لا تخلو لغة من الضمائر و لا تخلو الضمائر بدورها من الإحالة إلى ثلاثة : ضمير المتكلَم "أنا" و ضمير المخاطب "أنت" و ضمير الغائب "هو" . هكذا قدَ الخطاب و هو في الحقيقة ما به يبني الإنسان علاقته بالعالم إذ أننا نفكَر داخل اللغة أو لكأن العالم لغة. غير أن الإشكال لا يتعلَق بالضمائر و لا بطبيعة الخطاب بل بطبيعة العلاقة التي تربط بين هذه الضمائر الأساسيَة فمن يقول "أنت" أو "هو" إنما يميَز بذلك بينه و بين آخر ليس هو و بالتالي يتعلَق الأمر أساسا بهذا الذي يقول "أنا" فيضع بينه و بين العالم وسائط تختلف باختلاف العلاقة بين الأنا و الآخر. فمن هو هذا الآخر الذي نشير إليه لغة بكل ما تحمله هذه الكلمة من عمق أنتولوجي و فينومينولوجي ؟ و بأي وجه نقصد الآخر ؟ ألا تجعل منه هذه القصديَة صورة ؟ فما شكل تجليات هذه الصورة؟ ألا يعني بذلك أن الآخر لا يوجد إلا إذا أشار إليه الأنا و بالتالي يصير الآخر صورة مسقطة للأنا ؟ ألا يمكن أن يتحرر الآخر من ربقة الصورة فتمَحي الفواصل الرمزيَة و هذا ما نجده في أقصى العلاقات الإنسانية اشتباكا كالحب مثلا ؟
أليس التحرر الأقصى للآخر من الصورة عائدا في الحقيقة إلى تحرره من هيئة الموجود فيصير بالتالي هذا الآخر وجودا لا نعرف عنه شيئا؟
ليس الآخر محور الإشكاليات بل العبارة التي يستفزنا بها الموضوع و هي " صورة الآخر" فالصورة هي رمز , مظهر يتراءى لنا و موضوع لا يمرَ وجوده مرورا عابرا بل يستوقفنا و تلك هي وظيفة الصورة. أما أن يكون الآخر صورة فذلك يضاعف من المشكل إذ يتعلقَ الأمر حينها بالآخر كصورة و بمتلقي الصورة الذي هو بدوره صورة بالنسبة لهذا الآخر. إن المسألة هنا إنما هي مسألة تموضع متبادل فالآخر هو المغاير لي أي هو وجود لا أملكه و بالتالي فانه يفلت دائما من قبضة التعريف و لعلَ ذلك ما جعلنا نضعه في "صورة" تموضعه فتجعله قابلا للمعرفة. تنبت إذا العلاقة بالآخر في فضاء جهل متبادل و تنبني على سلب من الطرفين فإما أنني أوجد و لا يوجد هذا الآخر و إما أنني أوجد قبالة آخر أدركه بشكل ما أي أضعه في صورة ما. فما هي هذه الصورة ؟
تبدو صورة الآخر غائبة في البداية إذ هو وجود غائب عني أي يفتقر لماهيَة ثابتة و بالتالي فان صورته تمرَ أولا بالنفي . انه ما ليس أنا و هذا ما يقود الآخر إلى رتبة العبد أحيانا فالسيَد عند هيجل هو من يقول أنا و هو من يقرًر وجوده بحريَة أما العبد فهو المقابل للسيَد أي الآخر الذي تم اختزاله في النفي المطلق. إننا لا نتعرَف على صورة الآخر إلا من خلال هذا التضاد فهو الذي بمجرَد ظهوره يسلبني الفضاء الذي يحتويني و معه الأشياء أو لعلَه جزءا من حقي الذي ظننته مطلقا في الوجود . أن أتقاسم مع الآخر الذي ليس أنا الوجود هو أن أنفي جزءا من ذاتي من اجله و مع ذلك تبقى صورة الآخر مبهمة تخيفني و تهدد وجودي في كلَ مرَة. فالخوف و الجهل سيَان و أن أكون حاضرا مع آخر لا أعرفه يجعلني في قلق مستمَر مثل التواجد مع العدَو الذي لا تأمنه بتاتا.و قد يتخذ الآخر صورة ثقافة بأكملها, ثقافة تختلف عن ثقافة الأنا أو النحن و التي من شأننا في غالب الأحيان أن نحاربها كي نحافظ على خصوصيتنا و هو أمر يعود إلى مشكل الهويَة الذي ينبني أساسا على صورة الآخر وطبيعة التعامل معها فثمَة ثقافات تصوَر الآخر عبدا مثلما تعاملت الحضارة الإغريقية مع الغريب أو الأسود و ثمَة من الثقافات من صوَر الآخر بالاعتماد على مرجعيَة دينيَة فما الكافر في النهاية سوى هذا الآخر الذي نخشاه. يحيل إذا الآخر من هذا المنطلق على مشكل الاختلاف, فالآخر هو أولا المختلف عني و لذلك كانت صيغ تصوير الآخر بالنسبة للثقافات مرتكزة في الغالب على الإقصاء. تبدو صورة الآخر الصيغة التي من خلالها تتكون صورة الهويَة أيضا, إذ تتحدد الهوية انطلاقا من التمييز الذي أقوم به بيني و بين الآخر . إن الآخر هو تعريف لي بالسلب. و لعلَ كل تعريف بالسلب إنما هو شكل من أشكال التأكيد لذلك فان هذه العلاقة الأولَية القائمة على الصراع لا تكاد تستمَر حتى ينبثق الآخر من جديد في شكل وجود ملَح يريد سلبي وجودي في كلَ حين مثلما أفعل و يؤكده أي أن "شعوري بذات الآخر التي تجمدني تجعلني أنبثق بوصفي ّأنا و في إدراك هذا السلب ينبثق الشعور بالأنا بوصفه أنا" مثلما عبر عن ذلك سارتر في كتابه الوجود و العدم.
لئن تنبني علاقة الأنا بالآخر على الصراع و السعي إلى السلب المتبادل مثلما يتضَح لنا ذلك من خلال علاقة السيَد بالعبد أو من خلال التجربة الفينومينولوجية للخجل التي تثبت أن حضور الآخر مستفزا إلى درجة أنه يسلبني حريَتي و يعريني و يطلق عليً أحكاما, فإنها تنتهي دائما إلى شكل من الاعتراف الضروري فكأنه لا وجود لأنا إن لم يكن الآخر. تصبح صورة الآخر بهذا النحو صورة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة أي وجودا معترفا به متخارجا عني لكنَه يلعب دورا أساسيا في معرفتي بذاتي. إذ مهما اختلفت العلاقة مع هذا الآخر فان وجوده المستفزَ يجبرني على التعامل معه فالعالم مثلما يرى هوسرل كما ينكشف للوعي يحيل إلى الآخر باعتباره شرطا لتأسيس العالم و تحقيق وحدته بل هو شرط تأسيس الأنا فعندما يراني الآخر أو عندما أنزعج لحضروه فإنني أحقق في ذات الوقت نفسي و أكتشف فيها ما لم أكن لأدركه في غياب الآخر كشخص مغاير لي.
ليس الآخر اقتضاء معرفيا فحسب بل وجوديَا أيضا إذ هو الوجود الذي يقاسمني نفس الزمان, انه "الهم" الذين يشكلون جزءا من وجودي و الآخر باعتباره ذاتا مستقلًة و لها سماتها الخاصَة و حياتها التي تحياها.
إن الاعتراف بوجود الآخر إنما هو اعتراف بالأنا بل لعلَنا "لا نكتشف أنفسنا في عزلة ما, يقول هوسرل, بل في الطريق في المدينة وسط الجماهير, شيئا بين الأشياء : أناسا بين البشر"
فكيف تختزل الآخر في صورة ؟ يبدو انه من العسير الحديث عن علاقة بين الأنا و الآخر إلا من خلال وساطة الصورة.فنحن لا نعرف عن الآخر سوى ما نراه منه أو ما نقصده فيه و بذلك تكون صورة الآخر بشكل ما صورة للانا.إن صورة الآخر هي ما يظهر لي أي ما يتقبله وعيي بالتالي فكأن الآخر صورة معطاة سلفا نسقطها من حولنا حتى نتمكن من بناء علاقة مع العالم. و بناء على ذلك فيمكن للآخر أن يتخذ صورة السلطة التي إما نستبطنها مثل "الأنا الأعلى" الفرويدي بما هي جملة القوانين و الأوامر التي يتلقاها المرء منذ صغره و إما السلطة التي نخضع لها داخل الإطار السياسي فتكون ذلك الآخر الذي يسلبنا حريتنا و لكنه يحقق وجودنا الاجتماعي في نفس الآن إذ على المرء أن يتنازل عن الكثير من حقوقه الطبيعيَة إلى هذا الآخر المعنوي الذي هو الدولة من أجل ضمان حياته.
تتراوح صورة الآخر بين النفي و الإثبات, فالآخر هو "المماثل و المباين لي" , انه من يهددني و يثريني في آن, مثلما أنه ثمة من الأشخاص من يقدم لي المثال الذي نقتدي به و ثمَة من الثقافات التي تقضي على خصوصيتي و تطمس هويتي و على هذا النحو تتحدد صورة الآخر, إنها دائما بالنسبة إلى شيء ما سواء كان ذلك معيارا ذاتيا أي بالنسبة إلى الأنا أو جماعة ما , أو معيارا أشمل مثلما نقيَم صورة الآخر في القانون باعتباره مجرما أو بالاعتماد على الأخلاق باعتباره لا أخلاقيا. يتخذ الآخر صورا عديدة حسب المنظور الذي ننظر منه لذلك فليس للآخر صورة ثابتة إذ يمكن للأنا أن تكون في أي لحظة من اللحظات آخرا بالنسبة لذاتها و ذلك في حالات مرضيَة كالانفصام.
إن الآخر لا ينفكَ يتبع الأنا نفيا أو إثباتا و لعلَنا نقيم مع الآخر من خلال الرموز فنحن نتواصل مع العالم بالرمز مثلما يتعامل العالم مع الطبيعة بالأرقام و مثلما يتعامل البشر فيما بينهم باللغة أو بالعواطف و مثلما تعامل القدماء مع الوجود بالرموز و الإشارات و مثلما تعامل الله مع خلقه بالرسل و كأنه محتَم علينا أن نظل مشدودين إلى الوجود بالوسائط وهو ما يشرع لتواصل الآخر. إذ طالما ثمَة وسيط ثمَة آخر ما و إلا أمحت الفوارق.
غير أن الواقع اليوم بكل ما نشهده من تغير للقيم بات فيه الآخر صورة جاهزة تقدًمها منظومة الإشهار و التجارة و الفضاءات الافتراضيَة , صورة نمطيًّة تحتكم إلى شروط تعرَف الآخر كأنه منتوج يجب استهلاكه و هكذا صارت صورة الآخر تخضع لمعايير الرأسماليَة من بينها الموضة و كلَ ما ينجًر عن ذلك من عقليًات تتعامل مع ظاهر الشيء دون الولوج إلى عمقه بل لعَلها لا تؤمن بوجود العمق أصلا و هكذا تتخذ صورة الآخر صورة السطحيَة . إن الآخر هو مجرَد مظهر , مجموعة معلومات و أحكام مسبَقة نصوغها عنه و لا نسعى حتى إلى معرفته أو الاعتراف باستقلالية كيانه. يبقى الآخر في حيَز الأنا و تحت سلطة الصورة بل لعلَه مجرَد صورة مما يجعل من الأنا بالضرورة صورة , أو ليس العالم كلَه صور لا عمق أنتولوجي له ؟ فكلَ ما يوجد إنما يوجد على السطح و هو ما يروَج إليه عالم الشاشة أي عدم الثقة إلا في ما يطال الحواس.
لكن من هو الآخر ؟ هل لم سنظل نتعامل إلا مع صورة الآخر ؟ يبدو أن التعامل مع الآخر انطلاقا من الأنا إنما هو تعامل ميتافيزيقي يبحث عن التطابق في كلَ شيء إلى درجة اختزال الآخر في المماثل :
« réduire l’autre au même »
يجب حسب ليفيناس أن نعترف بوجود الآخر كوجود مستقلَ عن الأنا و أن نقَر فعليا بوجوده الخاصَ و أنه ليس بالضرورة موضوع معرفة بل لعلَ أفضل تعامل يجب أن يقوم على الايتيقا أي على المسؤولية التي يوجهها لنا حضور الآخر.و تفتحنا هذه المقاربة على نوع من التجارب التي تمكن من تحرر الآخر من الصورة الكلاسيكيَة ويتم ذلك من خلال تجربة الحبَ مثلا التي تذوب فيها الذات في الآخر فتندثر الصورة عن الآخر و تنصهر الضمائر مثلما ينصهر المتفرَج الإغريقي قديما في الممثل التراجيدي كما وصف ذلك نيتشة. إن الآخر في التجارب الوجدانية يتجاوز رتبة المكمل لي أو الاقتضاء الوجودي ليصير منبع المعنى و تصير الحاجة إلى هذا الآخر جذريَة تصل بجذورها حدَ الوجود ذاته و هنا يتحرَر الآخر من ربقة الصورة فلا أنت و لا أنا أو كما تقول الحكمة الهندوسيَة "في التوحَد الأقصى مع الوجود تمَحي جميع الفوراق و تنتفي".