغير ينتظرها بهوة سحيقة ارتمت بين أحضانه لتغيب مدة فتظهر ثانية وهي تطفو على الماء جثة هامدة...
تأسف الجميع وحزنوا لمصير جميلة,ضحية الوادي وقربان إنساني لمواسم القحط والجفاف.لقد وجدوا جثتها في مخرج البلدة لفظتها السيول جانبا.ودهب الناس في جنازتها حشودا يشيعون موتها الفاجعي.قائلين على أنها زفت عروسا للفيض المدمر...
بعد أسبوع من الأسى المخيم على البلدة وعلى وجوه الساكنة,الدين لم يعد حديثهم سوى جميلة.وفي ليلة من ليالي آب,كنت قد خرجت مع صديقي بعد وجبة العشاء لنتمشى قليلا ونتناجى إلى بعضينا البعض.تكلمنا عن قوة الطبيعة وضعف الإنسان.سألته:
-ما قولك صديقي في طغيان الطبيعة المتمردة؟
أجابني بنبرة هامسة:
-للطبيعة منطقها والإنسان غير قادر على معرفة كنهها.
بادرته قائلا:
-وهل تظن أن تطور الإنسان قادر على مواجهة هده الكوارث؟
شرد وهو ياخد نفسا من سيجارته التي تومض حلكة الليل التي تسيجنا وقال:
-الإنسان في تطوره الآني لم يقدر على حل مشاكل تخص وجوده ككائن حر فما بالك بمواجهة الطبيعة.مقاربة لا تكافؤ فيها ستفتك به حتما.
وصل بنا المسير إلى قنطرة الوادي الآخر في الطرف الأيمن من البلدة.وقفنا نتأمل سكونه المخيف.تمتم صديقي بكلمات اقرب الى نبوءة محتملة:
-أخشى ياصديقي أن يفاجئنا هو الآخر بسخطه فتحدث كارثة أخرى...
قلت له الا تعلم قول المثل الشعبي: دوزعلى الواد الهرهوري.ما دوزعلى الواد السكوتي...
افترقنا وعدنا إلى بيوتنا في غمرة ليلة برزت في سمائها بضع نجوم متوهجة...
في الغد. وفي الظهيرة التقينا كما العادة في المقهى.ونحن نحتسي قهوتنا,بدأت عاصفة تدوي ببروقها ورعودها.فجأة انهمرت أمطار غزيرة ولم نستطع نحن أن نبرح أماكننا لتناول و جبة الغداء.سمعنا صراخا يعلو البلدة من ناحية الوادي الآخر.حشود من ساكنته خرجوا يهرولون ويندبون ديارهم التي فاضت سيول الوادي لتكتسح منازلهم كما تغمر الأمطار الصيفية حنطة المزارعين ومحصولهم.حركة استنفار غير عادية وتسارع من كل الشبان لانقاد ما يمكن انقاده من الأرواح البشرية.أما ما عدا دلك فهو يسبح في الفيض المتجه لملاقاة سيل الوادي الأخر في نقطة أشبه بأمواج البحر العتبة.الأفق انسد بمياه رمادية وبنسيم اختلط برائحة التراب الندية.توقفت الأمطار وخرجنا أنا وصديقي بدورنا راكضين نحو المكان الذي وقفنا فيه بالأمس ليلا.صدمنا للوهلة الأولى غير مصدقين ما نراه أمامنا.هم يحثني أن نتقدم أكثر.المنظر مهيب لدرجة لا تصدق.البلدة محاطة بوديان شيطانة فتكت بجغرافيتها وهددت وجودها في البقاء...
سمعنا بعد أن خفت جلبة العويل والصراخ همهمات تتكلم عن إيجاد فاطمة خادمة احد البيوت المتاخمة للوادي جثة صرعتها السيول المتدفقة.فاختنقت وسط غرفة حيث وجدوها بعد أن همد الوحش الكاسر تحت اطمار من الطين الأحمر...
جميلة وفاطمة ضحيتان للسيول الجارفة.قرابين للوديان الفارغة في مواسم القحط.وضعت ذراعي على كتف صديقي وضممته إلي بقوة قلت له هامسا:
-انظر عزيزي كيف أن الطبيعة همجية إلى هدا الحد.لم تتوانى الحياة تخنقنا كل لحظة.وها هي السيول العمياء تبصم وجودنا بقهر آخر...
أجابني وهو يتفصد عرقا:
-صدقت نبوءتي البلهاء يا صديقي