ما الذي يمكن أن نكتشفه بعد الآن عن هيجل ؟ ألم تكتب عنه مئات بل آلاف الكتب في مختلف اللغات ؟ وهل بقي شيء لكي يقال،أم "هل غادر الشعراء من متردم "، كما يقول شاعرنا الجاهلي ؟ ومع ذلك فهذا هو التحدي الذي يطرحه على نفسه الباحث الفرنسي جاك دوندت أحد كبار المختصين في الدراسات الهيجلية، فقد نشر سيرة ذاتية كاملة عن الفيلسوف الألماني الكبير. وزعم بأنه أتى فيها بأشياء جديدة لم تكن معروفة من قبل، وكل ذلك بفضل الوثائق والارشيفات التي اكتشفت مؤخرا عن هيجل وفترته. وقد عدل من الصورة الشائعة عن هيجل، وخصوصا تلك التي تقول بأنه كان ثوريا في شبابه ثم أصبح محافظا في كهولته ونضجه، فهو يبرهن على أن هيجل بقي وفيا لمبادئه الليبرالية الأولى التي اعتنقها في مرحلة الشباب، ولم يصبح منظرا للدولة البروسية الاستبدادية أو الرجعية كما يزعم خصومة مهما يكن من أمر فإن كتاب البروفيسور جاك دوندت يستحق الاهتمام على أكثر من صعيد. فقد أمضى عمره المديد في دراسة هيجل وفلسفته. وأصدر عنه على مدار الثلاثين عاما الفائتة مجموعة كتب متواصلة أصبحت مراجع مهمة في المكتبة الفرنسية. نذكر من بينها: هيجل في زمنه (1968)، من هيجل الى ماركس (1972)، هيجل والفلسفة الهيجلية (1982)، هيجل السري (1985)، هيجل، فيلسوف التاريخ الحي (1987).. هذا يعني أن شهادة شخص مثل جاك دوندت تستحق كل اهتمام. يفتتح المؤلف كتابه بمقطع من شعر هولدرلين، صديق هيجل الحميم، قبل أن يغطس في بحر الجنون يقول هذا المقطع:"أحس في داخلي بحياة لم تخلق من قبل أي إله،حياة لم تولد من قبل أي انسان. أعتقد أننا نوجد بأنفسنا وأننا لسنا مرتبطين بالكل ( او بالاله) الا عن طريق رغبة حرة...»(1)
سوف نرى فيما بعد نوعية العلاقة بين هولدرلين وهيجل، وكيف أنهما ناضلا كل على طريقته، من أجل المثالية والحرية في، كل ما نعرفه عن طفولة هيجل هو أنه ولد في مدينة شتوتجارت عام 1770م في عائلة متواضعة من الناحية المادية. وقد أصيب بعدة فواجع في طفولته، ففقد أمه التي كان يحبها كثيرا في الحادية عشر ة. وقتل أخوه في الحرب، وجنت أخته التي كان متعلقا بها أيضا كثيرا. تضاف الى ذلك مأساة طفله غير الشرعي الذي سبب له متاعب عديدة طيلة حياته كلها. وبالنسبة للفيلسوف المقبل، فقد تضافرت الصدفة والضرورة لكي تصنعا منه أكبر فيلسوف في ألمانيا، وربما في العصور الحديثة كلها، فقد بلغ سن النضج (أي 18 سنة) عندما بلغت فرنسا نضجها السياسى بأندلاع ثورتها الكبرى عام 1789. وكان مساره الفلسفي متساوقا مه مسار هولدرلين الشعري، أو مع مسار بيتهوفن الموسيقي، ومع مسار نابليون السياسي... فلم يكن نابليون فاتحا في مجال الحرب والسياسة بأكثر مما كان هيجل فاتحا في مجال الفكر والفلسفة. ويبدو أن التعاليم الأول لم تؤثر عليه كثيرا من الناحية الفكرية.
ولذلك راح يعبر عن غبطته العظيمة عندما ولد للمرة الثانية: أي عندما اعتنق الفلسفة، وأصبحت هاجسه الأول. فمثل جميع العظام في التاريخ شهد هيجل لحظة التحول الخارق، وأحس وكأنه يولد من جديد. كل ما نعرفه أيضا عن طفولته هو أنه ولد في عائلة بروتستانتية لوثرية. وكانت تتميز بالتقى والورع، وللدين فيها حضور قوي، وسوف يظل هيجل طيلة حياته كلها متعلقا بالمذهب اللوثري، وبالطابع الاحتجاجي للبروتستانتية وسوف يخوض عدة معارك ضد المذهب الكاثوليكي الذي كان يعتبره راضخا للحكام ومؤيدا للطغيان على عكس البروتستانتية ولكنه سوف ينتقد هذه الأخيرة عندما تحولت الى عقيدة جامدة مؤيدة للحكام أيضا، مهما يكن من أمر فإن هيجل تأثر في شبابه الأول بالتيار الفكري الصاعد آنذاك والمعروف باسم التنوير، وكان يقرأ وهو في الثانوية مؤلفات المفكرين التنويريين من أمثال رودلف أوليسنغ، وكانط.. ولكن هذا لا يعني أنه تخلى عن الدين أو أصبب معاديا له. وانما راح يعدل من لغة الفلسفة لكي تتلاءم مع عقلية شعب لم يستنر بعد. ولذلك أحس بالحاجة الى استخدام لغة مزدوجة، أي دينية وفلسفية في آن معا. وراح يبرر ذلك فيما بعد بشكل ناجح قليلا أو كثيرا.
وفي نهاية دراسته الثانوية يكلف هيجل بإلقاء خطاب الوداع من قبل المدير والأساتذة. وكان هذا دليلا على مدى تفوقه وثقتهم به. وكان عنوان خطابه: الحالة المتردية للفنون والعلوم لدى الأتراك ! والمقصود لدى غير المسيحيين. وراح يتملق أساتذته و المسؤولين الكبار لكي ينال منحة دراسية على الرغم أنه اتخذ موقفا آخر في دراسته عن "دين اليونان والرومان ". وقال بأن تعددية العقائد الدينية ينبغي أن تدفعنا لنقد عقائدنا الخاصة وليس فقط عقائد الغير. فعقائدنا قد تكون كلها خاطئة أو فقط نصف صحيحة ! وهو هنا يذهب الى أبد مما ذهب اليه المفكر التنويري ليسنغ عندما قال بأن الأديان التوحيدية الثلاثة يمكنها كلها أن تكون صحيحة، وليس فقط الدين المسيحي، وقد أثار كلامه فضيحة في أوساط المسيحيين آنذاك. ففي رأيهم أن الدين الوحيد الصحيح هو المسيحية.
ولكن كيف أصبح هيجل فلسوفا ولماذا؟ لقد قدم هيجل عدة أجوبة على هذا السؤال. وذلك بحسب المزاج واللحظة. ففي كتابه المشهور "فينوفيولوجيا الروح" يقدم جوابا مطولا على هذا السؤال. وفيه يصف هيجل المراحل التي يقطعها الوعي من البداية وحتى النهاية: أي كيف ينتقل من حالة السذاجة والجهل الى حالة المعرفة الفلسفية الحقيقية أو المعرفة المطلقة. وهكذا يصف التقدم المتدرج للوعي منذ استيقاظه وحتى وصوله الى الهدف النهائي، وذلك بفضل استشعارات متتالية ومتصاعدة. بمعنى أن يحصل نمو للوعي، نمو متزايد ومتصاعد. هكذا نجد أن هيجل يخضع دون أي نقد للتراث المثالي. فهو يبتديء بالوعي، بل وبحالة يعتبرها أولية أو اصلية للوعي. انه ينطلق مما يمكن أن ندعوه بالواقعية الساذجة التي تتطابق فيها بشكل عفوي الانطباعات الحسية والواقع ذاته. وهذا ما ندعوه بالايمان العفوي بالوجود الفعلي والمستقل للعالم. إن هذه البداية المفترضة لحياة الوعي وتقدمه هي ما يدعوه هيجل باليقين المحسوس.
بعد أن ينطلق منها. ثم ينقلب عليها ويقطع معها، نجد الوعي ينتقل - أو يصعد - الى مرحلة أعلى من تطوره: أي مرحلة الادراك أو الاحساس الواعي، وليس العفوي، ثم يصعد مرحلة بعد مرحلة حتى يصل الى مستوى الوعي الفلسفي الأعلى أو الأقصى. وهذا المرحلة الأخيرة هي ما يدعوها بالمعرفة المطلقة وتسبق هذه المرحلة الأخيرة مراحل مهمة للوعي هي ما ندعوها بالفن والدين. وفي هذا السباق المحموم نحو المطلق لا تسبق الفلسفة الدين الا في آخر لحظة. لحظة الوصول الى المحطة الأخيرة التي لا محطة بعدها.
ولكن يمكن أن ننتقد هذا التصور للروح ولصعودها في مراتب المرنة درجة بعد درجة. فالدين لا يجيء في المرحلة ما قبل الأخيرة، أي قبل الكشف الفلسفي، إنما يجيء في البداية. أول شيء كان الأطفال يترفون عليه - عقد هيجل هو الدين، وليس اليقين المحسوس كما يقول. نقول ذلك حتى لو كان التدين يحصل عن طريق الوساطة اللاواعية للحساسية والعاطفة. وبالتالي فالمرحلة الدينية هي أولى مراحل الوعي. ويعرف ذلك هيجل قبل غيره لأنه تربى في عائلة دينية منذ نعومة أظفاره: أي منذ ان استيقظ على الوجود والحياة. وقد تغير موقفه من الدين بعد أن كبر ونضج. ولكن حتى عندما أصبح ميالا للالحاد فإنه ظل يحتفظ بلهجة دينية، وظل متأثرا بالتراث الديني. وبالتالي فعلاقة هيجل بالدين أكثر تعقيدا مما نظن وكثيرا ما يخلط بين اللغتين الدينية والالحادية بشكل يزعج القراء أحيانا ويخلق البلبلة في عقولهم.
ولكن على الرغم من ذلك فإن القطيعة حصلت فعلا وراح الفيلسوف المثالي أي هيجل - يؤكد شخصيته فجأة. فهو لم يعد بحاجة الى شيء ينوجد بذاته. هكذا راح يقطع مع العالم المحسوس، والعائلة والثقافة، والدين وراح يتحدث عن لحظة القطيعة بشكل رومانطيقي: "إن الفكرة الأولى تتمثل بالطب بتصور نفسي ككائن حر بشكل مطلق. ومع الكائن الحر، الواعي بذاته، ينبثق عالم بأسره من العدم، انه الخلق الوحيد الممكن من العدم "(2).
ما هو تعريف المثالية في نهاية المطاف ؟ ومن هو المثالي ؟ إنه شخص ميتافيزيقي لا يعيد تركيب العالم وانما يخلقه فيما يخلق ذاته. انه ين من بأهمية الأفكار الى أقصى حد ممكن، وأنها هي التي توجه التاريخ. الشخص المثالي يعتبر الفكر أهم من الواقع المادي المحسوس. ومن داخل الفيلسوف المثالي يتولد الواقع أساسا.، كما أنه لا يوجد أي شيء مستقل عن الوعي. وهذا الفكرة موجودة في نص كتبه هيجل في شبابه، وربما بالتعاون مع زميليه هولدرلين وشيلنغ وكان عنوان النص: البرنامج الأول للمثالية الألمانية، ويقول البروفيسور جاك دوندت معلقا على هذا التوجه المثال لهيجل ومنتقدا له:
"إن هذا التحول الراديكالي المزعوم الى الفلسفة يفترض احداث القطيعة المطلقة مع كل ما يمكن اعتباره شرطا للفكر أو سابقا له. فالمثالي يعتقد أن الذات لا تتأثر بأي شيء خارجي عليها، وانما تؤثر على كل شيء. وهذا المزعم يهدد كل ثقافة وكل دين في جوهرهما بالذات، فالمثالي يعتقد أنه لا يولد من شيء، وانما كل شيء يولد منه. وعندما يجلس وراء طاولته وأمامه الأوراق البيضاء فإنه يعتقد بأنه يهيمن على الكون، ويعتقد أيضا بأنه ينطلق من نقطة الصفر، وينكر كل المكتسبات التاريخية التي حصلت قبله. ولكن الثقافات والأديان الموجودة لا تهتم كثيرا بهذا المفكر المثالي الذي يعتقد انه بداية الأشياء فهي تعلم انه يعدم الأشياء في فكره، أو في جمجمته ولكن كل شيء سوف يعود الى سابق عهده لاحقا. ولكنها تخطي، كثيرا إذ تطمئن الى الوضع وتثق به أكثر من اللزوم. فالواقع أن الفلسفة الهيجلية سوف تولد آثارا سلبية جدا بالنسبة لها. ففي نهاية حياته راحوا يدينون فلسفته بعنف بحجة أنها حلولية، أو إلحادية، أو تخريبية على الرغم من كل الإحتياطات النظرية التي اتخذها المؤلف ". (3)
في الواقع ان مثالية هيجل كانت عالية ورائعة. ولهذا السبب كان تلامذته يستمعون اليه بكل خشوع في جامعات " ينيا " أو " هايدلبرج " أو " برلين ". وعندما ألقى درسه الافتتاحي عام 1818 في جامعة برلين هز الصالة هزا وارتفع بالحضور الى مستويات عليا. يقول معرفا الفلسفة: "ان التصميم على التفلسف يلقي بنفسه في أحضان الفكر المحض، ذلك أن الفكر وحيد مع ذاته. انه يلقي بنفسه في بحر لا ضفاف له، كل الألوان المبرقشة، وكل نقاط الدعم اختفت، كل الأضواء الودودة عادة انطفأت. ولم تبق إلا نجمة واحدة مشعة، إنها النجمة الداخلية للروح.
انها النجمة القطبية، ولكن من الطبيعي أن تشعر الروح المتوحدة مع ذاته بقشعريرة الرعب. وذلك لآن الروح عندما تتنطح للتفلسف لا تعرف الى أين ستصل، ولا في أي اتجاه تذهب.
هذه هي الفلسفة: انهما حالة من التردد، من انعدام الأمان من ترنح كل شيء..."(4).
هكذا كان هيجل يبحر في محيط هائل من الفكر التأملي.وكانت سفيتنه تترنح أكثر من مرة وهي تدخل المناطق الخطرة أو تخرج عن الخط المرسوم، وتتعرض للعواصف والأنواء.
ولكنه كان يعيدها الى جادة الصواب في آخر لحظة. ونادرا ما كان يفقد توازنه أو بوصلته. ذلك أن هيجل كان يجمع الى مثاليته المتطرفة نوعا من التفكير الوضعي أو الواقعي الملموس والمحسوس، وهكذا كان ينقذ نفسه من التهويم في متاهات الخيال كبقية المثاليين الحالمين. ولولا انه أخذ الواقع ومشروطيته الثقيلة المرعبة بعين الاعتبار لما أصب فيلسوفا كبيرا، ولما أثر على عصره والعصور اللاحقة كل هذا التأثير. فالفكر الذي لا يفعل في الواقع او لا يفسره ويوضحه لا يستحق أن يدعى فكرا. صحيح ينطلق من الروح أو من الوعي أولا ولكن لكي يصطدم فورا بالواقع أو بمادية الواقع الكثيفة والمعتمة. والفكر الحقيقي يساعد الناس على فهم واقعهم، وهذا ما يريحهم نفسيا. والواقع في زمن هيجل كان صعبا، قاسيا، مريرا. فالاقطاع كان لايزال سائدا. والتعصب الديني كان شائعا. وألمانيا ممزقة الأوصال وتبحث عن توحيد، كان أمير المنطقة التي ولد فيها هيجل يجمع في شخصه كل مساويء الطغيان المعهود. كان متسلطا، مبذرا متلافا، وميالا للفسق والفجور على الرغم من أنه يحكم بلدا لوثريا (أو بروتستانتيا) مشهورا بصرامته الاخلاقية. كان يجبر موظفيه على جلب نسائهم وبناتهم الى حفلات رقص في قصره فيختار منهن ما شاء واشتهى. وكان يسجن المعارضين دون أي مناقشة او محاكمة. باختصار كانت ألمانيا لا تزال تغط في ظلام العصور الوسطى الاقطاعية. ولذلك صفق هيجل للثورة الفرنسية عندما اندلعت وبنى عليها أكبر الآمال.
بعد أن نجح هيجل في دراساته الثانوية نال منحة جامعية لدراسة اللاهوت في جامعة توبنجين الشهيرة. وهناك أمضى خمس سنوات بصحبة هولدرلين وشيلنغ، وفي بعض الاحيان كانوا يسكنون في غرفة واحدة. وقد أصبحوا فيما بعد مجد ألمانيا. وقد نستغرب كيف يمكن لشخص دخل كلية اللاهوت أن يصبح فيما بعد فيلسوفا كبيرا. فنحن نتوهم اللاهوت (أي علم الدين) هو خصم الفلسفة وعدوها اللدود، ولكن الواقع أن كلية اللاهوت في ألمانيا تتجاور أحيانا كثيرا مع كلية الفلسفة، وذلك على عكس فرنسا التي حذفت ذلك موت حذفا كاملا، بسبب علمانيتها الراديكالية. وقد تنبه نيتشه الى هذه النقطة عندما قال وهو يفكر بهيجل حتما:
"ان القس البروتستانتي هو الجد الأول للفلسفة الألمانية. والبروتستانتية ذاتها هي خطيئته الأصلية ويكفي أن نتذكر كلية ذلك موت في جامعة توبنجين لكي نفهم أن الفلسفة الألمانية ما هي في نهاية المطاف الا لاهوت مقنع..."(5).
نعم لقد كان هيجل وشيلنغ وهولدرلين موجهين في الأساس لكي يصبحوا مرشدين دينيين، أي كهنة، ومن معطف اللاهوت الديني خرج الفكر والشعر كأعظم ما يكون. ذلك أن الثلاثة ثاروا على الجمود الديني السائد في عصرهم بعد أن تعرفوا عليه من خلال جامعة توبنجين ولا يحق لنيتشه أن يسخر منهم كثير، فهو أيضا كان ابن قس بروتستانتي، وقد حاول المستحيل للتخلص من تربيته الدينية الشديدة الوطأة. وفي كلية اللاهوت ذات النظام الصارد كان الثلاثة يقرأون الكتب المحرمة: أي كتب كانط، وجان جان روسو، وفيخته، وليسنغ.. كانت تساعدهم على الهرب من دروس اللاهوت. ومواعظه التقليدية المملة. في الواقع أن كلية اللاهوت بدلا من أن تقربهم من الدين أبعدتهم عنه. ولذلك تحولوا عن اللاهوت الديني الى الفلسفة، ورفضوا أن يصبحوا رجال دين بعد تخرجهم. وقد قال هولدرلين جملته المشهورة أفضل أن أكون حطابا في الغابات على أن أصبح رجل دين ! فالبروتستانتية كانت قد تحولت أيضا الى عقيدة دوغمائية متحجرة، مثلها في ذلك مثل الكاثوليكية. وبالتالي فكان عليهم ان يتنفسوا خارجها، وينقلبوا عليها كرد فعل مشروع ومفهوم. لقد عاش الثلاثة هيجل وهولدرلين وشيلنغ مدة عشرين سنة في حالة رد الفعل ضد ما تعلموه في كلية اللاهوت. وأكثر ما هالهم هو جو النفاق والكذب السائد فيها، نقول ذلك على الرغم من أن الدين يدعو الى الصدق أساسا. وراحوا يحاولون الخروج من هذا الجو والبحث عن حقيقة نقية وصافية. وهكذا أصبحوا كانطيين، ثم فيختيين (أي من أتبارى فيخته).
وراحوا يتعلقون بالمباديء الأخلاقية المعبر عنها بلغة جديدة: ينبغي عدم الكذب. وظلوا مهووسين بالبحث عن الحقيقة واكتشافها تحت قناع العالم، ثم نشرها بين الناس بعد اكتشافها. وأقسموا اليمين فيما بينهم على التحالف من أجل الحقيقة، والتعلق بدين داخلي يختلف عن الدين الظاهري الشكلاني الساند.
لقد أحس الثلاثة بأن المسؤولين عن الكلية يريدون دمجهم في النظام العام عن طريق إفسادهم بشكل مقصود. ولذلك انتفضوا ورفضوا أن يدخلوا في اللعبة. لم تكن الحياة قد عركتهم بعد لكي يصبحوا مستعدين للتنازعات والمساومات، ولم يكونوا يلمحون الضرورة التاريخية والفائدة لهذه الثقافة الفاسدة والمفسدة التي سيقدم عنها هيجل فيما بعد تحليلات رائعا ومضيئة. كانوا مثاليين طازجين مليئين بالأحلام الوردية. وكانت مثاليتهم عفوية. متعلقة فقط بسماء الفكر والاعتقاد بأن الفكر وحده يغير العالم. لم يكونوا قد خاضوا بعد معمعة الحياة. الم يكن جان جاك روسو الذي قرأوه خفية يتحدث عن الحقيقة كمثال أعلى ؟ ألم يكن كانط يعتبر. الصدق والحقيقة بمثابة القيمة المطلقة ؟ ألم يكن فيخته يعلن بأن العدل ينبغي ان يتحقق حتى لو خرب العالم ؟ كانوا جميعهم يزاودون على القيم المثالية. ولكن التلامذة اكتشفوا فيما بعد أن هؤلاء. الأساتذة المحررين سمحوا أيضا بالكذب تحت ضغط الحياة وضروراتها. وتراجعوا عن المثالية المطلقة التي كانوا يحلمون بها في شبابهم. وعندئذ راح هيجل وشيلنغ يساومان الى حد ما على الحقيقة لكي يستطيعا التوصل الى المناصب الجامعية ويشقا طريقهما في الحياة. وحده هولدرلين ظل مخلصا للمثالية الاولى فاصطدم بالواقع المر وجن.
لقد صور شاعر ألمانيا الأكبر وضع التلاميذ قبل أن يدخلوا الى كلية اللاهوت وبعد أن يخرجوا منها محطمين في ديوانه "هيبيريون ".
قال وكأنه يتحدث عن نفسه:
"التلاميذ الصغار لربات الفن يكبرون وسط الشعب الألماني مليئين بالحب والأمل، ومسكونين بالروح. ولكن إذا ما رأيناهم بعد سبع سنوات من ذلك التأريخ وجدناهم شاردين في كل مكان يلفهم الصمت. وجدناهم باردين كالصقيع، وكأنهم ظلال أو أشباح. إنهم كالتربة التي يزرعها العدو بالملح لكيلا تنبت فيها سنبلة واحدة !"(6).
لقد هرب هيجل، مثل هولدلين، من الحاضر الأماني المزعج الى اليونان الذهبية الى العصر الذهبي لليونان،وحاولوا التوفيق بين المسيحية في براءتها الأصلية وبين الثقافة اليونانية شعرية كانت أم فلسفية. والواقع آن تعلقهم بثقافة وثنية حرة كان يزيح عن كاهلهم ضغط الجمود الديني السائد في عصرهم. ولكنهم انتجوا خليطا مسيحيا وثنيا في آن معا، ولم يكن من السهل حفظ التوازن. فأحيانا تنتصرالمسيحية لديهم، وأحيانا تنتصر الثقافة اليونانية الوثنية، وأحيانا في نفس الصفحة نجد لدى هيجل هذا المزيج المضطرب... فليس من السهل الحسم أو أن تقتلع نفسك من جذورك. وربما لم يكن ذلك مستحبا.
كانوا يفاجئون هيجل في كلية اللاهوت وهو يقرأ خفية كتب ليسنغ، أو جان جاك روسو أو مونتسيكو، أو كانط، وكان كانط لايزال حيا آنذاك ويمثل المجدد الأكبر في الفكر الألماني. وكان هيجل يترقب بفارغ الصبر ظهور كتبه الواحد بعد الآخر. وهكذا شعر بفرح كبير عندما ظهر كتابه "الدين في حدود العقل فقط ". وكان العنوان بحد ذاته يمثل ثورة أو فضيحة بالنسبة للتقليديين. فكيف يمكن أن نفرض على الدين حدودا باسم العقل ؟! أليس الدين فوق كل شيء بما فيه العقل ؟ ولكن كانط أراد أن يعقلن حتى الدين. وكان من الخطر أن يقرأ المرء هذا الكتاب وهو في كلية العلوم الدينية (أو كلية اللاهوت). ولكن هيجل كان فاهما للمعرفة أو مستعدا لأن يخاطر بنفسه من أجل أن يفهم شيئا ما. وعندئذ انخرط في دراسات جريئة عن الدين، وألف كتابا عن حياة يسوع المسيح، وكتبا أخرى. ولكنه لم يتجرأ على نشرها وإنما بقيت مخطوطات في أدراجه طيلة حياته كلها. وعلى الرغم من أنه لم يتخل عن التلوين الديني لكتابته، الا أنه اعتمد وجهة نظر سوسيولوجية، أو على الأقل تاريخية لكي يتفحص الشروط الموضوعية لتجديد المسيحية. وكان هدفه الأخيرهو التوصل الى مسيحية معدلة بعمق أو مستعادة في براءتها الأصلية ومخلصة من تراكمات الزمن وشوائب القرون. كان يريد التوصل الى صيغة جديدة للدين، صيغة قادرة على أن تدعم الدولة وتشجع العاطفة المدنية، والوطنية وتلهم الأخلاق الاجتماعية للأفراد. ثم اندلعت الثورة الفرنسية وعمر هيجل لا يتجاوز التاسعة عشرة. وكان لها تأثير كبير عليه وعلى رفاقه في كلية اللاهوت بجامعة توبنجين. وكان حدثا فريدا من نوعه وقد أدى الى تغيير. وجه أوروبا وليس فقط فرنسا وراحت قلوب هيجل وهولدرلين وشيلنغ تنبض مع الأحداث المتتابعة لهذه الثورة وعندما هاجم الباريسيون سجن الباستيل الرهيب ودمروه لم يكن المراقبون الألمان يصدقون أعينهم فهذا الحدث معجزة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنه معجزة واقعية أي حصلت بالفعل. وهبت رياح الحرية على أوروبا وراح هيجل وزملاؤه يزرعون شجرة الحرية احتفالا بهذه الثورة التي غيرت مجرى التاريخ. وولدت هذا الثورة آمالا عراضا عن المفكرين الألمان. فقد كانوا يأملون بأن تنعكس أفكارها التحررية عليهم في ألمانيا. ولم تخف حماسة هيجل لها حتى بعد أربعين سنة من حصولها. فقد كتب عنها بأسلوبه الفلسفي الذي يتجاوز الشعر.
"كانت إشراقة رائعة للشمس. كل العقول المفكرة رحبت بها. ورانت على الجميع أحاسيس بهيجة في ذلك الزمان. وراحت حماسة الروح تجعل العالم يرتعد قشعريرة. يحصل ذلك كما لو أننا في تلك اللحظة بالذات توصلنا الى المصالحه الحقيقية بين الرب والعالم "(7).
كان موقف كانط مرحبا أيضا، على الرغم من أنه أسف لأعمال العنف الوحشية التي ارتكبها الثوار، وبخاصة في المرحلة الثانية في الثورة. وقال بأن الحماسة التي رافقتنا والآمال التي علقت عليها لا تقل أهمية عن الثورة بحد ذاتها. فقد برهنت على رغبة الجنس البشر ي في التقدم. وعلى استعدادا الأخلاقي لدفع ثمن الحرية. وأما هيجل فركز من جهته على انبثاق الفضائل القديمة التي قضى عليها الاستبداد ويقصد بهذا الفضائل: النزاهة الشخصية والتفاني وانكار الذات.. والشجاعة،والقبول المرح بالموت. ومجد هيجل وزملاؤه القيم الجديدة التي رفعتها الثورة: أي قيم الحرية والمساواة. والاخاء. ولكن الشيء الذي أعجبهم أكثر من غيره هو استعداد الثوار الفرنسيين للموت من أجل هذه القيم. وهكذا رفعوا شعار الحرية أو الموت ! ثم الحرية من خلال الموت. فأن تموت حرا خيرا من أن تعيش مستعبدا جبانا. في الواقع أنه بقي شيء من الأيديولوجيا المسيحية التقليدية من خلال اعجابهم بالثوار الفرنسيين. فهؤلاء من أجل المثال الأعلى راحوا يحتقرون العالم ويزهدون بخيراته وثرواته. ألم يقل السيد المسيح: مملكتي ليست من هذا العالم ؟ لقد انخرطوا في الجيوش الجمهورية وكرسوا أنفسهم روحا وجسدا للفكرة الكونية لتحقيق الحرية والسعادة على الأرض وضحوا بأنفسهم بالملايين في ساحات الوغى لكي يسعد اخوانهم واطفالهم والأجيال الآتية. راح هولدرلين يعبر عن هذه العاطفة المشتركة ويمجدها على طول الخط. وهذا ما فعله هيجل، وان بشكل أقل شاعرية وأكثر نثرية لقد علمت الثورة الشعب أن يكسب ذاته، ان يصبح واعيا بذاته، ان الثورة أحيت أو جددت الاستعداد الأخلاقي الأساسي الكامن لدى البشر. وهذا ما ينعته هولدرلين "بالالهي" أو السماوي فيهم.
ولكن الشيء المهم الذي لمحه هيجل والذي يدل على نفاذ بصيرته هو أنه تحصل في أوروبا ثورتان متوازيتان لا ثورة واحدة. الأول هي الثورة السياسية الفرنسية بالطب. ولكن الثانية، على الرغم من أنها نظرية لا تقل أهمية أو خطورة انها الطفرة الفلسفية التي تحصل في ألمانيا على يد كانط. ان الفلسفة الكانطية تبدو لنا اليوم وكأنها هادئة، معتدلة لا تؤذي أحدا ولكنها في الواقع انفجرت في وقتها كالقنبلة الموقوتة وأذهلت المعاصرين. ينبغي الا ننسى أن كلمة ثورة لم تتكرر في أي نص مثلما تكررت في المقدمة الثانية التي كتبها كانط لكتابه الشهير: نقد العقل الخالص. (صدر عام 1787، أي قبل أكثر من 200 سنة).
هذا يعني أن الثورة الفلسفية الكانطية سبقت بوقت قصير جدا الثورة الساسية الفرنسية. وبعد اندلاع هذه الأخيرة اتخذت فلسفة كانط كل أهميتها وابعادها التاريخية. لكنها كانت تمثل ارهاصا بالواقع واستباقا عليه. وهنا تكمن عظمة الفكر، وبخاصة اذا كان في حجم الفلسفة الكانطية العميقة فكانط كان يعتبر فلسفته بمثابة تدثسين لفكر جديد كليا وقطيعة مع كل ما سبق.
يقول بالحرف الواحد
"ان الفلسفة النقدية تختلف عن كل الفلسفات التي سبقتها. ويمكن القول بمعنى من المعاني انه لم توجد أي فلسفه قبل الفلسفه النقديه..."(8).
وفي ذات الوقت كان الثوار الفرنسيون يعتبرون أنفسهم وكأنهم يعيشون قطيعة راديكالية مع الماضي، وانهم يغامرون في المجهول، أو يقذفون بأنفسهم في المجهول. لقد قطع كانط مع اللاهوت التقليدي ومع الفلسفة التي ظلت مغموسة بالدين حتى ظهوره. فقد رفض مثلا أن يبرهن عقلانيا على صحة العقائد المسيحية الأساسية.ولذلك أرعب معاصريه وبدا لهم وكأنه مدمر لا شفقة لديه ولا رحمة. انه يتقدم كالبلدوزر الذي يسحق - طريقه كل شيء. ففي المجال الميتافيزيقي قال بأنه من العبث أن نحاول البرهنة على صحة أي شيء لأنه يتجاوز نطاق العقل. وفي المجال الأخلاقي قال بأن الانسان سيد نفسه وهو الذي يصوغ الأخلاق التي تناسبه، وقال أيضا بأن الرب لا يفرض على البشر قوانين أخلاقية، ولكن بما أنهم هم الذين يفرضون على أنفسهم هذه القوانين فإنه تبقى هناك امكانية للايمان بوجود الرب.
يعلق البروفيسور جاك دوندت على هذا الكلام قائلا:
"إن هذه الأفكار الكانطية لم تعد تصدم رجال الدين في عصرنا الراهن. فقد سمعوا بمثلها وأكثر!... ولكن مهما تكن درجة التساهل التي سمح بها التنوير الالماني، فإن أفكار كانط لها وقع الزلزال على معاصريا، وبخاصة تلامذة اللاهوت ". ولهذا السبب أحس هيجل أكثر من غيره بأهمينة الفلسفة الكانطية. واعتبر بأن هناك تقاطعا عميقا
بين الثورة السياسية الفرنسية، والثورة الفلسفية الكانطية. وقال بأن كلتا الثورتين ناتجتان عن نفس الاحياء أو البعث الذي تشهده الروح العالمية. يقول موضحا العلاقة بين الثورة على مستوى الفكر. والثورة على مستوى الواقع:
"هناك ثلاث فلسفات الآن: فلسفة كانط، وفلسفة فيخته، وفلسفة شيلنغ في هذه الفلسفات الثلاث تجسدت الثورة التي توصلت اليها الروح في ألمانيا في السنوات الأخيرة., وفي تتابعها رأينا المجرى المتسلسل الذي اتخذه الفكر. وقد ساهم شعبان اثنان في صنع هذا الفترة الكبيرة التي نعيشها الآن من التاريخ العالمي. هذان الشعبان هما الشعب الألماني والشعب الفرنسي. في المانيا تجسدت الثورة في الفكر، وفي الروح، وفي المفهوم. وفي فرنسا تجسدت في الواقع الحي". (10)
وقد وصل الأمر بهيجل الى حد الاعتقاد بآن الثورة النظرية الكانطية سوف تؤدي حتما الى ثورة سياسية في ألمانيا. لماذا:؟ لآن الأفكار هي التي تقود العالم حسب منظوره. وسوف تكون الثورة الألمانية أفضل من الفرنسية لأنه سوف يكون قد مهد لها من قبل التطهير الأخلاقي.
*******
الهوامش
1- الكتاب المشار اليه هنا. الذي اقتبسنا منه كلمة هولدرلين هذه هو التالي: هيجل، سيرة ذاتية، منشورات كالمان - ليفي، باريس، 1998ص 27, المؤلف: جاك دوندت.
jacques D'ho: Hegel 9 paris, Calmann- Levy
2- المصدر السابق، ص 38.
3- المصدر السابق ص 38.
4- المصدر السابق، ص 39.
5 - انظر كتاب "المسيح الدجال " لنيتشه، وهو منشور في أعماله الكاملة المترجمة الى الفرنسية في باريس. انظر بشكل خاص الفقرة (15).
Frederic Nietzsche: Oeuvres, Paris, Gailimard, 1974 L'antechrist.
6- انظر ديوان هولدرلين "هيبيريون " المنشور في أعماله الكاملة طبعة "لابلياد"، باريسن، 1967. الصفحة 269.
7- انظر كتاب هيجل: دروس حول فلسفة التاريخ. باريس، منشورات,
قرن ,1963,ص340.
Heqel: Lecons sur la philosophiques le pIeiade,3, Paris, vrin,1986.
8- انظر الأعمال الفلسفية لكانط، منشورات لابلياد. الجزء الثالث، 1986، ص451-452.
Kant: Ocuvres philosophiques, la pleiade, 3,1986.
Paris
9- انظر كتاب جاك دوندت عن هيجل والصادر حديثا في باريس.ص65.
Jacques D'Hondt: Hegel, Calmann-levy, Paris, 1998.
10- انظر كتاب هيجل: دروس حول تاريخ الفلسفة. منشورات فران، باريس الجزء السابع، 1991، ص1827.
Hegel: Lecons sur I'histoire de la philosophie, Paris, vrin, tone 7, 1991