- مفهوم الأيديولوجيا :من نظرية الأنعكاس المادية إلى نظرية الايديولوجيا بوصفها خطاب لساني لغوي
كان لسيطرة النظريات الحتمية كالمادوية والأقتصادوية في الماركسية التقليدية، بشكل تكاملي على مجمل مفاصل "انطولوجيا الحياة الأجتماعية للوعي والفرد". الاثر الكبير على انكفاء تلك الأنطولوجيا على بنيتها وانفصالها عما يوجد في عالم البنية الفوقية. لذا، لا نجد أي "اثر تواصلي واتصالي وتفاعلي" بينهما، سواء كان يمثل ذلك قنوات لغوية او نظام علامات لسانية او حتى سياق ثقافي. فيغدو هنا، "تشكيل الوعي" منفصلا ومستقلا تماما عن أي نظام "سيميو-ايديولوجي-لغوي/الايديولوجيا=العلامة (signe)/والعلامة=الايديولوجيا" - بحسب كل من: باختين وفولوشينوف -. فوفقا "لنظرية الأنعكاس المادية": ((.. ((الذهن)) أو ((العقل)) البشري ليس مستقلا عن الظروف الموضوعية التي تفرض نفسها عليه ودون أن يدري منها شيئا. ليست ارادة الناس هي التي تحدد بصورة اعتباطية العلاقات الأجتماعية، بل أن وعي الناس يحدده واقع المجتمع المادي الذي هم اعضاء فيه، وهذا المجتمع ليس نتيجة لا شيء، أنه مجموعة العلاقات التي تكونت لتؤمن للناس نضالا ينتصر على الطبيعة، وهي علاقات يحددها بالضرورة مستوى قوى الأنتاج التي يملكها الناس. وافكار الناس الأجتماعية هي انعكاس لهذا المجموع المعقد....ان حياة المجتمع المادية هي واقع موضوعي يستقل في وجوده عن ارادة الأنسان، بينما حياة المجتمع الفوقية او الفكرية هي انعكاس لهذا الواقع الموضوعي))(14).
يتضح من النص أعلاه، كيف تم عزل العقل الإنساني ومنتجاته الذهنية والأخلاقية والعقائدية، عن تشكيلات الخطاب واللغة والسلطة والمعرفة، وكل ذلك جرى تداوله بأسم "نزعة الماركسية الحرفية literal marxism". فمثلا، عندما تم تناول لغة القانون في الأخلاق، في نص الألوسي، نلاحظ كيف طُرحت هي الاخرى، بمعزل عن ابنيتها السيمانتكية/التداولية، أي بمعنى ان لغة التشريع القانوني انفصلت تماما عن السياق (context) وعن الخطاب (discourse)، لتتحول بذلك الى مجرد "تمثلات مرآوية للنزعة الموضوعانية الميكانيكية الأجتماعية". فلو طالعنا هذا النص :((ان النواهي والأوامر علاقة بين طرفين، وقولي : لا تشرب معناه لا تشرب شيئا، ليس لك، أي شيئا لغيرك ولو لم يكن هناك انسان آخر لما كان لقولي معنى، ولو اراد رجل مثل روبنسن كروسو ان يحفظ حياته وهو في جزيرته المقفرة ففي وسعه أن يفعل ذلك أيضا، ومن الشطط أن تزعم أن احد السلوكين ملائم للاخلاق والآخر مخالف لها...ان ((حي بن يقظان)) بطل رواية ابن طفيل(15) الفيلسوف الأسلامي، لا يمكن ان يكون غير حيوان اعجم، كما هو حال اشخاص وجدوا في غابات وربتهم حيوانات علما بأن ارسطو نفسه والذي يتأثر به ابن طفيل كثيرا في ((تهذيب الأخلاق)) يقول :((ان ذلك الذي لا يستطيع ان يعيش في المجتمع هو اما وحش او اله وهو ليس جزء من الدولة))))(16). لتبين لنا، كيف ان لغة نص الالوسي، لم تكن منهمكة في اعادة تحليل "لغة الأخلاق وتفكيك نظام بنيتها الداخلي"، ضمن وظائفها الاجتماعية وعلاقاتها البراغماتيكية (التداولية) بين الفاعلين الأجتماعيين المُنتجين للمعنى (meaning)، بمعنى آخر، انها لغة لم تنشغل على نقد لغة "الواجب والأمر والطاعة"، وعلاقتها بمنطق الخطاب/والسلطة، بوصفها-أي تلك اللغة- تمثل ((سلطة الأنا الأعلى للغة))(17).
كل ذلك كان يمثل، في واقع الامر، موقف لغة الكتاب الواحدية في قراءة مجمل فلسفات اللغة وفلسفات التحليل المنطقي واللسانيات بشكل عام، والذي يعود في احد اهم اسبابه الى غلبة "النزعة الانتقائية" في طرح مراجع فلسفية ارثوذكسية متوقفة في قراءاتها عند مرحلة محددة وواحدية لمجمل التيارات والفلسفات التحليلية والمنطقية، على التوجهات الابستمولوجية/النقدية. اضف الى انه من المعروف، ان معظم كُتاب تلك المراجع ينتمون الى ماركسيات ارثوذكسية لا تعترف بمجمل تاريخ تطورات فلسفات اللغة عامة وفلسفات اللغة في الماركسية خاصة. لذلك، لم نجد خطاب القطائع الابستمولوجية في فلسفة العلم (epistemological break)، لان لغة واسلوبيات قراءات تلك المراجع هي لغة اتصال لا تعترف بمنطق الانفصال، بل انها اسلوبيات لا تعترف بوجود مراحل مبكرة ومتأخرة لتيارات الفلسفة والتحليل المنطقي، والشيء نفسه ينطبق ايضا على الفلسفات الانسانية والوجودية والبراغماتية (الذرائعية). وقد بدا ذلك الموقف واضحا في تناول ذلك الكتاب، لعلاقة الاخلاق من قبل فلاسفة التحليل المنطقي للغة، في هذا النص :((اما الوضعية المنطقية وسائر فلسفات التحليل المنطقي فهي تستبعد الأخلاق المعيارية من نطاق العلم، وتقول ان قواعد الأخلاق لا يمكن التثبت منها أي من صحتها بالتجربة، وانها لا تشير الى شيء موجود، انما هي عبارات لا تحتمل صدقا ولا كذبا، لأنها مجرد اوامر في صيغ لغوية او تعبيرات عن انفعالات نفسية، ومن هنا تعذر وصف الأحكام الخلقية بالصدق او الكذب، فهي كلام فارغ))(18). فكان لزاما ان يصل الى الحكم الاستدلالي القطعي (dogmatic) على تلك الفلسفات، وهو :(( ان موقفها هذا من الاخلاق هو جزء من موقفها الفلسفي عموما من فكرة التقدم وإمكان التحقق من وجود العالم، وإمكان المعرفة عموما ((انها تنكر وجود تطور تقدمي في العالم، او اي اتجاه او هدف في المجتمع والتاريخ، انها تنكر قدرتنا على معرفة جوهر الأشياء، وتقصر كل المعرفة الممكنة على الحقائق الخاصة وعلى العلائق بينها. كما انها تنكر عمليات التصير الضرورية والأرتباطات اللازمة، ناظرة للعالم كمجرد مجموعة من الوقائع والاحداث الأقتصادية تكون فيها جميع العلائق خارجية، وكل شيء فيها يحدث بالصدفة...))))(19).
يتضح من النص أعلاه، كيف ان مجمل الاحكام التي تشكلت في كتاب (التطور والنسبية في الاخلاق)، لم تمثل رؤية كاتبها الاصلي، بقدر ما كانت مجرد امتثال لمجموعة من الاحكام الجاهزة التي شكلها "الآخر الايديولوجي القديم" والحادِث لمجمل تمفصلات رؤى وافكار الالوسي. فمن الناحية المنهجية، ادى الاعتماد الاساسي على مصدر ثانوي/ايديولوجي وهو كتاب (كورنفورث) وبما يتفق والطروحات التقليدية للماركسية والمادية التاريخية، الى التجاوز على مجمل التطورات الحاصلة في فلسفات العلوم ولنظرية القطيعة الأبستمولوجية والثقافية في تاريخ الفلسفات الوضعية والتحليلية. فلو كانت مجمل تلك الفلسفات قد انطلقت حقا، من رؤية واحدية تجاه كل من: الاخلاق والدين والفن والتاريخ والانسان واللغة...الخ، لما وجدنا هناك مراحل مبكرة ومتأخرة لكتابات فلاسفة اللغة والتحليل المنطقي والفلسفات الوجودية والفلسفات الذرائعية التي ظهرت فيها مناهج تأويليلة جديدة للفلسفة الماركسية، كما هو الحال عليه عند سارتر في كتابه (نقد العقل الجدلي) وميرلوبونتي في دراساته عن اللغة والماركسية وغيرهم
من الفلاسفة. وهذا هو بالضبط ما يمثله تاريخ الخطاب الفلسفي، فهو تاريخ قطائع وتصحيح لمساره الفلسفي – بحسب باشلار-.
من هنا، نلاحظ وجود حالة اشبه بـ"التطابق القبلي" بين المواقف التي مثلها كتاب (التطور والنسبية في الاخلاق) ومواقف كتاب (كورنفورث)، سواء في: التجاهل التام لتحولات ابستمولوجيا الفلسفات الوضعية، سيما المتداخل منها مع كل من: المنعرج اللساني (linguistic turn)؛ والمنعرج الادبي (literature turne)؛ والمنعرج البايلوجي (biological turn)(20)، ناهيك عن التجاوز على مجمل تحولات المنطق والتحليل المنطقي الشكلاني/الرياضي للغة، المتمركز حول بنية وتراكيب قواعد النحو للجملة، والتي انعطفت في تحليلاتها اللغوية والمنطقية نحو بنية اللغة الطبيعية واليومية. فهل من المعقول ان يتم التعامل مع فلسفة فتغنشتاين بوصفها نسقا فلسفيا مطلقا، دون الاخذ بنظر الاعتبار كتاباته الفلسفية المتأخرة التي جعلت من "المعنى واللغة ممارسة واستعمالا يوميا"؟ وهل من الانصاف ان يتم وضع هذا الفيلسوف الذي اعاد الاعتبار لوجود المتكلم اليومي ضمن سياقه الثقافي والاخلاقي، في سلة واحدة مع الفلاسفة الرجعيين بحسب تلمود كورنفورث؟ فبماذا يفسر كورنفورث اذن، اعتماد اغلب نظريات "اللسانيات الاجتماعية والخطاب وتحليله الأجتماعي والثقافي"، على كتابات فتغنشتاين المتأخرة؟ وبماذا يفسر لنا ايضا، اعتماد مجمل تطورات العلوم الأنسانية والأجتماعية والأنتروبولوجية والسايكولوجية والدينية، على تلك الكتابات المتأخرة؟ فهل تستمر فاعلية الصلاحية (validity)لاحكام كورنفورث الخمسينية التي شطرت الفلسفة الى رجعية وتقدمية؟ وهل يستمر التعامل مع كل من: الأخلاق والفنون والدين والانفعالات بوصفها قضايا فارغة من المعنى؟ ولماذا انعزل كتاب(التطور والنسبية في الاخلاق) عن نظرية الانفعالات (passions)في الاخلاق ونظرية سوسيولوجيا بلاغة الاخلاق واخلاقيات البلاغة(21)، وانهمك في نظام فلسفة الاخلاق التطورية/البايلوجية؟
فكان من بين ما اهم ما ادت اليه سيادة "التأويل الرجعي" لفلسفة التحليل اللغوي والمنطقي، هو بروز نظرة استعلائية تحط من قيمة كل ما يتعلق بمباحث الانفعالات والعواطف والمشاعر الانسانية وعلاقتها جميعا مع المتكلم "المغيّب هو الاخر من دائرة التأويل الرجعي للغة". ولهذا :((.. ارتبط (تحليل اللغة) للوضعيين المنطقيين برأيهم القائل بأن التقديرات الأدبية والأخلاقية من كل الأنواع هي تقديرات لا اساس علمي لها، ولا يمكن ان تخضع لأي محك للنقد العلمي، وهي بالتالي لا يمكن ان تعتبر اكثر من لغو عاطفي يعبر عن مجرد عواطف وافضليات الأفراد او الجماعات، او ربما كانت مجرد (اوامر ونواه)أي ليست تقديرات مسببة، بل مجرد نصائح يقصد منها التأثير على سلوك الأخرين، بالطرق التي تحقق رغائب فرد او قلة معينة))(22). فوفق رؤية هذا النص، كيف يمكن تصنيف العمل الاخلاقي السياسي الوضعي المنطقي لكارل بوبر في كتابه (المجتمع المفتوح واعداءه) ولغيره من الفلاسفة ممن عملوا على تفكيك وتعرية تاريخ منظومة القيم التوتاليتارية (totalitarism) منذ افلاطون وحتى ماركس وهيجل وارندنت، سيما في مؤلفها الرئيس (النظام التوتاليتاري)(23)؟ وهل يمكن ان نعد عمل فيلسوف حلقة فيينا للتحليل المنطقي مجرد لغو عاطفي فارغ؟ وهل مثلت مواقف برتراند راسل السياسية والثورية والأجتماعية، مجرد جعجعة برجوازية لا تقدم شيء لحركة التاريخ ونظامه الاخلاقي؟ وهل كانت طروحات جيلبرت رايل(24) في تخليص الوضعية المنطقية من سيطرة المنطق التقليدي الشكلاني -ذلك المنطق الذي لا يعير ادنى اهتمام للمتكلم وسياقه- وينعرج بمركزية التحليل المنطقي للعبارة الى تحليل "بنية اللغة الطبيعية/اليومية"، هي طروحات لا تخدم الفكر التقدمي ولا تؤسس لسوسيولوجيا الثورة في فلسفة الاخلاق؟ وهل يمكن ان نعد محاولات فيلسوف اكسفورد التحليلي ارنيست غيلنر(25) الرامية الى اعادة تأسيس فلسفة اللغة والتحليل المنطقي على اسس انتروبولوجية واجتماعية، محاولات خالية من المعنى والمغزى الاخلاقي؟
ويستمر مشهد "القراءة الرجعية" ايضا، مع الفلسفة البراغماتية (الذرائعية)، سيما في عملية السكوت عن الجوانب التقدمية والثقافية في تلك الفلسفات، التي لا يمكن لها الظهور بشكل جلي وواضح الا من خلال قراءات تأويلية جديدة تعتمد على النصوص الاصلية لتلك الفلسفات ومؤسسيها. فمثلا، عندما عرّج كتاب الالوسي على ذكر فلسفة الاخلاق ومباحثها الاجتماعية في الفلسفة البراغماتية (الذرائعية)، نلحظ تكرار سياسة النزعة الانتقائية للمراجع المعتمدة في شرح وعرض الفلسفات الحديثة والمعاصرة. لذلك السبب وغيره، لم نجد قراءة وتأويلا لفلسفة الاخلاق في النزعة البراغماتية (الذرائعية)، بوصفها فلسفة تشكل لسوسيولوجيا المعرفة وسوسيولوجيا التواصل اللغوي بين كل من: الذات المتكلمة والمجتمع والسياق الثقافي، والتي تجسدت في مجملها في كتاب "جورج هربرت ميد" (MIND, SELF, AND SOCIETY)(26)، لاسيما وهو يعد من المؤسسين الأوائل "لعلم اجتماع المعرفة" و"علم التداولية التفاعلية الرمزية الاخلاقية pragmatic and symbolic interaction ". ناهيك عن ما لقيمة طروحات كل من مؤسسي الفلسفة البراغماتية (الذرائعية) امثال وليم جيمس وتشارلس بيرس وجون ديوي وغيرهم. تُرى لماذا تم مصادرة الابعاد التداولية والتفاعلية الرمزية في بنية فلسفة الاخلاق العملية المرتبطة بدورها بفعل المسؤولية بوصفه فعل اجتماعي لا يُختزل ضمن بُعد واحدي محدد بالاغراض والمنافع الانانية؟ ولماذا لم يأتِ نص الالوسي على ذكر علاقة الفلسفة الوجودية بمباحث الاخلاق والسياسة، وتناولها بالدرس والنقد والتحليل، فلم نلحظ حضورا للوجودية بوصفها فلسفة براكسيس انساني واخلاقي، كما هو الحال عليه عند "جان بول سارتر" خاصة، والفلسفة الوجودية/والبنيوية الفرنسية عامة(27)؟
لذا، علينا ان لا نصاب بالدهشة التاريخية لغياب أسماء كثير من مجددي الخطاب الماركسي بشقيه البراكسيسي/والابستمولوجي، خاصة اولئك الذين عملوا على اعادة لحمة التواصل بين الابحاث اللسانية الجديدة والخطاب الماركسي في مجمل تحولاته السيمانتيكية واللسانية والثقافية/الاجتماعية. وربما من ابرزهم الفيلسوف البولوني "آدم شاف" الذي عمد من خلال جميع مؤلفاته الفلسفية والسوسيولوجية الى جانب اعماله المنطقية واللسانية، على اعادة قراءة اللسانيات وفلسفة اللغة والمنطق في تاريخ الفلسفة الماركسية. فوفق رؤيته، لم تعد اللغة مجرد انعكاس للبنية التحتية كما ظهرت في الماركسية التقليدية، بل اللغة هي منتج ثقافي ولساني وايديولوجي، ولا يمكن حصر ذلك المنتج ضمن نظرية واحدية كنظرية الانعكاس ورؤية ضيقة كرؤية "ستالين"، لذلك دعا شاف الى ضرورة ((التعاون بين الحقول المعرفية المختلفة. لان الإشكالية اللسانية المطروحة تتسم بدرجة من التعقيد الذي يجعل منها نقطة محورية للتواصل بين العلوم الابستمولوجية المتعددة، كاللسانيات والمنطق والاثنولوجيا والسايكولوجيا وعلوم الطب، والتي بدونها يعجز الفلاسفة عن تحليل الإشكالية اللسانية تحليلا ابستمولوجيا))(28).
بل واصبح البحث في تاريخ العلاقات الأجتماعية للمجتمعات القديمة التي يُطلق عليها "خطأ" بـ(المجتمعات البدائية)، يمثل المادة الخام لمجمل المقاربات السوسيو-لسانية؛ والسوسيو-ثقافية/سياسية، والتي بواسطتها ((نتمكن من ربط الإشكالية اللغوية مع كل من تاريخ وثقافة المجتمعات. فمن خلال ابحاث الانتروبولوجي الانجليزي مالينوفسكي في لسانيات المجتمعات البدائية، دُشِنت ثورة منهجية في بنية تلك الإشكالية، فصار من غير الممكن ان نفهم بنية تلك اللسانيات بمعزل عن ممارساتهم الثقافية والطقوسية والدينية. وهذه الفرضية لازالت سارية المفعول، في درجة معينة، على بنية لسانياتنا في فضائنا الثقافي))(29). هذا يعني أن طبيعة دراسة تلك المجتمعات اصبحت غير منفصلة عن دراسة بنية نظامها الثقافي، الذي يتأسس على منظومة لسانية تعكس تصورات تلك المجتمعات لمجمل تمثلاتها لميتافيزيقا العالم. بمعنى آخر، أن النظام اللساني واللغوي يُشكل/ ويُعيد تشكيل تصورات الوعي للعالم –بحسب آدم شاف-. فلذلك، اصبحت العلاقة متداخلة بين كل من: الأيديولوجيا؛ واللغة؛ ونظام إنتاج التصورات والتمثلات المُتخَيّلة لبنية الواقع المادي والتاريخي، وهذا ما يفسر لنا إشكالية وجود بنية من القوانين الخاصة التي تعكس النظام الداخلي لعمل الأيديولوجيا، والتي تكاد أن تكون مستقلة ومتحررة عن قوانين الأنعكاس وأطرها الأنتاجية الميكانيكية، والتي تعتبر أن البنية الفوقية ليست أكثر من مجرد انعكاس للعامل الاقتصادي. فعلينا ان نتساءل هنا، هل تبلورت نظرية لخطاب الايديولوجيا في تاريخية منشورنا الفلسفي عامة، والماركسي خاصة؟ وهل تشكلت علاقة ابستمولوجية بين كل من: الايديولوجيا والفلسفة واللغة؟
في تناوله لتاريخ المجتمعات البدائية والقديمة، عرض كتاب (التطور والنسبية في الاخلاق) لتطور بنية تلك المجتمعات، ولكن بشكل منفصل ومنعزل عن البرادايم اللساني الذي شكل نظامها الأسطوري والعقائدي، حيث :((((أن دراسة المجتمعات البدائية تثبت لنا أن ظروف الأنتاج ...هي التي تقرر دائما شكل البناء الأجتماعي. وهذا لا يظهر في ادراك الأنسان، ولذا فأن معتقداته وعاداته لا تعكس الا بشكل غير مباشر وناقص الظروف الأقتصادية التي تحيط به. وعلاوة على ذلك فأنه يستبقي لمدة طويلة معتقداته وعاداته السابقة بالرغم من تغير الظروف الاقتصادية. ولذا فمن الخطأ محاولة تفسير -بشكل مباشر ومبسط– النظم والتقاليد والمعتقدات السائدة في مرحلة ما بالظروف الأقتصادية السائدة في تلك المرحلة)). ((انه كلما ابتعد الميدان الخاص موضوع البحث عن الميدان الاقتصادي واقترب من الأيديولوجيا المجردة الخالصة، زاد اكتشافنا للحوادث العرضية في تطوره، وزاد خط تطوره انحرافا))(30).
نلحظ من النص أعلاه، أن هناك بدايات وارهاصات اولية جادة في اعادة الأعتبار لخطاب الأيديولوجيا، لتحرير هذا الخطاب من تبعيته لمركزية البنية التحتية، وامكانية تحوله الى "إشكال ثقافي" قار وثابت في ذهنية المجتمع ومُتخَيّلها القيّمي واللاهوتي، مما كان في الامكان أن يُدشن بداية جديدة لتداخل فلسفي مع كل من الانظمة: السوسيو-لسانية؛ والسوسيو-ابستمولوجية والسوسيو-ماركسية. لكن المنهجية الماركسية القطعية المُعتَمدة في الكتاب، حالت دون تصيّر الإمكان من القوة إلى الفعل، لتُعيدنا إلى اللوحة الخماسية لتطور الماركسية، وذلك عندما اكتمل النص أعلاه، بما هو اتٍ :((...ولكنك اذا رسمت المحور الوسطي لخط تطوره العام، سوف ترى بأن محور خطه يقترب أكثر فأكثر من موازاة محور المنحى العام للتطور الأقتصادي كلما زادت فترة المدة المدروسة واتسع نطاق الميدان المبحوث)). وتتضح صحة هذا القول عندما ننظر الى المراحل الكبرى في مسارة البشرية اعني مرحلة الألتقاط فالزراعة فالاقطاع فالرأسمالية فالاشتراكية، فأننا نستطيع حينئذ تلمس انعكاس أساس المجتمع الأقتصادي-الاجتماعي في أفكار واخلاق كل فترة على حدة))(31).
مما سبق، يتبين ان مفهوم الأيديولوجيا ظل مفهوما "هيولاني الشكل"، فلم يتبلور بوصفه نظرية جديدة لخطاب الايديولوجيا من جانب، ولعلاقته بالبنية الفوقية والنظام الثقافي السائد من جانب اخر. فظهر كمفهوم ملتصق بحتمية ميتافيزيقية لنظرية الانعكاس، في حين :((...أن ما سميناه ((انعكاس لواقع معين)) قد بدأ بالانفصال عن اصله ((الواقع)) حتى اصبح في اذهان الناس عالما آخر في استقلال تام عن قاعدته، ليعود بدوره إلى التأثير في هذا الأساس كقوى مجردة عاقلة. وباللغة الماركسية : استقلال البناء الفوقي في وعي البشر عن البناء التحتي، وعكس الأدوار في وعيهم..... الدين هنا اديولوجيا، حسب تعريف ماركس ومن بعده مانهايم.... وكل اديولوجيا – لدى وجودها – تتطور انطلاقا من مادة التخيل الموجودة وتتابع صياغتها، وإلا فليست هي بإديولوجيا. وهذا يعني الانشغال بأفكار بأعتبار انها كيانات مستقلة غير تابعة في تطورها، خاضعة لقوانينها الخاصة. في هذا لا يعي البشر الذين تدور في رؤوسهم عمليات الفكر هذه بالضرورة بأن ظروف حياتهم الخاصة هي التي تحدد مجرى هذه العمليات، لا يعون ذلك وإلا لما كانت هناك اديولوجيا))(32).
-نظرية الأيديولوجيا وتشكيل المُتخَيّل اليومي: "من معيارية الأخلاق الأكاديمية إلى لسانيات التواصل الثقافية"
يبدو ان طبيعة بنية الأيديولوجيا المتفاعلة مع مجمل ممارسات الحياة اليومية، وعلى مختلف اشكال تلك البنية وتحولاتها بين اللغوي واللساني والثقافي، لا يمكن اختزالها في وصفات ميكانيكية جاهزة ومعدة سلفا. لان هناك "منطق منظوري" يُشكل طبيعة ذلك التداخل، يتشظى بين اصغر وادق مجهريات الحياة اليومية الواعية منها واللاواعية. ومثل تلك "الممارسات المنظورية" المنشطِرة في بنية الحياة اليومية والقيّمية لأنطولوجيا "الممارسة اللسانية والفعالية اللغوية"، يستحيل عليها أن تبقى رهينة المحبسين لعلاقة انعكاسية للبنية التحتية، في حين أن هذه العلاقة، هي في الواقع، علاقة ميتافورية أكثر مما هي حرفية أو حقيقية. ومن هنا، تتأتى ضرورة عملية فهم وتأويل العلاقة المتداخلة لمفهوم الايديولوجيا مع كل من: تحليل الخطاب (critical discourse analysis) وفلسفة اللسانيات (philosophy of linguistics) بحسب غيلنر، فبواسطة مثل هكذا تأويل سوف تتوفر شروط "صدمة حداثوية" جديدة لزعزعة اسس التقليد الراسخة في بنية خطابنا الفلسفي، تلك الاسس التي طالما اقصت طروحات الآخر الغربي المختلف/المغاير لمركزية الثقافة الغربية بذاتها، وربما من ابرز من عمل على تشكيل مثل تلك الصدمة الحداثوية/الفلسفية في تاريخ ابستمولوجيا اللسانيات واللغة، كان امثال كل من: كورزبسكي وزينوفيف وفيغوتسكي(33) وغرامشي والتوسير وغيرهم، ممن عملوا على إعادة قراءة وتحليل ابستمولوجيا اللغة وعلاقتها بلسانيات الايديولوجيا ونظام عملها في تشكيل بنية الحياة اليومية.
فعلى سبيل المثال، حرر التوسير مفهوم الأيديولوجيا من سيطرة المفاهيم الوضعية عليها، فعد :((...نظرية الأيديولوجية المحللة في كتاب الأيديولوجيا الألمانية، نظرية “غير ماركسية” لأنها تقوم بصفة اساسية على علاقة الأنعكاس المقلوبة بين البنية العليا والبنية السفلى، وعلى الوعي “الوهمي” أو “الزائف” وعلى التقابل بين الحقيقة والكذب.... ان النظرية الماركسية “السليمة” عن الايديولوجيا هي تلك التي اعتقد التوسير انه عرضها في مختلف مؤلفاته، لأنها تختلف...جذريا عن الأطروحة الوضعية والتاريخانية التي اتت بها الأيديولوجية الألمانية...انها في ايجاز: اولا- اعتبار الأيديولوجيا ممارسة اجتماعية، ثانيا- وانها علاقة خيالية للناس بشروط وجودهم الأجتماعي، ثالثا- وانها خالدة، رابعا- وانها من حيث وظيفتها، تعترف بالواقع وتتجاهله في نفس الوقت. ماذا يعني التوسير بمفهوم الممارسة..؟ يقصد به بصفة عامة كل عملية لتحويل مادة اولية معينة إلى انتاج معين، بواسطة عمل انساني معين، وبأستعمال ادوات إنتاج معينة... ويجب اعتبار الأيديولوجيا مستوى خاصا للعمل والممارسة بالمعنى السابق لا يختلف عن باقي مستويات الممارسة الأجتماعية الأخرى. لأن اعتبار الأيديولوجيا ممارسة هو الشرط الذي لا غنى عنه لكل نظرية في الايديولوجيا ذلك لان كل ايديولوجيا، دينية كانت ام سياسية ام اخلاقية... تحول موضوعها أي “وعي الناس”. ويعرف التوسير الأيديولوجيا كممارسة موضوعها “تحويل”، وعي الناس بأنها :((... نسق – يملك دقة ومنطقا خاصا- من التمثلات (اخيلة، اساطير، أفكار، تصورات)، له وجود خاص، وله دور تاريخي في مجتمع ما...)) ....هناك اذن علاقة واقعية تربط الناس بظروف وجودهم المادي، وهناك علاقة أخرى خيالية تتحقق في مستوى الايديولوجيا، بواسطتها يحيا الناس العلاقة الأولى :أي أن الايديولوجيا تحول “وعي” الناس بواقعهم إلى وعي “خيالي”. يقول التوسير في هذا الصدد : “لا تمثل الأيديولوجيا في تشويهها الخيالي علاقات الأنتاج القائمة والعلاقات الأخرى المشتقة منها، ولكنها تمثل قبل كل شيء العلاقة الخيالية للافراد بعلاقات الأنتاج. ليست الأيديولوجيا تمثلا لنظام العلاقات الواقعية التي تهيمن على وجود الناس، بل تمثل العلاقة الخيالية لهؤلاء الناس بالعلاقات الواقعية التي يحيونها... ويحيا الناس ايديولوجياتهم، كعلاقة خيالية ونسق من التمثلات، غالبا بكيفية لا واعية حتى عندما تظهر في صور واعية، أن الأديولوجيا“... بنيات تفرض على الأغلبية من الناس بدون أن تمر بوعيهم))(34).
يتضح مما سبق، ان التوسير عمل على تدشين قطيعة ابستمولوجية مع نظرية الايديولوجيا، خاصة مع تلك التي تشكلت مع ظهور كتاب (الأيديولوجيا الالمانية) لماركس، واعتبرت أن ((...الأيديولوجية وعيا خاطئا ولثاما يكفي اماطته للكشف عن ظروف العيش الواقعية. ففي رأي هذه النظريات ليست الأيديولوجية الا تمثلا وهميا وانعكاسا منفعلا لا فعالا. وهذا يعني أن التمثلات الأيديولوجية عندها هي تمثلات وهمية خيالية ليس لها وجود واقعي وليست تتجسد في اجهزة معينة تتحكم في سير المجتمع وتكيّفه وتساهم في “إعادة علاقة إنتاج علاقات الأنتاج“. هذه النظريات لا تعتبر ان الوهم ليس يوجد في العلاقة التي تربط تلك التمثلات بالعلاقات الأجتماعية بل في التمثلات ذاتها. اهم هذه النظريات حسب التوسير هي التي جاءت في كتاب الأيديولوجية الالمانية. فعندما يقول هذا الكتاب بأن الأستلاب الفكري ناتج عن الأستلاب المادي فكأنما يفترض أن الأيديولوجية تعكس الواقع أي انها تعكس علاقات الناس الواقعية. يرد التوسير بأن الايديولوجية علاقة من الدرجة الثانية وهي لا تعكس العلاقات الحقيقية وانما هي علاقة وهمية بالعلاقات الحقيقية. هذا ما يؤكده بولانتزاس عندما يقول : “ أن نظرية ماركس الشاب حول الأيديولوجية كانت تتمركز حول الذات. كان ماركس يتصور الأيديولوجية انطلاقا من النموذج ذات - واقع - استلاب. في الأيديولوجية تفقد الذات ماهيتها العينية، والايديولوجية هي اسقاط للذات في عالم وهمي“ ذلك لأن الأيديولوجية من حيث هي مستوى من مستويات التشكيلات الأجتماعية، لا تردد صدى المستوى الأقتصادي))(35).
بعبارة أخرى، اذا ما حاولنا أن نترجم مجمل ما تم طرحه أعلاه بلغة اللسانيات والدراسات الأدبية والدراسات الثقافية، نجد أن مفهوم الايديولوجيا شغل أكثر من نظام ثقافي وقيّمي واخلاقي، تداخلت فيه كل من الابعاد اللسانية والأجتماعية والسياسية، والتي تشكل المؤسسة الخيالية للمجتمع (بحسب كاسترياديس). اما مع رؤية تيري ايغلتون الثقافية/الادبية، تم تدشين منعرج ايديولوجي جديد (ideological turn) منطلقا من اسس النظرية الادبية من جهة، ومن خطاب الدراسات الثقافية من جهة اخرى. فمع ذلك المنعرج تحدد مفهوم الايديولوجيا في كونه ممثلا لـ : (( (أ) عملية إنتاج المعاني والعلامات والقيم الثقافية في الحياة الأجتماعية؛ (ب) جسد الأفكار الذي يميز طبقة أو مجموعة اجتماعية معينة؛ (ت) الأفكار التي تساعد على تبرير شرعية السلطة السياسية الحاكمة؛ (ث) الأفكار الزائفة التي تساعد على تبرير شرعية الهيمنة للسلطة السياسية؛ (ج) التواصل المشوه بشكل منظم، والواهب المانح للذات موقعا وكيانا؛ (ح) اشكال التفكير المحفَزة من قبل اهتمامات اجتماعية؛ (خ) التفكير الهوياتي/المتطابق، بوصفه وهما ضروريا اجتماعيا؛ (د) واداة ربط بين الخطاب والسلطة؛ (ذ) ووسيط يتمكن من خلاله الممثل الاجتماعي الواعي من تشكيل معنى لعالمه؛ (ر) فعل اجتماعي مُتحكم به ايديولوجيا، والذي يؤسَس عليه نسق من الاعتقادات؛ (ز) ويشكل التباسا لسانيا وواقعة ظاهراتية؛ (س) وكلاهما يمثل تطابقا سيميائيا؛ (ش) يصبح هو القناة الرئيسية التي بواسطتها تتخارج الذوات عن علاقاتها الحقيقية نحو بنية اجتماعية وهمية؛(ص) ونتيجة لعملية إنتاج المعاني والعلامات والقيم السابقة الذكر اعلاه، تتحول الحياة الاجتماعية إلى واقعة طبيعية))(36).
من هنا، تتجلى الضرورة الراهنة لمحاولتنا الرامية إلى إعادة اكتشاف لغة الأيديولوجيا/وايديولوجيا اللغة، من اجل اعادة تفعيل منطق "لسانيات الأيديولوجيا"، ذلك المنطق الذي طالما تم تغييبه ومصادرته بأسم الأتجاه الموضوعاني المتعالي/الرياضي/المنطقي. الأمر الذي اسس لسيطرة النزعة التعميمية/التجريدية، سواء في فلسفة الأخلاق والمناهج التقليدية المعتمدة في لغة بحثها، او في النزعة الانتقائية للمراجع والمصادر الفلسفية المستعملة، والتي في مجملها، انعكست سلبا على طبيعة الدرس الفلسفي من جهة، وصيرورة المنشور الفلسفي من جهة اخرى .
ولو قمنا بجولة فلسفية في دهاليز تاريخ ارشيفنا الفلسفي منذ تأسيسه والى يومنا هذا، لاكتشفنا سيطرة مطلقة للأتجاه الموضوعاني المنطقي/المتعالي في مختلف التوجهات والأختصاصات الفلسفية، بدء من تاريخ الفلسفة اليونانية وانتهاء بالفلسفات الحديثة والمعاصرة والحداثوية والمابعديات. حيث سنلاحظ كيف أن هذا الأتجاه عمل على تكريس تام لسيادة انماط معرفية محددة شكلانية/تعميمية، تُقصي كل ما هو تاريخي/مشخّص، وكيف افرز في الوقت نفسه، اثاراً وخيمة على "اسلوبيات اللغة المتداولة شفاهيا وكتابيا" في اقسامنا الفلسفية، حيث هيمنت اللغات المنطقية الموضوعانية المتعالية، المنهمِكة في البحث عن الدقة المنطقية والضبط الرياضي والأصطلاحي. لهذا ساد كل من : "اللغة الشكلانية المنطقية" على حساب "لغة الحياة اليومية الطبيعية" و "التواصل الرسمي" بين المشتغلين انفسهم في الحقل الفلسفي؛ ، وكل ذلك مهد لسيطرة "الكلمة القاموسية المجردة" بدلا من "الكلمة الحيّة المشخصة" في بنية انطولوجيا الحياة اليومية.
لذا، اصبح الخطاب الفلسفي في مؤسساتنا الأكاديمية ينتج/ويعيد إنتاج ما يُعرف ب:((..."الكلمة القاموسية"، التي.... لا تعرف الا ذاتها” أي سياقها هي” وموضوعها وتعبيريتها المباشرة ولغتها الواحدة والوحيدة. اما الكلمة الأخرى، الموجودة خارج سياقها، فلا تعرفها الا بوصفها كلمة محايدة من كلمات لا تخص احدا، الا مجرد امكانية كلامية))(37). ربما لان هذا المصطلح هو الأقرب إلى عمل نظامنا الفلسفي قديما وحديثا، طالما كان يمثل خطابا لا يعبر الا عن ذاته وعن سياقاته الأيديولوجية المُضمَرة. من هنا، اقترح علينا باختين مفهوم "الكلمة الحيّة" كبديل عن "الكلمة الأكاديمية الميتة"، لأنه رفض :((..التصور التقليدي الذي يرتاح إلى "الكلمات الميتة"، أو الى "الكلمة المحايدة" كما يقول، ويذهب إلى "الكلمة المشخصة"، التي يساوي وجودها وجود كلمات الآخرين فيها،قبولا أو رفضا أو تقاطعا، فلا وجود للكلمات فرادى، فوجودها هو صراعها مع كلمات وتأثرها بكلمات أخرى وتقاطعها القلق مع كلمات لاحقة. وهذا كله يعين الكلمة كيانا حيّا، يتكون في علاقات التأثر والتأثير، كما لو كانت الكلمة جملة العلاقات الأجتماعية التي تعبرها...."الكلمة هي الظاهرة الايديولوجية بأمتياز"...."الكلمة محملة دائما بمضمون أو بمعنى ايديولوجي أو حدثي". ان الكلمة الطاهرة والمكتفية بطهرها الذاتي لا وجود لها، ذلك انها في استعمالها اليومي لا تنفصل عن مضمون ايديولوجي محايث لها، بل انها لا تحقق استعمالها الا بفضل الايديولوجيا التي تلازمها. ولذلك فأن الفصل بين الكلمة وحمولتها الأيديولوجية يلغي دلالة الكلمة، لتغدو اشارة مجردة، بعد أن كانت اشارة لغوية، أي انه يكتفي بالكلمة في ذاتها ويعرض عن المتحدثين بها، كما لو كان بإمكان اللغة أن توجد بمعزل عن المتحدثين بها))(38).
إن طبيعة المقاربة الفلسفية بين بنية "الكلمة القاموسية"، وبنية "الكلمة الحية/اليومية"، انما هي في واقع الامر، مقاربة تفتح لنا افقا جديدا نحو تأسيس منعرج ابستمولوجي؛ لساني واخلاقي. فمن الناحية اللسانية، لم يعد في الامكان، الاستناد على ابستمولوجيا لسانيات النزعة الموضوعانية المجردة، التي ترتكز على بنية النظام النحوي؛ السنتاكسي؛ السيمانتيكي؛ المنطقي لطبيعة الجملة المنعزِلة والمحدَدَة بأنساق اللغة الشكلانية المتعالية، والتي تعكس مجمل الاتجاهات الوضعية والتجريبية في المنطق ونظريات المعرفة التقليدية والمُسيطِرة على تشكيلات دروس الفلسفة ومناهجها التعليمية في مؤسساتنا الأكاديمية، والتي عملت جميعها على إنتاج خطاب عزلة وانفصال بين كل من :الفيلسوف/ والعامة /والمدينة؛ ولغة الفيسلوف/ولغة الشأن اليومي ولغة الفلسفة/ولغة السياسة.
أما من الناحية التاريخية، فما عاد ممكنا، الاستمرار في مسلسل انفصام العلاقة بين كل من الفلسفة والايديولوجيا، الذي افرز تناولا شكلانيا لمفهوم الايديولوجيا من خلال الاستناد على إعادة إنتاج تصورات استدلالية قارة في البنية التحتية للمنظومة المفاهيمية في خطابنا الفلسفي عامة وخطابنا الفلسفي المادي -سيما الماركسي منه- خاصة. على الرغم من أن دراسة نظرية الايديولوجيا: ((...تعني، بطريقة ما أو بأخرى، دراسة اللغة في العالم الأجتماعي. ودراسة الوسائل التي من خلالها يتم تداول اللغة في بنية الحياة الأجتماعية اليومية، بدء من ادنى المجادلات بين الأصدقاء وافراد العائلة الواحدة وانتهاء بأعلى مراحل الجدل السياسي))(39). فإذا حصل وتم إعادة اللحمة بين الفلسفة والايديولوجيا، فقد ينتج عنها "رجّة حداثوية فلسفية" جديدة، ربما تؤدي إلى :((...أثراء مفهوم الايديولوجيا بوصفه نظرية وممارسة في آن واحد، والذي يتشكل بواسطة تحقيق تحول راديكالي لتصوراتنا حول اللغة، للانعراج بأنتباهنا نحو مظاهرها التداولية، التي طالما تم اهمالها أو تغييبها من قبل بعض التصورات التقليدية في اللسانيات وفلسفة اللغة. فمن اجل أن تكون العلاقة متفاعلة بين اللغة والأيديولوجيا لابد من التخلي التام عن التحليل المنطقي الصارم للعبارات أو لأنظمة العلامات، والتركيز عوضا عن ذلك على الوسائل التي تساعد تعابيرنا اللغوية على إنتاج تدوالية الفعل ورد الفعل من جهة، وعلى ان تكون قناة يتم من خلالها انتاج التاريخ واعادة إنتاج المجتمع من جهة اخرى. وبذلك تدعونا نظرية الأيديولوجيا إلى النظر إلى اللغة ليس بوصفها مجرد بنية تستخدم لأجل التواصل أو الترفيه، وانما كظاهرة سوسيو-تاريخية تُغلف انطولوجيا الصراع الأنساني))(40).
من هنا، لا يمكن ان تُعَد لسانيات الأيديولوجيا وتاريخ منطقها، مجرد ملحق بسيط بتاريخ الصراع الطبقي كما هو الحال عليه في "لاهوت الماركسية الأرثوذكسي" الذي رهن تاريخ تطور الأخلاق ونسبوية القيم بالظواهر الطبيعية والحتمية البايو-مادية جدلية، على طريقة ومنهج كتاب (التطور والنسبية في الأخلاق). لانه وبعد المنعرجات الحاصلة في اللسانيات وفلسفة اللغة، سيما مع فولوشينوف وباختين وغرامشي والتوسير، لم يعد في الامكان، النظر الى: ((...مفهوم الايديولوجيا بوصفه مجرد هتافات خطابية، او تمثل زائف أو مشوه “للواقع”، لكنه صار يمثل قوة مادية في قاع سياقه الثقافي المُحدَد))(41).
من هنا، تأتي اهمية قراءة وتأويل تاريخ العلاقة المشوهة والمربكة بين الايديولوجيا والفلسفة واللسانيات في تاريخ منشورنا الفلسفي، المتضمن على اعمال فلسفية كثيرة، احتوت على عناصر فلسفية ومنهجية قيّمة -كما هو الحال عليه مع مؤلَف فيلسوف العراق ومؤسس الدرس الفلسفي استاذنا الراحل حسام الالوسي- وذلك من خلال عملية تأسيس مخبر فلسفي تتآزر فيه جهود جميع الباحثين والمختصين في مجال حقل الدراسات الفلسفية في مجمل حقولها، بهدف إعادة استنطاق القول الفلسفي الكامن في تاريخ ذلك الارشيف. ولتكن محاولتنا المتواضعة هذه، دعوة للجميع من اجل تأسيس بداية لمحاولات جديدة أخرى أكثر عمقا وشرحا وتحليلا وتأويلا لتاريخ المنشور الفلسفي العراقي...
الهوامش:
(14)د.الالوسي:التطور والنسبية في الاخلاق،ص30
(15)من المعروف ان استاذنا الراحل مدني صالح له دراسات موسعة حول الفيلسوف الاسلامي ابن طفيل، سيما في مؤلفه الرائد في هذا المجال الفلسفي (ابن طفيل، قضايا ومواقف)، 1980. فلماذا لم نجد له حضور في نص الالوسي؟
(16) د.الالوسي:التطور والنسبية في الاخلاق ،ص ص12-13
(17)
Lewis S. Feuer: Ethics And Marxism, Sushil Kumar Mittra, East India Art Press, Calcutta, 1943,p 2
(18) د.الالوسي:التطور والنسبية في الاخلاق،ص20
(19)المصدر نفسه،ص ص20-21
(20)للاطلاع على المستجدات الحاصلة في علم البايلوجيا المتداخل مع علوم اللغة وفلسفات العلم، يُنظر:
Max Charlesworth, Lyndsay Farrall, Terry Stokes, David Turnbull: Life Among the Scientists, An Anthropological Study of an Australian Scientific Community, Oxford University Press, 1989
(21)للتوسع حول موضوع البلاغة الجديدة وعلاقتها بكل من: فلسفة الاخلاق وفلسفة التشريع والقانون، يُنظر:
Ch. Perelman: Philosophie Morale, 1.L’Antiquité et le Moyen Age, Presses Universitaires De Bruxelles, Bruxelles, 3 édition, 1973
Ch. Perelman: JUSTICE ET RAISON, Editions de l’Université de Bruxelles, Bruxelles-Belgique, 1963
Ch. Perelman: Le Champ de L’argumentation, Editions de l’Université de Bruxelles, Bruxelles-Belgique, 1970
Michel Meyer: Le Philosophe Et Les Passions, Esquisse d’une histoire de la nature humaine, Le Livre de Poche, Biblio-Essais, Paris, 1991
(22) د.الالوسي:التطور والنسبية في الاخلاق،ص ص21-22
(23)للتوسع حول موضوعة علاقة المنظومة القيّمية/الاخلاقية والدينية والاجتماعية المتمأسسة جميعها في بنية الخطاب التوتاليتاري المطلق، يُنظر:
Claude Polin :L’esprit Totalitaire,Edition Sirey-Paris, 1977
Moral Philosophy and Contemporary Problems, Edited by: J. D. G. Evane, Cambridge University Press, 1987
(24)للتوسع حول مجمل تطور فلسفة التحليل المنطقي للغة للفيلسوف الانجليزي رايل، يُنظر:
Lucie Antoniol: Lire Ryle aujourd’hui, Aux sources de la philosophie analytique, Préface de T. S. Champlin, Le Point Philosophique, De Boeck Université, Bruxelles-Belgique, 1993
(25)للتوسع حول مجمل فلسفة غيلنر، يُنظر:
Ernest Gellner: Cause and meaning in the social sciences, edited with a preface by I. C. Jarvie and Joseph Agassi, Routledge, London, 1973
Ernest Gellner: Words And Things, A Critical Account Of Linguistic Philosophy And A Study In Ideology, With an introduction by Bertrand Russell, Beacon Press, Boston, 1959
(26)للتوسع حول مجمل فلسفة ميد، يُنظر:
GEORGE H. MEAD: MIND, SELF, and SOCIETY: FROM THE STANDPOINT OFA SOCIAL BEHAVIORIST, edited and with an introduction by CHARLES W. MORRIS, THE UNIVERSITY OF CHICAGO PRESS, Chicago and london,1934
(27)للتوسع حول مجمل تحولات الفلسفة الوجودية وعلاقتها بالماركسية والابستمولوجيا البنيوية خاصة عند التوسير، يُنظر:
Mark Poster: Existential Marxism in Postwar France; From Sartre to Althusser, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, 1975
(28)
Adam Schaff: De La Necessité Des Recherches Marxistes Sur Le Langage, Un Essai sur la philosophie du langage, dans son livre Langage et Connaissance, Traduit du polonais par Claire Brendel, Edition anthropos, Paris, 1969, p215
(29)
Ibidem, p214
(30) د.الالوسي:التطور والنسبية في الاخلاق،ص35
(31)المصدر نفسه،ص35
(32)بوعلي ياسين:الثالوث المحرم،دراسات في الدين والجنس والصراع الطبقي،دار الطليعة-بيروت،ط2، 1978،ص ص15-16
(33)لمزيد من الاطلاع والتوسع حول المنجز الفلسفي والابستمولوجي في فلسفة اللغة في الخطاب الماركسي للفلاسفة كورزبسكي؛ زينوفيف؛ فيغوتسكي يُنظر:
Alfred Korzybski: Science And Sanity; An Introduction To Non-Aristotelian Systems And General Semantics, The International Non-Aristotelian Library Publishing Company, USA, 4 edition, 1958
Zinoviev Alexandre :Le Communisme Comme Réalité, Traduit Du Russe Par Jacques Michaut, Edition de l’Age d’Homme, France, 1981
Lev Vygotski : Pensée Et Langage, Traduction de Françoise Sève; suivi de Commentaire sur les remarques critiques de Vygotski de Jean Piaget, La Dispute/Snédit, Paris, 3 édition, 1997
(34)عبد الرزاق الدواي: حول نظرية الأيديولوجية عند التوسير، دراسة منشورة في مجلة الاقلام المغربية، نسخة الكترونية، د.ت، ص ص37-38-39
(35)عبدالسلام بنعبدالعالي: الميتافيزيقا، العلم والايديولوجيا،دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت،ط2، 1993، ص ص96-97
(36)
Terry Eagleton: Ideology; An Introduction, Verso, London-New York, First Published, 1991, PP1-2
(37)د.فيصل دراج:ميخائيل باختين: الكلمة، اللغة، الرواية، دراسة منشورة في مجلة الآداب الاجنبية، سوريا،العدد99، 1999، ص126
(38)المصدر نفسه،ص126
(39)
John B. Thompson: Studies In The Theory Of Ideology, University Of California Press, Berkeley, Los Angeles, First Published, 1984,p2
(40)
Ibid,p2
(41)
Michael Gardiner: The dialogics of critique: M. M. Bakhtin and the theory of ideology, Routledge, London, 1992,p7
(*)باحث من العراق- مختص في فلسفة الدراسات الثقافية العراقية