إن الموت لا يكتسب فداحة الشعور برهبته إلا في سياق العلاقة بالآخر، ولذلك تكمن في الإنسان "غريزة الموت التي تعبر عن محاولة المرء العودة إلى حالة ما قبل الكينونــة، وهي حالة الكينونة بلا آخــر l'autre أي حالة اللاموضوع". ولربما عبر الانتحار عن عمق هذا الشعور باعتباره فعلا موجها من المنتحر إلى الآخر عقابا له أو تنبيها له عن خطأ كبير ارتكبه في حقه. وقد يكون الانتحار فرارا من ألم ما فيصبح الموت ملاذا ومأوى.
1- الموت والأسطورة:
تزود الأسطورة الإنسان بذاكرة تاريخية تعطيه إحساسا بوجود مبرر لحياته. وبدون هذه الذاكرة يصير الإنسان إلى حالة أشبه بالموت، لأن نسيان الماضي هو نوع من أنواع لموت. فالموت نسيان، والموتى الهابـــطون إلى العالم الأسفل، في الميثولوجيا الإغريقية، يشربون في طريقهم من نبع الـنـسيان لكي يقضوا حياة الآخرة بدون ذاكرة، أي بدون تاريخ. لذلك فإن الإنـسان الذي وجد نفسه في مواجهة الموت ابـتكر نسقا أسطوريا ااعتمادا على ملكاته الوجدانية والعـقلية واللاشعورية، من أجل مواجـهة كل الاحتمالات، فكان أن عالج مجهولية المصير الذي ينتظره بطرح معلوم يمكن من بسط الحقيقة الكونية على نســيج رمزي قادر على الإقناع. وهكذا دأب على التبشير بالخلود المطلق بالرغم من حتمية تعرض الجسد للتحلل ومن ثم إلى الفناء؛ ولهذا وجد نـفسه مدفوعا لإبداع أساطير لها شكل السرد القصـصي، وتصـاغ في غالب الأحيان في قالب شعري. كما أن لها خصيصة الثبات وطاقة الإيحاء المستمرة، لكنها معرضة للإلغاء أو التعديل كلما كانت هناك حاجة إلى خلق أساطير جديدة، أبطالـها هم الآلـهة، ومعنى ذلك أن وجود الإنسان فيها يكون لغرض تكـميلي فقـــط، كما أن زمـنها زمن مقدس، هو غير الزمن الحالي. وتتــميز موضوعـاتها بالجدية والشمول".
هذا الشكل السردي المـقدس ساهم في تكييف المشاعر الإنسانية مع فزعها، وأقر نظاما رمزيا قادرا على إحلال الطمأنينة بإمـكانية الانبعاث من جديد، مكان الشعور بالخوف من الفناء الأبدي، فحسب جيمس فرايزر "إنه في أعياد أدونيس التي كانت تقام في آسيا الصغرى، والبلاد الإغريقية، كان الناس يندبون موت ما يعتقدون أنه الإله كل سنة، وينوحون عليه نواحا مؤلما، ولا سيما النساء. كانوا يحملون تماثيله، في شكل جثمان ميت، ويشيعونها للدفن، ثم يلقون بها في البحر أو الأنهر. وفي بعض الأماكن يحتفلون ببعثه في اليوم التالي".
إن توالي الـنواح والاحتفال عند عبدة "أدونيس" ليؤكد قدرة النسق الأسطوري على إنتاج ثقافة الهروب من وجه الفناء، والاحتماء بفكرة الانبعاث. ويكون الماء خلال ذلك هو العـنصر الطبيعي المـساعد على عملية بعث الحياة في جثمان الإله الميت ولأن النسق الأسطوري يخالف منهجيا أنساق العلم ومفاهيمه المبنية على أساس قانون السبب والنتيجة، فإن الـميثولوجيا قرنت الماء، باعتبـاره مدخلا لاستعـادة الحيـاة من جديد، بالإلــه دوموزي الذي جعلتـه ابنا للمـاء و"مجدد طاقة الحياة وحافظ قوى الخصوبة والنماء، هو في الوقت نفسه قاهر الموت الذي حرر نفـسه من قوى العالم الأسفل. من هنا فإنه الإله الوحيد القادر على إعطاء الإنسان أملا في تحقيق الخلود، والأخذ بـيده عبر برزخ الموت نحو عالم آخر أكثر بهجة وسعادة من عالمه الأرضي.
لقد أكد المفهوم الـميثولوجي فكرة إبطال الثنائية القائمة بين الموت والحياة على أساس أن الموت لا يناقض الحياة، بل هو وجهها الآخر. فالطبيعة تجدد نفسها عن طريق الموت والانبعاث للوصول إلى حياة طرية جديدة. معنى أن موت وانـبعاث "الإله دوموزي" هو في حقيقته مثال أعلى لتجدد الحياة وطراوتها. وما يدعم هذا الطرح هو قابلية انـتقال الحمولة الأسطورية بكل شحنتها الرمزية من زمن الآلهة إلى زمن الـبشر ملوكا وكهـنة. ذلك أن طقوس السومرييـن في الاحتفال بـالإله تموز "كانت نوعا من تجديد للحدث الأسطوري الذي تم في الأزمان الميثولوجية، باستحضاره في الزمن الجاري". من هنا فإن الطقس الدوري الربيعي لا يتخذ طابع الاحتفال بذكرى ميثولوجية، بل إنه يكررها، ويغدو المحتفلون موجودين في زمن الأسطورة يعايشون الكائنات العليا، ويشهدون تكرار عمليات الخلق، حيث يقوم الإلهان من خلال وكيليهما الدّنيويـين بتجديد الحياة، حياة الطـبيعة والإنسان والحيوان.
وهكذا فإن المفهوم الأسطوري للموت، عند السومريين والإغريقيين وغيرهم من الشعوب المحتمية بأساطيرها، كان يراهن على تجدد الحياة، لا سيما إذا كان هذا الموت متعددا يتكرر كل سنة، ويكون الميت إلها مــضحيا بدمه لكي ينعم وجه الأرض بالحياة. فقد "كان عبّاد أدونيس يعتقدون أن إلههم يـموت كل سنة جريحا في الجبال، فيتضمخ وجه الطبيعة كل سنة بدمه المقدس. ولذلك كانت فتيات سوريا في كل سنة يبكين لــــموته وهو في شبابه، بينما تزدهر الشقائق ــ وهي زهرته ــ بين أرز لبنان، ويجري الـنهر محمرا إلى البحر، فيحيط سواحل البحر المتوسط المتعرجة بخيوط قرمزية كلما هبت الريح نحو الساحل" .
إن موت الإله جريحا هو إعطاء الفرصة لخلق الإنسان من تربة الأرض ممزوجة بدمه، وهو ما سيـمكن الإنسان من أخذ تكوين مزدوج فــيه العنصر المادي (التربة)، وفيه العنصر الروحاني (دم الإله القتيل). ومن هذا الطرح نستنتج حرص الميثولوجيا على البحث الدائب عن تأسـيس حياة تتوفر لها عناصر القوة والإخصاب والتجدد لمواجهة الفناء الكلي أو الشعور بالهشاشـة والعدم. ففي الأسـطورة البابلية "إيتانـا والنسر" ــ وإيتانا هو ملك جعلته الآلهة على مدينة "كيش" ــ ينقض النسر ميثاقه مع الحـية فيأكل صغارها، فيتدخل الإله "شمش" لإنصاف الحية فيـمكنها منه حيث تنتزع مخالبه وتنتف ريشه وتلقي به في قاع بئر. فيعمل الملك "إيتانا" على إنقاذ النسر بإيحاء من "شمش" كي يلــحق به إلى السماء بحثا عن نبتة الإخـصاب، لأنه كان عاقرا وكان بحاجة إلى ولي للعهد. وتمدنا هذه الأسـطورة بأبعاد رمزية نختزلها في الترسيمة التالية :
أكل صـغار الحية - البحث عن نبتة الإخصاب -
الهبوط إلى قاع البئــــر - الصعود إلى السماء.
ذلك أن أكل صغار الحية هو طقس لاكتــساب القوة والخـصوبة "الأفعى في ثقافة الشرق رمز للشفاء"، والهبوط إلى البئر هو إجراء طقسي؛ إذ على النسر أن يموت ليـتطهر في باطن الأرض الأم، ولكي يبعث من جديد معافى ومزودا بالإخصاب والقوة. أما الصعود إلى السماء فهو انطلاق في طلب النبتة التي تتعهدها عشتار إلهة الخــصوبة بالرعاية.
لقد عرف العهد الميثولوجي كيف يكيف مفهومه للموت، فينفي عنه كل تصور يقود إلى الشـعور بالعبثية واللاجدوى، بل حوله إلى مصدر للسعي وراء الحياة الخصيبة التي لا تتحقق إلا عن طريق الموت المفضي إلى العثور على سر الصلابة والاستمرار. وإذا كان موت الجـسد هو المعبر الأساسي من أجل اكتساب القوة والخصوبة، فإن تحلل أعضائه واندثارها في التراب طرح مشكلة بيولوجية تتجلى في إمكانية انـبعاث الجسد مرة أخرى. وهنا ستـتعدد طرق هذه الاستعادة بحسب تكوينات المجتمعات الميثولوجية وطبيعة ثقافتها.
ففي اعتقاد "الهورن" من الهنود الحمر أن دفن الأطفال قرب الطرقات من شأنه أن يسهل دخول أرواحهم في النساء العابرات، فيولدون مرة ثانية. كما أن بـعض الزنوج في غرب إفريقيا يلقون بأجساد الأطفال بين الشجيرات الكثيفة لكي تتمكن أرواحهم من اخــتيار أمهات جديدات من النـساء المارات بهم. أما الرومان والإغريق فقد آمنوا بأن أرواح الموتى تتقمص في الأفاعي، لذلك عاملوا الثعابين برفق، فكانت تؤوى وتطعم بأعداد غفيرة. ومن الممكن أن الصورة الشائعة في الفن الإغريقي والتي تمثل امرأة تسقي ثعبانا من صحن، مأخوذة عن عادة إطعام أرواح الموتى الراحلين، إلا أن انبعاث أجساد الأطفال بهذا التـصور يمر بطور التكوين الأول ــ المرحلة النطفية والجنينية ــ قبل أن تخرج إلى الوجود أجسادا حقيقية. ولربما كان إصرار بعض الأسر على منح أسماء موتاها للمولودين الجدد تأكيدا لبقاء عقيدة التقمص أو التناسخ عندهم وامـتزاجها بتقاليدهم. إن استعادة الاسم ــ بهذا الإصرار ــ بعث لجسد المسمى وتخـليد له، وإن كان تطور الفكر البــشري يفسر هذه الظاهرة بالتـيمن بذكرى الفقيد، أو تكريمه بحفظ اسمه من الضياع والتلف. وهذه الممارسة مـــا تزال شائعة بين عدة أجناس ومن بينهم العرب
ولعل الإغريق والسوريين القدماء الذين عبدوا الإله" أدونيس" أكثر الأمم تجريدا لفكرة البعث، حينما قالوا بانبعاث الروح دون الجســد وهذا ما سيفسح لتطور الفكر البشري في تأمله للموت وتفسيره فيما بعـــد. ففي أسطورة أدونيــس أنه لما قتــل آريس ـ إله الحـرب ـ أدونيس بإيعاز من "برسيفوني" ربة الموتى التي كانت تتقاسم حبه مع "أفروديتا" ربة الحب والجمال، حكمت الآلهة بانبعاثه من جديد لئلا تنفذ "أفروديتا" تهديدها بالانتحار، فيختفي الجمال من عالم البشر، لكن انبعاثه، هذا، لن يكون جسديا؛ وإنما تصعد روحه فقط، فيقضي مع أفروديتا نصـــف عام ــ الربيع والصيف ــ ليعود بعد ذلك إلى العالم السفلي في النصف الثانــي من العام ــ الخريف والشتاء ــ.
وأسطورة أدونيس، ههنا، تحل مشكلتين" فهي من ناحية تطرح البديل الرمزي للشعور البشري بالخوف من الاندثار والفناء المطلقين، ذلك أن تحلل الجسد وانطفاء جذوة الحياة فيه لا يعني ذهابه إلى غير رجعة، فقد وجدوا في صعود الروح وانبعاثها من جديد أملا في تحقيق وجود أكثر طهرا ونقاء من مرحلة وجود الجسد المرهون للفساد والتعفن. من ناحية ثانية: أفادتهم الأسطورة في تفسير نسقي ومنطقي لتبدل الطبيعة من حال إلى حال. وهنا نراهم ينجحون في تحويل الأسطورة إلى واقع، والواقع إلى أسطورة دون المساس بنسقية التفكير، ودون الوقوع في التناقض. فعندهم أنه "ما زال أدونيس حتى اليوم، يغادر عالم الموتى مع نهاية الشتاء ليصل إلى عالمنا مع قدوم الربيع.تستقبله الطيور فرحة مسرورة. تحتفل بقدومه الأزهار والورود. تخضر الأشجار على اختلاف أنواعها. تنشر أفروديتا أمامه وحوله الزهور اليانعة والنباتات المثمرة. يسعد العالم بلقاء أدونيس مع ربة الجمال، لكن سعادته لا تطول. سرعان ما ينتهي فصل الصيف ويصبح الشتاء على الأبواب. سرعان ما تذبل الأغصان النضرة، وتتساقط أوراق الأشجار، وتختفي الأزهار وتموت النباتات، وتجف أغصانها وجذوعها. هكذا نعيش كل عام، ننتظر قدوم أدونيس مع بداية الربيع، ونودعه في بداية الخريف.
لقد واجهت الأسطورة الإغريقية الموت بأسلحة رمزية متعددة، بل إنها أوشكت أن تنتصر عليه عن طريق الفن، وبالموسيقى تحديدا، والانتصار المشار إليه هنا كاد أن يكون كليا، أي بالقدرة على استرجاع الجسد الحقيقي للميــت، وهذا ما توثقــه أسطورة "أورفيوس" فعندمــا ماتت "يوروديكي" زوجة أورفيوس ومعشوقته بلدغة الثعبان، حاول العاشق الولهان استعادة زوجته، وذلك بالهبوط إلى العالم السفلي ــ عالم الأموات ــ فاستعطف رب الأرباب "زيوس" الذي لبى طلبه، وإن كان يعلم أن طلبه سيوصله إلى الهلاك لا محالة. وبأنامله الماهرة التي كان يمررها فوق أوتار قيثارته استطاع أن يلين قلب خارون "المكلف بنقل الموتى في قاربه إلى العالم السفلي فوافق على نقله إلى شاطئ الموتــى حيث مملكــة "هاديـس" إلـه الموتـى. وعند الـمدخـل اعـترضه حارس البوابــة "كربيوس" وهو كلب ضخم بثلاثة رؤوس وأنياب ترعب الناظرين. وكاد "أورفيوس "أن يستسلم لحتفه لولا أن تذكر قيثارته. فبدأ يعزف عليها إلى أن هدأت ثورة "كربيوس" الذي سمح له بالدخول. وأمام الإله هاديس وزوجته برسيفوني اللذين دهشا لوجود واحد من الأحياء في مملكتهما، طفق أورفيوس يعزف لحنا حزينا مؤثرا، فأشفقا عليه وسمحا له باصطحاب زوجته يوروديكي إلى عالم الأحياء شريطة ألا ينظر إليها ما دام في العالم السفلي، وألا يفعل ذلك إلا بعد مغادرته إلى عالم الأحياء. وفي اللحظة التي خرج فيها أورفيوس إلى عالم النور التفت بشوق كبير ليحضن زوجته الحبيبة، فحدث الذي لم يكن في الحـسبان، لقد أخطأ التقدير، لذلك اختفت الزوجة وهي تصرخ بالوداع، وعادت من حيث أتت.
لقد استطاع "أورفيوس" أن يقهر الموت بفنه، لكن سوء تقديره جعل الموت يتغلب عليه، فرجع خائبا لينغمس في أحزانه وعذاباته. فعاش في الغابات يعزف ألحانا شجية إلى أن التقى ذات يوم بالباخيات ــ وهن نساء من أتباع الإله باخوس ــ يمرحن ويرقصن ويمزقن كل من لقينه من البشر. فألححن على أورفيوس أن يعزف لهن ألحانا مرحة فرفض. فهددنه بالقتل، فلم يجد بدا من مـسايرتهن لبـعض الوقت، فبدأ يعزف ألحانا مرحة والباخيات يرقصن في نشوة. لكن الفنان الحقيقي لا يمكنه أن يجاري التصنع، فما لبث أن تحركت أنامله على إيقاعات قلبه الحزين، فما كان من الباخيات إلا أن قطعنه إربا إربا، وانفصل رأسه عن جسده، وهو يصرخ وداعا يوروديكي.
وإذا كانت أسطورة أورفيوس تضعنا أمام مواجهة الفن للموت وقدرته على مغالبته، فإنها في الوقت نفسه تعطي الغلبة للموت بتبريرات غير مقنعة؛ يتمثل الأول في عدم قدرة الإنسان الحي على الصبر الكامل، ويجسده نفاد صبر "أورفيوس" والتفاته لمعانقة زوجته قبل أن تعبر قدماها عتبة عالم الموتى، فتلغى للتو إمكانية انبعاثها في عالم الأحياء. ويتمثل التبرير الثاني في عدم قدرة الفنان الصادق على مجاراة الافتعال والتصنع، فيتسبب صدقه في موته. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الإنسان لكي يكون صادقا مع نفسه فينبغي أن يرهنها للتضحية. يتجلى التبرير الثالث في أنه لا وجود للحب المطلق إلا في تماهيه مع الموت أو اقترانه بها. فيصبح الموت ــ حينئذ ــ معادلا موضوعيا للحرمان. مع الحرمان تشتد الرغبة وتستعر الأنفاس، لذلك يواجه المحبون الحقيقيون دائما مصير الموت لكي يستمر حبهم حيا. وإذا كنا نصادف هذه الحقيقة في الأنماط العليا بما فيها الأساطير، فإنها ستتكرر على أرض الواقع من خلال تجارب العشاق وصرعى الحب في التراث العربي بشكل خاص، وفي التراث الإنساني بشكل عام.
لقد شكلت الأسطورة مرجعية أساسية للشعراء على مر العصور، وتعددت أشكال حضورها في النصوص الشعرية تبعا لتكوين الشعراء وطبيعة ثقافتهم. فمن الاستعادة الكمية التي لا تراعـي مبدأ الامتصـاص وإعادة الإنتاج، إلـى الاستعادة الـرمزيـة التي تطـمـح إلى خلق نموذجهـا الأسطوري الخـاص، بالإضافة إلى استعادات أخرى تتراوح بين استثمار الرمز الأسطوري استثمارا جديدا يكسبه أبعادا حيوية معاصرة وبين استثمار شحنته الرمزية دون الإحالة على تسميته الشيء الذي يضفي على هذه الممارسة خصوبة دلالية شديدة الإيحاء... فحسب يونغ "إن المجتمع الذي يفقد أساطيره ــ بدائيا كان أو متحضرا ــ يعانــي كارثة أخلاقية تعادل فقدان الإنسان لروحه. وعلى هذا الأساس، كان على الشاعر العربي المعاصر المتشبع بالثقافة الميثولوجية أن يتحصن من أشكال الموت المتعددة التي تواجهه، عن طريق بناء أسطوري جديد يخلقه من الأصول الميثولوجية السابقة، ويمنحه قوة المواجهة بإمداده بعناصر فكرية وجمالية يتيحها التطور وتغذيها الانعطافات الجديدة التي عرفتها رؤى الشاعر المعاصر للذات والوجود.
إن استمرارية الأسطورة في التداول التنظيري، وفي الممارسة الإبداعية خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع "الموت له دلالة قاطعة على أن تطور العلم والفتوحات التي عرفها العقل البشري لم يحسما هذه المعركة المثارة منذ القديم بين الإنسان وبين مصيره؛ فالعلم وإن تمكن من إطالة العمر، فإنه لم يقو إلى الآن على إلغاء الموت؛ والعقل وإن أقنع الإنسان بمراجعة خوفه من قدره، فإنه لم يحمه من الإحساس بالإحباط والعبثية. من هنا كان اللجوء إلى إعادة توظيف الأساطير القديمة بطريقة فنية تضمن لها التفاعل مع الحياة المعاصرة، وتضمن للإنسان انسجامه في حياته وتكفل له الشعور بالجدوى؛ بل قد تمده بطاقة من المعاني والرموز التي تجعله في مستوى مواجهة كل التحديات. وليست هذه الأساطير المعاصرة سوى هذه النصوص الشعرية المعاصرة في تكامل مكوناتها البنائية والدلالية، سواء أكانت تستحضر أساطير معينة من الميثولوجيا الإغريقية والعالمية من أجل استثمارها استثمارا جديدا، أو كانت تبتكر نماذجها الذاتية التي تبوئها مرتبة الأسطورة وعمقها.
واللجوء إلى استثمار الأساطير يبرره أن فيها نزوعا إلى "تجاوز العلاقات والنسب وردود الأفعال العادية للحياة، أي أن لها منطقا يختلف عن المنطق العادي، يعتمد على استمداد الخيال الطليق، ولا يخضع للعقل وإن كان لا يجافيه في احتوائه عادة على منطق العلة والمعلول أو السبب والغاية. الأسطورة إذن لا معقولة، ولكنها ليست منافية للعقل". كما أنها تمد القيم الروحية بأسباب استمرارها، في عصر يتحول فيه كل شيء بفعل هجمة الحضارة المادية التي أوشكت أن تحول الإنسان إلى آلة تدور على خواء ولا تنتج إلا موتها.
إن الموت في غياب الأسطورة يمكن أن يصبح مصدرا للفزع أو للانخراط في حياة لا معقولة. وقد انتبهت الأمم البدائية بوعي أو بلا وعي إلى مصيرها المختوم بفناء الجسد، فأوجدت الميثولوجيا وأحاطتها بطقوسها الاحتفالية، وكرستها ضمن عاداتها اليومية لتحقيق توازن وانسجام خلال صراعها مع الزمن. فكان أن نفت مفهوم الموت السلبي من قواميسها، وأحلت محله الشعور بالحياة والموت كوجهين لعملة واحدة؛ لذلك أكدت على الانبعاث وجعلته حقيقة قائمة في الواقع، وحشدت له الأقاصيص الخارقة والأبطال الأسطوريين، وتوجته نموذجا أعلى يتكرر على الدوام.
وليست أساطير الموت وطقوسه حكرا على أمة دون أخرى، أو على عصر دون آخر؛ فإذا كان الموت مصيرا موحدا، فإن مفهومه وطرق التعامل معه تختلف من بيئة سوسيوثقافية إلى أخرى. فعند الأفارقة ـ مثلا ـ يبقى للموتى حيز محترم، وهم وإن قبروا فإنهم يتجلون للأحياء بطرق متعددة" في الأحلام، وفي منظومة الدلالات التي يجب فك رموزها؛ سواء بـظهور علامات ذات امتياز في هيئة بشرية أو حيوانية" كل مجتمع يملك علاماته السوسيوثقافية . هنا الأفعى، هناك الحرباء أو بإظهار فرحهم من خلال أمطار الخير، أو غضبهم من خلال كوارث، جفاف، أوبئة، موت حيوانات.
إن الموت حسب د زهان D. Zahan يكتسي طابع الضرورة من غير أن يدمر الأمل في العيش؟ وبعض المجتمعات في السينغال تذهب إلى حد تكليم الموتى في محاولة كشف سبب وفاتهم. ويورد الباحث الأنتربولوجي لويس فإنسان توما L.V.Thomas نص الأسئلة التي يوجهها الشخص المؤهل لمحاورة الجثة مرتبة كما يلي:
ــ هل هي نهاية الحياة ؟
ــ من قتلك ؟ هل مت بسبب شخص ؟
ــ ربما تكون قد عصيت البوكيين (Bockiin) الملكي ؟
ــ هل أخذك الـ (هوفيلا (إليه ؟
ــ هل أخذك الـ (بنكوليم) إليه ؟
ــ هل أخذك الـ (كوهولنج)إليه ؟ إلخ . . .
وهذه السلسلة من أسماء العفاريت قد تطول. وإذا كانت الأجوبة بالنفـي (تراجـع الجثـة إلى الوراء)، فإن طبيعة الأسئلة قد تأخذ مسارا آخر:
ــ هل قتلك شخص ؟
وإذا بقي الجواب بالنفي، فإن المستجوب يسأل سؤالا أخيرا:
ــ إذن كان من المحتوم أن تموت اليوم.
إن الوثوق من ردود الميت اعتراف بحياته الأخرى التي صار يعيشها خارج الجسد المرهون للتعفن والتدنس.وربما كانت حياته الثانية أكثر حضورا ومشاركة في الجماعة التي ينتمي إليها؛ وهو يستطيع التأثير بقوته المكتسبة من موت جسده في أحوال جماعته، كالتعبير الرمزي عن فرحه بإنزال المطر، وعن غضبه بتسليط الكوارث الطبيعية التي أشرنا إليها سابقا. لنقل، إذن، إن الأسطورة الأفريقية ترتفع بموتاها إلى درجة التأليه الذي نصادفه في الميثولوجيا الإغريقية والسومرية.
2- الموت و الفلسفة:
إننا لم نولد أحرارا قطّ، إننا محكوم علينا بالحياة، قبل أن نكون محكوما علينا بالموت. قولة قد تبدو بسيطة في صياغتها ولكنها تشير إلى مدلول فلسفي عميق، صرخة مفعمة بغير قليل من الشعور المزدوج بالاغتراب. فهو اغتراب الإنسان الذي لم يختر ولادته فوجد نفسه مورطا في هذه الكينونة المفروضة، وهو اغتراب الإنسان الذي صار محكوما عليه بالموت بمجرد أن دوى الوجود بصرخته الأولى. قد يمكن خطأ الإنسان الأول في اعتقاده بإمكان مواجهة الموت والفناء بمزيد من النسل الذي يملأ الفضاء، ظنا منه أن البدن يخلف البدن، والتراكم يعوض النقص، وهي رؤية توافق تماما نزوعه الطبيعي في مرحلة ما قبل الثقافة؛ ذلك أن "الإحســاس بالموت ينبــثق من الثقافــة بدرجــة تفوق انبثاقه من الطبيعة". وهذا يعني أن بحث الإنسان البدائي عن المعرفة خلال أطوار تطويعه لمصاعب الحياة ــ قاده بخطوات حثيثة إلى لقاء غير مرغوب فيه بالموت. وهذا الطرح المنطقي لعلاقة المعرفة بالموت يحيلنا بعنف على الخطيئة الأصلية الّتي نقلتها الأديان عن قصة طرد آدم من الفردوس بعد أن تجرأ على الأكل من شجرة المعرفة فعرض نفسه ونسله للنسبية الزمنية وللموت بعد أن كان ينعم بالخلود.
فأي مفهوم للموت لا يمكن أن يكون إلا ثقافيا، وأي شعور بالخوف منه لا يتعمق إلا بإعمال التفكير وتشغيل الطاقات التخيلية حيال مصير الإنسان المحاط بكل الأسباب والشروط المهددة بموته. فشرط الوجود الجسدي خلق بالغريزة الحرص على المحافظة عليه، ثم نما الشعور الغريزي بما تراكم من خبرات ومهارات ترجمها الوعي إلى أفكار مجردة تتطور باستمرار آخذة في بلورة نسقها الذي تمثل ــ بداية ــ في التفسير الأسطوري قبل أن تهجم الفلسفة الإغريقية عليه من خلال صراع العقل مع المنظومات السحرية والطقوسية. في محاولة الإقناع بأن الخبرة بالقدسي لا يمكن اكتسابها بنشوة صوفية يخلقها الطقس. ولا برؤية ميثولوجية تقدمها الأسطورة، كما يرى أفلاطون مثلا.
من هنا نرى أن الفلسفة اليونانية برمتها قامت على أساس تعلم الموت أو التدرب على مواجهته، فهذا سقراط يصرح أمام أتباعه قبيل تنفيذ حكم الإعدام فيه" "إن أولئك الذين يوجهون أنفسهم في الطريق الصحيح إلى الفلسفة يعدون بذلك مباشرة وبمحض إرادتهم، يعدون أنفسهم، لأن يموتوا وللموت. وإذا كان هذا صحيحا فهم، إذن، في الواقع يتطلعون للموت طول حياتهم. ومن غير المعقول إذن أن يضطربوا عندما يقدم الشيء الذي كانوا لأمد طويل يعدون أنفسهم له ويتوقعونه. والفلسفة بهذا المعنى تمرين فكري يعمل على إضعاف الهواجس والشعور بالخوف من الموت. أو هي فن التهيــؤ للمــوت بشجاعــة. بل أكثــر من ذلك يجهــر سقراط في يومــه الأخيــر بــأن "الفلاسفة الحقيقيين يجعلون الموت مهنة لهم". وبالنسبة له فإنه يفرق بشكـل قطعي بين الروح والبدن، فالبدن مرهون بما هو طبيعي خاضع لتغيراته وطوارئه، في حين ستستقل الروح بحريتها وبارتفاعها عن الزمن، وأي زعم باختلاطها بالبدن سيجعلها عرضة للقلق والخوف أمام موتها. لذلك كانت الحياة النفسية مرانا طويلا إراديا لتخليص الروح من البدن. وربما كانت هذه الفكرة قريبة من تخريجات أفلاطون الذي يدعو إلى تسليم البدن للزمن والموت، والبحث عن الحياة في مكان آخر. ولن يكون هذا المكان الآخر متحققا إلا في اكتساب المعرفة الخالصة. وقد بنى أفلاطون تصوراته عن الروح انطلاقا من التفريق بينها وبين البدن الذي أشرنا إليه قبل قليل فإذا "كان البدن يرد إلى التراب فإن الروح ترتبط بالموضوعـات الخالدة ولا تخضع لأي تغير"
إن الفلسفة اليونانية كما عند سقراط وأفلاطون تحاول الانتصار على الموت بالتأكيد على خلود الروح في العالم الآخر، بل إن الشخص الذي وجدت فيه هذه الروح سينعم هو الآخر بذلك الخلود. " ففي الخطاب الأخير لسقراط أمام المحلفين نراه يتوقع مباهج الحوار مع أرواح عظيمة مثل أورفيوس وهوميروس وأنه سيحاول أن يكتشف في هذا العالم الآخر، كما فعل في هذا العالم الراهن: أيهم الحكيم وأيهم يدّعي الحكمة وليس كذلك. وهذا يعني أن هناك تعارضا بين هذا المفهوم والمفهوم الأبيقوري الذي يجعل الموت لحظة حاسمة تتلاشى فيها الذرات المكونة للجسد والروح معا لينعم الكائن البشري بعدم مطلق بعد فنائه.
وإذا كانت الفلسفات القديمة قد انشغلت بالموت كمفهوم أنتولوجي شامل في سياق علاقة الجــسد بالروح مع تــباين واضح في القــبول بالتفـــسير الميتافيزيقي المتعالي أو رفضه، فإن الفلسفة المعاصرة قد واصلت أسئلتها حول الموت ولكن بإيقاعات مختلفة مع استحضار للتراكم الفكري القديم كمرجعية أساسية لم تفتقد طراوة التأمل وإمكانيات التفسير.
كما أن ظهور علوم أخرى في إطار البحث الفلسفي كالانثربولوجيا وعلم النفس، قد ساهم بكيفية بارزة في إثارة موضوع الموت ومعالجته من زوايا متعددة. وقد تنوعت مفاهيم الموت تبعا للتوجه الذي يصدر عنه الباحثون. حيث نجد أن معظم الأطروحات الفكرية تركز على تعريف الموت كفعل ثقافي أكثر منه كفعل طبيعي.
وهكذا نرى أن حقيقة موت (الآخر) تجلى في موت ما كان يتميز به من أخلاق وسلوكات أكثر ما تتجلى في تحوله إلى جثة فاقدة لكل حركة. فعند برينو كاست Bruno Castes " أن موت شخص محبوب، يعني موت شيء مرئي في الشخص الحي المحب، شيء يفتقد ويموت فينا" فالحب والعطف والطيبوبة يمكن أن تعوض أو تسترجع، ولكن ليس بنفس الخصوصيــة التي كان يسبغهــا الميت علينــا". هنا فراغ يخلق. ومعنى ذلك: "أن تموت يعني أن تقتل في "الآخر" كل شيء حي كوّنه عنك. فالميت يصبح قاتلا للعلاقة الطيبة التي سبق أن ربطها مع "الآخر" وسالبا لها. أما عن تأثيره كجثة، فهو يمنحنا فرجة ما سيحدث لنا: التحول إلى جثث.
إن الموت لا يكتسب فداحة الشعور برهبته إلا في سياق العلاقة بالآخر، ولذلك تكمن في الإنسان "غريزة الموت التي تعبر عن محاولة المرء العودة إلى حالة ما قبل الكينونــة، وهي حالة الكينونة بلا آخــر l'autre أي حالة اللاموضوع". ولربما عبر الانتحار عن عمق هذا الشعور باعتباره فعلا موجها من المنتحر إلى الآخر عقابا له أو تنبيها له عن خطأ كبير ارتكبه في حقه. وقد يكون الانتحار فرارا من ألم ما فيصبح الموت ملاذا ومأوى. ويعتقد روسيه Rousset أن النوم والانقطاع والحاجة إلى النوم والرغبة في الانقطاع كلها تمثل بالنسبة للمحلل النفسي أشكالا أخرى للموت. وهي كلها أشكال تدل على وجود غريزة الموت في الإنسان. وهناك مفهوم اجتماعي للموت استطاع أن يرقى إلى إذاقة الإنسان طعم الموت وهو حي يرزق، فقد "أقر في الكابون قانون كل محكوم عليه بالإعدام لا يقتل بل يشطب اسمه من الحالة المدنية، كما لو أنه لا يوجد، أو أنه منــبــوذ. إنه مــوت أقوى من أي مــوت آخر، إنه موت اجتماعي".
من هنا يتضح أن الإنسان استنتج من الموت الطبيعي للجسد تصورات ثقافية من أجل إقرار الموت كمفهوم رمزي يتجاوز آثار الانفصال التي يسببها موت الجسد. ثم، لِمَ ننظر دائما إلى الموت كحدث سلبي يفقدنا بهجة الحياة؟ فالموت يشكل مصدرا للدخل والكسب، فبفضله تباع التوابيت النفيسة والأماكن المفضلة في المقابر، ولا ننسى بائعي الزهور والأكاليل. وكل ذلك يصبح بشكل تلقائي مصدرا للكسب.
إن الموت ــ بهذا الطرح ــ يغدو مكملا لدورة الحياة التاريخية، فموت شخص ينتج عنه تفعيل لحياة أشخاص آخرين يرتبط شرط استمرارهم في الحياة بما يعقب الجنازة من بذل وإنفاق وإرث. وقد يكون الميت سفاحا أو ديكتاتورا بوصفه مسببا لموت الكثيرين، فيخف ــ بموته ــ إيقاع الهلاك. ومع ذلك تصبح هذه النظرة ممعنة في بساطتها، إذ لا تملك قدرة المواجهة الوجودية لما يتهدد حياة البشر. وهذا هو السبب الرئيس الذي دفع بعدد من المفكرين إلى دخول حلبة التأمل من أجل استنتاج أي تخريج عقلي يمنح الإنسان الشعور بالطمأنينـة. فعنــد كيركيجاردKierkegaard "أن الموت شيء لا يمكن تجنبه من حيث أننا أشخاص تاريخيون حقا. ولهذا السبب فإنه ليس حيلة أو خدعة قاسية من الطبيعة، ولا هو شيء مفروض غير عادل من القدر. فليس هناك أي شر في الموت. وفي الحقيقة ليس هناك شيء نهائي يمكن أن يقال عن الموت، لأن المــوت هو في نهايـة الأمر مجــرد حدث في تيار الصيرورة الذي لا يتوقف.
وبالنسبة للفلسفة الوجودية فإنها تؤكد أن الإنسان لا يدرك موته في حقيقة الأمر إلا من خلال علاقته بموت الآخر، خاصة إذا كان هذا "الآخر" قريبا أو عزيزا، مع أنه على علم بأن الموت يساعد "على تقويس الخط المستقيم الذي يسلكه منطق الحياة، ولا يزال ممعنا في حركته حتى يصيره دائرة تعطي للزمن فرصة الدوران حول نفسه والتفرج على حقيقة تعاقب الموت والحياة بطريقة تبادل الفعل والانفعال، تماما كما يحدث في رقعة الشطرنج : موت الشاه إيذان بانتهاء اللعبة ودعوة إلى بدئها من جديد ومن ثم لا يستطيع المرء أن يدرك موته الشخصي" فمادام حيا لا يتذوق الموت، وعندما يموت يكون الإحساس قد فارقه بمعنى أنه يعيش تجربتين منفصلتين لا تمكن إحداهما من إدراك أخرى. وقد كان ذلك سببا في الشعور بالعبث الذي أنتجه الوجوديون في شكل كتب نظرية وأخرى إبداعيـة. فحسب أبيـقـور "إذا كنا، لا يكون الموت، وإذا كان الموت لا نكون". وقد حاول أن يعالج مشكل الخوف ويحلل دواعيه. ومن ذلك خوف الناس من عقاب الآلهة على أعمال ارتكبوها، أو خوفهم كذلك من أن يولدوا من جديد بعد موتهم في أوضاع لا يرغبون فيها؛ لذلك يطمئن الخائفين من ذلك بقوله إن العالم ليس فيه آلهة نطيعهم ولا نظام كلي شامل علينا أن نلتزم به. وهو يرى أن الحياة عارضة لم توجد لعلة أو سبب؛ فكما ظهرت بالمصادفة فإنها ستختفي بذات الطريقة، ولا يبقى من أثر، وما دامت الروح مثل البدن مكونة من ذرات "مادية" فهي لن تحيا بعد موت البدن.
أما قضية الخوف من انتزاع الموت للذة السرور، فيعالجه أبيقور بما يلي: فما دمنا لا نستطيع التنبؤ بالمستقبل، فالأولى بنا ألا نتطلّع أبدا إلى مصدر سرورنا ولذتنا، وكل من يفعل ذلك يكون معرضا لأن لا تتحقق له هذه الرغبة، ويصبح بالتالي محبطا في مسيرة حياته. ذلك أن كل ما نطمح إليه في المستقبل معرض للتهديد الدائم من التغير والموت. ولعل أبيقور يحسم المسألة باعتبار الذوات كيانات تؤلفها الذرات، وعندما تتشتت هذه الذرات يحدث الموت. بمعنى أن الجسد الحي ليس موجها من قبل قوة خارجية، بل طبيعة في المادة ذاتها. ولذلك عاش مرددا شعاره المبدئي "اترك الموت يمتلك المستقبل وعش أنت الحاضر". وإذا كان طرح أبيقور لمسألة الموت طرحا يزاوج بين النبرة الوجودية والتخريج العلمي، فإن الفكر الوجودي المعاصر عمل هو الآخر على الابتعاد من المسلمات الدينية والهروب من الميتافيزيقا إلى التبرير الكلامي والتفسير العلمي في محاولة نفي المــوت عن علاقة الإنســان بذاتــه، لأن هذا المــوت ما هــو إلا "حدث واقعي ماثل في صميم الحياة منذ البداية، وكأنما هو واقعة مستمرة لا تكاد تنفصل عن فعل وجودي نفســه". وأي فصل بين التجربتين المندمجتين الحياة/ الموت، يلقي بصاحبه إلى الشعور بالخوف الرهيب من مأزق الانتقال من مرحلة الحيوية والامتلاء إلى مرحلة الفناء والمجهول. وعلى هذا الأساس يسارع فريديريك نيتشهNietzsche إلى تقديم تأويل فلسفي ينجح في تشخيص هذا الفصل المؤلم بين التجربتين حيث يقول: إذا كنا نعيش متجهين إلى الأمام، فإننا نفكر دائما متجهين إلى الوراء. هذا يعني أننا لا نوازي زمنيا بين العيــش والتفكير، وبين الذاكرة، هذه الخزانة الكبيرة التي تحتفظ بكل الذكريات التي هي سبب تعاستنا، لذلك يبادر نيتشه إلى علاج هذا المأزق الوجودي بنظرية العود الأبدي حيث يقول: كل شيء يمضي، كل شيء يعود، وتدور إلى الأبد عجلة الوجود، كل شيء يموت، كل شيء يتفتح من جديد، وخالدا يمضي زمن الوجود، الأشياء كلها تعود في خلود، ونحن أنفسنا كنا بالفعل مرات لا حصر لها ومعنا الأشياء. لكن ما يلاحظ على نظرية العود الأبدي هو طرح نسق يؤمن بالشمولية والخلود، ولكنه يلغي القيمة الوجودية للشخص في حد ذاته، ويسلبه خصوصيته الفكرية والوجدانية، مما يجعل هذا الطرح مناقضا تماما لما كفلته الأديان السماوية للإنسان من حق الوجود الذاتي، واختيار المصير الذاتي الذي لن ينتهي بفناء الجسد.
لقد حاولت الفلسفة الوجودية ــ بتشعب تياراتها ــ أن تنفض يديها من الموت كظاهرة خاضعة للتجربة والبحث؛ فحسب جان بول سارتر إن الموت طالما لا نستطيع إدخاله ضمن التجربة الذاتية، فينبغي ألا نفكر فيه بالمرة" لأن أية محاولة للفصل بينه وبين الحياة وإدراجه كحالة خارجية دخيلة من شأنه أن يساعد على تضخيم شبح الخوف الميتافيزيقي منه. من هنا نرى إجماع عدد كبير من الفلاسفة الوجوديين على أن الموت "حدث واقعي ماثل في صميم الحياة منذ البداية، وكأنما هو واقعة مستمرة لا تكاد تنفصل عن فعل وجودي نفسه". وبالرغم من هذه التخريجات الفلسفية التي حاولت التسليم بالموت كمعطى وجودي متصل بالحياة وملتحم بها، فإن ذلك لم ينقذ الفلاسفة من ورطة مواجهة الموت من خلال موت الآخر الذي قد يكون صديقا أو قريبا عزيزا؛ لأن بموته تفتقد أشياء كانت مرتبطة به، فيتحول هو إلى شيء، لأن من طبيعة الأشياء ألا تتكلم ولا تجيب؛ وهكذا تغدو الجثة شيئا جامدا قبل أن تتحلل وتشرع في الاندثار شيئا فشيئا. والملاحظ أن الفكر الوجودي لم يحسم معركته مع المـوت، فقـد ظـل المجهـول يحاصره من كـل جانب؛ وهـذا ما دفع شوبنهاورلى إعلان اعتراف شبيه بالشكوى المؤلمة: لو كنا على ثقة تامة من أن باب الموت هو بلا شك فاتحة جديدة وسبيل النفس إلى الراحــة الأبدية التامــة، لما ترددنا جميعــا في المبــادرة إلى الخلاص بالموت". ومعنى ذلك أنه بالرغم من المداد الكثير الذي أسالته أقلام الفلاسفة الوجوديين، وهم بصدد التأويل الثقافي لظاهرة الموت، فقد انفلتت مناطق سحيقة لم يستطيعوا محاصرتها بأسئلتهم وأجوبتهم. فالموت يبقى متلبسا بآفة الفقدان، كالخوف من فقدان القدرة على الحب أو الخوف من فقدان القدرة على الإبداع. إلا أنهم يكادون أن يجمعوا على أنه ينبغي ألا ينظر إلى الموت كفعل دخيل، أو تجربة غريبة تنزل بالإنسان كعقاب أخير يفنيه، ويذيقه أهوال الألم عند الاحتضار مثلما هو شائع في أفهام عامة الناس. فالوجود صيرورة، وهو سابق على الماهية؛ لذلك فإشكالية الموت هي التي تدعم هذه الصيرورة؛ ولولاها لما كان الإنسان متجها بفكره وتطلعاته دائما إلى الأمام.و قد قال نيتشه على لسان زاردشت مطمئنا المهرج المحتضر الخائف من موته الوشيك الذي سيتيح للشيطان حمله إلى الجحيم: وشرفي يا صديقي إن ما تذكره لا وجود له، فليس من شيطان وليس من جحيم، إن روحك ستموت بأسرع من جسدك، فلا تخش بعد الآن شيئا". وينظر نيتشه إلى الموت باعتباره اختيارا وحرية، وهو بذلك، يدعو إلى تخير أوانه عن طريق تحقيق النضج في الحياة وبلوغ المقصد. فيكون الموت تتويجا أخيرا لحياة ناضجة ومليئة بالمكاسب. لذلك يرى أن المسيح قد مات قبل أوانه، أي قبل أن يبلغ مرحلة النضج؛ ولو كان تم له ذلك لعدل عن كثير من تعاليمه. إن الموت بالنسبة إليه مصير طبيعي يؤول إليه الجسد بابتهاج، وليس عقابا ميتافيزيقيا، لذلك يطلب من الناس الإقلاع عن ذكر الآلهة، والمبادرة إلى إيجاد الإنسان المتفوق SUPERMAN . فهذا الإنسان هو الذي يستطيع أن يعيش الحياة كما ينبغي أن تعاش. وهو في النهايــة يستطيــع أن يموت باختيــار وحرية في الوقت المناسب.
إن الموت لا يكتسب فداحة الشعور برهبته إلا في سياق العلاقة بالآخر، ولذلك تكمن في الإنسان "غريزة الموت التي تعبر عن محاولة المرء العودة إلى حالة ما قبل الكينونــة، وهي حالة الكينونة بلا آخــر l'autre أي حالة اللاموضوع". ولربما عبر الانتحار عن عمق هذا الشعور باعتباره فعلا موجها من المنتحر إلى الآخر عقابا له أو تنبيها له عن خطأ كبير ارتكبه في حقه. وقد يكون الانتحار فرارا من ألم ما فيصبح الموت ملاذا ومأوى.
1- الموت والأسطورة:
تزود الأسطورة الإنسان بذاكرة تاريخية تعطيه إحساسا بوجود مبرر لحياته. وبدون هذه الذاكرة يصير الإنسان إلى حالة أشبه بالموت، لأن نسيان الماضي هو نوع من أنواع لموت. فالموت نسيان، والموتى الهابـــطون إلى العالم الأسفل، في الميثولوجيا الإغريقية، يشربون في طريقهم من نبع الـنـسيان لكي يقضوا حياة الآخرة بدون ذاكرة، أي بدون تاريخ. لذلك فإن الإنـسان الذي وجد نفسه في مواجهة الموت ابـتكر نسقا أسطوريا ااعتمادا على ملكاته الوجدانية والعـقلية واللاشعورية، من أجل مواجـهة كل الاحتمالات، فكان أن عالج مجهولية المصير الذي ينتظره بطرح معلوم يمكن من بسط الحقيقة الكونية على نســيج رمزي قادر على الإقناع. وهكذا دأب على التبشير بالخلود المطلق بالرغم من حتمية تعرض الجسد للتحلل ومن ثم إلى الفناء؛ ولهذا وجد نـفسه مدفوعا لإبداع أساطير لها شكل السرد القصـصي، وتصـاغ في غالب الأحيان في قالب شعري. كما أن لها خصيصة الثبات وطاقة الإيحاء المستمرة، لكنها معرضة للإلغاء أو التعديل كلما كانت هناك حاجة إلى خلق أساطير جديدة، أبطالـها هم الآلـهة، ومعنى ذلك أن وجود الإنسان فيها يكون لغرض تكـميلي فقـــط، كما أن زمـنها زمن مقدس، هو غير الزمن الحالي. وتتــميز موضوعـاتها بالجدية والشمول".
هذا الشكل السردي المـقدس ساهم في تكييف المشاعر الإنسانية مع فزعها، وأقر نظاما رمزيا قادرا على إحلال الطمأنينة بإمـكانية الانبعاث من جديد، مكان الشعور بالخوف من الفناء الأبدي، فحسب جيمس فرايزر "إنه في أعياد أدونيس التي كانت تقام في آسيا الصغرى، والبلاد الإغريقية، كان الناس يندبون موت ما يعتقدون أنه الإله كل سنة، وينوحون عليه نواحا مؤلما، ولا سيما النساء. كانوا يحملون تماثيله، في شكل جثمان ميت، ويشيعونها للدفن، ثم يلقون بها في البحر أو الأنهر. وفي بعض الأماكن يحتفلون ببعثه في اليوم التالي".
Read More
إن توالي الـنواح والاحتفال عند عبدة "أدونيس" ليؤكد قدرة النسق الأسطوري على إنتاج ثقافة الهروب من وجه الفناء، والاحتماء بفكرة الانبعاث. ويكون الماء خلال ذلك هو العـنصر الطبيعي المـساعد على عملية بعث الحياة في جثمان الإله الميت ولأن النسق الأسطوري يخالف منهجيا أنساق العلم ومفاهيمه المبنية على أساس قانون السبب والنتيجة، فإن الـميثولوجيا قرنت الماء، باعتبـاره مدخلا لاستعـادة الحيـاة من جديد، بالإلــه دوموزي الذي جعلتـه ابنا للمـاء و"مجدد طاقة الحياة وحافظ قوى الخصوبة والنماء، هو في الوقت نفسه قاهر الموت الذي حرر نفـسه من قوى العالم الأسفل. من هنا فإنه الإله الوحيد القادر على إعطاء الإنسان أملا في تحقيق الخلود، والأخذ بـيده عبر برزخ الموت نحو عالم آخر أكثر بهجة وسعادة من عالمه الأرضي.
لقد أكد المفهوم الـميثولوجي فكرة إبطال الثنائية القائمة بين الموت والحياة على أساس أن الموت لا يناقض الحياة، بل هو وجهها الآخر. فالطبيعة تجدد نفسها عن طريق الموت والانبعاث للوصول إلى حياة طرية جديدة. معنى أن موت وانـبعاث "الإله دوموزي" هو في حقيقته مثال أعلى لتجدد الحياة وطراوتها. وما يدعم هذا الطرح هو قابلية انـتقال الحمولة الأسطورية بكل شحنتها الرمزية من زمن الآلهة إلى زمن الـبشر ملوكا وكهـنة. ذلك أن طقوس السومرييـن في الاحتفال بـالإله تموز "كانت نوعا من تجديد للحدث الأسطوري الذي تم في الأزمان الميثولوجية، باستحضاره في الزمن الجاري". من هنا فإن الطقس الدوري الربيعي لا يتخذ طابع الاحتفال بذكرى ميثولوجية، بل إنه يكررها، ويغدو المحتفلون موجودين في زمن الأسطورة يعايشون الكائنات العليا، ويشهدون تكرار عمليات الخلق، حيث يقوم الإلهان من خلال وكيليهما الدّنيويـين بتجديد الحياة، حياة الطـبيعة والإنسان والحيوان.
وهكذا فإن المفهوم الأسطوري للموت، عند السومريين والإغريقيين وغيرهم من الشعوب المحتمية بأساطيرها، كان يراهن على تجدد الحياة، لا سيما إذا كان هذا الموت متعددا يتكرر كل سنة، ويكون الميت إلها مــضحيا بدمه لكي ينعم وجه الأرض بالحياة. فقد "كان عبّاد أدونيس يعتقدون أن إلههم يـموت كل سنة جريحا في الجبال، فيتضمخ وجه الطبيعة كل سنة بدمه المقدس. ولذلك كانت فتيات سوريا في كل سنة يبكين لــــموته وهو في شبابه، بينما تزدهر الشقائق ــ وهي زهرته ــ بين أرز لبنان، ويجري الـنهر محمرا إلى البحر، فيحيط سواحل البحر المتوسط المتعرجة بخيوط قرمزية كلما هبت الريح نحو الساحل" .
إن موت الإله جريحا هو إعطاء الفرصة لخلق الإنسان من تربة الأرض ممزوجة بدمه، وهو ما سيـمكن الإنسان من أخذ تكوين مزدوج فــيه العنصر المادي (التربة)، وفيه العنصر الروحاني (دم الإله القتيل). ومن هذا الطرح نستنتج حرص الميثولوجيا على البحث الدائب عن تأسـيس حياة تتوفر لها عناصر القوة والإخصاب والتجدد لمواجهة الفناء الكلي أو الشعور بالهشاشـة والعدم. ففي الأسـطورة البابلية "إيتانـا والنسر" ــ وإيتانا هو ملك جعلته الآلهة على مدينة "كيش" ــ ينقض النسر ميثاقه مع الحـية فيأكل صغارها، فيتدخل الإله "شمش" لإنصاف الحية فيـمكنها منه حيث تنتزع مخالبه وتنتف ريشه وتلقي به في قاع بئر. فيعمل الملك "إيتانا" على إنقاذ النسر بإيحاء من "شمش" كي يلــحق به إلى السماء بحثا عن نبتة الإخـصاب، لأنه كان عاقرا وكان بحاجة إلى ولي للعهد. وتمدنا هذه الأسـطورة بأبعاد رمزية نختزلها في الترسيمة التالية :
أكل صـغار الحية - البحث عن نبتة الإخصاب -
الهبوط إلى قاع البئــــر - الصعود إلى السماء.
ذلك أن أكل صغار الحية هو طقس لاكتــساب القوة والخـصوبة "الأفعى في ثقافة الشرق رمز للشفاء"، والهبوط إلى البئر هو إجراء طقسي؛ إذ على النسر أن يموت ليـتطهر في باطن الأرض الأم، ولكي يبعث من جديد معافى ومزودا بالإخصاب والقوة. أما الصعود إلى السماء فهو انطلاق في طلب النبتة التي تتعهدها عشتار إلهة الخــصوبة بالرعاية.
لقد عرف العهد الميثولوجي كيف يكيف مفهومه للموت، فينفي عنه كل تصور يقود إلى الشـعور بالعبثية واللاجدوى، بل حوله إلى مصدر للسعي وراء الحياة الخصيبة التي لا تتحقق إلا عن طريق الموت المفضي إلى العثور على سر الصلابة والاستمرار. وإذا كان موت الجـسد هو المعبر الأساسي من أجل اكتساب القوة والخصوبة، فإن تحلل أعضائه واندثارها في التراب طرح مشكلة بيولوجية تتجلى في إمكانية انـبعاث الجسد مرة أخرى. وهنا ستـتعدد طرق هذه الاستعادة بحسب تكوينات المجتمعات الميثولوجية وطبيعة ثقافتها.
ففي اعتقاد "الهورن" من الهنود الحمر أن دفن الأطفال قرب الطرقات من شأنه أن يسهل دخول أرواحهم في النساء العابرات، فيولدون مرة ثانية. كما أن بـعض الزنوج في غرب إفريقيا يلقون بأجساد الأطفال بين الشجيرات الكثيفة لكي تتمكن أرواحهم من اخــتيار أمهات جديدات من النـساء المارات بهم. أما الرومان والإغريق فقد آمنوا بأن أرواح الموتى تتقمص في الأفاعي، لذلك عاملوا الثعابين برفق، فكانت تؤوى وتطعم بأعداد غفيرة. ومن الممكن أن الصورة الشائعة في الفن الإغريقي والتي تمثل امرأة تسقي ثعبانا من صحن، مأخوذة عن عادة إطعام أرواح الموتى الراحلين، إلا أن انبعاث أجساد الأطفال بهذا التـصور يمر بطور التكوين الأول ــ المرحلة النطفية والجنينية ــ قبل أن تخرج إلى الوجود أجسادا حقيقية. ولربما كان إصرار بعض الأسر على منح أسماء موتاها للمولودين الجدد تأكيدا لبقاء عقيدة التقمص أو التناسخ عندهم وامـتزاجها بتقاليدهم. إن استعادة الاسم ــ بهذا الإصرار ــ بعث لجسد المسمى وتخـليد له، وإن كان تطور الفكر البــشري يفسر هذه الظاهرة بالتـيمن بذكرى الفقيد، أو تكريمه بحفظ اسمه من الضياع والتلف. وهذه الممارسة مـــا تزال شائعة بين عدة أجناس ومن بينهم العرب
ولعل الإغريق والسوريين القدماء الذين عبدوا الإله" أدونيس" أكثر الأمم تجريدا لفكرة البعث، حينما قالوا بانبعاث الروح دون الجســد وهذا ما سيفسح لتطور الفكر البشري في تأمله للموت وتفسيره فيما بعـــد. ففي أسطورة أدونيــس أنه لما قتــل آريس ـ إله الحـرب ـ أدونيس بإيعاز من "برسيفوني" ربة الموتى التي كانت تتقاسم حبه مع "أفروديتا" ربة الحب والجمال، حكمت الآلهة بانبعاثه من جديد لئلا تنفذ "أفروديتا" تهديدها بالانتحار، فيختفي الجمال من عالم البشر، لكن انبعاثه، هذا، لن يكون جسديا؛ وإنما تصعد روحه فقط، فيقضي مع أفروديتا نصـــف عام ــ الربيع والصيف ــ ليعود بعد ذلك إلى العالم السفلي في النصف الثانــي من العام ــ الخريف والشتاء ــ.
وأسطورة أدونيس، ههنا، تحل مشكلتين" فهي من ناحية تطرح البديل الرمزي للشعور البشري بالخوف من الاندثار والفناء المطلقين، ذلك أن تحلل الجسد وانطفاء جذوة الحياة فيه لا يعني ذهابه إلى غير رجعة، فقد وجدوا في صعود الروح وانبعاثها من جديد أملا في تحقيق وجود أكثر طهرا ونقاء من مرحلة وجود الجسد المرهون للفساد والتعفن. من ناحية ثانية: أفادتهم الأسطورة في تفسير نسقي ومنطقي لتبدل الطبيعة من حال إلى حال. وهنا نراهم ينجحون في تحويل الأسطورة إلى واقع، والواقع إلى أسطورة دون المساس بنسقية التفكير، ودون الوقوع في التناقض. فعندهم أنه "ما زال أدونيس حتى اليوم، يغادر عالم الموتى مع نهاية الشتاء ليصل إلى عالمنا مع قدوم الربيع.تستقبله الطيور فرحة مسرورة. تحتفل بقدومه الأزهار والورود. تخضر الأشجار على اختلاف أنواعها. تنشر أفروديتا أمامه وحوله الزهور اليانعة والنباتات المثمرة. يسعد العالم بلقاء أدونيس مع ربة الجمال، لكن سعادته لا تطول. سرعان ما ينتهي فصل الصيف ويصبح الشتاء على الأبواب. سرعان ما تذبل الأغصان النضرة، وتتساقط أوراق الأشجار، وتختفي الأزهار وتموت النباتات، وتجف أغصانها وجذوعها. هكذا نعيش كل عام، ننتظر قدوم أدونيس مع بداية الربيع، ونودعه في بداية الخريف.
لقد واجهت الأسطورة الإغريقية الموت بأسلحة رمزية متعددة، بل إنها أوشكت أن تنتصر عليه عن طريق الفن، وبالموسيقى تحديدا، والانتصار المشار إليه هنا كاد أن يكون كليا، أي بالقدرة على استرجاع الجسد الحقيقي للميــت، وهذا ما توثقــه أسطورة "أورفيوس" فعندمــا ماتت "يوروديكي" زوجة أورفيوس ومعشوقته بلدغة الثعبان، حاول العاشق الولهان استعادة زوجته، وذلك بالهبوط إلى العالم السفلي ــ عالم الأموات ــ فاستعطف رب الأرباب "زيوس" الذي لبى طلبه، وإن كان يعلم أن طلبه سيوصله إلى الهلاك لا محالة. وبأنامله الماهرة التي كان يمررها فوق أوتار قيثارته استطاع أن يلين قلب خارون "المكلف بنقل الموتى في قاربه إلى العالم السفلي فوافق على نقله إلى شاطئ الموتــى حيث مملكــة "هاديـس" إلـه الموتـى. وعند الـمدخـل اعـترضه حارس البوابــة "كربيوس" وهو كلب ضخم بثلاثة رؤوس وأنياب ترعب الناظرين. وكاد "أورفيوس "أن يستسلم لحتفه لولا أن تذكر قيثارته. فبدأ يعزف عليها إلى أن هدأت ثورة "كربيوس" الذي سمح له بالدخول. وأمام الإله هاديس وزوجته برسيفوني اللذين دهشا لوجود واحد من الأحياء في مملكتهما، طفق أورفيوس يعزف لحنا حزينا مؤثرا، فأشفقا عليه وسمحا له باصطحاب زوجته يوروديكي إلى عالم الأحياء شريطة ألا ينظر إليها ما دام في العالم السفلي، وألا يفعل ذلك إلا بعد مغادرته إلى عالم الأحياء. وفي اللحظة التي خرج فيها أورفيوس إلى عالم النور التفت بشوق كبير ليحضن زوجته الحبيبة، فحدث الذي لم يكن في الحـسبان، لقد أخطأ التقدير، لذلك اختفت الزوجة وهي تصرخ بالوداع، وعادت من حيث أتت.
لقد استطاع "أورفيوس" أن يقهر الموت بفنه، لكن سوء تقديره جعل الموت يتغلب عليه، فرجع خائبا لينغمس في أحزانه وعذاباته. فعاش في الغابات يعزف ألحانا شجية إلى أن التقى ذات يوم بالباخيات ــ وهن نساء من أتباع الإله باخوس ــ يمرحن ويرقصن ويمزقن كل من لقينه من البشر. فألححن على أورفيوس أن يعزف لهن ألحانا مرحة فرفض. فهددنه بالقتل، فلم يجد بدا من مـسايرتهن لبـعض الوقت، فبدأ يعزف ألحانا مرحة والباخيات يرقصن في نشوة. لكن الفنان الحقيقي لا يمكنه أن يجاري التصنع، فما لبث أن تحركت أنامله على إيقاعات قلبه الحزين، فما كان من الباخيات إلا أن قطعنه إربا إربا، وانفصل رأسه عن جسده، وهو يصرخ وداعا يوروديكي.
وإذا كانت أسطورة أورفيوس تضعنا أمام مواجهة الفن للموت وقدرته على مغالبته، فإنها في الوقت نفسه تعطي الغلبة للموت بتبريرات غير مقنعة؛ يتمثل الأول في عدم قدرة الإنسان الحي على الصبر الكامل، ويجسده نفاد صبر "أورفيوس" والتفاته لمعانقة زوجته قبل أن تعبر قدماها عتبة عالم الموتى، فتلغى للتو إمكانية انبعاثها في عالم الأحياء. ويتمثل التبرير الثاني في عدم قدرة الفنان الصادق على مجاراة الافتعال والتصنع، فيتسبب صدقه في موته. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الإنسان لكي يكون صادقا مع نفسه فينبغي أن يرهنها للتضحية. يتجلى التبرير الثالث في أنه لا وجود للحب المطلق إلا في تماهيه مع الموت أو اقترانه بها. فيصبح الموت ــ حينئذ ــ معادلا موضوعيا للحرمان. مع الحرمان تشتد الرغبة وتستعر الأنفاس، لذلك يواجه المحبون الحقيقيون دائما مصير الموت لكي يستمر حبهم حيا. وإذا كنا نصادف هذه الحقيقة في الأنماط العليا بما فيها الأساطير، فإنها ستتكرر على أرض الواقع من خلال تجارب العشاق وصرعى الحب في التراث العربي بشكل خاص، وفي التراث الإنساني بشكل عام.
لقد شكلت الأسطورة مرجعية أساسية للشعراء على مر العصور، وتعددت أشكال حضورها في النصوص الشعرية تبعا لتكوين الشعراء وطبيعة ثقافتهم. فمن الاستعادة الكمية التي لا تراعـي مبدأ الامتصـاص وإعادة الإنتاج، إلـى الاستعادة الـرمزيـة التي تطـمـح إلى خلق نموذجهـا الأسطوري الخـاص، بالإضافة إلى استعادات أخرى تتراوح بين استثمار الرمز الأسطوري استثمارا جديدا يكسبه أبعادا حيوية معاصرة وبين استثمار شحنته الرمزية دون الإحالة على تسميته الشيء الذي يضفي على هذه الممارسة خصوبة دلالية شديدة الإيحاء... فحسب يونغ "إن المجتمع الذي يفقد أساطيره ــ بدائيا كان أو متحضرا ــ يعانــي كارثة أخلاقية تعادل فقدان الإنسان لروحه. وعلى هذا الأساس، كان على الشاعر العربي المعاصر المتشبع بالثقافة الميثولوجية أن يتحصن من أشكال الموت المتعددة التي تواجهه، عن طريق بناء أسطوري جديد يخلقه من الأصول الميثولوجية السابقة، ويمنحه قوة المواجهة بإمداده بعناصر فكرية وجمالية يتيحها التطور وتغذيها الانعطافات الجديدة التي عرفتها رؤى الشاعر المعاصر للذات والوجود.
إن استمرارية الأسطورة في التداول التنظيري، وفي الممارسة الإبداعية خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع "الموت له دلالة قاطعة على أن تطور العلم والفتوحات التي عرفها العقل البشري لم يحسما هذه المعركة المثارة منذ القديم بين الإنسان وبين مصيره؛ فالعلم وإن تمكن من إطالة العمر، فإنه لم يقو إلى الآن على إلغاء الموت؛ والعقل وإن أقنع الإنسان بمراجعة خوفه من قدره، فإنه لم يحمه من الإحساس بالإحباط والعبثية. من هنا كان اللجوء إلى إعادة توظيف الأساطير القديمة بطريقة فنية تضمن لها التفاعل مع الحياة المعاصرة، وتضمن للإنسان انسجامه في حياته وتكفل له الشعور بالجدوى؛ بل قد تمده بطاقة من المعاني والرموز التي تجعله في مستوى مواجهة كل التحديات. وليست هذه الأساطير المعاصرة سوى هذه النصوص الشعرية المعاصرة في تكامل مكوناتها البنائية والدلالية، سواء أكانت تستحضر أساطير معينة من الميثولوجيا الإغريقية والعالمية من أجل استثمارها استثمارا جديدا، أو كانت تبتكر نماذجها الذاتية التي تبوئها مرتبة الأسطورة وعمقها.
واللجوء إلى استثمار الأساطير يبرره أن فيها نزوعا إلى "تجاوز العلاقات والنسب وردود الأفعال العادية للحياة، أي أن لها منطقا يختلف عن المنطق العادي، يعتمد على استمداد الخيال الطليق، ولا يخضع للعقل وإن كان لا يجافيه في احتوائه عادة على منطق العلة والمعلول أو السبب والغاية. الأسطورة إذن لا معقولة، ولكنها ليست منافية للعقل". كما أنها تمد القيم الروحية بأسباب استمرارها، في عصر يتحول فيه كل شيء بفعل هجمة الحضارة المادية التي أوشكت أن تحول الإنسان إلى آلة تدور على خواء ولا تنتج إلا موتها.
إن الموت في غياب الأسطورة يمكن أن يصبح مصدرا للفزع أو للانخراط في حياة لا معقولة. وقد انتبهت الأمم البدائية بوعي أو بلا وعي إلى مصيرها المختوم بفناء الجسد، فأوجدت الميثولوجيا وأحاطتها بطقوسها الاحتفالية، وكرستها ضمن عاداتها اليومية لتحقيق توازن وانسجام خلال صراعها مع الزمن. فكان أن نفت مفهوم الموت السلبي من قواميسها، وأحلت محله الشعور بالحياة والموت كوجهين لعملة واحدة؛ لذلك أكدت على الانبعاث وجعلته حقيقة قائمة في الواقع، وحشدت له الأقاصيص الخارقة والأبطال الأسطوريين، وتوجته نموذجا أعلى يتكرر على الدوام.
وليست أساطير الموت وطقوسه حكرا على أمة دون أخرى، أو على عصر دون آخر؛ فإذا كان الموت مصيرا موحدا، فإن مفهومه وطرق التعامل معه تختلف من بيئة سوسيوثقافية إلى أخرى. فعند الأفارقة ـ مثلا ـ يبقى للموتى حيز محترم، وهم وإن قبروا فإنهم يتجلون للأحياء بطرق متعددة" في الأحلام، وفي منظومة الدلالات التي يجب فك رموزها؛ سواء بـظهور علامات ذات امتياز في هيئة بشرية أو حيوانية" كل مجتمع يملك علاماته السوسيوثقافية . هنا الأفعى، هناك الحرباء أو بإظهار فرحهم من خلال أمطار الخير، أو غضبهم من خلال كوارث، جفاف، أوبئة، موت حيوانات.
إن الموت حسب د زهان D. Zahan يكتسي طابع الضرورة من غير أن يدمر الأمل في العيش؟ وبعض المجتمعات في السينغال تذهب إلى حد تكليم الموتى في محاولة كشف سبب وفاتهم. ويورد الباحث الأنتربولوجي لويس فإنسان توما L.V.Thomas نص الأسئلة التي يوجهها الشخص المؤهل لمحاورة الجثة مرتبة كما يلي:
ــ هل هي نهاية الحياة ؟
ــ من قتلك ؟ هل مت بسبب شخص ؟
ــ ربما تكون قد عصيت البوكيين (Bockiin) الملكي ؟
ــ هل أخذك الـ (هوفيلا (إليه ؟
ــ هل أخذك الـ (بنكوليم) إليه ؟
ــ هل أخذك الـ (كوهولنج)إليه ؟ إلخ . . .
وهذه السلسلة من أسماء العفاريت قد تطول. وإذا كانت الأجوبة بالنفـي (تراجـع الجثـة إلى الوراء)، فإن طبيعة الأسئلة قد تأخذ مسارا آخر:
ــ هل قتلك شخص ؟
وإذا بقي الجواب بالنفي، فإن المستجوب يسأل سؤالا أخيرا:
ــ إذن كان من المحتوم أن تموت اليوم.
إن الوثوق من ردود الميت اعتراف بحياته الأخرى التي صار يعيشها خارج الجسد المرهون للتعفن والتدنس.وربما كانت حياته الثانية أكثر حضورا ومشاركة في الجماعة التي ينتمي إليها؛ وهو يستطيع التأثير بقوته المكتسبة من موت جسده في أحوال جماعته، كالتعبير الرمزي عن فرحه بإنزال المطر، وعن غضبه بتسليط الكوارث الطبيعية التي أشرنا إليها سابقا. لنقل، إذن، إن الأسطورة الأفريقية ترتفع بموتاها إلى درجة التأليه الذي نصادفه في الميثولوجيا الإغريقية والسومرية.
2- الموت و الفلسفة:
إننا لم نولد أحرارا قطّ، إننا محكوم علينا بالحياة، قبل أن نكون محكوما علينا بالموت. قولة قد تبدو بسيطة في صياغتها ولكنها تشير إلى مدلول فلسفي عميق، صرخة مفعمة بغير قليل من الشعور المزدوج بالاغتراب. فهو اغتراب الإنسان الذي لم يختر ولادته فوجد نفسه مورطا في هذه الكينونة المفروضة، وهو اغتراب الإنسان الذي صار محكوما عليه بالموت بمجرد أن دوى الوجود بصرخته الأولى. قد يمكن خطأ الإنسان الأول في اعتقاده بإمكان مواجهة الموت والفناء بمزيد من النسل الذي يملأ الفضاء، ظنا منه أن البدن يخلف البدن، والتراكم يعوض النقص، وهي رؤية توافق تماما نزوعه الطبيعي في مرحلة ما قبل الثقافة؛ ذلك أن "الإحســاس بالموت ينبــثق من الثقافــة بدرجــة تفوق انبثاقه من الطبيعة". وهذا يعني أن بحث الإنسان البدائي عن المعرفة خلال أطوار تطويعه لمصاعب الحياة ــ قاده بخطوات حثيثة إلى لقاء غير مرغوب فيه بالموت. وهذا الطرح المنطقي لعلاقة المعرفة بالموت يحيلنا بعنف على الخطيئة الأصلية الّتي نقلتها الأديان عن قصة طرد آدم من الفردوس بعد أن تجرأ على الأكل من شجرة المعرفة فعرض نفسه ونسله للنسبية الزمنية وللموت بعد أن كان ينعم بالخلود.
فأي مفهوم للموت لا يمكن أن يكون إلا ثقافيا، وأي شعور بالخوف منه لا يتعمق إلا بإعمال التفكير وتشغيل الطاقات التخيلية حيال مصير الإنسان المحاط بكل الأسباب والشروط المهددة بموته. فشرط الوجود الجسدي خلق بالغريزة الحرص على المحافظة عليه، ثم نما الشعور الغريزي بما تراكم من خبرات ومهارات ترجمها الوعي إلى أفكار مجردة تتطور باستمرار آخذة في بلورة نسقها الذي تمثل ــ بداية ــ في التفسير الأسطوري قبل أن تهجم الفلسفة الإغريقية عليه من خلال صراع العقل مع المنظومات السحرية والطقوسية. في محاولة الإقناع بأن الخبرة بالقدسي لا يمكن اكتسابها بنشوة صوفية يخلقها الطقس. ولا برؤية ميثولوجية تقدمها الأسطورة، كما يرى أفلاطون مثلا.
من هنا نرى أن الفلسفة اليونانية برمتها قامت على أساس تعلم الموت أو التدرب على مواجهته، فهذا سقراط يصرح أمام أتباعه قبيل تنفيذ حكم الإعدام فيه" "إن أولئك الذين يوجهون أنفسهم في الطريق الصحيح إلى الفلسفة يعدون بذلك مباشرة وبمحض إرادتهم، يعدون أنفسهم، لأن يموتوا وللموت. وإذا كان هذا صحيحا فهم، إذن، في الواقع يتطلعون للموت طول حياتهم. ومن غير المعقول إذن أن يضطربوا عندما يقدم الشيء الذي كانوا لأمد طويل يعدون أنفسهم له ويتوقعونه. والفلسفة بهذا المعنى تمرين فكري يعمل على إضعاف الهواجس والشعور بالخوف من الموت. أو هي فن التهيــؤ للمــوت بشجاعــة. بل أكثــر من ذلك يجهــر سقراط في يومــه الأخيــر بــأن "الفلاسفة الحقيقيين يجعلون الموت مهنة لهم". وبالنسبة له فإنه يفرق بشكـل قطعي بين الروح والبدن، فالبدن مرهون بما هو طبيعي خاضع لتغيراته وطوارئه، في حين ستستقل الروح بحريتها وبارتفاعها عن الزمن، وأي زعم باختلاطها بالبدن سيجعلها عرضة للقلق والخوف أمام موتها. لذلك كانت الحياة النفسية مرانا طويلا إراديا لتخليص الروح من البدن. وربما كانت هذه الفكرة قريبة من تخريجات أفلاطون الذي يدعو إلى تسليم البدن للزمن والموت، والبحث عن الحياة في مكان آخر. ولن يكون هذا المكان الآخر متحققا إلا في اكتساب المعرفة الخالصة. وقد بنى أفلاطون تصوراته عن الروح انطلاقا من التفريق بينها وبين البدن الذي أشرنا إليه قبل قليل فإذا "كان البدن يرد إلى التراب فإن الروح ترتبط بالموضوعـات الخالدة ولا تخضع لأي تغير"
إن الفلسفة اليونانية كما عند سقراط وأفلاطون تحاول الانتصار على الموت بالتأكيد على خلود الروح في العالم الآخر، بل إن الشخص الذي وجدت فيه هذه الروح سينعم هو الآخر بذلك الخلود. " ففي الخطاب الأخير لسقراط أمام المحلفين نراه يتوقع مباهج الحوار مع أرواح عظيمة مثل أورفيوس وهوميروس وأنه سيحاول أن يكتشف في هذا العالم الآخر، كما فعل في هذا العالم الراهن: أيهم الحكيم وأيهم يدّعي الحكمة وليس كذلك. وهذا يعني أن هناك تعارضا بين هذا المفهوم والمفهوم الأبيقوري الذي يجعل الموت لحظة حاسمة تتلاشى فيها الذرات المكونة للجسد والروح معا لينعم الكائن البشري بعدم مطلق بعد فنائه.
وإذا كانت الفلسفات القديمة قد انشغلت بالموت كمفهوم أنتولوجي شامل في سياق علاقة الجــسد بالروح مع تــباين واضح في القــبول بالتفـــسير الميتافيزيقي المتعالي أو رفضه، فإن الفلسفة المعاصرة قد واصلت أسئلتها حول الموت ولكن بإيقاعات مختلفة مع استحضار للتراكم الفكري القديم كمرجعية أساسية لم تفتقد طراوة التأمل وإمكانيات التفسير.
كما أن ظهور علوم أخرى في إطار البحث الفلسفي كالانثربولوجيا وعلم النفس، قد ساهم بكيفية بارزة في إثارة موضوع الموت ومعالجته من زوايا متعددة. وقد تنوعت مفاهيم الموت تبعا للتوجه الذي يصدر عنه الباحثون. حيث نجد أن معظم الأطروحات الفكرية تركز على تعريف الموت كفعل ثقافي أكثر منه كفعل طبيعي.
وهكذا نرى أن حقيقة موت (الآخر) تجلى في موت ما كان يتميز به من أخلاق وسلوكات أكثر ما تتجلى في تحوله إلى جثة فاقدة لكل حركة. فعند برينو كاست Bruno Castes " أن موت شخص محبوب، يعني موت شيء مرئي في الشخص الحي المحب، شيء يفتقد ويموت فينا" فالحب والعطف والطيبوبة يمكن أن تعوض أو تسترجع، ولكن ليس بنفس الخصوصيــة التي كان يسبغهــا الميت علينــا". هنا فراغ يخلق. ومعنى ذلك: "أن تموت يعني أن تقتل في "الآخر" كل شيء حي كوّنه عنك. فالميت يصبح قاتلا للعلاقة الطيبة التي سبق أن ربطها مع "الآخر" وسالبا لها. أما عن تأثيره كجثة، فهو يمنحنا فرجة ما سيحدث لنا: التحول إلى جثث.
إن الموت لا يكتسب فداحة الشعور برهبته إلا في سياق العلاقة بالآخر، ولذلك تكمن في الإنسان "غريزة الموت التي تعبر عن محاولة المرء العودة إلى حالة ما قبل الكينونــة، وهي حالة الكينونة بلا آخــر l'autre أي حالة اللاموضوع". ولربما عبر الانتحار عن عمق هذا الشعور باعتباره فعلا موجها من المنتحر إلى الآخر عقابا له أو تنبيها له عن خطأ كبير ارتكبه في حقه. وقد يكون الانتحار فرارا من ألم ما فيصبح الموت ملاذا ومأوى. ويعتقد روسيه Rousset أن النوم والانقطاع والحاجة إلى النوم والرغبة في الانقطاع كلها تمثل بالنسبة للمحلل النفسي أشكالا أخرى للموت. وهي كلها أشكال تدل على وجود غريزة الموت في الإنسان. وهناك مفهوم اجتماعي للموت استطاع أن يرقى إلى إذاقة الإنسان طعم الموت وهو حي يرزق، فقد "أقر في الكابون قانون كل محكوم عليه بالإعدام لا يقتل بل يشطب اسمه من الحالة المدنية، كما لو أنه لا يوجد، أو أنه منــبــوذ. إنه مــوت أقوى من أي مــوت آخر، إنه موت اجتماعي".
من هنا يتضح أن الإنسان استنتج من الموت الطبيعي للجسد تصورات ثقافية من أجل إقرار الموت كمفهوم رمزي يتجاوز آثار الانفصال التي يسببها موت الجسد. ثم، لِمَ ننظر دائما إلى الموت كحدث سلبي يفقدنا بهجة الحياة؟ فالموت يشكل مصدرا للدخل والكسب، فبفضله تباع التوابيت النفيسة والأماكن المفضلة في المقابر، ولا ننسى بائعي الزهور والأكاليل. وكل ذلك يصبح بشكل تلقائي مصدرا للكسب.
إن الموت ــ بهذا الطرح ــ يغدو مكملا لدورة الحياة التاريخية، فموت شخص ينتج عنه تفعيل لحياة أشخاص آخرين يرتبط شرط استمرارهم في الحياة بما يعقب الجنازة من بذل وإنفاق وإرث. وقد يكون الميت سفاحا أو ديكتاتورا بوصفه مسببا لموت الكثيرين، فيخف ــ بموته ــ إيقاع الهلاك. ومع ذلك تصبح هذه النظرة ممعنة في بساطتها، إذ لا تملك قدرة المواجهة الوجودية لما يتهدد حياة البشر. وهذا هو السبب الرئيس الذي دفع بعدد من المفكرين إلى دخول حلبة التأمل من أجل استنتاج أي تخريج عقلي يمنح الإنسان الشعور بالطمأنينـة. فعنــد كيركيجاردKierkegaard "أن الموت شيء لا يمكن تجنبه من حيث أننا أشخاص تاريخيون حقا. ولهذا السبب فإنه ليس حيلة أو خدعة قاسية من الطبيعة، ولا هو شيء مفروض غير عادل من القدر. فليس هناك أي شر في الموت. وفي الحقيقة ليس هناك شيء نهائي يمكن أن يقال عن الموت، لأن المــوت هو في نهايـة الأمر مجــرد حدث في تيار الصيرورة الذي لا يتوقف.
وبالنسبة للفلسفة الوجودية فإنها تؤكد أن الإنسان لا يدرك موته في حقيقة الأمر إلا من خلال علاقته بموت الآخر، خاصة إذا كان هذا "الآخر" قريبا أو عزيزا، مع أنه على علم بأن الموت يساعد "على تقويس الخط المستقيم الذي يسلكه منطق الحياة، ولا يزال ممعنا في حركته حتى يصيره دائرة تعطي للزمن فرصة الدوران حول نفسه والتفرج على حقيقة تعاقب الموت والحياة بطريقة تبادل الفعل والانفعال، تماما كما يحدث في رقعة الشطرنج : موت الشاه إيذان بانتهاء اللعبة ودعوة إلى بدئها من جديد ومن ثم لا يستطيع المرء أن يدرك موته الشخصي" فمادام حيا لا يتذوق الموت، وعندما يموت يكون الإحساس قد فارقه بمعنى أنه يعيش تجربتين منفصلتين لا تمكن إحداهما من إدراك أخرى. وقد كان ذلك سببا في الشعور بالعبث الذي أنتجه الوجوديون في شكل كتب نظرية وأخرى إبداعيـة. فحسب أبيـقـور "إذا كنا، لا يكون الموت، وإذا كان الموت لا نكون". وقد حاول أن يعالج مشكل الخوف ويحلل دواعيه. ومن ذلك خوف الناس من عقاب الآلهة على أعمال ارتكبوها، أو خوفهم كذلك من أن يولدوا من جديد بعد موتهم في أوضاع لا يرغبون فيها؛ لذلك يطمئن الخائفين من ذلك بقوله إن العالم ليس فيه آلهة نطيعهم ولا نظام كلي شامل علينا أن نلتزم به. وهو يرى أن الحياة عارضة لم توجد لعلة أو سبب؛ فكما ظهرت بالمصادفة فإنها ستختفي بذات الطريقة، ولا يبقى من أثر، وما دامت الروح مثل البدن مكونة من ذرات "مادية" فهي لن تحيا بعد موت البدن.
أما قضية الخوف من انتزاع الموت للذة السرور، فيعالجه أبيقور بما يلي: فما دمنا لا نستطيع التنبؤ بالمستقبل، فالأولى بنا ألا نتطلّع أبدا إلى مصدر سرورنا ولذتنا، وكل من يفعل ذلك يكون معرضا لأن لا تتحقق له هذه الرغبة، ويصبح بالتالي محبطا في مسيرة حياته. ذلك أن كل ما نطمح إليه في المستقبل معرض للتهديد الدائم من التغير والموت. ولعل أبيقور يحسم المسألة باعتبار الذوات كيانات تؤلفها الذرات، وعندما تتشتت هذه الذرات يحدث الموت. بمعنى أن الجسد الحي ليس موجها من قبل قوة خارجية، بل طبيعة في المادة ذاتها. ولذلك عاش مرددا شعاره المبدئي "اترك الموت يمتلك المستقبل وعش أنت الحاضر". وإذا كان طرح أبيقور لمسألة الموت طرحا يزاوج بين النبرة الوجودية والتخريج العلمي، فإن الفكر الوجودي المعاصر عمل هو الآخر على الابتعاد من المسلمات الدينية والهروب من الميتافيزيقا إلى التبرير الكلامي والتفسير العلمي في محاولة نفي المــوت عن علاقة الإنســان بذاتــه، لأن هذا المــوت ما هــو إلا "حدث واقعي ماثل في صميم الحياة منذ البداية، وكأنما هو واقعة مستمرة لا تكاد تنفصل عن فعل وجودي نفســه". وأي فصل بين التجربتين المندمجتين الحياة/ الموت، يلقي بصاحبه إلى الشعور بالخوف الرهيب من مأزق الانتقال من مرحلة الحيوية والامتلاء إلى مرحلة الفناء والمجهول. وعلى هذا الأساس يسارع فريديريك نيتشهNietzsche إلى تقديم تأويل فلسفي ينجح في تشخيص هذا الفصل المؤلم بين التجربتين حيث يقول: إذا كنا نعيش متجهين إلى الأمام، فإننا نفكر دائما متجهين إلى الوراء. هذا يعني أننا لا نوازي زمنيا بين العيــش والتفكير، وبين الذاكرة، هذه الخزانة الكبيرة التي تحتفظ بكل الذكريات التي هي سبب تعاستنا، لذلك يبادر نيتشه إلى علاج هذا المأزق الوجودي بنظرية العود الأبدي حيث يقول: كل شيء يمضي، كل شيء يعود، وتدور إلى الأبد عجلة الوجود، كل شيء يموت، كل شيء يتفتح من جديد، وخالدا يمضي زمن الوجود، الأشياء كلها تعود في خلود، ونحن أنفسنا كنا بالفعل مرات لا حصر لها ومعنا الأشياء. لكن ما يلاحظ على نظرية العود الأبدي هو طرح نسق يؤمن بالشمولية والخلود، ولكنه يلغي القيمة الوجودية للشخص في حد ذاته، ويسلبه خصوصيته الفكرية والوجدانية، مما يجعل هذا الطرح مناقضا تماما لما كفلته الأديان السماوية للإنسان من حق الوجود الذاتي، واختيار المصير الذاتي الذي لن ينتهي بفناء الجسد.
لقد حاولت الفلسفة الوجودية ــ بتشعب تياراتها ــ أن تنفض يديها من الموت كظاهرة خاضعة للتجربة والبحث؛ فحسب جان بول سارتر إن الموت طالما لا نستطيع إدخاله ضمن التجربة الذاتية، فينبغي ألا نفكر فيه بالمرة" لأن أية محاولة للفصل بينه وبين الحياة وإدراجه كحالة خارجية دخيلة من شأنه أن يساعد على تضخيم شبح الخوف الميتافيزيقي منه. من هنا نرى إجماع عدد كبير من الفلاسفة الوجوديين على أن الموت "حدث واقعي ماثل في صميم الحياة منذ البداية، وكأنما هو واقعة مستمرة لا تكاد تنفصل عن فعل وجودي نفسه". وبالرغم من هذه التخريجات الفلسفية التي حاولت التسليم بالموت كمعطى وجودي متصل بالحياة وملتحم بها، فإن ذلك لم ينقذ الفلاسفة من ورطة مواجهة الموت من خلال موت الآخر الذي قد يكون صديقا أو قريبا عزيزا؛ لأن بموته تفتقد أشياء كانت مرتبطة به، فيتحول هو إلى شيء، لأن من طبيعة الأشياء ألا تتكلم ولا تجيب؛ وهكذا تغدو الجثة شيئا جامدا قبل أن تتحلل وتشرع في الاندثار شيئا فشيئا. والملاحظ أن الفكر الوجودي لم يحسم معركته مع المـوت، فقـد ظـل المجهـول يحاصره من كـل جانب؛ وهـذا ما دفع شوبنهاورلى إعلان اعتراف شبيه بالشكوى المؤلمة: لو كنا على ثقة تامة من أن باب الموت هو بلا شك فاتحة جديدة وسبيل النفس إلى الراحــة الأبدية التامــة، لما ترددنا جميعــا في المبــادرة إلى الخلاص بالموت". ومعنى ذلك أنه بالرغم من المداد الكثير الذي أسالته أقلام الفلاسفة الوجوديين، وهم بصدد التأويل الثقافي لظاهرة الموت، فقد انفلتت مناطق سحيقة لم يستطيعوا محاصرتها بأسئلتهم وأجوبتهم. فالموت يبقى متلبسا بآفة الفقدان، كالخوف من فقدان القدرة على الحب أو الخوف من فقدان القدرة على الإبداع. إلا أنهم يكادون أن يجمعوا على أنه ينبغي ألا ينظر إلى الموت كفعل دخيل، أو تجربة غريبة تنزل بالإنسان كعقاب أخير يفنيه، ويذيقه أهوال الألم عند الاحتضار مثلما هو شائع في أفهام عامة الناس. فالوجود صيرورة، وهو سابق على الماهية؛ لذلك فإشكالية الموت هي التي تدعم هذه الصيرورة؛ ولولاها لما كان الإنسان متجها بفكره وتطلعاته دائما إلى الأمام.و قد قال نيتشه على لسان زاردشت مطمئنا المهرج المحتضر الخائف من موته الوشيك الذي سيتيح للشيطان حمله إلى الجحيم: وشرفي يا صديقي إن ما تذكره لا وجود له، فليس من شيطان وليس من جحيم، إن روحك ستموت بأسرع من جسدك، فلا تخش بعد الآن شيئا". وينظر نيتشه إلى الموت باعتباره اختيارا وحرية، وهو بذلك، يدعو إلى تخير أوانه عن طريق تحقيق النضج في الحياة وبلوغ المقصد. فيكون الموت تتويجا أخيرا لحياة ناضجة ومليئة بالمكاسب. لذلك يرى أن المسيح قد مات قبل أوانه، أي قبل أن يبلغ مرحلة النضج؛ ولو كان تم له ذلك لعدل عن كثير من تعاليمه. إن الموت بالنسبة إليه مصير طبيعي يؤول إليه الجسد بابتهاج، وليس عقابا ميتافيزيقيا، لذلك يطلب من الناس الإقلاع عن ذكر الآلهة، والمبادرة إلى إيجاد الإنسان المتفوق SUPERMAN . فهذا الإنسان هو الذي يستطيع أن يعيش الحياة كما ينبغي أن تعاش. وهو في النهايــة يستطيــع أن يموت باختيــار وحرية في الوقت المناسب.إن الموت لا يكتسب فداحة الشعور برهبته إلا في سياق العلاقة بالآخر، ولذلك تكمن في الإنسان "غريزة الموت التي تعبر عن محاولة المرء العودة إلى حالة ما قبل الكينونــة، وهي حالة الكينونة بلا آخــر l'autre أي حالة اللاموضوع". ولربما عبر الانتحار عن عمق هذا الشعور باعتباره فعلا موجها من المنتحر إلى الآخر عقابا له أو تنبيها له عن خطأ كبير ارتكبه في حقه. وقد يكون الانتحار فرارا من ألم ما فيصبح الموت ملاذا ومأوى.
1- الموت والأسطورة:
تزود الأسطورة الإنسان بذاكرة تاريخية تعطيه إحساسا بوجود مبرر لحياته. وبدون هذه الذاكرة يصير الإنسان إلى حالة أشبه بالموت، لأن نسيان الماضي هو نوع من أنواع لموت. فالموت نسيان، والموتى الهابـــطون إلى العالم الأسفل، في الميثولوجيا الإغريقية، يشربون في طريقهم من نبع الـنـسيان لكي يقضوا حياة الآخرة بدون ذاكرة، أي بدون تاريخ. لذلك فإن الإنـسان الذي وجد نفسه في مواجهة الموت ابـتكر نسقا أسطوريا ااعتمادا على ملكاته الوجدانية والعـقلية واللاشعورية، من أجل مواجـهة كل الاحتمالات، فكان أن عالج مجهولية المصير الذي ينتظره بطرح معلوم يمكن من بسط الحقيقة الكونية على نســيج رمزي قادر على الإقناع. وهكذا دأب على التبشير بالخلود المطلق بالرغم من حتمية تعرض الجسد للتحلل ومن ثم إلى الفناء؛ ولهذا وجد نـفسه مدفوعا لإبداع أساطير لها شكل السرد القصـصي، وتصـاغ في غالب الأحيان في قالب شعري. كما أن لها خصيصة الثبات وطاقة الإيحاء المستمرة، لكنها معرضة للإلغاء أو التعديل كلما كانت هناك حاجة إلى خلق أساطير جديدة، أبطالـها هم الآلـهة، ومعنى ذلك أن وجود الإنسان فيها يكون لغرض تكـميلي فقـــط، كما أن زمـنها زمن مقدس، هو غير الزمن الحالي. وتتــميز موضوعـاتها بالجدية والشمول".
هذا الشكل السردي المـقدس ساهم في تكييف المشاعر الإنسانية مع فزعها، وأقر نظاما رمزيا قادرا على إحلال الطمأنينة بإمـكانية الانبعاث من جديد، مكان الشعور بالخوف من الفناء الأبدي، فحسب جيمس فرايزر "إنه في أعياد أدونيس التي كانت تقام في آسيا الصغرى، والبلاد الإغريقية، كان الناس يندبون موت ما يعتقدون أنه الإله كل سنة، وينوحون عليه نواحا مؤلما، ولا سيما النساء. كانوا يحملون تماثيله، في شكل جثمان ميت، ويشيعونها للدفن، ثم يلقون بها في البحر أو الأنهر. وفي بعض الأماكن يحتفلون ببعثه في اليوم التالي".
Read More
إن توالي الـنواح والاحتفال عند عبدة "أدونيس" ليؤكد قدرة النسق الأسطوري على إنتاج ثقافة الهروب من وجه الفناء، والاحتماء بفكرة الانبعاث. ويكون الماء خلال ذلك هو العـنصر الطبيعي المـساعد على عملية بعث الحياة في جثمان الإله الميت ولأن النسق الأسطوري يخالف منهجيا أنساق العلم ومفاهيمه المبنية على أساس قانون السبب والنتيجة، فإن الـميثولوجيا قرنت الماء، باعتبـاره مدخلا لاستعـادة الحيـاة من جديد، بالإلــه دوموزي الذي جعلتـه ابنا للمـاء و"مجدد طاقة الحياة وحافظ قوى الخصوبة والنماء، هو في الوقت نفسه قاهر الموت الذي حرر نفـسه من قوى العالم الأسفل. من هنا فإنه الإله الوحيد القادر على إعطاء الإنسان أملا في تحقيق الخلود، والأخذ بـيده عبر برزخ الموت نحو عالم آخر أكثر بهجة وسعادة من عالمه الأرضي.
لقد أكد المفهوم الـميثولوجي فكرة إبطال الثنائية القائمة بين الموت والحياة على أساس أن الموت لا يناقض الحياة، بل هو وجهها الآخر. فالطبيعة تجدد نفسها عن طريق الموت والانبعاث للوصول إلى حياة طرية جديدة. معنى أن موت وانـبعاث "الإله دوموزي" هو في حقيقته مثال أعلى لتجدد الحياة وطراوتها. وما يدعم هذا الطرح هو قابلية انـتقال الحمولة الأسطورية بكل شحنتها الرمزية من زمن الآلهة إلى زمن الـبشر ملوكا وكهـنة. ذلك أن طقوس السومرييـن في الاحتفال بـالإله تموز "كانت نوعا من تجديد للحدث الأسطوري الذي تم في الأزمان الميثولوجية، باستحضاره في الزمن الجاري". من هنا فإن الطقس الدوري الربيعي لا يتخذ طابع الاحتفال بذكرى ميثولوجية، بل إنه يكررها، ويغدو المحتفلون موجودين في زمن الأسطورة يعايشون الكائنات العليا، ويشهدون تكرار عمليات الخلق، حيث يقوم الإلهان من خلال وكيليهما الدّنيويـين بتجديد الحياة، حياة الطـبيعة والإنسان والحيوان.
وهكذا فإن المفهوم الأسطوري للموت، عند السومريين والإغريقيين وغيرهم من الشعوب المحتمية بأساطيرها، كان يراهن على تجدد الحياة، لا سيما إذا كان هذا الموت متعددا يتكرر كل سنة، ويكون الميت إلها مــضحيا بدمه لكي ينعم وجه الأرض بالحياة. فقد "كان عبّاد أدونيس يعتقدون أن إلههم يـموت كل سنة جريحا في الجبال، فيتضمخ وجه الطبيعة كل سنة بدمه المقدس. ولذلك كانت فتيات سوريا في كل سنة يبكين لــــموته وهو في شبابه، بينما تزدهر الشقائق ــ وهي زهرته ــ بين أرز لبنان، ويجري الـنهر محمرا إلى البحر، فيحيط سواحل البحر المتوسط المتعرجة بخيوط قرمزية كلما هبت الريح نحو الساحل" .
إن موت الإله جريحا هو إعطاء الفرصة لخلق الإنسان من تربة الأرض ممزوجة بدمه، وهو ما سيـمكن الإنسان من أخذ تكوين مزدوج فــيه العنصر المادي (التربة)، وفيه العنصر الروحاني (دم الإله القتيل). ومن هذا الطرح نستنتج حرص الميثولوجيا على البحث الدائب عن تأسـيس حياة تتوفر لها عناصر القوة والإخصاب والتجدد لمواجهة الفناء الكلي أو الشعور بالهشاشـة والعدم. ففي الأسـطورة البابلية "إيتانـا والنسر" ــ وإيتانا هو ملك جعلته الآلهة على مدينة "كيش" ــ ينقض النسر ميثاقه مع الحـية فيأكل صغارها، فيتدخل الإله "شمش" لإنصاف الحية فيـمكنها منه حيث تنتزع مخالبه وتنتف ريشه وتلقي به في قاع بئر. فيعمل الملك "إيتانا" على إنقاذ النسر بإيحاء من "شمش" كي يلــحق به إلى السماء بحثا عن نبتة الإخـصاب، لأنه كان عاقرا وكان بحاجة إلى ولي للعهد. وتمدنا هذه الأسـطورة بأبعاد رمزية نختزلها في الترسيمة التالية :
أكل صـغار الحية - البحث عن نبتة الإخصاب -
الهبوط إلى قاع البئــــر - الصعود إلى السماء.
ذلك أن أكل صغار الحية هو طقس لاكتــساب القوة والخـصوبة "الأفعى في ثقافة الشرق رمز للشفاء"، والهبوط إلى البئر هو إجراء طقسي؛ إذ على النسر أن يموت ليـتطهر في باطن الأرض الأم، ولكي يبعث من جديد معافى ومزودا بالإخصاب والقوة. أما الصعود إلى السماء فهو انطلاق في طلب النبتة التي تتعهدها عشتار إلهة الخــصوبة بالرعاية.
لقد عرف العهد الميثولوجي كيف يكيف مفهومه للموت، فينفي عنه كل تصور يقود إلى الشـعور بالعبثية واللاجدوى، بل حوله إلى مصدر للسعي وراء الحياة الخصيبة التي لا تتحقق إلا عن طريق الموت المفضي إلى العثور على سر الصلابة والاستمرار. وإذا كان موت الجـسد هو المعبر الأساسي من أجل اكتساب القوة والخصوبة، فإن تحلل أعضائه واندثارها في التراب طرح مشكلة بيولوجية تتجلى في إمكانية انـبعاث الجسد مرة أخرى. وهنا ستـتعدد طرق هذه الاستعادة بحسب تكوينات المجتمعات الميثولوجية وطبيعة ثقافتها.
ففي اعتقاد "الهورن" من الهنود الحمر أن دفن الأطفال قرب الطرقات من شأنه أن يسهل دخول أرواحهم في النساء العابرات، فيولدون مرة ثانية. كما أن بـعض الزنوج في غرب إفريقيا يلقون بأجساد الأطفال بين الشجيرات الكثيفة لكي تتمكن أرواحهم من اخــتيار أمهات جديدات من النـساء المارات بهم. أما الرومان والإغريق فقد آمنوا بأن أرواح الموتى تتقمص في الأفاعي، لذلك عاملوا الثعابين برفق، فكانت تؤوى وتطعم بأعداد غفيرة. ومن الممكن أن الصورة الشائعة في الفن الإغريقي والتي تمثل امرأة تسقي ثعبانا من صحن، مأخوذة عن عادة إطعام أرواح الموتى الراحلين، إلا أن انبعاث أجساد الأطفال بهذا التـصور يمر بطور التكوين الأول ــ المرحلة النطفية والجنينية ــ قبل أن تخرج إلى الوجود أجسادا حقيقية. ولربما كان إصرار بعض الأسر على منح أسماء موتاها للمولودين الجدد تأكيدا لبقاء عقيدة التقمص أو التناسخ عندهم وامـتزاجها بتقاليدهم. إن استعادة الاسم ــ بهذا الإصرار ــ بعث لجسد المسمى وتخـليد له، وإن كان تطور الفكر البــشري يفسر هذه الظاهرة بالتـيمن بذكرى الفقيد، أو تكريمه بحفظ اسمه من الضياع والتلف. وهذه الممارسة مـــا تزال شائعة بين عدة أجناس ومن بينهم العرب
ولعل الإغريق والسوريين القدماء الذين عبدوا الإله" أدونيس" أكثر الأمم تجريدا لفكرة البعث، حينما قالوا بانبعاث الروح دون الجســد وهذا ما سيفسح لتطور الفكر البشري في تأمله للموت وتفسيره فيما بعـــد. ففي أسطورة أدونيــس أنه لما قتــل آريس ـ إله الحـرب ـ أدونيس بإيعاز من "برسيفوني" ربة الموتى التي كانت تتقاسم حبه مع "أفروديتا" ربة الحب والجمال، حكمت الآلهة بانبعاثه من جديد لئلا تنفذ "أفروديتا" تهديدها بالانتحار، فيختفي الجمال من عالم البشر، لكن انبعاثه، هذا، لن يكون جسديا؛ وإنما تصعد روحه فقط، فيقضي مع أفروديتا نصـــف عام ــ الربيع والصيف ــ ليعود بعد ذلك إلى العالم السفلي في النصف الثانــي من العام ــ الخريف والشتاء ــ.
وأسطورة أدونيس، ههنا، تحل مشكلتين" فهي من ناحية تطرح البديل الرمزي للشعور البشري بالخوف من الاندثار والفناء المطلقين، ذلك أن تحلل الجسد وانطفاء جذوة الحياة فيه لا يعني ذهابه إلى غير رجعة، فقد وجدوا في صعود الروح وانبعاثها من جديد أملا في تحقيق وجود أكثر طهرا ونقاء من مرحلة وجود الجسد المرهون للفساد والتعفن. من ناحية ثانية: أفادتهم الأسطورة في تفسير نسقي ومنطقي لتبدل الطبيعة من حال إلى حال. وهنا نراهم ينجحون في تحويل الأسطورة إلى واقع، والواقع إلى أسطورة دون المساس بنسقية التفكير، ودون الوقوع في التناقض. فعندهم أنه "ما زال أدونيس حتى اليوم، يغادر عالم الموتى مع نهاية الشتاء ليصل إلى عالمنا مع قدوم الربيع.تستقبله الطيور فرحة مسرورة. تحتفل بقدومه الأزهار والورود. تخضر الأشجار على اختلاف أنواعها. تنشر أفروديتا أمامه وحوله الزهور اليانعة والنباتات المثمرة. يسعد العالم بلقاء أدونيس مع ربة الجمال، لكن سعادته لا تطول. سرعان ما ينتهي فصل الصيف ويصبح الشتاء على الأبواب. سرعان ما تذبل الأغصان النضرة، وتتساقط أوراق الأشجار، وتختفي الأزهار وتموت النباتات، وتجف أغصانها وجذوعها. هكذا نعيش كل عام، ننتظر قدوم أدونيس مع بداية الربيع، ونودعه في بداية الخريف.
لقد واجهت الأسطورة الإغريقية الموت بأسلحة رمزية متعددة، بل إنها أوشكت أن تنتصر عليه عن طريق الفن، وبالموسيقى تحديدا، والانتصار المشار إليه هنا كاد أن يكون كليا، أي بالقدرة على استرجاع الجسد الحقيقي للميــت، وهذا ما توثقــه أسطورة "أورفيوس" فعندمــا ماتت "يوروديكي" زوجة أورفيوس ومعشوقته بلدغة الثعبان، حاول العاشق الولهان استعادة زوجته، وذلك بالهبوط إلى العالم السفلي ــ عالم الأموات ــ فاستعطف رب الأرباب "زيوس" الذي لبى طلبه، وإن كان يعلم أن طلبه سيوصله إلى الهلاك لا محالة. وبأنامله الماهرة التي كان يمررها فوق أوتار قيثارته استطاع أن يلين قلب خارون "المكلف بنقل الموتى في قاربه إلى العالم السفلي فوافق على نقله إلى شاطئ الموتــى حيث مملكــة "هاديـس" إلـه الموتـى. وعند الـمدخـل اعـترضه حارس البوابــة "كربيوس" وهو كلب ضخم بثلاثة رؤوس وأنياب ترعب الناظرين. وكاد "أورفيوس "أن يستسلم لحتفه لولا أن تذكر قيثارته. فبدأ يعزف عليها إلى أن هدأت ثورة "كربيوس" الذي سمح له بالدخول. وأمام الإله هاديس وزوجته برسيفوني اللذين دهشا لوجود واحد من الأحياء في مملكتهما، طفق أورفيوس يعزف لحنا حزينا مؤثرا، فأشفقا عليه وسمحا له باصطحاب زوجته يوروديكي إلى عالم الأحياء شريطة ألا ينظر إليها ما دام في العالم السفلي، وألا يفعل ذلك إلا بعد مغادرته إلى عالم الأحياء. وفي اللحظة التي خرج فيها أورفيوس إلى عالم النور التفت بشوق كبير ليحضن زوجته الحبيبة، فحدث الذي لم يكن في الحـسبان، لقد أخطأ التقدير، لذلك اختفت الزوجة وهي تصرخ بالوداع، وعادت من حيث أتت.
لقد استطاع "أورفيوس" أن يقهر الموت بفنه، لكن سوء تقديره جعل الموت يتغلب عليه، فرجع خائبا لينغمس في أحزانه وعذاباته. فعاش في الغابات يعزف ألحانا شجية إلى أن التقى ذات يوم بالباخيات ــ وهن نساء من أتباع الإله باخوس ــ يمرحن ويرقصن ويمزقن كل من لقينه من البشر. فألححن على أورفيوس أن يعزف لهن ألحانا مرحة فرفض. فهددنه بالقتل، فلم يجد بدا من مـسايرتهن لبـعض الوقت، فبدأ يعزف ألحانا مرحة والباخيات يرقصن في نشوة. لكن الفنان الحقيقي لا يمكنه أن يجاري التصنع، فما لبث أن تحركت أنامله على إيقاعات قلبه الحزين، فما كان من الباخيات إلا أن قطعنه إربا إربا، وانفصل رأسه عن جسده، وهو يصرخ وداعا يوروديكي.
وإذا كانت أسطورة أورفيوس تضعنا أمام مواجهة الفن للموت وقدرته على مغالبته، فإنها في الوقت نفسه تعطي الغلبة للموت بتبريرات غير مقنعة؛ يتمثل الأول في عدم قدرة الإنسان الحي على الصبر الكامل، ويجسده نفاد صبر "أورفيوس" والتفاته لمعانقة زوجته قبل أن تعبر قدماها عتبة عالم الموتى، فتلغى للتو إمكانية انبعاثها في عالم الأحياء. ويتمثل التبرير الثاني في عدم قدرة الفنان الصادق على مجاراة الافتعال والتصنع، فيتسبب صدقه في موته. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الإنسان لكي يكون صادقا مع نفسه فينبغي أن يرهنها للتضحية. يتجلى التبرير الثالث في أنه لا وجود للحب المطلق إلا في تماهيه مع الموت أو اقترانه بها. فيصبح الموت ــ حينئذ ــ معادلا موضوعيا للحرمان. مع الحرمان تشتد الرغبة وتستعر الأنفاس، لذلك يواجه المحبون الحقيقيون دائما مصير الموت لكي يستمر حبهم حيا. وإذا كنا نصادف هذه الحقيقة في الأنماط العليا بما فيها الأساطير، فإنها ستتكرر على أرض الواقع من خلال تجارب العشاق وصرعى الحب في التراث العربي بشكل خاص، وفي التراث الإنساني بشكل عام.
لقد شكلت الأسطورة مرجعية أساسية للشعراء على مر العصور، وتعددت أشكال حضورها في النصوص الشعرية تبعا لتكوين الشعراء وطبيعة ثقافتهم. فمن الاستعادة الكمية التي لا تراعـي مبدأ الامتصـاص وإعادة الإنتاج، إلـى الاستعادة الـرمزيـة التي تطـمـح إلى خلق نموذجهـا الأسطوري الخـاص، بالإضافة إلى استعادات أخرى تتراوح بين استثمار الرمز الأسطوري استثمارا جديدا يكسبه أبعادا حيوية معاصرة وبين استثمار شحنته الرمزية دون الإحالة على تسميته الشيء الذي يضفي على هذه الممارسة خصوبة دلالية شديدة الإيحاء... فحسب يونغ "إن المجتمع الذي يفقد أساطيره ــ بدائيا كان أو متحضرا ــ يعانــي كارثة أخلاقية تعادل فقدان الإنسان لروحه. وعلى هذا الأساس، كان على الشاعر العربي المعاصر المتشبع بالثقافة الميثولوجية أن يتحصن من أشكال الموت المتعددة التي تواجهه، عن طريق بناء أسطوري جديد يخلقه من الأصول الميثولوجية السابقة، ويمنحه قوة المواجهة بإمداده بعناصر فكرية وجمالية يتيحها التطور وتغذيها الانعطافات الجديدة التي عرفتها رؤى الشاعر المعاصر للذات والوجود.
إن استمرارية الأسطورة في التداول التنظيري، وفي الممارسة الإبداعية خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع "الموت له دلالة قاطعة على أن تطور العلم والفتوحات التي عرفها العقل البشري لم يحسما هذه المعركة المثارة منذ القديم بين الإنسان وبين مصيره؛ فالعلم وإن تمكن من إطالة العمر، فإنه لم يقو إلى الآن على إلغاء الموت؛ والعقل وإن أقنع الإنسان بمراجعة خوفه من قدره، فإنه لم يحمه من الإحساس بالإحباط والعبثية. من هنا كان اللجوء إلى إعادة توظيف الأساطير القديمة بطريقة فنية تضمن لها التفاعل مع الحياة المعاصرة، وتضمن للإنسان انسجامه في حياته وتكفل له الشعور بالجدوى؛ بل قد تمده بطاقة من المعاني والرموز التي تجعله في مستوى مواجهة كل التحديات. وليست هذه الأساطير المعاصرة سوى هذه النصوص الشعرية المعاصرة في تكامل مكوناتها البنائية والدلالية، سواء أكانت تستحضر أساطير معينة من الميثولوجيا الإغريقية والعالمية من أجل استثمارها استثمارا جديدا، أو كانت تبتكر نماذجها الذاتية التي تبوئها مرتبة الأسطورة وعمقها.
واللجوء إلى استثمار الأساطير يبرره أن فيها نزوعا إلى "تجاوز العلاقات والنسب وردود الأفعال العادية للحياة، أي أن لها منطقا يختلف عن المنطق العادي، يعتمد على استمداد الخيال الطليق، ولا يخضع للعقل وإن كان لا يجافيه في احتوائه عادة على منطق العلة والمعلول أو السبب والغاية. الأسطورة إذن لا معقولة، ولكنها ليست منافية للعقل". كما أنها تمد القيم الروحية بأسباب استمرارها، في عصر يتحول فيه كل شيء بفعل هجمة الحضارة المادية التي أوشكت أن تحول الإنسان إلى آلة تدور على خواء ولا تنتج إلا موتها.
إن الموت في غياب الأسطورة يمكن أن يصبح مصدرا للفزع أو للانخراط في حياة لا معقولة. وقد انتبهت الأمم البدائية بوعي أو بلا وعي إلى مصيرها المختوم بفناء الجسد، فأوجدت الميثولوجيا وأحاطتها بطقوسها الاحتفالية، وكرستها ضمن عاداتها اليومية لتحقيق توازن وانسجام خلال صراعها مع الزمن. فكان أن نفت مفهوم الموت السلبي من قواميسها، وأحلت محله الشعور بالحياة والموت كوجهين لعملة واحدة؛ لذلك أكدت على الانبعاث وجعلته حقيقة قائمة في الواقع، وحشدت له الأقاصيص الخارقة والأبطال الأسطوريين، وتوجته نموذجا أعلى يتكرر على الدوام.
وليست أساطير الموت وطقوسه حكرا على أمة دون أخرى، أو على عصر دون آخر؛ فإذا كان الموت مصيرا موحدا، فإن مفهومه وطرق التعامل معه تختلف من بيئة سوسيوثقافية إلى أخرى. فعند الأفارقة ـ مثلا ـ يبقى للموتى حيز محترم، وهم وإن قبروا فإنهم يتجلون للأحياء بطرق متعددة" في الأحلام، وفي منظومة الدلالات التي يجب فك رموزها؛ سواء بـظهور علامات ذات امتياز في هيئة بشرية أو حيوانية" كل مجتمع يملك علاماته السوسيوثقافية . هنا الأفعى، هناك الحرباء أو بإظهار فرحهم من خلال أمطار الخير، أو غضبهم من خلال كوارث، جفاف، أوبئة، موت حيوانات.
إن الموت حسب د زهان D. Zahan يكتسي طابع الضرورة من غير أن يدمر الأمل في العيش؟ وبعض المجتمعات في السينغال تذهب إلى حد تكليم الموتى في محاولة كشف سبب وفاتهم. ويورد الباحث الأنتربولوجي لويس فإنسان توما L.V.Thomas نص الأسئلة التي يوجهها الشخص المؤهل لمحاورة الجثة مرتبة كما يلي:
ــ هل هي نهاية الحياة ؟
ــ من قتلك ؟ هل مت بسبب شخص ؟
ــ ربما تكون قد عصيت البوكيين (Bockiin) الملكي ؟
ــ هل أخذك الـ (هوفيلا (إليه ؟
ــ هل أخذك الـ (بنكوليم) إليه ؟
ــ هل أخذك الـ (كوهولنج)إليه ؟ إلخ . . .
وهذه السلسلة من أسماء العفاريت قد تطول. وإذا كانت الأجوبة بالنفـي (تراجـع الجثـة إلى الوراء)، فإن طبيعة الأسئلة قد تأخذ مسارا آخر:
ــ هل قتلك شخص ؟
وإذا بقي الجواب بالنفي، فإن المستجوب يسأل سؤالا أخيرا:
ــ إذن كان من المحتوم أن تموت اليوم.
إن الوثوق من ردود الميت اعتراف بحياته الأخرى التي صار يعيشها خارج الجسد المرهون للتعفن والتدنس.وربما كانت حياته الثانية أكثر حضورا ومشاركة في الجماعة التي ينتمي إليها؛ وهو يستطيع التأثير بقوته المكتسبة من موت جسده في أحوال جماعته، كالتعبير الرمزي عن فرحه بإنزال المطر، وعن غضبه بتسليط الكوارث الطبيعية التي أشرنا إليها سابقا. لنقل، إذن، إن الأسطورة الأفريقية ترتفع بموتاها إلى درجة التأليه الذي نصادفه في الميثولوجيا الإغريقية والسومرية.
2- الموت و الفلسفة:
إننا لم نولد أحرارا قطّ، إننا محكوم علينا بالحياة، قبل أن نكون محكوما علينا بالموت. قولة قد تبدو بسيطة في صياغتها ولكنها تشير إلى مدلول فلسفي عميق، صرخة مفعمة بغير قليل من الشعور المزدوج بالاغتراب. فهو اغتراب الإنسان الذي لم يختر ولادته فوجد نفسه مورطا في هذه الكينونة المفروضة، وهو اغتراب الإنسان الذي صار محكوما عليه بالموت بمجرد أن دوى الوجود بصرخته الأولى. قد يمكن خطأ الإنسان الأول في اعتقاده بإمكان مواجهة الموت والفناء بمزيد من النسل الذي يملأ الفضاء، ظنا منه أن البدن يخلف البدن، والتراكم يعوض النقص، وهي رؤية توافق تماما نزوعه الطبيعي في مرحلة ما قبل الثقافة؛ ذلك أن "الإحســاس بالموت ينبــثق من الثقافــة بدرجــة تفوق انبثاقه من الطبيعة". وهذا يعني أن بحث الإنسان البدائي عن المعرفة خلال أطوار تطويعه لمصاعب الحياة ــ قاده بخطوات حثيثة إلى لقاء غير مرغوب فيه بالموت. وهذا الطرح المنطقي لعلاقة المعرفة بالموت يحيلنا بعنف على الخطيئة الأصلية الّتي نقلتها الأديان عن قصة طرد آدم من الفردوس بعد أن تجرأ على الأكل من شجرة المعرفة فعرض نفسه ونسله للنسبية الزمنية وللموت بعد أن كان ينعم بالخلود.
فأي مفهوم للموت لا يمكن أن يكون إلا ثقافيا، وأي شعور بالخوف منه لا يتعمق إلا بإعمال التفكير وتشغيل الطاقات التخيلية حيال مصير الإنسان المحاط بكل الأسباب والشروط المهددة بموته. فشرط الوجود الجسدي خلق بالغريزة الحرص على المحافظة عليه، ثم نما الشعور الغريزي بما تراكم من خبرات ومهارات ترجمها الوعي إلى أفكار مجردة تتطور باستمرار آخذة في بلورة نسقها الذي تمثل ــ بداية ــ في التفسير الأسطوري قبل أن تهجم الفلسفة الإغريقية عليه من خلال صراع العقل مع المنظومات السحرية والطقوسية. في محاولة الإقناع بأن الخبرة بالقدسي لا يمكن اكتسابها بنشوة صوفية يخلقها الطقس. ولا برؤية ميثولوجية تقدمها الأسطورة، كما يرى أفلاطون مثلا.
من هنا نرى أن الفلسفة اليونانية برمتها قامت على أساس تعلم الموت أو التدرب على مواجهته، فهذا سقراط يصرح أمام أتباعه قبيل تنفيذ حكم الإعدام فيه" "إن أولئك الذين يوجهون أنفسهم في الطريق الصحيح إلى الفلسفة يعدون بذلك مباشرة وبمحض إرادتهم، يعدون أنفسهم، لأن يموتوا وللموت. وإذا كان هذا صحيحا فهم، إذن، في الواقع يتطلعون للموت طول حياتهم. ومن غير المعقول إذن أن يضطربوا عندما يقدم الشيء الذي كانوا لأمد طويل يعدون أنفسهم له ويتوقعونه. والفلسفة بهذا المعنى تمرين فكري يعمل على إضعاف الهواجس والشعور بالخوف من الموت. أو هي فن التهيــؤ للمــوت بشجاعــة. بل أكثــر من ذلك يجهــر سقراط في يومــه الأخيــر بــأن "الفلاسفة الحقيقيين يجعلون الموت مهنة لهم". وبالنسبة له فإنه يفرق بشكـل قطعي بين الروح والبدن، فالبدن مرهون بما هو طبيعي خاضع لتغيراته وطوارئه، في حين ستستقل الروح بحريتها وبارتفاعها عن الزمن، وأي زعم باختلاطها بالبدن سيجعلها عرضة للقلق والخوف أمام موتها. لذلك كانت الحياة النفسية مرانا طويلا إراديا لتخليص الروح من البدن. وربما كانت هذه الفكرة قريبة من تخريجات أفلاطون الذي يدعو إلى تسليم البدن للزمن والموت، والبحث عن الحياة في مكان آخر. ولن يكون هذا المكان الآخر متحققا إلا في اكتساب المعرفة الخالصة. وقد بنى أفلاطون تصوراته عن الروح انطلاقا من التفريق بينها وبين البدن الذي أشرنا إليه قبل قليل فإذا "كان البدن يرد إلى التراب فإن الروح ترتبط بالموضوعـات الخالدة ولا تخضع لأي تغير"
إن الفلسفة اليونانية كما عند سقراط وأفلاطون تحاول الانتصار على الموت بالتأكيد على خلود الروح في العالم الآخر، بل إن الشخص الذي وجدت فيه هذه الروح سينعم هو الآخر بذلك الخلود. " ففي الخطاب الأخير لسقراط أمام المحلفين نراه يتوقع مباهج الحوار مع أرواح عظيمة مثل أورفيوس وهوميروس وأنه سيحاول أن يكتشف في هذا العالم الآخر، كما فعل في هذا العالم الراهن: أيهم الحكيم وأيهم يدّعي الحكمة وليس كذلك. وهذا يعني أن هناك تعارضا بين هذا المفهوم والمفهوم الأبيقوري الذي يجعل الموت لحظة حاسمة تتلاشى فيها الذرات المكونة للجسد والروح معا لينعم الكائن البشري بعدم مطلق بعد فنائه.
وإذا كانت الفلسفات القديمة قد انشغلت بالموت كمفهوم أنتولوجي شامل في سياق علاقة الجــسد بالروح مع تــباين واضح في القــبول بالتفـــسير الميتافيزيقي المتعالي أو رفضه، فإن الفلسفة المعاصرة قد واصلت أسئلتها حول الموت ولكن بإيقاعات مختلفة مع استحضار للتراكم الفكري القديم كمرجعية أساسية لم تفتقد طراوة التأمل وإمكانيات التفسير.
كما أن ظهور علوم أخرى في إطار البحث الفلسفي كالانثربولوجيا وعلم النفس، قد ساهم بكيفية بارزة في إثارة موضوع الموت ومعالجته من زوايا متعددة. وقد تنوعت مفاهيم الموت تبعا للتوجه الذي يصدر عنه الباحثون. حيث نجد أن معظم الأطروحات الفكرية تركز على تعريف الموت كفعل ثقافي أكثر منه كفعل طبيعي.
وهكذا نرى أن حقيقة موت (الآخر) تجلى في موت ما كان يتميز به من أخلاق وسلوكات أكثر ما تتجلى في تحوله إلى جثة فاقدة لكل حركة. فعند برينو كاست Bruno Castes " أن موت شخص محبوب، يعني موت شيء مرئي في الشخص الحي المحب، شيء يفتقد ويموت فينا" فالحب والعطف والطيبوبة يمكن أن تعوض أو تسترجع، ولكن ليس بنفس الخصوصيــة التي كان يسبغهــا الميت علينــا". هنا فراغ يخلق. ومعنى ذلك: "أن تموت يعني أن تقتل في "الآخر" كل شيء حي كوّنه عنك. فالميت يصبح قاتلا للعلاقة الطيبة التي سبق أن ربطها مع "الآخر" وسالبا لها. أما عن تأثيره كجثة، فهو يمنحنا فرجة ما سيحدث لنا: التحول إلى جثث.
إن الموت لا يكتسب فداحة الشعور برهبته إلا في سياق العلاقة بالآخر، ولذلك تكمن في الإنسان "غريزة الموت التي تعبر عن محاولة المرء العودة إلى حالة ما قبل الكينونــة، وهي حالة الكينونة بلا آخــر l'autre أي حالة اللاموضوع". ولربما عبر الانتحار عن عمق هذا الشعور باعتباره فعلا موجها من المنتحر إلى الآخر عقابا له أو تنبيها له عن خطأ كبير ارتكبه في حقه. وقد يكون الانتحار فرارا من ألم ما فيصبح الموت ملاذا ومأوى. ويعتقد روسيه Rousset أن النوم والانقطاع والحاجة إلى النوم والرغبة في الانقطاع كلها تمثل بالنسبة للمحلل النفسي أشكالا أخرى للموت. وهي كلها أشكال تدل على وجود غريزة الموت في الإنسان. وهناك مفهوم اجتماعي للموت استطاع أن يرقى إلى إذاقة الإنسان طعم الموت وهو حي يرزق، فقد "أقر في الكابون قانون كل محكوم عليه بالإعدام لا يقتل بل يشطب اسمه من الحالة المدنية، كما لو أنه لا يوجد، أو أنه منــبــوذ. إنه مــوت أقوى من أي مــوت آخر، إنه موت اجتماعي".
من هنا يتضح أن الإنسان استنتج من الموت الطبيعي للجسد تصورات ثقافية من أجل إقرار الموت كمفهوم رمزي يتجاوز آثار الانفصال التي يسببها موت الجسد. ثم، لِمَ ننظر دائما إلى الموت كحدث سلبي يفقدنا بهجة الحياة؟ فالموت يشكل مصدرا للدخل والكسب، فبفضله تباع التوابيت النفيسة والأماكن المفضلة في المقابر، ولا ننسى بائعي الزهور والأكاليل. وكل ذلك يصبح بشكل تلقائي مصدرا للكسب.
إن الموت ــ بهذا الطرح ــ يغدو مكملا لدورة الحياة التاريخية، فموت شخص ينتج عنه تفعيل لحياة أشخاص آخرين يرتبط شرط استمرارهم في الحياة بما يعقب الجنازة من بذل وإنفاق وإرث. وقد يكون الميت سفاحا أو ديكتاتورا بوصفه مسببا لموت الكثيرين، فيخف ــ بموته ــ إيقاع الهلاك. ومع ذلك تصبح هذه النظرة ممعنة في بساطتها، إذ لا تملك قدرة المواجهة الوجودية لما يتهدد حياة البشر. وهذا هو السبب الرئيس الذي دفع بعدد من المفكرين إلى دخول حلبة التأمل من أجل استنتاج أي تخريج عقلي يمنح الإنسان الشعور بالطمأنينـة. فعنــد كيركيجاردKierkegaard "أن الموت شيء لا يمكن تجنبه من حيث أننا أشخاص تاريخيون حقا. ولهذا السبب فإنه ليس حيلة أو خدعة قاسية من الطبيعة، ولا هو شيء مفروض غير عادل من القدر. فليس هناك أي شر في الموت. وفي الحقيقة ليس هناك شيء نهائي يمكن أن يقال عن الموت، لأن المــوت هو في نهايـة الأمر مجــرد حدث في تيار الصيرورة الذي لا يتوقف.
وبالنسبة للفلسفة الوجودية فإنها تؤكد أن الإنسان لا يدرك موته في حقيقة الأمر إلا من خلال علاقته بموت الآخر، خاصة إذا كان هذا "الآخر" قريبا أو عزيزا، مع أنه على علم بأن الموت يساعد "على تقويس الخط المستقيم الذي يسلكه منطق الحياة، ولا يزال ممعنا في حركته حتى يصيره دائرة تعطي للزمن فرصة الدوران حول نفسه والتفرج على حقيقة تعاقب الموت والحياة بطريقة تبادل الفعل والانفعال، تماما كما يحدث في رقعة الشطرنج : موت الشاه إيذان بانتهاء اللعبة ودعوة إلى بدئها من جديد ومن ثم لا يستطيع المرء أن يدرك موته الشخصي" فمادام حيا لا يتذوق الموت، وعندما يموت يكون الإحساس قد فارقه بمعنى أنه يعيش تجربتين منفصلتين لا تمكن إحداهما من إدراك أخرى. وقد كان ذلك سببا في الشعور بالعبث الذي أنتجه الوجوديون في شكل كتب نظرية وأخرى إبداعيـة. فحسب أبيـقـور "إذا كنا، لا يكون الموت، وإذا كان الموت لا نكون". وقد حاول أن يعالج مشكل الخوف ويحلل دواعيه. ومن ذلك خوف الناس من عقاب الآلهة على أعمال ارتكبوها، أو خوفهم كذلك من أن يولدوا من جديد بعد موتهم في أوضاع لا يرغبون فيها؛ لذلك يطمئن الخائفين من ذلك بقوله إن العالم ليس فيه آلهة نطيعهم ولا نظام كلي شامل علينا أن نلتزم به. وهو يرى أن الحياة عارضة لم توجد لعلة أو سبب؛ فكما ظهرت بالمصادفة فإنها ستختفي بذات الطريقة، ولا يبقى من أثر، وما دامت الروح مثل البدن مكونة من ذرات "مادية" فهي لن تحيا بعد موت البدن.
أما قضية الخوف من انتزاع الموت للذة السرور، فيعالجه أبيقور بما يلي: فما دمنا لا نستطيع التنبؤ بالمستقبل، فالأولى بنا ألا نتطلّع أبدا إلى مصدر سرورنا ولذتنا، وكل من يفعل ذلك يكون معرضا لأن لا تتحقق له هذه الرغبة، ويصبح بالتالي محبطا في مسيرة حياته. ذلك أن كل ما نطمح إليه في المستقبل معرض للتهديد الدائم من التغير والموت. ولعل أبيقور يحسم المسألة باعتبار الذوات كيانات تؤلفها الذرات، وعندما تتشتت هذه الذرات يحدث الموت. بمعنى أن الجسد الحي ليس موجها من قبل قوة خارجية، بل طبيعة في المادة ذاتها. ولذلك عاش مرددا شعاره المبدئي "اترك الموت يمتلك المستقبل وعش أنت الحاضر". وإذا كان طرح أبيقور لمسألة الموت طرحا يزاوج بين النبرة الوجودية والتخريج العلمي، فإن الفكر الوجودي المعاصر عمل هو الآخر على الابتعاد من المسلمات الدينية والهروب من الميتافيزيقا إلى التبرير الكلامي والتفسير العلمي في محاولة نفي المــوت عن علاقة الإنســان بذاتــه، لأن هذا المــوت ما هــو إلا "حدث واقعي ماثل في صميم الحياة منذ البداية، وكأنما هو واقعة مستمرة لا تكاد تنفصل عن فعل وجودي نفســه". وأي فصل بين التجربتين المندمجتين الحياة/ الموت، يلقي بصاحبه إلى الشعور بالخوف الرهيب من مأزق الانتقال من مرحلة الحيوية والامتلاء إلى مرحلة الفناء والمجهول. وعلى هذا الأساس يسارع فريديريك نيتشهNietzsche إلى تقديم تأويل فلسفي ينجح في تشخيص هذا الفصل المؤلم بين التجربتين حيث يقول: إذا كنا نعيش متجهين إلى الأمام، فإننا نفكر دائما متجهين إلى الوراء. هذا يعني أننا لا نوازي زمنيا بين العيــش والتفكير، وبين الذاكرة، هذه الخزانة الكبيرة التي تحتفظ بكل الذكريات التي هي سبب تعاستنا، لذلك يبادر نيتشه إلى علاج هذا المأزق الوجودي بنظرية العود الأبدي حيث يقول: كل شيء يمضي، كل شيء يعود، وتدور إلى الأبد عجلة الوجود، كل شيء يموت، كل شيء يتفتح من جديد، وخالدا يمضي زمن الوجود، الأشياء كلها تعود في خلود، ونحن أنفسنا كنا بالفعل مرات لا حصر لها ومعنا الأشياء. لكن ما يلاحظ على نظرية العود الأبدي هو طرح نسق يؤمن بالشمولية والخلود، ولكنه يلغي القيمة الوجودية للشخص في حد ذاته، ويسلبه خصوصيته الفكرية والوجدانية، مما يجعل هذا الطرح مناقضا تماما لما كفلته الأديان السماوية للإنسان من حق الوجود الذاتي، واختيار المصير الذاتي الذي لن ينتهي بفناء الجسد.
لقد حاولت الفلسفة الوجودية ــ بتشعب تياراتها ــ أن تنفض يديها من الموت كظاهرة خاضعة للتجربة والبحث؛ فحسب جان بول سارتر إن الموت طالما لا نستطيع إدخاله ضمن التجربة الذاتية، فينبغي ألا نفكر فيه بالمرة" لأن أية محاولة للفصل بينه وبين الحياة وإدراجه كحالة خارجية دخيلة من شأنه أن يساعد على تضخيم شبح الخوف الميتافيزيقي منه. من هنا نرى إجماع عدد كبير من الفلاسفة الوجوديين على أن الموت "حدث واقعي ماثل في صميم الحياة منذ البداية، وكأنما هو واقعة مستمرة لا تكاد تنفصل عن فعل وجودي نفسه". وبالرغم من هذه التخريجات الفلسفية التي حاولت التسليم بالموت كمعطى وجودي متصل بالحياة وملتحم بها، فإن ذلك لم ينقذ الفلاسفة من ورطة مواجهة الموت من خلال موت الآخر الذي قد يكون صديقا أو قريبا عزيزا؛ لأن بموته تفتقد أشياء كانت مرتبطة به، فيتحول هو إلى شيء، لأن من طبيعة الأشياء ألا تتكلم ولا تجيب؛ وهكذا تغدو الجثة شيئا جامدا قبل أن تتحلل وتشرع في الاندثار شيئا فشيئا. والملاحظ أن الفكر الوجودي لم يحسم معركته مع المـوت، فقـد ظـل المجهـول يحاصره من كـل جانب؛ وهـذا ما دفع شوبنهاورلى إعلان اعتراف شبيه بالشكوى المؤلمة: لو كنا على ثقة تامة من أن باب الموت هو بلا شك فاتحة جديدة وسبيل النفس إلى الراحــة الأبدية التامــة، لما ترددنا جميعــا في المبــادرة إلى الخلاص بالموت". ومعنى ذلك أنه بالرغم من المداد الكثير الذي أسالته أقلام الفلاسفة الوجوديين، وهم بصدد التأويل الثقافي لظاهرة الموت، فقد انفلتت مناطق سحيقة لم يستطيعوا محاصرتها بأسئلتهم وأجوبتهم. فالموت يبقى متلبسا بآفة الفقدان، كالخوف من فقدان القدرة على الحب أو الخوف من فقدان القدرة على الإبداع. إلا أنهم يكادون أن يجمعوا على أنه ينبغي ألا ينظر إلى الموت كفعل دخيل، أو تجربة غريبة تنزل بالإنسان كعقاب أخير يفنيه، ويذيقه أهوال الألم عند الاحتضار مثلما هو شائع في أفهام عامة الناس. فالوجود صيرورة، وهو سابق على الماهية؛ لذلك فإشكالية الموت هي التي تدعم هذه الصيرورة؛ ولولاها لما كان الإنسان متجها بفكره وتطلعاته دائما إلى الأمام.و قد قال نيتشه على لسان زاردشت مطمئنا المهرج المحتضر الخائف من موته الوشيك الذي سيتيح للشيطان حمله إلى الجحيم: وشرفي يا صديقي إن ما تذكره لا وجود له، فليس من شيطان وليس من جحيم، إن روحك ستموت بأسرع من جسدك، فلا تخش بعد الآن شيئا". وينظر نيتشه إلى الموت باعتباره اختيارا وحرية، وهو بذلك، يدعو إلى تخير أوانه عن طريق تحقيق النضج في الحياة وبلوغ المقصد. فيكون الموت تتويجا أخيرا لحياة ناضجة ومليئة بالمكاسب. لذلك يرى أن المسيح قد مات قبل أوانه، أي قبل أن يبلغ مرحلة النضج؛ ولو كان تم له ذلك لعدل عن كثير من تعاليمه. إن الموت بالنسبة إليه مصير طبيعي يؤول إليه الجسد بابتهاج، وليس عقابا ميتافيزيقيا، لذلك يطلب من الناس الإقلاع عن ذكر الآلهة، والمبادرة إلى إيجاد الإنسان المتفوق SUPERMAN . فهذا الإنسان هو الذي يستطيع أن يعيش الحياة كما ينبغي أن تعاش. وهو في النهايــة يستطيــع أن يموت باختيــار وحرية في الوقت المناسب.
.