إن أي دراسة للحضارة الغربية لا تأخذ الأبعاد الفكرية والفلسفية التي بُنيت عليها ستكون حتما دراسة قاصرة، وغير ناجعة، لفهم ما آلت إليه هذه الحضارة من تيه وضياع، ومن بين مظاهر هذه الحضارة الآن التطور التكنولوجي المذهل الذي يسابق الزمن، وحصر مفهوم التقدم في الأشياء المادية دون الأخذ بالاعتبار الأبعاد الربانية والإنسانية للإنسان، وكان الأولى أن يكون هذا التطور والتقدم نعمة على الإنسان، وفي خدمته، إلا أن النقمة لاحقت الإنسان، وجعلته يتحسر على الزمن الماضي.. زمن البساطة والسهولة.
الحياة في هذا الزمن ( الصعب ) تسير إلى العدم، والكون يتجه إلى الانتحار، وهذا كله نتاج العقل الإنساني العبثي، الذي طلق الوحي الإلهي، وآمن بالعقل، وكل ما يتوصل إليه في حل المشكلات التي تواجه الإنسان في حياته، وجعل أولى أولوياته الربح المادي.. هذا العقل العبثي الذي أعلن موت الإله، هو نفسه الذي قرأ تراتيل النهاية على الإنسان.
موت الإله: المتتبع لتاريخ الفكر الغربي يجده قد مر بالعديد من المراحل، ولعل أبرزها الصراع الكبير بين العقل والدين/ الكنيسة، هذا الصراع لا يرجع إلى اعوجاج في آليات التفكير العقلي فحسب، بل إلى التناقض الفادح بين المبادئ التي تؤمن بها الكنيسة، وتدعو لها، وتطبيقاتها على أرض الواقع.
فتصرفات رجال الكنيسة، وتضييقهم الخناق على العقل، والفكر الحر، وتواطؤهم مع ذوي السلطة والمال، على حساب الطبقات الكادحة، هي التي ولدت الكراهية والامتعاض ضد الدين وتعاليمه، مما أدى بالكثير من الفلاسفة والمفكرين أن يتبنوا أفكارا مناهضة للدين، وقراءات مناقضة للوحي الإلهي، هذه الأفكار والقراءات كانت بمثابة إعلان عن انتصار الإنسان على الإله، وانتصار العقل على الدين، وطلاق الأرض من سلطة السماء..
"فالله قد مات" كما أعلن نيتشه، و"الدين أفيون الشعوب" كما قال ماركس، لهذا لابد للعقل أن يأخذ زمام المبادرة، دون الحاجة إلى تعاليم السماء، حتى ولو أدى ذلك إلى عقد ميثاق مع الشيطان، والتعاون معه من أجل اكتساب العلم والمعرفة كما فعل " فاوست ".
مفهوم موت الإله: لقد أعلن فيلسوف العدمية الشهير فريدريك نيتشه " موت الإله " في كتابه " هكذا تكلم زرداشت " بصرخته المرعبة " يا قوم، لقد ماتت القيم، لقد مات الدين المسيحي في أوروبا، ومات الإله " علما أن الإله الذي يهاجمه نيتشه، ويعلن موته هو غير إلهنا الذي نعبده، وندعوه، ونوقره، وعالم نيتشه الروحي غير عالمنا الروحي الذي نحياه ونعيشه.
والسؤال المطروح لماذا أعلن نيتشه موت الإله؟.
إن الحدث البارز الذي لاحظه نيتشه في حضارة القرن التاسع عشر، الذي يعد قرن الفلاسفة الذين أشاعوا الأنوار في وجه الظلامية، والتسامح بمقابل التعصب، وبعد الثورة الفرنسية التي انتزعت السلطة السياسية من السيد الأعلى صاحب الحق الإلهي، في قرن العلم الوضعي، والفعالية الصناعية، والثورات السياسية، ضاقت مكانة الله أكثر فأكثر، واختفى الله شيئا فشيئا " .
ويمكن تفسير هذا الحدث مباشرة على أنه زوال مفهوم الآخرة من حقل الثقافة الغربية، وعندما يزول مفهوم الآخرة من حياة الإنسان يصبح تفكيره أرضيا تابعا لمتطلبات الجسد، ومتمحورا حول الأشياء. إن موت الإله أولا، موت الآخرة بمعنى إلغاء الإيمان بعالم آخر.
ويقدم الدكتور عبد الوهاب المسيري تفسيرا آخر لموت الإله. حيث يقول: "موت الإله غير مفهوم من الناحية الدينية ( الإسلامية أو الديانات التوحيدية ) ولكن في إطار حلولي يصبح الأمر منطقيا، فالحلول الإلهي يأخذ درجات منتهاها وحدة الوجود حيث يتجسد (يحل) الإله تماما في الطبيعة وفي أحداث التاريخ، ويتوحد مع الإنسان ومع مخلوقاته، ويصبح كامنا فيهما، ولكن لحظة وحدة الوجود هي نفسها اللحظة التي يصبح الإله فيها غير متجاوز للمادة ". أي يحدث الحدث، وهو موت الله وغيابه.
وعندما غاب الإله عن الحضور في الوعي الغربي، أصبح الإنسان هو السيد،وهو مركز الكون، وهو الذي يحدد الخير وفق مصالحه الآنية، ويحدد ماهو الشر وفق معاييره الدنيوية.
وعندما غاب الإله عن الحضور، رحلت الروح عن الإنسان، فالروح مصدرها رباني، وأصبح - أي الإنسان- محكوما بسلطان الجسد، وما يطمح إليه من ملذات، وشهوات، ورغبات.
وعندما غاب الإله، غابت أحكام السماء، وقيم الوحي الإلهي الثابتة التي كان الإنسان يسترشد بها في حياته، جاء في كتاب " القيم إلى أين " " عندما كان الدين مهيمنا كانت توجد قيم ثابتة، قيم معلقة في السماء، قيم صادرة عن الوحي الإلهي، بعد انهيار الإيمان بالوحي الإلهي في أوروبا أصبحنا ضائعين".
إذًا، عندما غاب الإله، واختفى، ضاع الإنسان، وتاه، وفقد المعنى من الوجود، مما أدى ببعض الفلاسفة إلى إعلان موت الإنسان، وقد تنبأ الفيلسوف ليفي ستروس بالأفول الوشيك للإنسان بعد أفول واختفاء الآلهة الذي كان يؤمل منه أنه سيمكن الإنسان من التحرر من الأوهام وتجاوز الاستلابات، ويفتح أمامه سبل العيش في نعيم وسعادة، وقد أطلق على الإنسان الذي يعيش ويحيا من دون إله الإنسان العاري، وكأنه يريد أن يقول عنه –أي عن الإنسان- بأن حياته أصبحت عارية من القيم والأخلاق... عارية من المعنى والأهداف النهائية... عارية أمام الأوهام و الاستلابات الجديدة التي تواجهها، وهذا ما نقوم بتوضيحه في النقطة الآتية.
موت الإنسان: ميشيل فوكو الفيلسوف الفرنسي هو صاحب مقولة " موت الإنسان " حيث قال في كتابه الشهير " الكلمات والأشياء " " إن الإنسان اختراع حديث العهد، صورة لاتتجاوز عمرها مائتي سنة،إنه مجرد انعطاف في معرفتنا، وسيختفي عندما تتخذ المعرفة شكلا آخر جديد ".
والإنسان الذي يقصده فوكو وينعيه بالاختفاء و الموت، هو " ذلك الإنسان الواعي و المسؤول والمالك لزمام أمره، والفاعل في تاريخه بفعل تظافر إرادته، والإمكانيات التي توفرها علومه، إنسان الطموح والحقوق والواجبات ".
وسبب هذا الموت و الاختفاء هو سقوط تلك" الصورة المثالية التي كانت عالقة بأذهاننا عن الإنسان بفعل ممارساته البشعة، وتصرفاته المشينة واللاأخلاقية من خلال الاستعمار والنازية والفاشية والستالينية..." بالإضافة إلى الصهيونية. لقد فقد الإنسان عنصر التسامي الذي يجعله يتجاوز الحيوان، ويتسامى عليه، وأصبح مساويا للحيوان، ومنسجما مع عالم الأشياء، مما أدى إلى موته، واختفائه، وعندما عنون فرانسيس فوكاياما كتابه " نهاية التاريخ والرجل الأخير" كان يقصد بنهاية التاريخ "نهاية الإنسان، وانتصار الطبيعة/ المادة، أي الموضوع ( اللإنساني ) على الذات ( الإنسانية) ومعناه تحول العالم بأسره إلى كيان خاضع للقوانين الواحدية المادية التي تجسدها الحضارة الغربية، والتي لاتفرق بين الإنسان والأشياء والحيوان، والتي تُحول العالم بأسره إلى مادة إستعمالية ".
فموت الإله لم يؤد إلى ولادة الإنسان المتفوق كما كان يطمح إلى ذلك نيتشه بل كانت الفاجعة كبرى، الفاجعة تمثلت في موت الإنسان الحقيقي، إنسان الإنسان، وظهور إنسان بمقاييس أخرى تتلاءم وتتماشى وطموحات النخبة المسيطرة على المال والسلطة في الغرب.
الإنسان المحارب: من بين المصطلحات التي أخترعها الغربي لتبرير احتلال البلدان، واستعباد شعوبها، ونهب خيراتها، واستنزاف ثرواتها، الأنا و الأخر، فالأنا القوي والمتفوق والمتحضر، والأخر هو الضعيف الفاشل والمتخلف، الأنا هو الإنسان الأبيض، والآخر هو الأجناس الأخرى، ولقد قام بهذه المهمة الإنسان المحارب الذي أباد الهنود الحمر في أمريكا، وأحتل الجزائر مائة واثنتين وثلاثين سنة، وألقى القنبلة الذرية على هيروشيما وناكزاكي، وأقام دولة إسرائيل لليهود في فلسطين وطرد شعبها الأصلي إلى الشتات، وهو الذي يقود الحروب الاقتصادية المتمثلة في تفقير الشعوب وتجويعها، والحروب العسكرية في أفغانستان والعراق، وهو الذي يزرع بذور الفتن وينشر الفوضى الخلاقة في إيران ولبنان والسودان والصومال وباكستان وغيرها .
الإنسان الاقتصادي: وهو الإنسان الذي لايهتم بالقيم الإنسانية كالتراحم والحب والتضامن والتعاون والتكافل، دوافعه دائما اقتصادية، فهو باحث عن الربح المادي بشكل دائم، وأفعاله حتمية، تفرضها قوانين الاقتصاد، ولقد حدث تغير في الإنسان الاقتصادي، مرة أخرى، وأتخذ شكل الإنسان النسقي، هذا الإنسان الذي يحتاج دائما إلى من يديره ويحركه من الخبراء والمهتمين والأكاديميين في شتى المجالات، وبهذا تحول الإنسان إلى قيمة حسابية قابلة للقياس .
الإنسان الجسماني: هو الإنسان الذي تحركه دوافعه الجنسية، ولا يعرف سوى متعته ولذته، وهو إنسان الاستهلاك والترف والتبذير، إنسان أحادي البعد خاضع للحتميات الغريزية متجرد من القيمة لا يتجاوز قوانين الحركة.
ما يجمع هذه الأشكال الثلاثة ( المحارب، الاقتصادي، الجسماني ) هو الرغبة، فالمحارب يرغب في السيطرة والاستيلاء على ثروات الآخرين، والاقتصادي يرغب في الربح المادي دون النظر إلى من حوله، والجسماني يرغب في تحقيق أكبر قدر من اللذة.
الإنسان بدون إله هو إنسان بدون أبعاد ربانية وإنسانية، إنسان متحكم فيه، يخضع إلى القوانين المفروضة عليه من طرف الأقوى، إنسان دجين بلا أفق أو تاريخ، يميل بطبعه إلى الاستمرار في حالته، ولا يتطلع إلى وضعية أسمى.
والعالم بدون إله هو عالم الحروب والدمار... هو عالم الأمراض والأوبئة الفتاكة ( السيدا، المخدرات، جنون البقر، أنفلونزا الطيور، التلوث البيئي، الاحتباس الحراري).
والحضارة بدون إله، ومن دون إنسان، هي حضارة التيه والضياع.. هي حضارة اللامعنى والعدم.. فمتى تسطع شمس الشرق على الغرب مرة ثانية، حتى تنير طريقه، وتنقله من الضلال إلى الهداية... ومن التيه إلى الرشاد؟.
المراجع :
- فريدريك نيتشه/ هكذا تكلم زرادشت
- بيير هيبر سوفرين/ زرادشت نيتشه
- عبد الوهاب المسيري/ الفلسفة الغربية وتفكيك الإنسان
- عبد الوهاب المسيري موسوعة/ اليهود واليهودية والصهيونية ج 1و3
- مجموعة من المؤلفين/ بناء المفاهيم ج1
- عبد الرزاق الدواي/ موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر
- روجيه غارودي/ حوار الحضارات
- هاشم صالح/ عرض كتاب القيم إلى أين