يشكل مفهوم الحقيقة، أهم وأبرز المفاهيم الفلسفية التي شغلت تفكير الفلاسفة والمفكرين، بمختلف تياراتهم، واتجاهاتهم الفكرية، مما جعل منها مطلبا إنسانيا، فالكل يبحث عن الحقيقة والكل يسعى للوصول إليها. كما تعتبر الحقيقة غاية كل بحث إنساني، الأمر الذي يجعل منها مفتاح جميع المشاكل الفلسفية. وهذا ما يفرض علينا ضرورة التأصيل والتقعيد لذات المفهوم، سواء انطلاقا من تاريخ الفلسفة، أو عن طريق تبيان دلالات ومعاني المفهوم اعتمادا على تصورات وآراء الفلاسفة أنفسهم مما يجعلنا نطرح تساؤلا مركزيا هو : هل باستطاعة الفكر الإنساني أن يحصل على معرفة حقيقة ؟ وإذا أمكن ذلك، فما طبيعة هذه المعرفة ؟ هل ترقى لأن تكون مطلقة أم أنها لا تعدو أن تكون مجرد معرفة نسبية؟ ما هي أفضل الطرق المؤدية إلى الحقيقة هل العقل أم الواقع أم هما معا؟ وهل يمكن الاعتماد على الرأي لبلوغ الحقيقة أم أنها عائق أمام تحقيقيها؟ وهل الحقيقة ذاتية أم موضوعية ؟ وما قيمة الحقيقة ؟
إذن هذه هي التساؤلات الرئيسية التي تدور حولها مشكلة الحقيقة. وقبل معالجتها من خلال ما سنستعرضه من مواقف وآراء نحاول أولا تحديد معنى الحقيقة.
ما هي الحقيقة ؟
يستعمل مفهوم الحقيقة في الحياة اليومية بمعاني كثيرة و متعددة، غير أن القاسم المشترك بينها هو أنها تحيل على الواقع، والصواب وأحيانا أخرى تأخذ بعد ماهوي. وما ينطبق على التداول العامي من حيت تعدد المعاني ، ينطبق على الخطاب الفلسفي، إذ أن مفهوم الحقيقة في بعده الفلسفي يتخذ معاني متنوعة ،نذكر على سبيل لا الحصر ما يلي :
الحقيقة هي مطابقة الفكر لموضوعه . لكن السؤال العالق هاهنا هو: ما هو موضوع الفكر؟
يرى فريق العقلانيون أن موضوع الفكر هو الفكر نفسه، وبذلك تكون الحقيقة في رأيهم هي نتيجة انطباق الفكر مع مبادئه المنطقية القبلية بخلوه من التناقض. في حين يرى التجريبيون بأن موضوع الفكر هو الواقع. فالفكرة الحقيقية لا تكون كذلك إلا إذا جاء حكمها مطابقا للواقع .أما في الفلسفة المعاصرة فقد نظرت للحقيقة نظرة مغايرة فالنزعة البرجماتية ذهبت إلى أن الأفكار لا تستمد حقيقتها من ذاتها، ولا تكتسبه قيمتها من مطابقتها للواقع ، وإنما تكون حقيقية بالنظر إلى مردودها على حياة الإنسان، ومدى ما تقدمه له من منفعة. أما الماركسية فهي ترى أن الحقيقة لا تعيش خارج الواقع الإنساني، ولا خارج الممارسة التي يبني بها الإنسان هذا الواقع. ومن ثم فإن الفكرة بقدر ما تنبثق من واقع الممارسة، وبقدر ما تعود إليه لتسهم في اغنائه وتطوره، تكون فكرة حقيقية، أي نامية ومتطورة. أما إذا ما عدنا إلى المعجم الفلسفي " لالاند " نجده يعرف الحقيقة كالتالي : " الحقيقة خاصية ما هو حق، القول المطابق للواقع، وهي القضية الصادقة، وما تمت البرهنة عليه وشهادة الشاهد الذي يحكي ما فعله أو رآه، والشيء الأصيل في مقابل المزيف." إذن ما المقصود بالرأي وما علاقته بالحقيقة ؟
أولا الرأي والحقيقة:
التزاما بمبادئ الخطاب الفلسفي، لابد قبل الشروع في البحث في خبايا وثنايا علاقة الرأي بالحقيقة. أن نقف وقفة تأملية حول مفهوم الرأي، الذي يدل على المعرفة العامة غير المبنية والأقل درجة من المعرفة العلمية والفلسفية، مما يجعل منه شكل من أشكال الاعتقاد الذي يغلب عليه الظن؛ إذ لا يخضع لأسس عقلية، وإنما هو حكم خاضع لنسق من القيم السائدة. وبالتالي فهو انطباع شخصي يكونه الفرد بناء على إدراكه الحسي. الأمر الذي يثير مجموعة من التساؤلات يمكن صياغتها على الشكل التالي: كيف يتم بلوغ الحقيقة؟ هل عن طريق الرأي أم العقل؟ هل يمكن للرأي أن يسمو إلى مستوى الحقيقة؟ وهل الحقيقة معطاة أم يتم بناؤها؟
التصور الأفلاطوني(427-347 ق.م)
قبيل الخوض في غمار البحث عن الإجابة التي قدمها أفلاطون لتلك التساؤلات المطروحة، حري بالإشارة إلى أنه ليس صاحب مذهب فلسفي، بل هو مفكر السؤال وإعادة الطرح وإعادة التناول؛ إنه صاحب المحاولات المتتالية حول كبريات المسائل التي شغل بها. ما عرف عليه هو القول بالثنائية أو بالإثنينية Dualisme الشاملة[1]: فالوجود وجودان ثابت ومتغير، والعالم عالمنا: عالم المحسوس وعالم المثل Ideasالثابتة ذات الطبيعة العقلية، والمعرفة معرفتان حسية وعقلية، والإنسان نفس وجسد،والشر يأتي من اتصال النفس الطاهرة بالجسد غير الطاهر الأرضي...؛ ومادام الأمر كذلك فأفلاطون يقر بأن منبع الحقيقة قائم في عالم المثل الذي يتم إدراكه بفعل التأمل العقلي المجرد[2]، في حين يبقى الواقع المحسوس، واقع مظلم وخادع على أساس أن ما تمدنا به الحواس لا يعكس الحقيقة، وإنما اللا حقيقة الظلال والأشباح ونتوهم أنها حقيقة. الشيء الذي يدعونا إلى ضرورة التخلص والتحرر من قيود العالم الحسي الزائف، والسير في عالم المعقولات المجردة. " هؤلاء السجناء القابعون في كهفهم المظلم لا يدركون من الحقيقة إلا ظلال لأشياء مصنوعة".
تصور أبي نصر الفارابي (874-850م).
يعد من أعظم فلاسفة العرب. لقب بالمعلم الثاني، على أساس أن المعلم الأول في ذلك العصر كان هو " أرسطو"، كان الفارابي ضليعا في الرياضيات والموسيقى. كانت محاولته الرئيسية التوفيق بين تعاليم الإسلام والفلسفة اليونانية، خاصة أفلاطون وأرسطو، مستعينا في ذلك بالمنهج العقلي وحده.[3]، انطلاقا من كتاب الموسوم "بالحروف"، عمل الفارابي مناقشة علاقة الحقيقة بالرأي، والتي يعتبرها علاقة تناقض،إذا يعتمد بادئ الرأي على الأفكار المتداولة والمعارف العامية غير الخاضعة لمبدأ الفحص والتمحيص والدقيق، كالخطابة، والشعر، وحفظ الأخبار...؛ وهي كلها معارف شائعة بين عموم الناس، حيث يعود مصدرها إلى الانطباعات الحسية،الأمر الذي يجعلها تتقاطع مع المعرف النظرية كالرياضيات والعلم الطبيعي... التي تؤدي إلى بلوغ وتحصيل الحقيقة عن طريق الفحص البرهاني والاستدلال الرياضي، سواء تعلق الأمر بالحقيقة العلمية أو الفلسفية" تبين بالطرق الجدلية أنها ليست هي كافية بعدُ في أن يحصل اليقين.... فالتعليم الخاص هو بالطرق البرهانية فقط، والمشترك الذي هو العام فهو بالطرق الجدلية أو بالخطبية أو بالشعرية."[4]
التصور الديكارتي( 1650- 1595).
"يُنظر عادة إلى رينيه ديكارت في تاريخ الفلسفة كمؤسس حقيقي للفلسفة الحديثة بما أنه انطلق من التفكير كمبدأ بعد فصله عن اللاهوت وجعله أصل الوجود والخاصية الأساسية التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات"[5]. قال هيجل عن ديكارت " الآن وقد وصلنا لأول مرة إلى فلسفة العالم الجديد والتي تبدأ بديكارت، فمعه ندلف إلى فلسفة تقف على قدميها، فلسفة تدرك أنها تأتي من العقل، وهذا الإدراك أو الوعي بالذات ما هو إلا لحظة جوهرية للحق أو الحقيقي، فهناك نستطيع أن نقول بحق إننا مع أنفسنا، ونستطيع أن نصبح، مثلما يفعل البحار، بعد رحلة طويلة في بحر هائج.. الأرض .. الأرض.[6] عمل ديكارت من خلال شكه المنهجي، الذي يقصد من ورائه" جملة القواعد المؤكدة التي إذا ما رعاها ذهن الباحث عصمته من الوقوع في الخطأ، وتمكن من بلوغ اليقين في جميع ما يستطيع معرفته بدون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة." فهو بموجب اعتماده على الشك المنهجي، تحرر ديكارت من الأحكام المسبقة والمعارف التي تلقاها من وسطه الاجتماعي في حداثة سنه، إذ وضع كل شيء موضع تساؤل وفحص واختبار بغية الوصول إلى اليقين وبالتالي الحقيقة.وذلك عن طريق تأسس معارف جديدة أكثر صلابة ومتانة. ومادام الأمر على هذا الحال، فكيف ينظر باشلار إلى علاقة الرأي بالحقيقة ؟
تصور غاستون باشلار(1884-1962).
عمد باشلار، أن يقيم قطيعة إبيستمولوجية بين الرأي والحقيقة العلمية، لأن الرأي قائم على الاعتقاد والظن الشائع لدى الناس، وبذلك فهو يجعلهم يميلون إلى التصديق بما هو مباشر، الأمر الذي ضرورة الابتعاد عنه، لكونه لا يفكر، بل يجب تجاوزه وهدمه لأنه يشكل عائقا أمام بلوغ الحقيقة. التي تتطلب الانطلاق من الملاحظة ووضع الفرضيات واختبار مدى صحتها لتصير حقائق مبنية لا حقا. " تاريخ لعلم هو تاريخ أخطائه..لذا لا يمكن أن نؤسس أي شيء على الرأي، بل يلزمنا تجاوزه. إنه العائق الأول الذي يتعين تخطيه في مجال المعرفة العلمية".
استنتاج .
مما لا يختلف فيه البيان، أن مفهوم الحقيقة، مفهوما زئبقي لا يركن، إلى تعريف محدد وإنما أخذ معان متعددة ومتنوعة، إذ يمكن حصرها في الفكر، والواقع، والممارسة و النفع كما يمكن أن يحيل على دلالات أخرى. إلا أنه وانسجاما مع مضمون العنوان " الرأي والحقيقة" نجد أن الهدف المنشود و الغاية المرجوة منه،قد تحققت، حيث تباين الآراء و تضاربها، بين تيار ينظر إلى ضرورة الاستعانة بالرأي إن نحن أردنا تحصيل الحقيقة والمعرفة اليقينية، وتيار مخالف يرى أنه يشكل عائقا وسدا منيعا لبلوغ الحقيقة العلمية، نتيجة اعتماده وارتباطه الوثيق بالأحكام القبلية والمقولات المضمرة التي غالبا ما تحصلها الذات العارفة انطلاقا من الانطباعات الحسية، التي لا يمكن الوثوق فيها لقيامها على الوهم وقابليتها للخطأ.مما يقتضي وضع كل الآراء موضع شك وتمحيص للوصول إلى الحقيقة اليقينية. فما هو المعيار الأنجع لقياس صدق الحقيقة؟ العقل أم التجربة أم هما معا؟
ثانيا معايير الحقيقة
يعتبر المعيار Critère صفة أو خاصية في موضوع يمكن من خلالها أن نصدر عليه حكما، وهو القاعدة أو المقياس الذي نستعمله للحكم على صدق القضية منطقيا أو الشيء من حيث الجمالية أو على التصرف من جهته الأخلاقية. مما يدل على أن بلوغ الحقيقة وتحصيلها، لا يعتمد على معيار واحد ووحيد، وإنما يتعدى ذلك إلى معايير متعددة، بتعدد المذاهب الفلسفية والتيارات المعرفية. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: ما هي المعايير التي تتأسس عليها الحقيقة؟ هل هي تطابق الفكر مع ذاته أم مع الواقع أن هما معا؟ هل هو معيار منطقي أم مادي؟
إن الحديث عن المنهج المراد إتباعه لبلوغ الحقيقة، يدعونا للعودة إلى تاريخ الفلسفية الحديثة، حيث شكل الكلام عن المنهج منعطفا معرفيا حثنا على ضرورة محاكمة الآراء الفلسفية السابقة، وذلك عن طريق إخضاعها لمبدأ المساءلة. لا لتقليل من شأنها وإنما لتأسيس خطاب فلسفي جديد قوامه اعتماد خطوات منهجية صارمة ومنظمة إن نحن فعلا أردنا الحصول على حقيقة معرفية يقينية.بأي صيغة يكون العقل معيارا لإثبات الحقيقة ؟
التصور الديكارتي
خلص ديكارت إلى أن جميع العمليات العقلية التي نقدر بواستطها، وبدون أي خوف من الخداع، أن نصل إلى معرفة الأشياء وإدراكها في حقيقتها، اثنتين هما : الحدس والاستنتاج، والحدس ليس شهادة الحواس المتأرجحة ولا الحكم المضلل الذي يتأتى عن تركيبات المخيلة المتخبطة، بل هو المدرك الذي يعطينا إياه عقل متنبه غير غائم واضحا متميزا في الوقت المناسب فيحررنا تماما من الشك فيما نفهم وندرك، لأنه ينبع من نور العقل وحده، أما الاستنتاج فيعني كل استنباط ضروري من وقائع مغايرة معروفة يقنيا. وهذا شيء لم نستطيع أن نتجنبه لأن ثمة أشياء كثيرة معروفة يقنيا ولو لم تكن شاهدة بذاتها، وإنما تستنتج فقط من مبادئ معروفة وصحيحة بواسطة عمل مستمر غير منقطع يؤيده عقل ذو رؤيا واضحة. " إن هذين المنهجين هما اسلم طريقة إلى المعرفة وليس للفكر أن يسلم بغيرهما."[7]
تصور باروخ اسبينوزا(1632-1677)
يقول اسبينوزا في كتابه " علم الأخلاق"، " فكما أن بانكشاف النور ينقشع الظلام، فالحقيقة أيضا إنما هي معيار ذاتها ومعيار للخطأ". والحقيقة معيار ذاتها معناه أنها لا تحتاج إلى ما يكشفها يؤكدها من الخارج، فهي تحمل في ذاتها اليقين الواضح الذي يجسد النور الساطع الذي يزيل الظلام، ولا يتطلب شكا أو تمحيصا والمتجلي في البداهة التي تجعل الحقيقة معيارا في ذاتها. إنه المقياس الذي يكشف ويضيء جميع الأفكار ويجعلها متطابقة مع موضوعها الذي تحمله في ذاتها كيقين.
تصور جون لوك(1632- 1704)
يتفق التيار العقلاني مع التيار التجريبي على إمكانية الوصول إلى المعرفة اليقينية ومن ثمة الحقيقة، ولكنهم يختلفون عنهم في الطريق المؤدية إليها. فهم لا يرون الحقيقة في العقل ومبادئه، بل في التجربة الحسية ومعطياتها. لقد ذهب جون لوك إلى أن "العقل عبارة عن صفحة بيضاء"، أي أنه لا يتوفر على مبادئ قبلية، بحجة أنه لو صح أن هناك مبادئ من هذا النوع لكان علم الناس متساويا في سائر الأحوال، والواقع أن الملاحظة تشهد بعكس هذه الدعوى. لهذا فالتجربة هي المصدر الوحيد لكل ما لدينا من معارف. وجدير بالإشارة أن لوك ميز بين نوعين من الأفكار: أفكار بسيطة وأخرى مركبة، فالبسيطة هي التي تأتي إلى الذهن من الخارج بواسطة الحواس مثل الامتداد، والشكل، والحركة. أما المركبة مثل فكرة الجوهر، والعلية، واللامتناهي، فهي الأفكار التي يركبها العقل من مجموع ما يتحصل لديه من أفكار بسيطة.
التصور الكانطي(1724-1804)
ما هو متعارف عليه بخصوص الفلسفة الكانطية، أنها فلسفة نقدية. إذ كان السؤال الرئيسي في فلسفته المعرفية هو ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ وما الذي ينبغي لي أن أعمله؟ وما الذي أستطيع أن أمله؟ وهي هي المشكلات النقدية الثلاث هي على التعاقب : مشكلة المعرفة، والمشكلة الخلقية، والمشكلة الدينية.[8]
والسؤال الأول يفترض وجودا سابقا للمعرفة ويتساءل عن حدودها وشروطها. فهو لا يشك في إمكانية تحصيل المعرفة شكا مطلقا كما هو الحال عند الشكاك المذهبيين،ولا يبدأ بالشك كما فعل ديكارت. فإذا اختار هذا الأخير أن ينطلق من الشك في كل شيء، من أجل أن يبدأ بداية جديدة، فإن المعرفة عند كانط واقعة معطاة، موجودة ومتحققة في العلوم " في الرياضيات والفيزياء" لذلك يصبح العمل الفلسفي عنده في مجال المعرفة هو تشريح المعرفة تشريحا منطقيا، بقصد اكتشاف الأسس التي تقوم عليها، وتعيين حدودها وطبيعتها وهي العملية التي يسميها كانط " متعالية أو ترنسندنتالية" وبهذا تبدو الصيغة الفعلية للسؤال هي كيف تكون المعرفة ممكنة؟
لقد سبق للعقليين وأن أجابوا على هذا السؤال عند إقرارهم بكون العقل وحده هو ما يؤدي إلى بلوغ المعرفة، والتجربة الحسية هي مصدر المعرفة بالنسبة للتجريبيين. أما كان فإنه لا يوافق أيا من المذهبيين على الوقوف على جانب واحد هو العقل أو الحس، بل هو يركب الجانبيين معا، ويتجاوزهما بنظرية جديدة هي النظرية النقدية. فلابد من الجمع بين التجربة والعقل، ذلك لأن التجربة تتميز بالواقعية، بينما تتميز أحكام العقل بالضرورة، والعلم الحق في نظره يجب أن يكون واقعيا وضروريا. ومن هنا ندرك أنه لابد من الجمع بين الواقعية والضرورية، أي التجربة والعقل، لتكوين العلم الحق يقول كانط " المقولات العقلية بدون حدوس حسية جوفاء، والحدوس الحسية بدون مقولات عقلية عمياء". ومعنى ذلك أن صحة الحقيقة الصورية من الناحية النطقية ليست بالكافية، إذ قد تخالف تلك التي يحملها الواقع، ونفس الأمر بالنسبة للحقيقة المادية التي لن تكون كلية دون نظيرتها الصورية. هكذا تكون المعرفة تكاملا بين العقل والحس، فالحواس تنقل إلينا عن العالم الخارجي ما تستطيع من انطباعات حسية تتأطر في صورتي الزمان والمكان وتنتظم مع غيرها في مقولات العقل. وهكذا فالحقيقة هي انتظام معطيات الواقع وفقا لبنية العقل ونظامها القبلي." المعايير الصورية والكونية للحقيقة ليست شيئا أخر سوى المعايير المنطقية والكونية التي تقوم عليها المطابقة بين المعرفة وذاتها."
استنتاج .
لا غرابة إذن، في كون المعيار الذي تتأسس عليها الحقيقة، يكمن في مبدأ العقل وما يتصل به من مفاهيم كالبداهة والحدس والاستنتاج ...إضافة إلى الانطباعات الحسية وما يرافقها، وبالتالي فالحقيقة يتم بناؤها انطلاقا من الحوار الفعال والتفاعلي والمستمر الحاصل بين العقل ومعطيات التجربة الحسية، وأحيانا لا تحتاج إلا إلى معيار ذاتها . فما قيمة الحقيقة؟؟
ثالثا الحقيقة بوصفها قيمة
لا أحد ينكر مسألة كون الحقيقة مطلب إنساني، وهي الغاية من وراء كل بحث معرفي، فالسعي وراء طلب الحقيقة يُعد بمثابة فضيلة. مما يضفي عليها طابع القيمة، سواء تعلق الأمر ببعدها المعرفي أو في ما تحققه من منفعة إنسانية، فضلا عما يترتب عنها من حيث خدمة الإنسانية، وذلك عن طريق الاعتراف بالقول الصادق.فما الذي يعطي للحقيقة قيمتها؟ هل لأنها غاية في ذاتها أم لأنها وسيلة لتحقيق ما يخدم المصلحة الإنسانية؟ هل تتأسس الحقيقة على ما هو أخلاقي أم على ما هو عملي؟ هل الحقيقة منفصلة عن التيه واللاحقيقة والعنف أم مرتبطة بهم؟
نقصد بالقيمة هنا الطابع الخاص للشيء أو الموضوع والذي يجعله متميزا عن غيره في سمات معينة والذي يجعل هذه السمات ذات مفعول أو نتائج إما إيجابية في الغالب أو سلبية أيضا.إذن من أين تستمد الحقيقة قيمتها؟
التصور الكانطي
ينظر كانط للحقيقة باعتبارها قيمة أخلاقية غاية في ذاتها، بمعني أن القول الصادق يطلب لذاته، وليس بهدف تحقيق أغراض عملية نفعية أو اعتبارات مصلحية شخصية، فقول الحقيقة واجب أخلاقي مطلق يتعين النطق به والعمل بها في كل الظروف والأحوال، ومهما كانت النتائج والدوافع. حري بالإشارة هاهنا إلى أن كانط ركز على مسألة قول الحقيقة واجب أخلاقي، لكونه فرق بين نوعيين من الأوامر: أوامر شرطية مقيدة، وأوامر قطعية مطلقة. ويرى أن النوع الأول من الأوامر يخضع للقاعدة القائلة بأن " من أراد الغاية فقد أراد الوسائل أيضا" فهذا يلزمنا بإتباع الوسائط اللازمة لبلوغ الغايات المنشودة، كأن نقول مثلا: " إذا أردت أن تحيا سعيدا، فكن صالحا"، أو " إذا أردت أن تكسب ثقة الناس،فقل الصدق دائما".أما النوع الثاني فهو غير مقيد بشرط، لأن ما يلزمنا به أمر ضروري في ذاته، بصرف النظر عن نتائجه أو غاياته، كأن أقول لك مثلا" كن خيرا" أو " قل الحق دائما".[9] وهنا لا يكون فعل الخير أو قول الحق، وسيلة للحصول على أمر ما كائنا ما كان، بل يكون مجرد تصرف نزيه نلتزم فيه أصول الخير. بخلاف الأوامر الشرطية المقيدة التي نتوخى من ورائها تحقيق غاية معينة. يقول :" إن قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل الواجبات التي يتعين تأسيسها وإقامتها على عقد قانوني."
تصور وليام جيمس (1842-1910).
يعرف هذا الفيلسوف الأمريكي، أنه من رواد الاتجاه البراغماتي" النفعي" Pragmatisme وهو مذهب يرى أن الحقيقة هي علاقة ملتصقة بشكل كامل بالتجربة الإنسانية، وأن المعرفة هي وسيلة لخدمة النشاط الإنساني، وأن الفكر له خاصية غائية أساسا. فحقيقة قضية ما تتمثل في كونها" نافعة"، و"ناجعة"، و"تمنح الارتياح".[10] هكذا يتضح أن جيمس يصور الحقيقة من منظور نفعي، فالأفكار الحقيقية لا تكون كذلك إلا من خلال ما تحققه من منفعة مادية ملموسة على حياة الإنسان، أي تستمد قيمتها من مدى صلاحيتها الخارجية، بمعنى أن الحقيقة كقيمة تقاس، بمدى تأثيرها في الواقع الاجتماعي للفرد، ومدى قدرتها على تحقيق منافع وفوائد انطلاقا من النشاط الإنساني الذي يقوم على تنبي أفكارها،"إنها تكتسب حقيقتها من خلال العمل الذي تنجزه، أي العمل الذي يقتضي أن تتحقق من نفسها بنفسها، ويكون هدفها و نتيجتها التحقق الذاتي". الشيء الذي نستشف من ورائه أن قيمة الحقيقة، ترتبط بمدى فاعليتها و نجاعتها في خدمة الإنسان والدفع به نحو تحقيق أهدافه وغاياته الأساسية. مما يجعلنا نطرح السؤال التالي : هل في غياب تحقيق منفعة ما يكون الحديث عن قيمة الحقيقة أمرا مستبعدا ؟
التصور النتشوي (1844-1900)
" لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصا في قصده بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المشكك فيه لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه بل يهيم بها لذاتها ولو كان ذلك مخالفا لعقيدته، فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها."[11]
يذهب فريدريك نيتشه، إلى أن غريزة الحقيقة يستمدها الإنسان من رغبته في حفظ بقائه تجاه الآخرين، والعيش في سلم معهم، الأمر الذي يدفعه إلى مسالمتهم، وهي أولى الخطوات نحو اكتساب غريزة الحقيقة الغامضة، وتعد كذلك نظرا لكون الحقيقة لا تطلب لذاتها، وإنما هي وسيلة غايتها تحقيق العواقب الحميدة والممتعة للحقيقة،وبالتالي الاستعداد لمعاداة الحقائق المؤذية والهدامة. وبهذا المعنى صارت الحقائق حشد متحرك من الاستعارات والكنايات والتشبيهات، القائمة على اللغة، التي غدت تبدو لشعب ما ذات سلطة قسرية. الحقيقة إذن جملة من الأوهام المستعملة بشكل متكرر، والتي تم نسيانها أنها كذلك. يقول نيتشه "الحقائق أوهام نسينا أنها كذلك"
تصور مارتن هايدجر(1889-1976)
ما الذي نعنيه عادة ب"الحقيقة" هذه الكلمة النبيلة، لكن المنهكة من كثرة الاستعمال لدرجة أنها أصبحت فارغة من المعنى، تعني ما يجعل من الحقيقي حقيقيا. ماذا يعني كون الشيء حقيقيا؟ نقول مثلا " إنها فرحة حقيقية أن يساهم المرء في إنجاح هذه المهمة".[12] تكمن قيمة الحقيقة إذن حسب هايدجر في قدرتها على تخطي وضعية التيه الذي هو "مسرح الخطأ وأساسه، فهو ليس خطأ عابرا،ولكنه إمبراطورية هذا التاريخ التي تتشابك وتختلط فيها كل أشكال التيه، وذاك شأن الخطأ"[13] لأن الإنسان يسير دائما في التيه الذي ينسيه ذاته كوجود، ويجعله يتخبط في تقديرها دائما. بمعنى أن الإنسان لا يحيى في الحقيقة وحدها، بل يقيم أيضا في اللاحقيقة التي لا تنفصل عن الحقيقة، بل تمثل الماهية المضادة لها. ما أراد تبيانه هايدجر هو أن ماهية الحقيقة لا يمكن تحديدها، إلا إذا تم أخذ بعين الاعتبار اللاحقيقة والتيه يقول " الإنسان يتيه. إنه لا يسقط في التيه في لحظة معينة. إنه لا يتحرك إلا في التيه لأنه ينغلق وهو ينفتح وبذلك يجد نفسه دواما في التيه."[14]
استنتاج
هكذا إذن، يتبين أن قيمة الحقيقة لا يمكن حصرها في بعد واحد، وإنما تنفتح على أبعاد معرفية متعددة. فإذا أقر كانط بكون الحقيقة ذات بعد أخلاقي وألح على ضرورة قول الحقيقة واجب أخلاقي، بصرف النظر عن النتائج المترتبة عنها، فإن وليام جيمس أكد على القيمة البرغماتية " النفعية" للحقيقة، إذ أن قيمة الحقيقة تكمن في مدى قدرتها على خدمة الإنسان. إلا أن نيتشه وكما هو معهود عليه عمل على قلب الطاولة على كل الفلاسفة السابقين عليه في لحظة إعلانه وتأكيده على أن الحقيقة ما هي إلا جملة من الاستعارات والكنايات، بل الأكثر من ذلك الحقائق ما هي إلا أوهام نسينا أنها كذلك.
خلاصة عامة.
لا مطمع إذن، في كون الحقيقة تمثل إحدى المفاهيم الفلسفية، التي عمل الإنسان على سبر أغوارها. بغية الكشف عن دلالاتها ومعانيها المتعددة، الأمر الذي أضفى عليها صبغة إشكالية، تمثلت في تحديد علاقتها بالرأي، وكذا النهج المراد إتباعه في سبيل تحقيقينا لها هل يتجسد في النهج العقلاني المنتصر للعقل أم التجريبي الذي يحث على تقديم التجربة على العقل أم التيار النقدي الذي أقر بضرورة الجمع والتوفيق بينهما، فضلا عن تحديد البعد القيمي للحقيقة، والذي يمكن إجمالها في البعد الأخلاقي والنفعي، علاوة عن كونها الأداة والوسيلة التي تعتق الإنسان من التيه والضلال واللاحقيقة، إذن في ظل التقدم التقني والتكنولوجي، هل أضحى من الواجب التفكير في أدوات منهجية جديدة وجدية لتحصيل الحقيقة؟ هل بمقدور وسائل الإعلام بشتى أشكالها أن تدرك الحقيقة أم أنها تعيش على إيقاعات الأوهام؟ وهل يمكننا أن نتحدث عن ضياع الحقيقة في ظل الارتفاع المهول لصناع الحقيقة ؟
[1] مجلة " عالم الفكر" العدد 38؛المجلد الثاني؛ أكتوبر ديسمبر، " أثينا" طبعة 2009. ص 79.
[2] الموسوعة الفلسفية؛ اشراف يودين؛ ترجمة سمير كرم؛ دار الطليعة بيروت؛ الطبعة الأولى 1974؛ ص 40.
[3] الموسوعة الفلسفة ، مراجع سابق ص 325.
[4] الفارابي كتاب "الحروف" تحقيق مسحن مهدي، دار المشرق، بيروت 1970 ص 134- 136 .pdf
[5] مجدي كامل " ديكارت أبو الفلسفة الحديثة .." دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى2012 ، ص 09.
[6] مجدي كامل، مرجع سابق، ص 93
[7] ديكارت " قواعد في المنهج" نقلا عن "المدخل إلى الفلسفة" جون هرمان زاندال جوستاس بوخلر، ترجمة ملحم قربان، دار العلم للملايين ص 95.
[8] د زكرياء إبراهيم، " كانت او الفلسفة النقدية"دار مصر للطباعة ، ص 46.
[9] د زكرياء إبراهيم " كانت أو الفلسفة النقدية" مرجع سابق، ص 140
[10] معجم لالاند الفلسفي .
[11] فريدريك نيتشه،" هكذا تكلم زرادشت" ترجمة فليسك فارس،دار القلم بيروت- لبنان، ص 6
[12] مارتن هايدجر، "التقنية الحقيقة الوجود"، ترجمة محمد سبيلا، عبد الهادي مفتاح ، المركز الثقافي العربي. ص 13 pdf.
[13] مارتن هايدجر مرجع سابق ص 38.
[14] مارتن هايدجر مرجع سابق ص 37.