"نعم أنا شخص خطير، لكنني لست كذلك إلا لكوني أتصدى بالنقد للميثاق الليبرالي المسيطر. وهذا هو الممنوع على الناس أن يخوضوا فيه" سلافوي جيجيك
تقديم
يبدو إسم الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك شبه مجهول بالنسبة للعديد من المهتمين بالفكر الفلسفي المعاصر في الضفة الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط. لكن صوته مسموع في الضفة الشمالية، عبر حضوره الفكري والإعلامي والأكاديمي الفاعل، وتنوع اهتماماته الفلسفية، حتى وصف ب:"الفيلسوف المتعولم" و"الفيلسوف الأكثر خطرا في الغرب"(1). من جهتي أعتبر أن خطورته نابعة من قوة انتقاده للنظام الرأسمالي وللأسس التي يرتكز عليها كالليبرالية والديمقراطية. إذ أن تمسكه بالإشتراكية والشيوعية، وإيمانه بالفلسفة الألمانية كبديل منافس لليبرالية الرأسمالية، يجعله من بين المفكرين القلائل الذين لازالوا يؤمنون بدور الفكر الماركسي في اقتراح بديل راديكالي للإيديولوجيا الليبرالية وللنظام الرأسمالي نفسه. أتوخى من هذه المقالة، مشاركة القارئ في الإطلاع على بعض أفكار هذا الرجل "الخطير"، أملا في التقاط تلك الإشارات الغامضة الآتية من المستقبل.
جيجيك: من الطموح السياسي إلى نقد الإيديولوجيا الليبرالية
يمكن اعتبار ترشح سلافوي جيجيك للإنتخابات الرئاسية في بلده سلوفينيا، ممثلا للحزب الديمقراطي الليبرالي، أقوى لحظة في مساره السياسي، رغم انتقاده الواضح والشرس لمبادئ الليبرالية وقواعد النظام الرأسمالي. لكن المثير في حياة جيجيك، هو مساره الفكري والفلسفي وأسئلته المحرقة التي يواجه بها حاضرنا المأزوم، والمهام الملقاة على كل فكر نقدي.
في خطوة مناقضة لما دأب عليه التحليل الماركسي، أكد جيجيك على ضرورة العودة إلى التفكير في عالمنا المعاصر وتفسيره، فالمهمة الآن هي مساءلة النظم الإيديولوجية المسيطرة. ذلك أن إخفاق الحركات المعادية والمناهضة للنظام الرأسمالي وهيمنته الإقتصادية والمالية، قد كشف عن قصور في فهم آليات اشتغال هذا النظام وسر قوته واستمراره، وعن ضعف في تطبيق الإيديولوجيات "الثورية" في الواقع العملي. يشدد جيجيك على فعالية الإيديولوجية الليبراية وتجددها، خاصة منذ تسعينات القرن الماضي، والتي أعطت "وعيا كلبيا" بلغة معينة، أو "وعيا متبجحا"، بلغة أخرى، حيث الإنسان يخدع ذاته واعيا، كما لو كان قد ارتضى بما يحصل عليه ويعلن عنه رضاه، من دون النظر إلى شكله ومضمونه(2). فشعارات محاربة الفقر والعنصرية والإرهاب، والإنتخابات النزيهة والإصلاح والتنمية، شوشت على كثير من الأفكار التي كانت تدعو إلى ضرورة القضاء على الرأسمالية، والإنتقال الحتمي إلى الإشتراكية، ثم إلى الشيوعية. لذلك يدعو جيجيك إلى التشبث بالفرضية الشيوعية، من أجل المساعدة على تجريب نمطها السياسي، وليكن انطلاق عملية التجريب من خلال الضحك على فكرة فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ". يرى جيجيك أن معظم الناس اليوم فوكوياميين، يقبلون بالرأسمالية الديمقراطية الليبرالية بوصفها الصيغة التي وجدت أخيرا لأفضل محتمع ممكن. على هذا النحو، فكل ما يمكن للمرء فعله هو محاولة جعلها أكثر عدلا وتسامحا(3). لكن يجب التأكيد على أن عملية إعادة إنتاج الرأسمالية، كانت تتطلب دوما وباستمرار استنزاف الثروات الطبيعية وهدمها، والمعاناة الجماعية، والظلم والحروب...إلخ(4). في هذا السياق، يطرح جيجيك سؤالا وحيدا حقيقيا وهو:
هل نصادق على الأقلمة السائدة للرأسمالية، أو أن الرأسمالية العالمية الحالية تحتوي على عوامل مضادة لها من القوة ما يكفي لمنع إنتاجها غير المحدود؟(5).
كيفية عمل الإيديولوجيا الليبرالية لمواجهة منتقديها وخصومها
تشتغل الإيديولوجيا الليبرالية، حسب سلافوي جيجيك، على ثلاث جبهات أساسية، تبدو الأكثر خطورة :
أولا: جبهة حق النقد الحر دون المساس بالإجماع:
يتأسس حق النقد على حرية القول والكتابة، لكن بشرط –يؤكد جيجيك- أن تفعل ما تفعله دون أن تنقض بشكل فعال أو تعيق الإجماع السياسي المهيمن. كل شئ متاح بل مرحب به بوصفه موضوعة نقدية؛ آفاق الكارثة البيئية العالمية، انتهاك حقوق الإنسان، التمييز على أساس الجنس، معاداة المثليين، مناهضة النساء، العنف المتزايد ليس فقط في البلاد البعيدة بل في مدننا العملاقة، الفجوة بين العالم الأول والعالم الثالث، بين الفقراء والأغنياء والتأثيرات المحطمة للعالم الرقمي في حياتنا اليومية(6). لكن هذه الحرية المشروطة، لا ترتكز على قوانين أو محظورات، بل هي مجموعة من التحديرات منتقاة بعناية من التاريخ الرسمي، تم صقلها وتشذيبها في المؤسسات الإيديولوجية والثقافية الليبرالية حثى أصبحت "حقائق مطلقة"، مدعومة بإجماع سياسي وإعلامي. يرجع جيجيك إلى فثرة الستينات من القرن العشرين، ليذكر بتلك اللحظات التي يبدي فيها المرء أية إشارة بسيطة للإنخراط في عمل يهدف إلى تحدي جدي للنظام القائم. سيكون الجواب حاضرا (وليكن جوابا خيرا )؛ إن ما تفعله سيؤدي حتما إلى معسكرات جولاغ جديدة. إن الوظيفة الإيديولوجية لهذه الإحالات المتكررة إلى المحرقة والغولاغ وكوارث العالم الثالث المعاصرة(7) هي التذكير مع التنبيه، لمنع الناس من التفكير، والحفاظ على الإجماع الليبرالي الحاضر، وإقصاء كل محاولة جدية لانتقاد النظام السياسي والإجتماعي المهيمن، وكل نظرية ممكن أن تقوم بوظيفة فعالة في الصراع الإجتماعي الراهن. هكذا يدرك البشر تمام الإدراك أنه توجد إيديولوجيا كونية غالبة تخدعهم، تستغلهم، وما شابه، لكنهم لا يتخلون عنها. فلسان حال الكائن المتشكك أنه ما دام أن الإثراء والسرقة يحميهما القانون فلا جدوى من معاكسة السلطة(8). هكذا يصير الناس غافلين عن الوهم الناظم لنشاطهم المجتمعي الحقيقي(9).
ثانيا: جبهة البحث الأكاديمي ومنع التفكير:
يكشف جيجيك عن طريقة تحكم الأكاديمية الأمريكية في بعض المواضيع ذات الإنتشار الإعلامي و"العلمي" في الولايات المتحدة الأمريكية، كالدراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات المثلية الجنسية. فبالنسبة للدراسات الما بعد كولونيالية مثلا، فهي تترجم إلى إشكالية حضارية متعددة لحق الاقليات المستعمرة في رواية تجاربها بوصفها ضحية، وإلى إشكالية آليات السيطرة على الآخر وكبث الآخروية، مما يقود في نهاية المطاف إلى الإستنتاج بأن جذور التمدد الإستعماري تكمن في عدم تقبلنا للآخر الموجود داخلنا، إنه عدم قابليتنا مواجهة ما قد تم كبته داخل نفوسنا، ليتحول هذا الصراع الإقتصادي-السياسي، ودون أن نلحظ ذلك، إلى مسرحية درامية شبه-نفس- تحليلية لذات غير قادرة على مواجهة صدماتها النفسية. إن الفساد الحقيقي للأكاديميا الأمريكية ليس الإفساد المالي تحديدا، وليس فقط أنهم يستطيعون شراء العديد من المفكرين النقديين الأوربيين (بما فيهم أنا إلى حد ما) بل هو فساد على مستوى المفاهيم إذ تتحول أفكار النظرية النقدية الأوربية ، بعيدا عن الأعين، إلى موضوعات لطيفة صيغت وفق موضة الدراسات الثقاقية الأنيقة(10). واليوم لا شئ أسهل من الحصول على تمويل عالمي، حكومي أو مؤسساتي لأبحاث متعددة الإختصاصات حول كيف يجب ممارسة الأشكال الجديدة للعنف الإثني الديني والجندري: المشكلة أن كل هذا يجري على قاعدة عدم التفكيرو منع التفكير. ويؤكد جيجيك على أن المحافظة على الهيمنة الديمقراطية-الليبرالية، اليومن تتم بواسطة هذه القاعدة الغير المكتوبة، قاعدة "عدم التفكير"(12).
ثالثا: جبهة احتواء اليسار:
يمكن التأكيد على أن هذه الجبهة الثالثة، هي نموذج انتصار النظام الرأسمالي وإيديولوجيته الليبرالية، ذلك أن الصراع التاريخي بين المنظومتيين الإيديولوجيتين التي طبعت الحرب الباردة قد أفضت إلى الإعلان عن المنتصر، واحتفاله بنهاية التاريخ. فمنذ بداية التسعينات من القرن العشرين، أخذت اليسار يتراجع عن مواقع احتلها إيديولوجيا وسياسيا منذ نجاح "ثورة أكتوبر"، بل أصبح يتخذ المواقع الفارغة -يقول جيجيك- التي لا تلزمه باتخاذ أي موقف محدد، أي الوقوف على هامش القوى الفاعلة في المشهد السياسي الحالي من ليبراليين ومحافظين، خاصة مع قائمة المطالب الإجتماعية التي ناضل من أجلها اليسار، وأصبحت الآن جزءا من الإجماع الليبرالي (على الأقل في دول الرفاه الإجتماعي)، من هنا تأتي صعوبة تقديم بديل باسم اليسار.
من أجل نظام سياسي واجتماعي مختلف: الأمل في الثورة السياسية
يؤمن سلافوي جيجيك بإمكانية التغيير الجذري، ويركز أكثر على التناقضات الكامنة في الرأسمالية الكونية التي يمكن أن تعيق إعادة الإنتاج المتواصلة لرأس المال، ويتمثل ذلك في أربع تناقضات:
-التناقضات الثلاثة الأولى: تتمثل في خصخصة «المشاعات» حسب تعبير مايكل هارت وأنطونيو نيغري (أي المواد والفضاءات التي يتقاسمها جميع البشر):
الملكية الفكرية بما هي ملكية فردية، أو خصخصة «الأشكال التشاركية لرأس المال المعرفي» أي اللغة.
الكارثة البيئية، أو خصخصة الطبيعة الخارجية (عن طريق الإبادة التدريجية للغابات والبيئات الطبيعية لأغراض استخراج الموارد).
علم التعديلات الوراثيات، أي خصخصة الطبيعة الداخلية، أو الكيان الباطني للبشر.
-التناقض الرابع: يتمثل في الشكل الجديد من التمييز العنصري الإجتماعي، أي الفصل الإجتماعي والجسدي بين "المستبعدين" و"المستوعبين" وإبراز ما يظهر في المراكز المدينية حيث التواصل الفعلي بين مستوعبين ومستبعدين. في هذه الحالة، تجري خصخصة المجتمع الدولتي، أي المدى حيث تشتغل فيه الدولة، (والمقصود أن يجري حصره بعدد محدود من البشر) ويرى أن المستبعدين يشكلون خطر الإنتهاك. إن المستبعدين هم بروليتاريا أيامنا هذه «إنهم الذوات التحريرية في نهاية المطاف...وهم أعضاء جماعة لا يملكون مكانا محددا أو هوية معينة داخل هذه أو تلك»(13).
يعتقد سلافوي جيجيك، أن الأمل في تغيير جذري يقع على عاتق المستبعدين، تلك الفئات الإجتماعية التي تفتقر إلى موقع محدد «في النظام الخاص للتراتب الإجتماعي». ولا يجوز-ينبه جيجيك- الخلط بين هذه الفكرة عن المستبعدين وبين التعريف الديمقراطي الليبرالي للمستبعدين بما هم «أصوات الأقلية» ) أي جميع الأقليات الدينية والثقافية والجنسية المطلوب التسامح معها أو حمايتها) وهو خلط يفقد التناقض طابعه السياسي ويحجب مضمونه التناقضي(14). يراهن جيجيك إذن، على المستبعدين وعلى التضامن الكوني الذي يمكن أن تبدبه فصائل اجتماعية معادية للرأسمالية ولرأس المال، من نسويين وبيئيين ومزارعي العالم الثالث. فهذا "التضامن الأصيل" حيوي في ما يسمى ب «عصر ما بعد السياسة» حيث يجرى خفض السياسة إلى مجرد تنازلات تفاوضية ومعاملات إدارية. ما تتقاسمه هذه الفصائل الإجتماعية هو وعيها بالدمار المحتمل، الذي يمكن أن يتضمن الإبادة الذاتية للبشرية نفسها، وشعورها بالإختزال إلى مواضيع مجردة تخلو من كل محتوى جوهري، ومطرودة من جوهرها الرمزي، ومزروعة في بيئة غير صالحة للحياة، فنحن جميعا مستبعدون من الطبيعة كما من جوهرنا الرمزي، يؤكد سلافوي جيجيك.
لكل هذا، يدعو جيجيك إلى التحرك وقائيا، عن طريق التفكير الحقيقيي والحر في المشاكل الكبرى لعالمنا العاصر (الإنهيار البيئي، الإختزال الوراثي للبشر إلى آلات يتم التلاعب بها، التحكم الرقمي بحياتنا )، ومساءلة الإجماع الديمقراطي الليبرالي والما بعد حداثي، والإنفتاح على المستقبل.
فنحن لا نعرف ماذا يمكن أن ينقدنا، لكن علينا أن نعمل في حقول مختلفة لنبحث عنه(15)-يقول جيجيك- وأثناء بحثتنا، من اللازم أن نظل منفتحين على الإحتمالات غير المتوقعة، وأن نقبل تماما هذا الإنفتاح ولا نقود أنفسنا إلى شئ أكثر من الإشارات الغامضة القادمة من المستقبل(16).
الهوامش:
1-محمد حجيري: سلافوي جيجيك...الفيلسوف النيوماركسي "الأكثر خطرا في الغرب"، موقع الأوان، 13 ماي 2015.
2- فيصل دراج: تقديم كتاب "بعد المأساة، تأتي الملهاة أو كيف يكرر التاريخ نفسه" لسلافوي جيجيك، انظر
http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/mustaqbal_415_faisel
3- سلافوي جيجيك:بداية كمأساة وأخرى كمهزلة، ترجمة أماني لازار، طوى للثقافة والنشر والإعلام، لندن، الطبعة الأولى، 2015، ص36.
5-سلافوي جيجيك: سنة الأحلام الخطيرة، ترجمة أمير زكي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، لبنان، 2013، الفصل الثاني، مقالة: من السيطرة إلى الإستغلال والثورة، (كتاب غير مرقم).
6- سلافوي جيجيك:بداية كمأساة وأخرى كمهزلة، ص140.
7-سلافوي جيجيك: خيار لينين، ترجمة هشام روحانا، موقع الحوار المتمدن، عدد 4319، 28 دجنبر 2013. يقول جيجيك:"ففيما قام المرء بالعمل المباشر فإن هذا العمل لن يتم في الفراغ بل سيكون فعلا يقوم داخل إحداثيات الإيديولوجيا المسيطرة، وهؤلاء الذين يريدون المساعدة والمشاركة بالمآثر (وهم بدون شك مشرفون) كحملات "أطباء بلا حدود" و"كرين-بيس" والنسويات وحملات مناهضة العنصرية، وجميعها يحظى ليس بالتسامح فقط بل وأنها تحظى أيضا بدعم الإعلام حتى ولو قام بعضها بتجاوز الحدود نحو المسائل الإقتصادية (كالحملات المناهضة للشركات التي تلوث البيئة أو تستغل عمل الأطفال). إنها تظل مقبولة بل ويقدم لها الدعم ما دامت لا تتخطى حدودا معينة(نفس المرجع).
8- سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
9- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، العدد الثاني، صيف 2012، النسخة الإليكترونية،
http://www.bidayatmag.com/node/334.
10- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، مرجع سابق.
11- سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
12--سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
13- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، مرجع سابق.
14- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات.
15-سلافوي جيجيك: اليسار ينقصه أن يقدم بديلا، حوار لولا جالان، ترجمة أحمد عبد اللطيف، .https://arar.facebook.com/notes/akhbar-aladab-أخبار-الأدب،/76185
16- سلافوي جيجيك: سنة الأحلام الخطيرة، مرجع سابق، أنظر خاتمة الكتاب: إشارات من المستقبل.