يعتبر إدموند هوسرل Edmund Husserl مؤسس الفينومينولوجيا (الظاهراتية). وهكذا أنجب واحدة من أهم الحركات الفلسفية في القرن العشرين، وهي حركة لا يمكن حصر ورثتها: هايدغر، ريناخ، شتاين، ريكور، دريدا، ليفيناس، إنغاردن، ميرلو بونتي، هنري، ماريون، واللائحة طويلة. يجب البحث عن أصل نجاح فلسفة هوسرل في طريقة جديدة جذرية ل إنتاج فلسفة طورها هوسرل وزودها بطاقة على تجديد نفسها باستمرار.
تقدم فينومينولوجيا هوسرل نفسها أولاً وقبل كل شيء كعلم تصويري للظواهر الماثلة في الوعي بعد وضع أطروحة العالم بين قوسين. ومع ذلك، لا يقتصر عمل هوسرل على تحليل أعمال الوعي، لكنه يتناول معظم الثيمات الرئيسية للفلسفة: الوجود، اللغة، المعرفة، العلوم (المنطق، الرياضيات، علم النفس). )، الوعي، الزمن، الأخلاق، التاريخ أو المنهج الفلسفي البحت، هذه اذن بعض الثيمات التي اشتغل عليها هوسرل طوال حياته والتي أضاف اليها مساهمة أصيلة.
الغرض من هذا العرض هو إظهار تنوع المواضيع التي تناولها هوسرل والتوتر بين العقلانية والمطلب التجريبي الذي اخترق فلسفته كلها. وهكذا، بعد تقديم موجز لسيرته الذاتية، نعرض لبعض الثيمات والمفاهيم الأكثر أهمية في العمل الفلسفي لـهوسرل، بينما نحاول استيعاب العديد من التطورات التي حدثت في فكره، لنختم بتناول بعض الانتقادات التي تعرض لها.
1- نبذة عن حياته
ولد في پروسنتز Proβnitz (موراڤيا ) يوم 8 أبريل 1859 لأبوين يهوديين. تلقى أولا دروسا في علم الفلك بلايبزيغ (1876-1878) ثم في الرياضيات ببرلين (1878-1881)، حيث تتلمذ على كارل ليوبولد كرونيكير Leopold Kronecker وكارل ويرستراس Carl Weierstrass . في عام 1883، دافع في جامعة فيينا عن أطروحة دكتوراه في الرياضيات حول نظرية الاختلافات. ثم حضر دروس الفلسفة التي قدمها فرانز برنتانو Franz Brentano في فيينا (1884-1886). وبموجب نصيحة من الأخير، هيأ سنة 1887 في مدينة هال Halle أطروحة تأهيلية حول مفهوم العدد تحت إشراف كارل ستومبف Carl Stumpf. أصبح مساعدا في جامعة هال (1887-1901)، وأستاذا في جامعة غوتنغن (1901-1916) وانهى مسيرته في جامعة فرايبورغ (1916-1928). بعد تقاعده، سيتم حرمانه من بعض حقوقه الأكاديمية بسبب أصوله اليهودية (على الرغم من تحوله في مرحلة شبابه إلى البروتستانتية). توفي في مدينة فرايبورغ في 27 أبريل 1938. بحكم تعرضها للتهديد بالإتلاف على يد النازيين، قام ليو فان بريدا Leo Van Breda بنقل تركته، المؤلفة من مكتبته الشخصية الفلسفية (مع الشروح) وما يزيد عن 40،000 صفحة من المخطوطات، بطريقة سرية إلى مكان آمن في لوفين Leuven، حيث تم، في عام 1939، إنشاء "أرشيفات هوسرل"، المؤسسة التي لا تزال مسؤولة عن طبع ونشر أعمال هوسرل.
تحت العنوان الكبير " الفينومينولوجيا "، مارس بشكل مباشر أو غير مباشر تأثيرا عظيما على فلسفة القرن العشرين. في غوتنغن، أصبح من أتباعه عدد من قدماء تلاميذ ثيودور ليبس في ميونيخ، من ضمنهم يوهانس دوبرت، أدولف رايناخ، موريتز جيجر، الكسندر بفاندر، تيودور كونراد، هيدويغ كونراد-مارسيو، ديتريش فون هيلبراند، الذين، بعد التحاقهم سنة 1905 بطلبة غوتنغن، شكلوا معهم "دائرة ميونيخ -غوتنغن،" التي انضافت اليها شخصيات أخرى مثل ألكسندر كويري، جون هيرينغ، رومان إنغاردين وماكس شيلر، الذي سبق له بالفعل أن التقى بهوسرل في هال. كانت هذه الدائرة أداة توجيه لما يسمى ب "الفينومينولوجيا الواقعية"، المستوحاة أساسا من " الأبحاث المنطقية " (1900-1901). أسس أعضاؤها البارزون أيضا في عام 1912 "حوليات البحث في الفلسفة والفينومينولوجيا" التي عملت على انعاش الفينومينولوجيا حتى عام 1930. في فرايبورغ، كان لهوسرل من المساعدين على التوالي إديث شتاين، مارتن هايدغر، لودفيغ لاندغريبه ويوجين فينك، الذي بقي سكرتيرته الخاصة بعد تقاعده. كما أصبح لاندغريبه وفينك أول العاملين في أرشيف هوسرل. حمل فينومينولوجيو فرايبورغ هؤلاء مشعل فينومينولوجيا مثالية، ولكن أيضا أنثروبولوجية.
يتمفصل تطور فكر هوسرل في عدة مراحل، تفصل بينها انعطافات، بل قظائع، نظرية ومنهجية، شكلت عدة صياغات معادة لمشروعه الفلسفي ومراحل مرت منها فينومينولوجياه. حددها الدارسون بشكل عام كما يلي:
- (خلال فترة هال) مرحلة علم النفس، وقع فيها تحت تأثير أستاذيه فرانز برنتانو وكارل ستومبف، والتي يعد "فلسفة الحساب" (1891) من أبرز علاماتها، وهو عمل يستأنف ويطور أطروحته للتأهيل؛
- (في نهاية منعطف لابسيكولوجي طبع الانتقال إلى غوتنغن) مرحلة واقعية بل أفلاطونية، تأثر فيها ببرنارد بولزانو، وهيرمان لوتز وغوتلوب فريغه، والتي يمثلها كتاب "الأبحاث المنطقية" (1900-1901)؛
- (في نهاية المنعطف الترنسندنتالي الذي انطلق في غوتينغن واستمر في فرايبورغ) مرحلة مثالية، تأثر فيها بالكانطية الجديدة وخاصة بول ناتروب، والتي يمثلها بشكل خاص الجزء الأول من " أفكار توجيهية من أجل فينومينولوجيا خالصة و فلسفة ظاهراتية " (1913)؛
- (بمناسبة تحوّل بسيكولوجي أو أنثروبولوجي، ميز على الخصوص الأعمال التي قام بها أثناء تقاعده) مرحلة تميزت بعودة الأسئلة الجينية، والتي من أبرز علاماتها "أزمة العلوم الأوروبية" و" الفينومينولوجيا الترنسندنتالية"(1936) أو المؤلف المنشور بعد وفاته "تجارب وأحكام" (1938).
استأثرت بشكل تقليدي "المنعطفات" التي ميزت هذا المسار باهتمام العديد من الأشخاص بحيث أنها وسمت بميسمها أيضا الكيفات التي ورث بها المشروع الهوسرلي، كل مرحلة فسحت المجال لظهور مدارس فينومينولوجية خاصة (الفينومينولوجيون الواقعيون، على سبيل المثال، تشبثوا بالمنعطف اللابسيكلوجي ورفضوا المنعطف الترنسندنتالي، في حين أن جزءا كبيرا من الفينومينولوجيا الفرنسية اعتقد أن المنعطف الترنسندنتالي كان ضروريا لكنه غير كاف، وينبغي تجاوزه ضمن تصور وجودي للذات الفاعلة). العمل الهائل المنجز في العقود الأخيرة من قبل المؤرخين والدارسين حول أعمال هوسرل المنشورة ومخطوطاته سمح مع ذلك بالقيام حاليا بمتابعة متواصلة لتطور الفكر الهوسرلي نفسه، بحيث أن الكثير من الدراسات التي تعتبر نموذجية لإحدى "مراحل" هذا الفكر قد سبقت في الواقع الإشارة اليها في بعض المقاطع من الأعمال السابقة أو تردد صداها في بعض التطورات التي حفلت بها الأعمال اللاحقة.
من أجل القبض على الخيط الموجه في ما يبدو، بطريقة مختلفة، كتلافيف مسار متعرج، من المهم أن نفهم أن فلسفة هوسرل، من هذا الجانب وذاك، يسكنها توتر كبير بين التطلعات العقلانية والمتطلبات التجريبية.
2- المنطق والرياضيات
أ- مفهوم العدد
باعتباره واحدا من علماء الرياضيات الشباب الآخرين في أواخر القرن التاسع عشر، ورث هوسرل هذا المشروع الكبير الذي تمثل في حوسبة arithmétisation التحليل، والذي أضاف اليه أستاذاه كرونيكير وويرستراس مساهمات حاسمة. من الآن فصاعدا، يظهر علم الحساب باعتباره أكثر المباحث الرياضية أهمية، وعلى أساسه يمكن بناء نظرية الأعداد الواقعية، ومن خلالها، الهندسة التحليلية. إن السؤال عن أسس المفاهيم الرئيسية في علم الحساب هو إذن ما قام به العديد من منظري الرياضيات، من بينهم فريغه وهوسرل. لكن، إذا توخى الأول توضيحا منطقيا لمفاهيم العدد، المتوالية، المساواة، أو الإضافة، فإن توضيحها النفسى هو ما حظي بالأولوية لدى الأخر. للقيام بذلك، استند هوسرل على دروس فرانز برنتنو وتلميذه كارل شتومبف، اللذين طورا بسيكولوجيا وصفية حللت بشكل دقيق مختلف أنواع الأفعال العقلية، وكذا وظائفها المعرفية والتقييمية.
بعد تحريرها تحت إشراف شتومبف والدفاع عنها عام 1887 في جامعة هال بحضور جورج كانتور، سعت أطروحة هوسرل " Sur le concept de nombre : analyses psychologiques " إلى توضيح مفهوم العدد الطبيعي من خلال " توصيف بسيكولوجي " للأفعال العقلية التي تجعله يظهر. وهكذا، يفترض مفهوم التعدد مفهوم المجموعة، الذي يرتكز على فعل وعي معين، ألا وهو "الرابطة الجماعية"، التي تجعل من الممكن اعتبار أشياء منفصلة مجموعة. ومع ذلك، فإن فكرة التعدد مختلفة عن المجموعة في أنها تفترض أن كل شيء من الأشياء المترابطة في الوعي لا ينظر إليه كذلك بخصائصه الفريدة، ولكن كوحدة بسيطة. لكن هذا يتطلب من الوعي عملا تجريديا يضع جانباً المحتويات الملموسة للأشياء المترابطة ويحتفظ فقط بصفتها كشيء من الأشياء. ولكي تظهر الأعداد المختلفة، لا زال من الضروري طرح السؤال ب"كم"، وهو سؤال يجيب عليه كل عدد إجابة معينة. من جهتها، تستند العلاقات زائد أو ناقص، التي تتحكم في ترتيب الأعداد، على أفعال المقارنة، أفعال نفسية " من الدرجة العليا " بواسطتها، يقول هوسرل، " نتمثل مجموعات تكون عناصرها بدورها مجموعات ". أما بالنسبة للعمليات الحسابية، فإن هوسرل يحدد منها عمليتين أساسيتين، هما الجمع والقسمة، تتمثلان كلتاهما في البناء الفعلي لتعددات جديدة من الوحدات انطلاقا من التعددات التي تم تشكيلها في السابق.
يتناول " Philosophie de l’arithmétique "، وهو أول عمل لهوسرل منشور عام 1891، هذه التطورات. ومع ذلك ، فقد ظل يغنيها بتحليلات مطولة تشدد على عدم كفاية نظرية تغيت الإلمام بالتكوين النفسي لتمثلات الأعداد الطبيعية الأولى انطلاقا من التجربة الحسية لمجموعات صغيرة من الأشياء. معنى هذا أن علم الحساب، كما يؤكد هوسرل، هو قبل كل شيء نسق صوري، نسق يتم فيه تعريف الرموز من خلال علاقاتها الإجرائية برموز أخرى. هكذا، يتم إدخال الأعداد الكسرية للسماح بتعريف a/ b بشكل جيد بالنسبة لأي زوج من الأعداد الطبيعية ؛ يتم إدخال الأعداد السالبة للسماح بتعريف a - b بشكل جيد بالنسبة لأي زوج من الأعدلد الطبيعية ؛ يتم اللجوء الى الأعداد المتخيلة للسماح بتمييز √a بشكل جيد بالنسبة لأيّ عدد صحيح ؛ إلخ..
تتكون فلسفة علم الحساب في الواقع من جزأين، الأول مكرّس ل" المفاهيم الخاصة بالكم والوحدة والتعداد "، والثاني مخصص ل" لمفاهيم التعداد الرمزية وللمصادر المنطقية لعلم حساب التعدادات ". ما شغل بال هوسرل الشاب في هذا الكتاب هو بالضبط أن علم الحساب لا يصنع بشكل أساسي من تمثل "خاص" للأعداد (يتم تشكيله عن طريق التجريد على أساس مجموعات محدودة من الأشياء التي يمكن تقديمها وتمييزها في الحدس الحسي)، لكن من تمثلات "رمزية"، وهي تمثيلات لا تعطينا، مثلها مثل الأعداد الكبيرة جدا، محتوى الا بشكل غير مباشر - بواسطة العلامات - والتي يقوم تكوينها بالتالي على أفعال عقلية أكثر تعقيدا بكثير من تلك التي قدمها هوسرل في الجزء الأول من الكتاب المخصص لتمثلات الكميات الحدسية.
واجه هوسرل، شأنه في ذلك شأن أستاذيه كرونيكير وويرستراس، حقيقة أن الرياضيات ليست حصريا تمثلات حدسية واستدلالات يمكن بناؤها على أساس من هذه التمثلات - وجهة نظر ظل كانط يدافع عنها قبل قرن من الزمان. باعتبارها مشكلة من تمثلات حدسية، تصبح الرياضيات، بالتالي وبالأساس أنساقا من علاقات صورية قائمة بين تمثلات لم تعد تتمتع بنفس حدسيتها. مثلا، ننتقل من الأعداد الطبيعية الأولى إلى الأعداد السالبة، الحقيقية والمتخيلة أو من نقط، مستقيمات وسطوح الفضاء الأوقليدي إلى نقط، خطوط وسطوح الفضاءات غير الأوقليدية. في الواقع، هذا الانتقال من الرياضيات الحدسية إلى الرياضيات الصورية هو ما سعى هوسرل، مثل معاصريه ، إلى فهمه إبان المرحلة الأولى من حياته الفكرية. وبينما ظهر، في بداية سنوات 1890، تحت تأثير النزعة الاسمية لكرونيكير، على أنه ما زال يعتبر أن هذا الانتقال لن يفسح المجال سوى لاقحام تعابير لغوية جديدة تسمح بتمديد الحسابات - أي الفكرة المستوحاة من برينتانو عن تمثلات رمزية بشكل خالص أو تمثلات غير ملائمة -، اتجه تدريجيا الى وجهة نظر أكثر صورية، ترى أن الرياضيات الصورية أصبحت فعلا ذات موضوع جديد للمعرفة، ألا وهو "التعددات" الصورية، حيث لا يتم تعريف كل كيان على حدة ببداهات خاصة، ولكن بعلاقاته البنائية مع سائر الكيانات الأخرى.
كان نشر كتاب " Recherches logiques " بين سنتي 1900 و1901 علامة فارقة على منعطف لابسيكولوجي بالنظر الى صدور كتاب " Philosophie de l’arithmétique " عام 1891. ولكن بالاضافة الى مسألة النزعة البسيكولوجية هاته، فان ما مفصل التطور من وجهة نظر هوسرل بين هذين الكتابين هوهذا المشكل الذي طرحه البعد الحدسي-البناء والبعد الصوري للرياضيات، وهو نفس المشكل الذي تمحورت حوله تلك السجالات التي عارض فيها كرونيكير صديقيه ديدكيند وكانتوروتلك التي سوف يعارض فيها لاحقا بروير زميله هيلبرت. هكذا نجد ان اهتمام المنعطف الذي أنجزه هزسرل بشرعية توضيح بسيكولوجي معين للتمثلات أقل من اهتمامه بطبيعة ما يتعين توضيحه، أي بنيات العلاقات المنطقية-الصورية التي لا تختزل في البناء الحدسي لتمثلات انطلاقا من أخرى، بل التي تصدر فقط - مثلما فهم أخيرا - عن علاقات إجرائية بين تعابير رمزية ( 3 - 2 = 1- ، i = √-1، الخ(.
بعد التخلي عن كتابة الجزء الثاني من Philosophie de l’arithmétique، الذي كان يفترض فيع توضيح " تبرير الاستخدام، في الحساب ، لأشباه أعداد مكونة انطلاقا من عمليات عكسية، الأعداد السالبة، الأعداد الخيالية، الأعداد الكسرية، اتجه هوسرل نحو نظرية التعددات التي ستطبع من الآن تصوره للرياضيات وسيتم التعبير عنها لاسيما في محاضرة حول مسألة " الأعداد الخيالية " التي ألقاها عام 1901 أمام جمعية الرياضيات في غوتنغن بدعوة من ديفيد هيلبرت.
كما رأينا سابقا، فإن إدخال الأعداد الجذرية، سلبية أو حقيقية ، وإدخال الأعداد الخيالية لا ينطوي فقط على توسيع للمفهوم الأولي عن"العدد"، ولكنه يفترض استبداله بآخر، يستجيب للقوانين الجديدة جزئياً. لذلك فإن شرعية هذه الإدخال هي الاستمرار من علم حساب لآخر. كيف يمكنني الادعاء بأن الأعداد الطبيعية لـمجموعة ℕ هي الأعداد الموجبة لـمجموعة ℤ والأعداد الصحيحة الموجبة لـمجموعة ℚ؟ باعتباره شكليا بشكل نموذجي، ركز جواب هوسرل عن هذه المشكلة على كيفية ارتباط القوانين الجديدة بالقوانين السابقة. ووفقا لهوسرل، فإن "التعدد"، أي مجال من الأشياء التي تحددها العلاقات المتبادلة اللازمة، يكون "معرفا" إذا لم يكن هناك غموض في بنية هذا المجال، مما يفترض مسبقا أن نظرية هذا المجال قد أصبحت بديهية بطريقة تجعل أي قضية من النظرية "محددة"، أي أنه يمكن أن نستنتج إما هذه القضية أو تناقضها من بديهيات النظام. عندما تكون البديهيات بالتالي "كاملة"، والتعدد المقابل "محددا" على أتم وجه، فلا مانع من أن ندخل فيه كيانات جديدة بطريقة صورية، شريطة أن يكون نظام البديهيات الجديد - ومجال الأشياء الموسع - متسقا. ستكون الأعداد الخيالية "قابلة للإزالة" تمامًا ، نظرًا لأن جميع القضايا البديهية في النظام الموسع يمكن إثباتها في نظام البدء. وبالفعل، وبحلول اكتمال نظام الانطلاق، فإن العكس سيعني ضمنيا أن متناقضات هذه القضايا يمكن إثباتها في النظام المنطلق، كما في النظام الموسع، الشيء الذي يستبعد اتساق هذا النظام الثاني.
ب- نقد النزعة البسيكولوجية
في عام 1900، نشر هوسرل المجلد الأول من أبحاثه المنطقية بعنوان «Prolégomènes à la logique pure ». بنى فيه حجاجا قاسيا بشكل خاص ضد النزعة البسيكولوجية، وهو خطأ اعترف صراحة في التقديم بأنه هو نفسه من أرتكبه. حدث هذا التغيير بتأثير من التنقيح الجارح جدا الذي قام به فريغه ل"Philosophie de l’arithmétique " عام 1894. فيه أشار منطقي إيينا بأصبعه بطريقة لاذعة إلى ضعف كل نظرية تدعي الإلمام بمفهوم رياضي، كمفهوم العدد، عن طريق النشأة النفسية لتمثلات العدد، وخاصة عن طريق أفعال تجريدية تنزع تدريجيا عن التمثلات الحدسية لمجموعات من الأشياء محتواتها التجريبية الخاصة حتى لا توضع نصب العين سوى كميات قابلة للعد مكونة من وحدات متجانسة. ومع ذلك، دون نفي التأثير الذي مارسه هذا التنقيح على التفكير الذي باشره هوسرل خلال سنوات 1890، فمن المهم أن نفهم، أولا، أن للمنعطف اللابسيكولوجي أيضا وخاصة دوافع ذاتية في التفكير الهوسرلي حول الأنساق الصورية، دوافع استلزمت من جهة أخرى انعطافات لابسيكولوجية في كتابات هوسرل حتى قبل ظهور تنقيح فريغه، وثانيا أن مصادر النزعة اللابسيكولوجية الهوسرلية متعددة (هناك في المقام الأول برنار بولزانو، الذي ميز بوضوح بين "التمثل" [ بمعنى الفعل] وبين "التمثل في ذاته" [ بمعنى المحتوى]، وهرمان لوتز، الذي طور الفكرة الهربرتية عن مثالية المفهوم، ثم هناك بول ناتورب، الذي أكد على عدم كفاية حجة المعيارية، أو على ضرورة التمييز بين البعدين "الذاتي" [ المتعلق بالأفعال] و"الموضوعي [ المتعلق بالمحتويات] لنظرية المعرفة، وثالثا أن النزعة اللابسيكولوجية، مهما كانت جذرية، التي دافع عنها هوسرل في "الأبحاث المنطقية" مختلفة عن التي دعا اليها فريغه من جانبه.
عن كل ادعاء لتأسيس المنطق على علم النفس، تجيب النزعة اللابسيكولوجية بأن المنطق، وهو علم دقيق وضروري بداهة، لا يمكن أن يستند على علم تجريبي تكتسي قوانينه في أحسن الأحوال الطابع "الفضفاض" والعرضي للقوانين الاستقرائية. لدعم هذا الاعتراض، تمثل الجوهر ذاته للحجاج الهوسرلي في التمييز بين الأفعال العقلية ومحتوياتها. فالأولى، التي درسها علم النفس، تقيم علاقات حقيقية في ما بينها، سببية بالأخص: هذا التمثل أو هذا الفكر جعل آخر ينبثق، هذا الاعتقاد أثار هذا الانفعال، هذه الرغبة أفرزت هذا الحكم، الخ.. بينما الثانية تقيم علاقات مثالية للإدماج (محتوى تمثل "إنسان" يتضمن في ذاته محتوى "حيوان")، للاستنتاج (محتوى الحكم "سقراط إنسان" ينطوي على محتوى "سقراط حيوان ")، للاتوافق المادي (محتوى الحكم " هذا السطح أحمر بشكل موحد "لا يتفق مع " هذا السطح أخضر بشكل موحد ") أو الصوري (محتوى الحكم " كل إنسان فان "لا يتفق مع" سقراط، وهو إنسان، خالد "). تلك علاقات مثالية من طبيعة مختلفة جدا عن العلاقات النفسية التكوينية التي تربط بين الأفعال العقلية التي تظهر فيها هذه المحتويات. وخلافا لما حاول التقليد التجريبي -الترابطي القيام به، لا يمكن الإلمام بكل هذه العلاقات المثالية بمجرد الإشارة إلى عادة وجود عدة تمثلات أو معتقدات، وهي عادة قد تكون أدت إلى الربط بينها بطريقة يؤدي معها فوريا وبانتظام ظهور واحد من هذه الأفعال العقلية إلى ظهور فعل عقلي آخر.
أن تستلزم قضية "كل إنسان فان" قضية " إذا كان سقراط إنسانا، فهو فان" فذلك لا يتوقف على ترابط بين تمثلات أو معتقدات يتعين القيام به في أي عقل كان؛ ذلك قانون منطقي، يهم المحتويات ذاتها للتمثلات والأحكام، وليس نتيجة لأي قوانين طبيعية محتملة تدبر ظهور وتعاقب أفعال التمثل أو الحكم. إذا لم يتوقف هذا القانون المنطقي على قوانين الترابط، فهو لا يتوقف بقدر أكبر على أداء الجهاز العصبي للجنس البشري ولا يفسر قوانين التطور التي انتقت هذا الأداء. القوانين المنطقية ليست منتجا طبيعيا للعادة أو التطور. إنها قوانين مثالية ستبقى صالحة حتى لو لم يوجد أحد ليفكر فيها، والتي لا يتفق التفكير الفعلي للناس معها الا جزئيا فقط؛ فكثيرا ما يرتكب الناس فعلا أخطاء في الاستدلال.
امتناع رد القوانين المنطقية إلى القوانين البسيكلولوجية واضح في البعد المعياري للأولى (مجموع المبادئ التي بموجبها يجب الاستدلال)، البعد الذي لا يتضمنه الوصف البسيط للعمل الفعلي للجهاز النفسي البشري (مجموع الطرق التي يفكر بها الناس فعلا). هكذا يورد هوسرل في « Prolégomènes » الكثير من نماذج المقاطع التي يستعمل فيها الكتاب بالفعل وبوضوح أقل أو أكثر، ضمن توصيفاتهم البسيكولوجية، المفاهيم المعيارية التي تفترض مسبقا صحة القوانين المنطقية، ظنا منهم أنهم يؤسسون المنطق على علم النفس. وهكذا، فأولئك الذين، مثل هيمانز أوسيغوارت، يؤكدون على أنه "في فعل التفكير، الإثبات والنفي يستبعدان"، ماذا يريدون أن يقولوا، إن لم يكن أنه " في الحكم الصحيح، ال نعم وال لا تسبعدان "؟ لكن، يقول هوسرل، هذه " قضية تعادل قانونا منطقيا ليس بسيكولوجيا في شيء ". أما بالنسبة للقضية " لا أحد يستطيع أن يعتقد في قضية متناقضة، لا أحد يستطيع أن يقبل أن الشيء نفسه يكون ولا يكون "، فهي، بهذا الشكل، صارت كاذبة لوجود حتى الخطأ والجنون: " هذا ما يتعين على شخص عاقل، بالطبع، أن يضيفه ".
وبالمثل، فإن عبارة "الأحكام المعترف بها على أنها متناقضة لا يمكن أن تتعايش في نفس الوقت في وعي واحد" هي بكل بساطة كاذبة، ما لم يتم بالطبع تفسير كلمة "الوعي" بمعنى "الوعي العادي". القانون "النفسي" لعدم التناقض، يقول هوسرل، " لا يدعي أنه ينطبق فقط على أفراد الجنس البشري العاديين وذوي الحالة العقلية العادية ". إذن، فهذه القوانين لا تأخذ بعين الاعتبارسوى الأداء العادي للفكر، وهذا يعني التفكير عندما يكون من المفترض أن يتطابق مع طبيعته الحقيقية، التي تعرف كيف تكون مستقلة وغير حاسة بالتأثيرات النفسية غير العادية والسلبية للانفعالات، للعادات، للميول الطبيعية أو للامبالاة. لكن هذه المعيارية الخبيئة في صياغة القوانين النفسية ضرورية بديهيا لكي نستخلص منها، كما يزعم الكتاب البسيكولوجيون، منطقًا إرشاديًا؛ فمن علم يقتصر على التحقق من الكيفية التي يفكر بها الناس، لا يمكننا بأي حال من الأحوال استنباط الكيفية التي يجب عليهم التفكير بها. على العكس من ذلك، فإن مثل هذه القوانين النفسية "الطبيعية" ستجعل المنطق الإرشادي غير ذي جدوى. إذا كان الناس يفكرون بشكل صحيح وطبيعي، سيكون من السخف أن نفرض عليهم المبادئ التي تدبر تفكيرهم بالفعل.
غير أن هذه الحجة حول معيارية المنطق، ليست هي جوهر نقد هوسرل للنزعة البسيكولوجية. إن أصالة " Prolégomènes " تكمن بالتحديد في إثبات أن هذه الحجة (التي كان كانط قد روج لها بالفعل لدحض هيوم) ليست كافية. من خلال الإصرار على البعد المعياري للمنطق، يستمر الاعتقاد أن المنطق يتعامل بشكل رئيسي مع الأفعال العقلية، إنه يعتزم أساسًا إملاء (وليس فقط وصف) الطريقة التي يجب أن يتلو كل منها الآخر، أن يتولد الواحد منها عن الآخر (من يرى أن "كل إنسان فان" وأن "سقراط إنسان" يجب أن يستنتج أن "سقراط فان"). لكن هذا البعد المعياري للمنطق يرتكز في الواقع على البعد المثالي: إذا كان يتعين الحكم بهذه الطريقة، فذلك لأن المحتويات التي وقع عليها الحكم إياه تقيم علاقات منطقية معينة. ومن ثم، فإن حجة معيارية المنطق تجانب الأساسي، وهو التمييز بين الأفعال العقلية ومحتوياتها. طالما أن اللابسيكولوجيين لم يركزوا سوى على البعد المعياري للمنطق، فقد كان من السهل على البسيكولوجيين الإجابة على ذلك بأن الأمر لايزال يتعلق دائما بالأفعال العقلية، بحيث كان على المنطق أن يتأسس على الأقل جزئيا على علم النفس. بيد أن المنطق يهتم أولاً بالعلاقات المثالية بين المحتويات. فهو لا يهتم بالأفعال العقلية إلا في وقت لاحق وعلى أساس استعداد الأخيرة للامتثال للقوانين المثالية. من أجل قياس المدى الكامل للنزعة البسيكولوجية، فإنه ليس كافياً بالتالي تعارض المنطق المعياري مع علم النفس؛ من الملائم أيضاً تمييز المنطق المثالي، الذي ينص على العلاقات بين المحتويات، عن المنطق المعياري، الذي يخطو بعد ذلك خطوة نحو علم النفس من خلال الاهتمام بالعلاقات التي يجب أن تقيمها الأفعال العقلية لأجل احترام هذه العلاقات المثالية.
سوف يكون لنقد النزعة البسيكولوجية تأثير حاسم على بنية " Recherches logiques "، التي تشكل امتدادا ل"Prolégomènes". ولقد تم تخصيص هذه الأبحاث قبل كل شيء لنظرية المعرفة. باعتباره وفيا لبرنتنو، لشتومبف ولأعماله التي أنجزها في مرحلة شبابه، كان هوسرل مايزال يفرد دائما مكانة مركزية لعلم النفس الوصفي. هذا الأخير لا يجب التخلي عنه. والسبب في ذلك أنه إذا كان من الملائم التمييز بوضوح بين الأفعال العقلية ومحتوياتها المثالية، فإن دراسة الأولى تظل ضرورية، لأنه بداخلها يمكن رؤية الثانية، وتكون ربما معطاة أيضا. نقد النزعة البسيكولوجية أدي إلى توزيع المهام: نظرية المعرفة تتطلب عملا إضافيا من المنطق، الذي ييؤصل المحتويات بمعناها المثالي، ومن علم النفس الوصفي الذي يصف الكيفية التي تستطيع أن تصير بها موضوعا للأفعال العقلية للتمثيل أو الحكم أو التقييم.
ج- المنطق ونظرية المعرفة
قاد نقد النزعة البسيكولوجية هوسرل إلى التخلي عن تصور المنطق كمبحث عملي، ذي صلة بالحكم، لصالح تصور نظري مفاده أن المنطق علم بديهي يهتم بالدلالات المثالية لمحتويات الأفعال العقلية. في " Prolégomènes "، عرفه على وجه التحديد بأنه " نظرية حول العلم "، المبحث الذي يدور حول "ما يجعل من العلوم بشكل عام علوما ". وبعبارة أخرى، فإن المنطق يهتم بشروط إمكانية علوم خاصة. ولكن إلى الحد الذي يسعى فيه إلى شروط الإمكانات المشتركة بين جميع العلوم، فإنه يتغاضى عما في هذه العلوم يجعل منها علوما خاصة اذا أردنا أن نأخذ في الاعتبار شكلها فقط. من وجهة النظر هاته، فإن المنطق قد يقتصر اهتمامه على العلوم " النظرية " أو العلوم المهتمة بقوانين الذهن nomologiques، أي العلوم التي تستمد مبدأ وحدتها من القوانين، في مقابل العلوم "العملية" أو " الأنطولوجية "، أي العلوم، مثل الجغرافيا أو التاريخ، التي تستمد مبدأ وحدتها من موضوعها، ما دام أن العلوم الأولى تملي شكلها على الثانية، وأن ما يجعل من هذه علوما يجب البحث عنه في تلك.
للمنطق الصوري إذن مهمة تحديد شكل النظريات النومولوجية. هذه هي مهمته الأكثر سموا. ولكن، لكي يكون قادراً على إدراك ذلك، يجب عليه أولاً أن يفي بمهمتين أخريين. النظرية هي مجموعة من القضايا. ومع ذلك، فإن العلم هو أكثر من مجرد مجموعة من القضايا. في العلوم، ترتبط القضايا ببعضها البعض عن طريق القوانين. أما بالنسبة للقضايا التي تتألف منها العلوم، فهي تتشكل وفقًا لقوانين معينة، طالما أن أي مجموعة من العبارات لا تشكل بالضرورة قضية. وهكذا تبدو المهمة الثانية للمنطق الصوري: من جهة، وضع القوانين التي تحكم تركيبة الأحكام في إطار جمل تتمتع بالوحدة، ومن ناحية أخرى، القوانين التي تحكم تسلسل الأحكام، والتي تؤدي إلى هذا النوع من كل ما يمكن أن يسمى نظرية علمية. وأخيرا، لا تزال هناك مهمة ثالثة وأخيرة، وهي المهمة الأكثر أهمية، والتي تتمثل في تحديد "المفاهيم الأساسية الأولية" التي يتم فيها إرساء القوانين الموضحة في المهمة الثانية. إنما في هذه القوانين والمفاهيم يتم العثور على شروط إمكانية العلم بشكل عام.
ترتبط هذه المهام الثلاثة بشكل العبارات، وبشكل الأحكام قبل كل شيء، بغض النظر عن أي مادة، عن أي محتوى ملموس. من جهة أخرى، يؤكد هوسرل أن ما هو صوري لا يكمن في العبارات فقط، ولكنه موجود أيضًا في الأشياء. هناك، إذن، ثلاث مهام تتطابق مع تلك التي حددناها للتو: أولاً، توضيح المفاهيم الأولية التي تتعلق بشكل الشيء، أي ما يسميه هوسرل " المقولات" العينية الصورية "؛ ثم وضع القوانين الراسية في هذه المقولات؛ أخيرا، إقامة نظرية حول التعددات. رغم طابعها الأنطولوجي، تنتمي هذه المهام الثلاثة للمنطق الصوري، بل للمنطق الصوري المفهوم بمعناه الواسع: الأساس الكوني للمعرفة في كل المجالات العلمية (mathesis universalis)، الذي يشمل المنطق الصوري بالمعنى الضيق وما أسماه هوسرل ب" الأنطولوجيا الصورية ".
من الأفكار المبتكرة ضمن التصور الهوسرلي للمنطق تفييئه. يتكون المنطق الصوري من عدة طبقات، الطبقات العليا تعتمد على الطبقات السفلى. يشكل " النحو المنطقي الخالص " الطبقة الأولى من المنطق الصوري التي حددها هوسرل. وقد جرى تطويرها بشكل موسع في البحث الرابع من " الأبحاث المنطقية "، الذي يحدد قوانين ارتباط وحدات الدلالة في ما بينها. مثلا، يمكنني أن أربط اسمًا ، ليكن "سقراط" بمحمول، ليكن " فيلسوف "، لتكوين جملة ذات معنى ، أي "سقراط فيلسوف". بالمثل ، أستطيع أن أربط الجملة "سقراط هو فيلسوف" بجملة أخرى، لتكن "سقراط هو معلم أفلاطون"، بواسطة واو العطف لتشكيل جملة ثالثة: " سقراط فيلسوف وسقراط هو معلم أفلاطون ". من ناحية أخرى ، فإن ربط "سقراط" بالوصل والفصل يعطينا جملة - " سقراط و أو " - هي، في هذه المرة ، غير ذات معنى، في حين أن لكل جزء من أجزائها معنى واحد. إذن، هناك قوانين تحكم ربط جمل ذات معنى بجمل من مرتبة عليا هي أيضا ذات معنى. يعود أمر إبراز هذه القوانين تحديدا إلى النحو المنطقي الخالص. بالنسبة إلى هوسرل، تترسخ القوانين المعنية في بعض الأشكال الأساسية التي يسميها " مقولات الدلالة ": أشكال الموضوع ، المحمول، الحكم ، ولكن أيضًا أشكال وصلية، فصلية، شرطية، الخ.. . من خصائص الجمع بين هذه الأشكال "التكرار". مثلا، يمكنني تشكيل عبارة "p و q" من خلال الجمع بين الجملتين "p" و "q" عن طريق الربط، ولكن يمكنني أيضًا استخدام نتيجة هذا الجمع لتشكيل جملة أخرى بدمجها مع عبارة "s" للحصول على "p و q و s"، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
يستبعد النحو المنطقي الخالص لـدى هوسرل تشكيل " اللامعنى " (Unsinn). هذا الأخير لا ينبغي الخلط بينه وبين ما يسميه هوسرل " المعنى المضاد (Widersinn). مثلا، " سقراط و أو " كلام فارغ لأنه لا معنى له. من ناحية أخرى، فإن عبارة " الدائرة المربعة " ذات معنى تماما، لكنه معنى مضاد. إنه معنى مضاد، لأنه بحكم دلالته، لا شيء يمكن أن يطابقه. مع التمييز بين اللامعنى والمعنى المضاد، يظهر مستوى ثانٍ من التسلسل الهرمي المنطقي، ألا وهو المستوى الذي سوف يقسمه هوسرل بشكل أكثر دقة إلى قسمين في "المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي " Logique formelle et logique transcendantale. أولا لدينا "منطق عدم التناقض". على هذا المستوى، يتعلق الأمر بوضع قوانين توافق عبارات ذات معنى مترابطة ضمن جمل هي نفسها ذات معنى. مثلا، سوف يتعلق الأمر هنا باستبعاد عبارة مثل " p و لاp " أو " الa الذي ليس a ". غير أن هذا المنطق لا يتناول فقط عدم التناقض الصوري للأحكام، ولكن أيضا نتائجها. هكذا سيضع أنماط الاستدلال، مثل: -modus ponens*:
إذا p، فان q
لكن p
________________
اذن q
تجدر الإشارة إلى أنه في استدلال من هذا النوع فإن صدق أو كذب الأحكام "p" و "q" لا دخل لهما بأي حال من الأحوال. الصدق والكذب لا يؤخذان في الاعتبار إلا في المستوى الثالث للمنطق الصوري؛ المستوى الذي حدده هوسرل: "منطق الحقيقة". في هذا المنطق، ما يهم ليس الحقيقة الفعلية للأحكام، ولكن فقط حقيقتها الممكنة. سوف يقتضي العكس الاهتمام بمادة الأحكام، بمحتواها الملموس، حيث يقتصر المنطق الصوري، كما يشير اسمه، على مستوى الشكل. في إطار منطق الحقيقة، سنضع، مثلا، المعادلات الدلالية التالية لقاعدة modus ponens المعروضة في منطق عدم التناقض:
" اذا p، فان q " صادقة
لكن " p " صادقة
________________
اذن " q " صادقة
الشيء الوحيد المهم في هذه الاستدلالات هو العلاقة الاستنتاجية التي يمكن أن نقيمها على أساس الصدق أو الكذب المحتمل للمقدمات، وليس صدقها أو كذبها الفعلي.
* قاعدة منطقية مفادها أنه اذا كانت القضية A تقتضي القضية B، تكون A صادقة إذا كانت B صادقة، وتكون A كاذبة إذا كانت B كاذبة.
3- المعنى
أ- المعنى كنوع مثالي
إن ما يحفز النزعة اللابسيكولوجية عند هوسرل في Recherches logiques هو الاعتقاد بأن المنطق لا يتعامل مع الأفعال العقلية، بل مع معان مثالية موجودة في محتوياتها. لكن فيم يتمثل بالضبط هذا المعنى؟ يحاول البحث الأول من الكتاب المشار اليه قبل حين الإجابة عن هذا السؤال. يبدأ هوسرل بأن حلل طيه مفهوم "العلامة". تساعدنا العلامات في المقام الأول على التواصل. مثلا، نتلفظ بجملة ومن خلالها "نظهر" لمخاطبنا بأن حكمًا معينًا حدث في داخلنا. من أجل كل ذلك، لا يشكل هذا الفعل العقلي (فعل الحكم) بالنسبة لـهوسرل معنى لهذا الملفوظ. إن وظيفة الإحالة إلى شيء ما، والتي تشكل الوصمة المميزة للعلامات، لا تتماهى مع وظيفة الدلالة. لكي تحصل علامة على معنى، لكي تشكل " عبارة " بشكل صحيح، هناك حاجة إلى شيء أكثر من مجرد تجسيد فعل عقلي. إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن العبارة قد تفقد معناها بمجرد توقف استخدامه للتواصل مع الآخرين.
على الرغم من أن معنى العبارة لا ينحصر في الفعل العقلي الذي يتجلى في هذه العبارة، فإن الوعي ليس غريباً بالمرة عنه. وفقا لهوسرل، يتم منح المعنى لعبارة ما بفضل "فعل الدلالة"، "فعل القصد". من هنا، تكتسب العبارة علاقة بشيء ما. هذا لأن فعل الدلالة "مقصود": فهو يهدف إلى شيء ما. يجب عدم الخلط بين معنى العبارة وبين هذا الشيء. بواسطة فعل الدلالة، نحن نهدف إلى شيء ما بقول شيء ما في شأنه، وما قد نعنيه قد يكون مختلفا من فعل إلى آخر. هكذا قد يكون لبعض العبارات معان مختلفة ومع ذلك تشير إلى نفس الشيء. هذه، مثلا، هي حالة العبارتين الاسميتين: "المنتصر في يينا" و "المنهزم في واترلو"، وكلاهما يحيل إلى نابليون، ولكن عن طريق معان مختلفة. ما يميز هذه الأفعال المقصودة، التي هي أفعال الدلالة المرتبطة بهاتين العبارتين، هو "مادتها" (Materie). هذه الأخيرة هي ما يعطي للفعل توجهه إلى شيء ما، بحيث نهدف إليه بهذه الطريقة أو بتلك، وليس بطريقة أخرى.
كل اسم يسمي شيئا معينا وهذا لا ينبغي الخلط بينه وبين معنى هذا الاسم. ماذا عن الملفوظ؟ يجب أن نميز بين ما يقوله الملفوظ وبين الذي قال عنه الملفوظ . مثلا، في الملفوظ "انهزم نابليون في واترلوو"، الذي قيل أنه انهزم في واترلوو هو نابليون، لكن ما قيل هو أنه انهزم في واترلو. لدينا هنا شيئان، أو بالأحرى شيئيتان، أي شيئان بالمعنى الواسع للكلمة. لدينا، من جهة الشيء الذي يدل عليه الملفوظ - نابليون - ومن ناحية أخرى، المتضايف الشيئي للملفوظ أو ما يمكن أن نسميه أيضًا موضوع الملفوظ - انهزم نابليون في واترلو. موضوع الملفوظ هذا هو ما يسميه هوسرل " الوقائع " (Sachverhalt). كل ملفوظ ذو معنى له متضايف شيئي من هذا النوع لا يجب الخلط بينه وبين معناه. عندما يتحقق ذلك، تكون هذه الحالة واقعية.
الكلمة أو الملفوظ يعني شيئًا، فهو يحيل من خلال قصد معين للدلالة إلى متضايف شيئي. ولكن هناك حالات يظهر فيها فعل الدلالة مرتبطا بعبارة غير قادرة على استهداف أي شيء كان، لأنه لا يمكن بشكل قبلي أن يوجد فيها أي شيء يطابق هذا الهدف. هذه هي، مثلا، حالة عبارة "الدائرة المربعة" التي، وإن كانت ذات معنى، تجمع بين معنيين متناقضين ولا تبدو لهذا السبب أنها تحيل إلى أي شيء. في هذه الحالة، يقول هوسرل، يكون قصد الدلالة غير "مستوفى"، هناك هدف في الفراغ. في المقابل، يكون قصد الدلالة مستوفى عندما يكون شيء معطى متوافقا معه بشكل حدسي. هذا العطاء الحدسي للشيء يمكن أن يتم بواسطة الإدراك، مثلا عندما أدرك شخصا مسمى باسم، ولكن يمكن أيضا أن يتم بواسطة الذاكرة، إذا كان ذلك الشخص غائبا، أو بالخيال ، إذا كان الشيء المسمى بهذا الاسم خياليًا. ما توضحه حالة عبارة مثل "الدائرة المربعة" هو أن معنى العبارة لا يتطابق أبدا مع المعطى الحدسي لمتضايفه الشيئي، ما دام أن "الدائرة المربعة" ذات معنى، لكن فعل الدلالة المترابط معها لا يمكن أبداً أن يتحقق بشكل حدسي.
إذا لم يتم تحديد المعنى بالمعاش المتجلي من خلال العبارة، ولا بمتضايفه الشيئي، ولا بالمعطى الحدسي لهذا المتضايف، فكيف يتم تمييزه؟ نحن نريد قول أشياء معينة من خلال العبارات التي نستخدمها. هذا هو بالضبط حقيقة أن عباراتنا تريد قول شيء يجعلها ذات معنى. لكن المعنى يمكن أن يكون هو نفسه في العديد من أفعال الدلالة. عادة ما نريد أن نقول الشيء نفسه عندما نستخدم نفس العبارة. حسب هوسرل، يجب فهم هذه الوحدة لمعنى العبارة نفسه بطريقة مشابهة لوحدة الأحمر المثالي الذي يتم توكيده بظلال فردية مختلفة من اللون الأحمر. وحدة المعنى، اذن، مثالية من ناحية، بمعنى أنها خالدة. من ناحية أخرى، هي محددة بحيث تكون نفس المعنى الذي نجده في العديد من أفعال الدلالة، وبشكل أكثر دقة في مادتها.
ب- المعنى كشيء مقصود
على الرغم من أنها ذات معنى، فإن العبارة مثل "الدائرة المربعة" تجمع بين معنيين متناقضين فيما بينهما. من هنا، لا شيء يمكن أن يأتي لاستيفاء قصد الدلالة المتضايف معها. يبدو أن هذه القصد يهدف إلى شيء ما. عندما يتحدث شخصان عن الدائرة المربعة، يبدو أنهما يتحدثان عن الشيء نفسه. هذه الصعوبة التي أثارتها نظرية المعنى في Recherches logiques يمكن مع ذلك التغلب عليها بسهولة إذا ما ميزنا "الشيء المقصود" المستهدف بفعل الدلالة عن "الشيء الخالص والبسيط" الذي يأتي في النهاية لتحقيق هذا الهدف بشكل حدسي.
هذا بالضبط ما فعله هوسرل في كتابه Leçons sur la théorie de la signification الصادر عام 1908. لنأخذ كمثال العبارتين: "المنتصر في يينا" و "المنهزم في واترلو". كلاهما يسميان نفس الشخص، وهو نابليون، لكنهما لا تسميانه بنفس الطريقة. نحن إذن لا نتعامل في الحالتين مع نفس الشيء المقصود: في الأولى، يتعلق الأمر بنابليون باعتباره منتصرا في يينا، وفي الثانية، بنابليون بوصفه منهزما في واترلو. في حين أن الشيء الخالص والبسيط الذي هو نابليون مستقل عن الوعي، وهذا ليس هو الحال مع الأشياء المقصودة التي هي نابليون كمنتصر في يينا ونابليون كمنهزم في واترلو. وفقا لهوسرل، يمكن لهذه الأشياء المقصودة أن ترقى الى دلالات. إنها تشكل ما يسميه بالدلالة "الفينومينولوجية" أو "الكينونية" للعبارات التي ترتبط بها، في تعارض مع الدلالة "الفينولوجية" (الظواهرية) أو « phansique »، التي ليست شيئا أخر غير الدلالة بمعنى وحدة مثالية مثبّتة في العديد من الأفعال المانحة للدلالة، والتي شرحناها في القسم السابق.
الدلالة بالمعنى الفينومينولوجي "موضوع مقولاتي"، شيء يترجم بطريقة ما الطريقة التي يستهدف بها الموضوع الخالص والبسيط. إنها موضوع مقولاتي بحيث يتم تشكيلها من خلال نشاط عقلي مقولاتي.
يمكن للتمييز بين المعنى الفينومينولوجي والمتضايف الشيئي الخالص والبسيط أن يمتد إلى حالة الملفوظات. لنأخذ مثلا الملفوطين: « a > b » et « b < a ». كلاهما لهما نفس المتضايف الشيئي الخالص والبسيط، وهو ما يسميه هوسرل "وضع الأشياء" (Sachlage) الذي يعني أن a أكبر من b. يجب تمييز هذه الشيئية الخالصة والبسيطة عن حالة الأشياء التي هي a أكبر من b وعن حالة الأشياء التي هي b أصغر من a، وهما موضوعان مقولاتيان مختلفان وتشكلان المعنيين الفينومينولوجيين للملفوظين: "a> b " و " b <a ". هوسرل يدعو هنا "وضع الأشياء" ما أسماه "حالة الأشياء" في Recherches logiques.
سوف يحتل ظهور المفهوم الفينومينولوجي للمعنى مكانًا فريدًا في التطور الفلسفي لـهوسرل. سينتهي به الأمر ليس فقط الى ازاحة المفهوم الظواهري للمعنى، ولكن أيضا الى توليد المفهوم المركزي ل"noème" (الموضوع القصدي لهدف الفكر) (انظر القسم [5.د])، الذي يشكل مسودته الأولى.
(يتبع)
عن: L'encyclopédie philosophique