صورة على الحائط – قصة : اياد نصار

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس- كل عام وانت بخير عمتي.
- ومن اين يأتي الخير .. الا ترى حالتي كالميت الذي لا يقوى على الحركة.. آخ ..آخ .. ما قيمة هذه الحياة البائسة وحيدة هنا .. لو وقعت ومت فلن يدري بي أحد .. اتمنى الموت على هذه الحياة .. لعلي اجد فيه راحة لم أعرفها في حياتي .. لقد نشأت على الشقاء والعذاب ..
كان قلب خالد يحدثه طوال الطريق أن هذا الحوار سيقع لا محالة، وسيسمع الشكوى التي صارت تؤرقه .. فحال عمته خيرية يرثى لها، وهو لا يستطيع ان يفعل لها شيئا. كانت تنظر وهي تخاطب خالد بعيون فيها الحزن والحسرة الممزوجة ببصيص ضئيل من الامل الى الصورة المعلقة على الحائط.. الله يرحمه عمك جمال .. كان زينة شباب البلد .. كان طيبا ووطنيا ويحبه كل الذين عرفوه.. نظرت الى الصورة .. حدقت فيها .. كانت صورته باهتة الجوانب باللونين الاسود والابيض وقد صارت بفعل الزمن مصفرة ارضيتها ويبدو عليها كأنما اخرجت من تحت اكوام التراب والغبار .. اه كم مرت سنوات عليها وهي معلقة مكانها..ولكن ملامح عينيه ووجهه ما تزال واضحة. صارت صورة جمال جزءا لا يتجزأ من حياة خيرية.. لقد سمَّى ابنها الاوسط عدنان عندما ولد له أول صبي بعد انتظار سنوات على اسمه .. الكل ينادي عليه جمال ويذكره بالراحل الذي لم يعد .. يشعر أنه اكتسب محبة خاصة بين اخوانه بسبب الاسم. الكل يتحدث عنه بافتخار ومرارة.. لقد انتظرت وصفية سنوات لاجله .. كانت ترفض من يتقدم لها .. تقول لهم ان جمال سوف يعود .. كانت تصر على لبس خاتم الخطوبة رغم مرور سنوات على غيابه .. صار الكل يعرف قصتها .. كانت كلما تذكرته، تشرع في البكاء بصوت مكتوم خشية ان تبدو علي وجهها عواطفها واضحة .. كان هذا علامة ضعف غير مقبول وشيئا اجتماعيا غير مألوف ان يصدر من البنت بين الناس!

- خالد، ان عمك جمال كان بطلا درس في الكلية العسكرية بحلب .. قالت خيرية ذات السبعة وسبعين عاما بصوت أجش مكتوم تبدو فيه نبرات الاسى. ليست هذه المرة الاولى التي تروي له قصة عمه جمال. في كل مرة تضيف شيئا جديدا لم يكن يعرفه من قبل. اه لو حدث لها شيء لا سمح الله، فكم من الذكريات ستضيع معها. وأضافت بنبرة افتخار .. التحق بقوات الثورة مبكرا. ترك دراسته.. لم يكن سيدك يرغب ان يفعل هكذا .. كان أمله ان يبقى معنا ليهتم بأحوالنا بعد أن تشردنا .. لقد تفتح ذهنه على النكبة مبكرا فصارت هما يؤرقه .. بدأ يدرك عذاب التعاسة والتشرد والفقر الذي نعيش به.

- انظر الى بزته العسكرية، انظر الى ملامح وجهه .. كان زينة شباب البلد .. وبدأت تبكي وتمسح دموعها .. شعر خالد بالحزن والاسى يملأ صدره .. كل مرة يزداد إحساسه بالمرارة والفخر في هذا الغائب الذي رحل قبل ان يراه.
لقد ذهب سيدك الى بيروت عدة مرات دون جدوى .. لقد ذهب عمك عبدالله الى حلب والى دمشق .. بحثوا في كل مكان.. لم يجدوا له أثرا..لقد كلفوا اشخاصا عديدين للبحث عنه، لقد دفعوا مبالغ طائلة لاجل خبر صغير عله يدلهم على مكانه. كانوا يعرفون اناسا لهم صلات بأجهزة الثورة، واخرين في الشرطة والجيش والمخابرات من غير جدوى .. لقد سمعوا قصصا عديدة متناقضة .. وأضافت كان أبي رحمه الله كلما سمع طرف خيط من أحد يبدو أنه ربما يعرف عنه شيئا أو راه الا ويبحث عنه ويستفسر منه .. كل واحد كان يروي قصة مختلفة .. كانت تقوده الى البحث مرة اخرى. صار المسؤولون عن الامن والسجون والشهداء يعرفونه .. كغريق يتعلق بقشة .. يقولون له يا حاج لقد أتعبت نفسك كثيرا .. ألم تتعب من هذا السفر المتواصل .. وهو يقول لهم جمال كان زينة شباب البلد.

كان الحاج حسين كلما عاد من رحلة البحث والعناء والنهايات المقطوعة يمر ببيت ابن عمه سالم ليطمئن على وصفية .. يحاول ان يطمئنها .. يقول لا بد ان نجده قريبا في يوم ما .. يرى في عينيها حزنا يزداد كلما عاد من رحلة بحث خالي اليدين .. ولكن الامل ما زال ينبض في قلبها انها ستلقاه في يوم من الايام. يخشى الحاج حسين أن يدب اليأس في قلب وصفية، فقد بدا يلاحظ أن أهلها صاروا يلمحون باسلوب غير مباشر ان كانت ستطول هذه الفترة وكم يجب عليها الانتظار. يؤكدون انها مكتوبة لجمال منذ كانت صغيرة، وستبقى له، ولكن شبابها يمضي، فالى متى تبقى الاحلام مؤجلة!
تحاملت الحاجة خيرية على نفسها ونهضت .. غابت في المطبخ قليلا ثم عاد تحمل صحنا وقد وضعت فيه تفاحة وبرتقالة وسكينا .. قالت لخالد خذ قشر وكل .. انا يا عمتي مريضة وليس بي حيل ان اصنع لك شيئا .. زيارتك عزيزة علي. كان بيتها عبارة عن شقة صغيرة في بيت متواضع يبدو عليه ان قديم البناء وقد تم بناؤه بشكل عشوائي عبر مراحل مختلفة. كان واضحا أن بعض اجزائه اضيفت فيما بعد في مخيم بالقرب من مدينة الزرقاء. أغلب البيوت هكذا .. تقف شواهد على المراحل المختلفة من سنوات التشرد والحرمان وبدء ظهور اصحاب الاموال ممن ذهبوا للخليج وعادوا يبنون بيوتا وعمارات كبيرة ويقيمون مصالح ومؤسسات تجارية مختلفة. كانت اغلب البيوت تدل على الاضافات اللاحقة العشوائية. كلما كان يزيد عدد الاولاد والبنات وتكبر العائلة كانت تزداد الغرف والطوابق والمداخل والبلكونات والازقة بشكل فوضوي حتى صارت الاحياء مكدسة بكتل الاسمنت الباهت الكئيب التي لا ينظمها اي نسق نهائيا!

يعيش في هذا الحي غالبية ممن ألقت بهم النكبة في مهب الريح. كلما جاء لزيارة عمته خيرية، يرى في ملابسها تاريخا يكاد يندثر. تلبس على رأسها اوكاة من القماش المطرز الثقيل كالقبعة المستديرة الذي تحفه من كل جوانبه الدنانير العصملية، وثوبها الاسود الطويل المطرز على الصدر باشكال هندسية ونباتية بألوان شتى من خيطان الحرير والقصب المختلفة. لا تنسى دائما ان تحكي له عن بيتهم الذين تركوه في سلمة. حملت أمها المفتاح معها حين هربوا من يافا. أستقر بهم المقام في مخيم جنين. ولكن احلام العودة وصور الذكرى الحزينة بقيت تداعب خيالهم!

ولكن الحلم صار أبعد وأبعد. وكما قالت فيروز "غاب نهار آخر .. غربتنا زادت" ولم تقترب عودتهم!! فقد رمت بهم الاقدار مرة أخرى الى مخيم من الطوب والصفيح في الزرقاء. في الشتاء كانت طرقاته تصبح اوحالا ومستنقعات وتدخل مياه الامطار الى داخل البيوت المتكدسة. لم يكن للفقر والبؤس صورا أبلغ من تلك التي رأوها طوال هذه السنوات.

قالت : رحم الله عمك جمال .. أصر أن يترك المدرسة ويلتحق بالفدائيين .. حاول سيدك الحاج حسين أن يقنعه أن يبقى، أو أن يمنعه، ولكنه ركب رأسه. قال كيف يبقى يعيش في مخيم بائس كهذا. وفي يوم من الايام بحثوا عنه فلم يجدوه في البلدة كلها .. ترك وصفية التي لم يكن قد اقترن بها سوى ثلاثة اسابيع.

توقفت قليلا وهي تذكره اسمه .. أخذت تبكي.. تناولت محرمتها من جيب ثوبها على صدرها وأخذت تمسح دموعها وهي تنشج بحرقة.. قال لها خالد يكفي عمتي.. الله يرحمه لنن ننساه، ولكنك مريضة وصحتك لا تساعدك .. نخاف عليك ان بقيت هكذا تبكين في جو الحزن الموشح بالسواد دائما.

قالت هذا قدري .. تعودت على المآسي .. كم فقدت من اخوة واخوات وانا صغيرة نتيجة المرض والفقر، ولكن حزني على جمال لا يوازيه أي حزن.. مات اخوان اثنان واخت لي ونحن صغار بالكاد نعي من الدنيا شيئا من شدة الحرارة ولم يكن أبي أو أمي يستطيعون فعل اي شيء لهم .. وماذا عسانا نفعل لهم.. لم يكن هناك طبيب في بلدتنا .. كان الطبيب في المدينة .. ولم يكن باستطاعة الناس الوصول اليه بسهولة ..

سألها خالد: وكيف أولادك؟ .. لماذا تعيشين هنا لوحدك ولا احد يرعاك؟ .. لماذا لا تعيشي عند احد منهم؟. أخذت تبكي بصوت أعلى وهي تمسح دموعها..
قالت: كل واحد مشغول بعائلته.. لا أجد راحتي الا هنا في بيتي .. عدنان يتمنى ان ابقى عندهم في مدينة اربد .. ولكني لا أريد أن اثقل عليه.. لقد انتقل مع عائلته الى هناك ليكون قريبا من مكان عمله .. ووضعه بالكاد يكفي اسرته .. لقد أثقلت عليه كثيرا.. أما الاخرين فهم مشغولون بنسائهم واولادهم! لا اشعر بالراحة عندهم.

وتابعت: الله يرحمه ابو محمود كان سندي في هذه الحياة .. منذ أن رحل وانا اتنقل من بيت لاخر .. الا يكفينا التشرد الذي عشناه .. لهذا قررت ان اعيش واموت في بيتي لوحدي .. لم يصدق خالد ولكن ما رآه هو ما حصل فعلا .. انها تعيش لوحدها في هذا البيت .. حاول ان يحذرها انها قد يحدث لها شيء ما ولا تجد احدا يدري بها .. قالت أهلا بالموت .. لم أعد أطيق الحياة. وهل أنا احسن من أبي وأمي واخواني .. كلهم رحلوا عن هذه الدنيا .. الم يرحل ابوك يا خالد.. ماذا نفعه الناس؟ وجمال سبقه.. لقد كان غياب جمال الجرح النازف في بيتنا طوال سنوات طويلة .. لقد بقي أبي يبحث عنه بلا كلل في كل مكان .. لقد ذهب معه ابوك مرة الى بيروت .. ذهبوا الى كل مقرات المنظمة هناك .. ذهب الى دمشق وحلب .. بعض رفاقه الذين عرفوه في اوقات سابقة قالوا انهم سمعوا انه استشهد في اشتباك مسلح على مقربة من الارض التي عشقها.. لم يكل أبي من البحث عنه.. اخيرا لما رأوا اصراره .. اخذوه الى احد المقرات في بيروت .. فتحوا صندوقا وأفرغوا محتوياته على الطاولة .. نظر أبي اليها غير مصدق .. أجهش في البكاء .. كان عنده امل حتى تلك اللحظة أن يراه حيا.. ان يقال له انه معتقل عند الاسرائيليين او في سجن ما من شرقنا المتوسط العزيز.. امسك ساعته وأخذ يتحسسها.. تناول بطاقته وأخذ يقبل صورته.. أخذ ملابسه العسكرية وعليها بقع الدماء المتحجرة التي صارت سوادا مع الايام كالحقد الاسود.. كانت هناك بعض الحاجيات التي كانت معه.. أخذ أبي يبكي ويقول لماذا لم تخبروني عنه من قبل.. لماذا أخفيتم عني طوال هذه السنوات.. قال له الضابط وهو يضع يده على كتفه وأخذ يواسيه ويربت على كتفه.. رحمه الله يا حاج.. لقد مات شهيدا في اشتباك مع دورية اسرائيلية وهو يحاول التسلل للدخول للارض المحتلة.. خرجت كلمات متحشرجة من بين البكاء والدموع .. جمال كان زينة شباب البلد. عاد الحاج حسين ومعه بقايا الذكريات المختلطة ببقع الدماء .. خيم علينا حزن شديد وألم عاش معنا طوال هذه السنوات. أصيبت وصفية بصدمة عاطفية..

اغرورقت عيني خالد بالدموع .. تمالك نفسه .. ادار وجهه قليلا كي لا ترى عمته دموعه .. قال لها مودعا يجب ان يذهب الان.. مررت للسلام عليك .. انت تعرفي زيارة العيد قصيرة.. حاولت ان تبقيه عندها فترة اطول.. قال لها يجب ان أذهب ولكنه وعدها ان يأتي لزيارتها قريبا.. ندت عنه التفاتة الى صورة جمال على الحائط .. كان ينظر الى خالد بعينين فيهما الرضى والأمل .. خرج خالد من الباب وهو لا يزال يفكر فيما حدث..

ايـاد
عمان / الاردن

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة