يُعتبر المنطق في نظر ابن رشد أوّل مادة معرفية يجب أن تُلقَّن لحَاكِم المدينة؛ إنّ حاكم المدينة شخص مرَّ بمراحل تربوية مدروسة يأخذ فيها ما هو ضروري من مواد علميَّة ويتدرَّب فيها ويتأهل لقيادة دفّة المدينة نحو الفضائل العادلة[1]. بهذا يكون ابن رشد في منهجه التربوي، قد انتصر لأرسطو على خلاف أفلاطون؛ الذي يرى ضرورة البدء بعلم العدد. فجعل ابن رشد من المنطق، أول العلوم في سلم التعلم، مفسراً هذا الخلاف بينه ـ ابن رشد ـ وبين أفلاطون، بدليل أن صناعة المنطق لم تكن قد وجدت بعد في زمن أفلاطون[2]. ويضيف ابن رشد إنه وإن وجِدت صناعة المنطق في زمن أفلاطون، كان من الأصوب أن يبدأ التعليم بالمنطق، ثم بعدها العدد، ثم على الهندسة، فعلم الهيئة، فالموسيقى، ثم إلى علم المناظر، فعلم الأوزان، وبعدها إلى علم الطبيعة، ثم إلى علم ما بعد الطبيعة[3]. فأهمية المنطق بالنسبة لهذه العلوم في أنه يساعد على فهم العلوم التالية؛ كعلم الطبيعة وما بعد الطبيعة. أما علوم التعاليم (رياضيات، هندسة، فلك، موسيقى)، فلا يحتاج فيها إلى المنطق لسُهولتها وقلة ارتباطها بالمادة، لذا قالوا ـ القدماءـ فتعلمه، يكون بلا ريب، على جهة الأفضل.
فعلم المنطق هو العلم الصحيح الذي يجب البدء به ليكون جميع أعضاء هذه المدينة فاضلين، فهو الذي "يقوي العقل ويعصمه من الخطأ"، والفيلسوف رئيس المدينة يحتاج إلى ما يعصم عقله من الخطأ ومن تم إلى علم صحيح يؤسس العمل الفاضل، وليس إلى تأمل الحقائق المجردة كما ذهب أفلاطون حيث اعتقد أن العلم الذي يجب البدء به هو علم التعاليم (رياضيات، هندسة، فلك، موسيقى)، إذ إنّ هذا العلم يجعل المتعلم يتعامل مع المجردات فيحلّق في السماء يتأمل المثل التي اعتبرها حقائق الأشياء[4].
نظراً لأهمية البرنامج التعليمي المُقدم من طرف ابن رشد، وهو برنامج يُخالف رؤية الفقهاء، كونه ينتصر للعقل والحِكمة، وهذا شعار المرحلة - مع كل من ابن باجة، وابن طفيل- الذي "أدى إلى السماح باستيعاب المفاهيم الفلسفية والتي كان لها أثرها في تغيير الخطوط العريضة لتلك السطوة الدينية، فنجد عبد المؤمن بن علي الكومي[5] يحاول إصلاح التعليم وتأسيسه على العقل فَيُسند هذه المهمة عام 1152م إلى ابن رشد الفيلسوف الشاب، ولم يسندها إلى فقيه من الفقهاء[6].
لكن السؤال المشروع، كيف استطاع ابن رشد أن يُفرّق بين رأي الحكيمين (أرسطو، وأفلاطون)، في حين الفارابي وفقَّ بينهما؟ هل رأى الفارابي ما لم يَراَهُ ابن رشد؟
نُجيب على هذا السؤال، بالإيجاب، أي أن الفارابي رأى في الفلسفة اليونانية، ما لم يرهُ ابن رشد، فكان يراها فلسفة واحدة في صميمها لا اختلاف بين مذاهبها وقضاياها، ولما كان أفلاطون وأرسطو ـ في نظره ـ أئمة وممثلي الفلسفة اليونانية، فمذهبهما عنده مذهب واحد على الحقيقة. بل أكثر من ذلك مجموعة من القضايا الجوهرية التي كانت محط خلاف بين الحكيمين، لم يرَ فيها الفارابي أي خلاف، ما دام الاتفاق واقعاً على الأصول والمقاصد. وإنما يُسلم الفارابي باختلاف أفلاطون وأرسطو في أمرين: في منهجهما التعليمي، وفي سلوكهما العملي[7]. إذن، هنا ابن رشد كان له الفضل في تعرية هذا الخلاف بين الحكيمين، أولاً بخصوص كتاب "السياسة المنسوب لأفلاطون"، الذي لجأ إليه ابن رشد بعد غياب نص "السياسة" لأرسطو. مؤكداً بأن ليست كل أقول أفلاطون في السياسة برهانية، وإنما الجدل يطغى عليها، مما قام بتنقيتها والاستغناء عن الكتابين الأول والعاشر من الجمهورية وجزء من الكتاب الثاني. ثم من جهة أخرى، أرسطو هو مُؤسس المنطق بدون منازع، وأفلاطون مُحب للرياضيات، لدرجة كتب على باب الأكاديمية "لا يدخل علينا إلا من كان مُلماً بالرياضيات".
يكون بهذا ابن رشد قد انتصر للبداية المنطقية في التعليم، يقتضي سبيل أرسطو الذي سَمَّى صناعة المنطق بـ"علم الأدب"، وجعل "منها عامة لجميع العلوم ومنها خاصة بعلم علم، وليس يمكن أن يكون الإنسان أديباً في تعلم كل صناعة إلا بتعلم العام منها والخاص، وقد جرت عادة أرسطو أن جعل العام منها في علم المنطق والخاص في علم علم"[8].
بهذا يرى ابن رشد لنجاح مشروع المدينة الفاضلة، التي يحكمها الفيلسوف، لابد من تربية هذا الأخير على صناعة المنطق، ولما لهذه الأخيرة من أهمية في عِصمة العقل، وقدرته على تمييز القول البرهاني عن غيره من الأقاويل، فالفيلسوف وحده القادر على التحكم في اللذَّات، والترفع عن هذه اللذّات لصالح الحِكمة، واللذة العقلية، فالشخص الحكيم هو الذي ينظر باحتقار إلى كل رغبات الحياة ولا يبالي بالثروة، وخير مجسد لهذا القول سقراط الحكيم.
أ. غياب درس المنطق بالتعليم الثانوي.
يجعل ابن رشد من الفعل الفلسفي ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع[9]. أي القول في الفلسفة قبل أن يكون معارف ومضامين نقدمها إلى المتعلم، فهو نظر وتأمل وفحص للموجودات، لكن هذا الفعل يبقى قاصراً في نظر ابن رشد ما لم يتم تعلم درس المنطق. وهذه الصناعة هي ما ينقص فصولنا الدراسية بالتعليم الثانوي، رغم تعدد المقررات، إلا أنها جميعها تخلوا من نصوص في المنطق، وهذا القصور ربما يعود إلى مؤلفي هذه الكتب، فأنفسهم يفتقرون إلى هذه الصناعة ـ المنطق، وهنا تبرز قيمة الكتب المدرسية التي ألفَّها الأستاذ الجابري رفقة أحمد السطاتي والأستاذ مصطفى العمري، فرغم اديولوجيتها كانت تحتوي على درس المنطق[10].
إذن، يدعو ابن رشد في منهجه التربوي إلى تعليم كيفية التفكير، قبل تعلم المضمون، وهذا المنهج العقلاني في التفكير، يكتسب من علوم المنطق، لأنها عبارة عن جملة مناهج وطرق تتنزل من النظر منزلة الآلات من العمل، ونحن نستعين بـ"آلات العمل" في شؤوننا اليومية والدينية، دون أن نتحرى في ذلك، ما إذا كان منشؤها وصانعها مشاركاً لنا في المِلة أو غير مشارك[11]. بهذا يجب النظر إلى المنطق، كمنهج في التفكير، وآلة تعصم الإنسان من الوقوع في الخطأ، وهذه الآلة ليست غاية في ذاتها، فهي مجرد وسائل، حتى عند القدماء الذين اخترعوها، وقد استعملوها في فحص الموجودات ودراستها، وتوصلوا إلى نتائج هذه العلوم التي تركوها لنا.
إذن، يمكن القول في غياب درس المنطق، يتعذر القول الفلسفي، بشكل أو بأخر يصير هذا القول، كقول أدبي، أو قول في الصحافة.., فالمنطق أساس تشكل البناء الفلسفي، وهو ما يجعل العبارة الفلسفية عبارة يغيب فيها السجع، والمدح، ويحظر المعنى رغم تجريدية القول الفلسفي. فشرط النظر في كتب القدماء حسب ابن رشد وغيره من الفلاسفة المسلمين (الغزالي مثلا)، هو تسلح الطالب بالمنطق وهنا تبرز أهمية التربية المنطقية.
نلاحظ اليوم في الفصول الدراسية، غياب لأي منطق يحكم تفكير المتعلمين، وفي مقابل ذلك حضور ثقافة الكم وحشو الذاكرة، والاستظهار، والتسليم بأي معرفة يتلقونها في هذه الفصول، دون نقد أو سؤال أو مُحاججة، رغم أن الغاية من القول الفلسفي هي ترسيخ هذه الكفايات. فالمنظومة التربوية اليوم في حاجة إلى مقاربة جديدة تُأصِل لبيداغوجيا من داخل ترثنا الفلسفي الإسلامي، وتعيد درس المنطق إلى حجرات الدرس والجامعات. فقوة الفلسفة القديمة (اليونانية والإسلامية) تتجلى في الأهمية التي منحتها لعلم المنطق، فجعلته في أول سلم تعلم العلوم، فالجانب الأهم في فكر ابن رشد، ليس المادة المعرفية، وإنما المنهج المتبع في ذلك، وهذا ما يؤكده الأستاذ دومينيك أورفوا بقول "إن ابن رشد لم "يكتشف" أرسطو "ثانية"، وإنما نظر فيه بطريقة تختلف تماماً عما كان لدى سابقيه"[12].
نحن اليوم في أمس الحاجة إلى إعادة "البيداغوجيا الرشدية"، وإعادة النظر والرؤية الرشدية التي غابت لمدة طويلة، عن حجرات الدرس والجامعات. فنحن بحاجة إلى استرجاع "ذاك العقل المهاجر ـ ابن رشد ـ لا بمنطق بضاعتنا ردت إلينا، بل بمنطق استرداد ذلك العقل مضافاً إليه ما اكتسبه في صيرورته التاريخية وتحولاته الحضارية والفكرية"[13].
* الاعرج بوجمعة: أستاذ لمادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي الثأهيلي – المغرب.
الهوامش:
- ابن رشد، الضروري في السياسة مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله عن العبرية إلى العربية الدكتور أحمد شحلان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيرون ـ لبنان، الطبعة الثالثة 2011.
- ابن رشد، فصل المقال، تحقيق محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الخامسة 2011.
- أبو نصر الفارابي، إحصاء العلوم، حققه وقدم له وعلق عليه، الدكتور عثمان أمين، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، بدون سنة.
- بورشاشن، إبراهيم، الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي، دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى 2010.
- عفيفي شاكر، زينب، "ابن رشد ومدينته الفاضلة"، مجلة العربي، الكويت، العدد 578، يناير 2007.
- المؤلفون، الجابري، السطاتي، العمري، دروس الفلسفة لطلاب البكالوريا المغربية، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، سنة 1971.
- نصر حامد أبو زيد، ابن رشد التأويل والتعددية، مجلة العربي، الكويت، العدد 414، سنة 1993.
- دومينيك أورفوا، ابن رشد طموحات مثقف مسلم.
[1] ـ بورشاشن، إبراهيم، الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي، دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى 2010، ص 337.
[2] ـ ابن رشد، الضروري في السياسة مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله عن العبرية إلى العربية الدكتور أحمد شحلان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيرون ـ لبنان، الطبعة الثالثة 2011، ص 161.
[3] ـ المصدر السابق، ص 162.
[4] ـ عفيفي شاكر، زينب، "ابن رشد ومدينته الفاضلة"، مجلة العربي، الكويت، العدد 578، يناير 2007، ص 90.
[5] ـ عبد المؤمن بن علي الكومي (487 هـ- 558 هـ، 1094 - 1163م) كان الخليفة المؤسس لدولة الموحدين وحكمها من العاصمة مراكش من سنة 1147 م وحتى 1163 م. وطبق ما أخذه من سلفه من فقه ظاهري وفكر أشعري، فكان أول من وحّد كامل الساحل المتوسطي من مصر إلى المحيط الأطلسي فحكمها دولة واحدة هي والأندلس وجعلها تحت عقيدة واحدة وتحت حكومة واحدة. http://ar.wikipedia.org/wik
[6] ـ عفيفي شاكر، زينب، "ابن رشد ومدينته الفاضلة"، مجلة العربي، مقال سابق، ص 91.
[7] ـ الفارابي، إحصاء العلوم، حققه وقدم له وعلق عليه، الدكتور عثمان أمين، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، بدون سنة ص 33.
[8] ـ أنظر، "مقالة الألف الصغرى"، ص 48"، نقلا عن إبراهيم بورشاشن، الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي، ص 339.
[9] ـ ابن رشد، فصل المقال، تحقيق محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الخامسة 2011 ص 85.
[10]ـ المؤلفون، الجابري، السطاتي، العمري، دروس الفلسفة لطلاب البكالوريا المغربية، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، سنة 1971.
[11] ـ أنظر المقدمة التحليلية التي وضعها الجابري لـفصل المقال، لابن رشد، ص 60.
[12] ـ دومينيك أورفوا، ابن رشد طموحات مثقف مسلم، ص 14.
[13] ـ نصر حامد أبو زيد، ابن رشد التأويل والتعددية، مجلة العربي، الكويت، العدد 414، سنة 1993.