من النافل القول أن الأديان بكل منابعها ومرجعياتها وأنساقها العقدية منها أو الفكرية، تتفق حول شيء مشترك بينها ألا وهو تنظيم العلاقات بين الأفراد تفاديا لغلبة النزوع الطبيعي الإنساني الميال إلى العنف والوحشية، من ثمة نجد أن الأديان وعلى عكس العلوم والآداب القائمة على فهم وتفسير الكون والإنسان، تتأسس على منطق الوعد والوعيد إضافة إلى الموعظة والصبر والجزاء والنعيم... بيد أن بعض التداخلات التي أحدثت بقوة المنطق وسطوة الواقع، جعلت هاته العلوم تجد رابطا بينها وبين الأديان وإن اختلفت الرؤى والمرامي والغايات، والحال أن الفكر الفلسفي لم يكن إلا خير أنموذج بقدر ما وجه سهامه النقدية إلى عديد القضايا، بقدر ما أعاد قراءة الدين إن بغرض فهمه وهو الغالب، أو بغرض نقده وما أكثره، أو بغرض إعادة قراءته وهو السائد اليوم.
والحال أن أبرز قضية غلبت على الساحة الدينية والسياسية مؤخرا هي قضية الإرث، وتحديدا مسألة المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى، صحيح أنها تمت بلباس حقوقي محض، بيد أنها انعطفت بعدئذ عن هذا اللباس لتأخذ منحى سياسويا مفرطا في خلط كبير بين مجالين لازلنا لم نحدد حدودهما لحد الساعة، وهو ما خلق هذا التنافر الكبير، أو قل هذا النقاش غير القائم على أرضية تؤشكل أكثر مما تحكم بالجاهز، وتعيد القراءة بدل السقوط في منطق التحليل والتحريم، والمقدس والمدنس، من ثمة وكإعادة لقراءة هذا السؤال، كان لا بد من التوسل إلى الفكر الفلسفي علنا نجد فيه تفسيرا سديدا خارج أي حكم معياري.
عندما نسأل عامة القوم عن الإرث، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنهم هو مسألتان، الأولى تتعلق أساسا باقتسام ثروة ما أو تركة معينة، في حين أن الثانية وهي الأخطر تلخص الإرث برمته في شيء واحد ألا وهو تلك الآية الشهيرة التي تقول :"للذكر مثل حظ الأنثيين." كي نكون عمليين سنضع هذا الأمر جانبا ثم نعود إلى النبش في بنيتنا الحاكمة، الحق أن بنيتنا لازالت تأسس على التفوق الذكوري بما أننا مجتمع بطريكي يعطي الأولوية للذكر على حساب الأنثى، كما لازلت تتوجس من كل قراءة تجديدية تضع كل الأشياء تحت مجهر النقد بما فيها النص الديني، وذلك ليس بغرض دحضه وإنما من أجل إعادة بناء مقوماته وفق تحديات العصر وخصوصياته، هذا وفي نفس السياق تخبرنا كتب الأولين من المؤرخين والباحثين في تاريخ المعارك أو عند وفاة سلطان أو خليفة ما، أو في بعض الثورات أيضا، أن السواد الأعظم من الناس يصاب بمرض اسمه الغنيمة والجشع حيث يسطو على ما يجب السطو عليه، وينهب كل ما تراه عينه، وقد يطمع في السلطة إذا أتيحت له هاته الفرصة، كما قد يفتك بأقرب الناس إليه إذا ما توجب عليه ذلك، قد يقول قائل من القراء متسائلا: وما علاقة هذا بذاك؟ عندها سنجيبه بأن مشكلة الإرث لم تستطع أن تنفلت من مرض الغنيمة هذا، لسبب بسيط هو أنها ليست منعزلة عن البنية السائدة التي تحكمنا.
مجتمعنا ذكوري بشكل مفرط جدا، لهذا فلنقرأ أيضا هاته النقطة على ضوء سؤال الإرث، حيث ما إن يخرج فرد ما بضرورة إعادة النظر في هاته النقطة، حتى يجد أمامه سيلا ووابلا من الانتقادات الجارحة لدرجة استباحة الدم، وليس ردا رزينا يجيب النص بالنص والحجة بالحجة، لهذا لا يمكن أن نقرأ هذا الرد إلا من زاوية نفسية أو أنثروبولوجية، حيث إن الفرد عندما يرفض هذا الأمر، إنما يعتبر رفضه هذا إلا حساسا بالضرب في ذكوريته وليس غيرة عن الإسلام لسبب بسيط هو أن نفس الشخص الذي يلبس هذا الأمر لبوسا دينيا، تراه يكذب وينافق ويرشي ويشرب الخمر ويزني... والحال أنه لن نختلف بتاتا حول فساد مجتمعنا بغض النظر عن قراءة هذا الفساد، إن باسم القانون أو باسم الدين.
إن رفض إعادة قراءة تقسيم الإرث من طرف السواد الأعظم من الناس خاصة الذكور منهم، لا يعدو إلا إحساسا وشعورا ببداية تصدع بنيتنا البطريكية بدل اعتقادنا الراسخ بأنه رفض وانتصار للنص القرآني الذي قطع في هذا الأمر، على العموم النص القرآني والسنة النبوية قطعتا في أمور عدة مثلما قُطع في الإرث، لكن لماذا عمل المجتمع على إعادة قراءة أحكام على حساب أخرى؟ أليس نفس النص الذي قال أن للذكر مثل حظ الأنثيين هو الذي دعا إلى العين بالعين والسن وبالسن؟ أليس أيضا نفس النص هو من أكد على ضرورة قطع يد السارق وجلد الزاني مائة جلدة؟ ربما أعدنا النظر في هاته الحدود بناءً على القوانين الدولية التي تنتصر للإنسان على حساب التنكيل به، لكن أن نأخذ من النص الديني ما يخدمنا ثم نعيد النظر في ما لا يخدما بغير وجه حق، فإن في ذلك لقتلا كبيرا لمنطق النقد الشامل.
للنص القرآني ظروفه التاريخية والإبستيمولوجية التي أتى فيها، كما لكل حقبة معينة منطقها التاريخي المحض، صحيح أن بنيتنا جامدة لا تتحرك بسبب الركون إلى الأيقونة والأنموذج الواحد، بيد أن الانخراط في العالمية والكونية يفرض منا مراجعة عامة لكل أسسنا خاصة الدينية منها، والحال أن كل دعوة إلى إعادة قراءة نص ما، ليست تعني بالضرورة رفضه، كما أن كل نقد لنزع القداسة من نفس النص ليس يجب أن تتأسس على تربة الرفض القاطع والتكفير والقذف، على العموم يجب أن نعي أن واقعنا تغير، كما توجب علينا الإيمان بأن المرأة لم تعد كائنا غير ذي حقوق كما كان عليه الأمر في الماضي، بقدر ما أصبحت هي الأخرى تدير أسرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وعليه فإن المجتمعات باتت تعرف تساويا مطلقا، وليس انتصارا ذكوريا بقوة الطبيعة وقوة الواقع.