المسلمون يقولون بالتوحيد بل إن عنوان دين الإسلام هو لا اله إلا الله ولكن الفلاسفة وعلماء الكلام فلسفوا هذا التوحيد وبحثوه بحثا كلاميا وعمقوه تعميقا جدليا وأضفوا عليه صيغا منطقية ومصطلحات فلسفية وعدد الذين شكوا في وجود الله ووصلوا إلى مرتبة الإلحاد والزندقة يعدون على الأصابع، فمعظمهم ينطلق من أن الله صانع العالم ومبدع الكون ويقيم أنساقا معرفية ومناهج فلسفية كلها تبرهن وتثبت وجود الله لكن إن اتفق المسلمون أن الله تعالى واحد اختلفوا في علاقة ذاته بصفاته وعدد أسمائه الحسنى و قالوا أن كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تنسب إلى الله العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام فهل هذه الصفات هي أسماء زائدة أم عين الذات؟ بعبارة أخرى هل الأسماء مجرد صفات أم عين للذات الإلهية؟ ثم ما الفرق بين التصور الاعتزالي والتصور الأشعري للذات الإلهية؟ ألم يقع التصور الكلامي برمته في خطأ منهجي هو قياس الغائب الإلهي على الشاهد الإنساني؟
1- الله عند المعتزلة:
يقصد المعتزلة بعلم التوحيد العلم بأن الله تعالى واحد لا شريك غيره فيما يستحق من الصفات نفيا وإثباتا على الحد الذي يستحقه والإقرار به وهذا الحد الذي يستحقه هو عندهم التنزيه المطلق للذات الإلهية ونفي المثلية عنها بأي وجه من الوجوه وفي إطار هذا التنزيه المطلق نشأت عندهم مباحث متعددة كمبحث الذات والصفات. إن معرفة الذات الإلهية عند المعتزلة واجبة لما تؤدي إليه من الالتزام بحدود الشريعة الذي هو غاية وهدف الدين الإسلامي ولأن المفهوم الاعتزالي للإيمان والذي أساسه العمل يستوجب معرفة الحقيقة الإلهية والاقتناع بها مما يدفع إلى كمال العقل والتشبث بالطاعات العملية ولذلك فان شيوخ الاعتزال وجهوا جهودهم إلى تركيز حقيقة التوحيد في النفوس واستعملوا في ذلك مختلف الأساليب والمعطيات الفلسفية والطبيعية هادفين إلى أن يصل التصديق بهذه الحقيقة إلى مرتبة الدفع إلى العمل وأجمعوا على أن الله واحد ليس كمثله شيء وأنه ليس بجسم طبيعي أو حيواني وأن ذاته ليست مؤلفة من جوهر ذي أعراض تدركها الحواس وأنه منزه عن عوارض المادة وخواصها وأنه بسيط يستحيل عليه التجزؤ ولا يحيط به المكان ولا يجري عليه الزمان ولا تحدده الحدود والنهايات ولا تحيط به الكميات، انه تام الكمال بحيث لا يتصور له شبيها ووجوده أزلي لا شاركه في الأزل أحد،فالله واحد لا شريك له من أي جهة كانت ولا كثرة في ذاته البتة وهو خالق الجسم وليس بجسم ولا في جسم ومحدث الأشياء وليس بمحدث منزه عن كل صفات الحدوث.
لقد امتاز المعتزلة بهذا الأصل عن سائر مذاهب المسلمين لأنهم دافعوا عن وحدة الله دفاعا عقليا وعارضوا فكر سائر المشبهة والمجسمة الحشوية وصدوا عن ديار الإسلام فكرة القائلين بالتعدد من المجوس والمثنية ورأوا في عقيدة التثليث المسيحية ثمرة القول بالتشبيه والحلول والاتحاد بين اللاهوت والناسوت وقالوا بأن عيسى كلمة الله وهذه الكلمة محدثة ليست قديمة وذلك حتى لا يتعدد القدماء كما يقول بها سائر فرق المسيحية من نساطرة وملكانية. وقد أضحت فكرة الوحدة التي جاء بها القرآن نظرية متكاملة ومتعددة الجوانب فوحدة الله تستلزم تجرده من المادة وتقتضي النظر إلى الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة والكلام على أنها صفات لا تفيد شيئا آخر غير الذات وبالتالي ما ذهب إليه المعتزلة من قول بوحدة الذات والصفات يندرج ضمن جهودهم من أجل تأكيد معنى التوحيد في النفوس ومقاومة ما عسى أن يتسرب للمسلمين من عقائد الشرك والوثنية لكن إذا كان الله يصف نفسه في القرآن بأنه عالم وقادر ومريد وحي وسميع وبصير ومتكلم فماهي كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفات؟ وما علاقة ذلك بالتوحيد ووحدانية الله؟
إن قلنا بأن الله عالم فلدينا هنا ذات وصفة وان قلنا إن هذه الصفة معنى زائد على ذات الله أي ليست هي ذات الله وهو ما يؤدي إلى القول بقدم الصفة وبالتالي نفينا التوحيد وأثبتنا تعدد القدماء وان قلنا إن هذه الصفات محدثة أصبحت ذات الله محلا للحوادث وما كان محلا للحوادث فأولى به أن يكون هو نفسه حادثا،في هذا السياق يقول العلاف:"إن الله عالم بعلم هو هو وقادر بقدرة هي هو وحي بحياة هي هو وكذلك في سائر الصفات..." ومعنى ذلك أن الله عالم بعلم هو هو أي علمه هو عين ذاته وكان أبو الهذيل العلاف يقر أنه إذا قلت إن الله عالم يثبت له علما هو الله ونفيت عنه الجهل ودللت على معلوم كان أو يكون إذن فانه يثبت الصفة لكنه يؤكد أنها هي ذات الله. أما النظام فانه يرى أن" صفات الله هي صفات سلبية لا تقتضي للذات شيئا زائدا عليها فإذا قلت انه عالم أثبت لله علما هو ذاته ونفيت عنه الجهل ودللت على أن هناك معلومات منكشفة لذاته" أما أبو علي الجبائي فانه يتصور الله على أنه:" عالم لذاته قادر حي لذاته" ومعنى قوله لذاته أي لا يقتضي كونه عالما أي يقتضي حال علم أو حال يوجب كونه عالما فإذا أمعنا النظر في مختلف الآراء الكلامي تبين لنا أن الجبائي يختلف عن العلاف بقوله أن الله عالم بعلم وعلمه هو هو وقادر بقدرة وقدرته هي هو أما الجبائي فانه يرى أن الله عالم بلذاته لا بعلم وبالتالي نفى عن الذات الإلهية الصفة قام بإثبات الذات هي بعينها صفة وبإثبات الصفة هي بعينها الذات.
يتبين لنا عندئذ أن شيوخ الاعتزال يتحاشون إثبات مجموعة من الصفات كمعان زائدة عن الذات لأن ذلك يتناقض مع أصل التوحيد الواجب إثباته لله إذ أن ذات الله وحدة وليست كثرة وأن صفاته ليست وراء ذاته معاني قائمة بذاته كما يذهب إلى ذلك الأشاعرة بل هي ذاته وترجع هذه الصفات إلى الأسلوب أي أننا أثبتنا العلم لله وسلبنا عنه الجهل وأثبتنا له القدرة وسلبنا عنه العجز وأثبتنا له الحياة وسلبنا عنه الموت. ويزيد شيوخ الاعتزال بالتجريد والتنزيه للذات الإلهية إلى حد القول بأن الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في القرآن أحوالا أو أوجها للذات ولكي ينزه الله عن صفات الظلم والقبح والسلوب قسم أبو الهذيل العلاف الصفات إلى نوعين: واحدة يوصف بها الله ولا يوصف بضدها وقد سماها صفات الذات ومنها العلم والقدرة والحياة والقهر والعلو والقدم والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبر والسيادة والملك والربوبية والقدوسية والثانية يوصف بها الله ولا يوصف بضدها وسماها صفات الفعل ومنها السخط والرضا والحب والبغض والمدح والذم والإماتة والإحياء والأمر والنهي والجود والحلم، ويرجع الاختلاف بين الصفات إلى الاختلاف بين المعلوم والمقدور وليس هو بالاختلاف الحقيقي فلا نقول أن الله قادر على العجز أو يريد الظلم للعباد أو لا يحب الجمال. وقد أدى هذا الاعتبار إلى القول بالتماهي بين هذه الصفات إذ يقول العلاف هنا:" معنى أن الله عالم أنه قادر ومعنى أنه قادر أنه عالم ومعنى أنه عالم أنه حي ومعنى أنه حي أنه عالم ومعنى أنه قادر أنه حي ومعنى أنه حي أنه قادر صفاته هي هو وذاته نفس صفاته". فماهي الحجج التي قدمها شيوخ الاعتزال لإثبات أن صفات الله هي عين ذاته؟
2- أنماط الحجاج على وحدة الذات والصفات:
- الحجاج العقلي:
+ لما قال المعتزلة بالتوحيد من جميع الجهات فان حقيقته تعالى أحدية من كل وجه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه إذ لو كانت هذه الصفات غير ذاته لكانت ذاته مركبة ولو كانت مركبة لاحتاج كل جزء إلى الأجزاء الأخرى وأيضا الله ليس بذات مؤلفة من جوهر ذي أعراض وأنه بسيط يستحيل عليه التجزؤ.
+ لو كانت هناك صفات غير الذات لكانت قديمة قدم الذات لتعددت القدماء وهو عند النصارى ونعلم أن نعلم أن ما يكون قديم يشارك الله في القدم وبالتالي في الألوهية وليس قديما إلا أن يكون إلها فلو كانت الصفات إذن زائدة عن الذات وقديمة لتعددت الآلهة ولأبطلت عقيدة التوحيد التي هي ركيزة الدين الإسلامي وهو ما وقع فيه كل من النصارى في عقيدة التثليث التي ترى أن الذات الإلهية جوهر يتقوم بأقانيم أي صفات هي الوجود والعلم والحياة والتي تطورت إلى اعتبار الصفات أشخاصا والى تجسد الأقنوم الثاني الخاص بالعلم في الابن.
+ أخذ المتكلمة عن الفلاسفة فكرة واجب الوجود بذاته وميزوه عن واجب الوجود بغيره وممكن الوجود بذاته وممكن الوجود بغيره لأنها كلها تحتاج إلى من يهبها الوجود أما واجب الوجود فهو علة ذاته وسبب وجوده ولا يحتاج في وجوده إلى غيره. إن واجب الوجود بذاته لن يتصور إلا واحدا فلا صفة ولا حال ولا اعتبار ولا حيث ولا وجه لذات واجب الوجود فإذا كانت الذات متعددة الأوجه يكون أحد الوجهين غير الآخر أو يدل لفظ على شيء هو غير الآخر والصحيح أن واجب الوجود لا يجوز لغير ذاته ولا يشاركه شيء ما صفة كانت أو موصوفا في وجوب الوجود والأزلية.
+ قالت المعتزلة بأن الله تعالى حي وعالم وقادر بذاته لا بعلم ولا بحياة زائدة على ذلك إذ لو كان عالما بعلم زائد ومتصفا بهذه الصفات كلها لأنها زائدة على ذاته كما هو الحال في الإنسان لكان هناك صفة وموصوف وحامل ومحمول وهذه صفة الجسمية والله تعالى منزه عن الجسمية.
- الحجاج النقلي:
يوجد في القرآن الكريم بعض الآيات التي يدل ظاهر معناها على التجسيم مثل الاستواء على العرش واثبات الوجه واليد والجنب والساق والمجيء وهو ما يتعارض مع التنزيه والأحدية والصمدية فكيف تعامل علماء الكلام المعتزلة مع هذه الآيات لنفي التشبيه عن الذات الإلهية؟
لم يجد شيوخ التوحيد والعدل من بد لنفي التجسيم عن الله سوى تأويل تلك الآيات تأويلا عقلانيا بما يتفق مع أصل التوحيد وقد فهموا الصفات كما يلي:
الاستواء: "الرحمان على العرش استوى" فسروا الاستواء بمعنى الاستيلاء والغلبة على العالم جملة وتجيز اللغة مثل هذا التأويل لكلمة الاستواء إذ قال أحد الشعراء:
فلما علونا واستوينا عليه تركناهم صرعا لنمر وكاسر
اليد: " يد الله فوق أيديهم" فسروا اليد بمعنى القوة والنعمة نسبة إلى دلالة اللغة التي ترى مثلا أن ما لي على هذا الأمر يد أي قوة ونجد في المعنى الثاني أيادي فلان علي كثيرة والمقصود نعمه.
الجنب: "يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله" وقد فسر الجنب بالطاعة لأنه نجد في اللغة العربية اكتسب هذا الحال في جنب فلان أي في طاعته.
الساق: "يوم يكشف عن الساق" فسروا الساق بمعنى الشدة.
العين: "تجري بأعيننا" وفسروا العين بالصنع والعلم ونجد في اللغة جرى هذا بعيني أي حدث بعلمي.
الوجه: "كل شيء هالك إلا وجهه" فسروا الوجه بمعنى ذات الله.
المجيء: "وجاء ربك" فسرت بكونها جاء ميعاد ربك .
كيف رد الأشاعرة على هذه التأويلات ؟ وماهو تصورهم للعلاقة بين الذات والصفات؟
3- الله عند الأشاعرة وأهل السنة والجماعة:
لم يختلف الأشعري عن المعتزلة وعن سائر الفرق الكلامية في أن العقل وليس النقل هو طريق معرفة الذات الإلهية والبرهنة على وجودها وعلى ما تتصف به من صفات فهي إذن ملكة العقل الشديدة الشبه ببداهة الفطرة الإنسانية السلمية تلك التي انطلق منها الأشعري ليقول أن لهذا الكون خالقا فكان التصور الفلسفي للإنسان المؤمن أنه يعيش في كون له اله وببداهة الفطرة الإنسانية تقرر في العقل وحدانية هذا الخالق لأن النظام والاتساق والإحكام في الكون إيجادا وتدبيرا يقطع بوحدانية الخالق المدبر لأن الاثنين لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتسق على إحكام ولابد أن يلحقهما العجز أو واحد منهما وهو ما يسميه الجويني إمام الحرمين بدليل التمانع والذي أخذه من الكندي ويعتمد في ذلك على أهم صفة ثبوتية لله وهي أنه واحد فالواحد الحقيقي هو الشيء الذي لا ينقسم والدليل على وحدانيته أنا لو قدرنا الهين اثنين وفرضنا عرضين ضدين وقدرنا إرادة أحدهما لأحد الضدين وإرادة للثاني فلا يخلو من أمور ثلاثة إما أن تنفذ إرادتهما أو لا تنفذ إرادتهما وهما باطلان لاستحالة اجتماع الضدين واستحالة عدم تنفيذ إرادتهما حينئذ يتعين الأمر الثالث هو أن تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر فالذين لا تنفذ إرادته فهو المغلوب المستكره أما الآخر الذي نفذت إرادته فهو الإله القادر على تحصيل ما يشاء ويستحيل توافقهما وعدم اختلافهما مطلقا ولهذا فالقول بوجود الهين قول غير مصيب.
هذا الإله الواحد عند الأشعرية هو منزه عن شبه المحدثات مبرئ من التجسيم والتجسيد والحلول والاتحاد على النحو الذي وقع في مستنقعه المجسمة النصوصيين والصوفية الحلولية ومن ثمة فهو منزه عن التحيز في الجهة أو المكان... ولعل تغليبهم للنقل على العقل انطلاقا من وسطيتهم الخاصة التي تعطي النصوص والمأثورات دورا يتفوق أحيانا على براهين العقل وتأويلاته قالوا أن الخالق في السماء بدافع التعظيم والتنزيه واعتبروا أنه لا يجوز القول بأنه في كل مكان لأنه لا يوجد في الأمكنة الفانية وغير الطيبة والأمكنة المحدثة وقالوا باستواء على العرش واعتبروه فعل أحدثه الله في العرش وسماه استواء. لكن ماهي منزلة الصفات من الذات خصوصا أن الإله وصف بها نفسه في القرآن وأن المعتزلة نفوا كل صفة زائدة عن الذات وقالوا بوحدة الذات والصفات أي هي عين الذات أو أحوالا أو أوجها للذات؟
حاولت الأشعرية أن تتخذ لنفسها موقعا وسطا بين المشبهة والمعتزلة، فالمشبهة ومن نحا نحوهم قالوا بأن الصفات غير الذات الأمر الذي أوهم إلى لحوق الغيرية بالذات الإلهية إلى حد أنهم قالوا أن الله جسم لا ككل الأجسام وله وجه لا ككل الوجوه وله يد لا ككل الأيادي وبين المعتزلة الذين قالوا بوحدة الذات والصفات والذين اعتبروا هذا التنزيه تعطيلا للذات لأنه لا يتصور أن تكون الذات حية دون حياة، ولهذا قالوا بأن الله عالم بعلم وقادر بقدرة وحي بحياة ومريد بإرادة وكان ذلك أهم ما خالف فيه الأشعري المعتزلة بإثبات سبعة صفات لله فإثبات العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر له تدل على وجود هذه الصفات متميزة لأنه لا معنى لكلمة عالم إلا أنه ذو علم ولا لقادر إلا أنه ذو قدرة فقال الأشعرية بأن الله لا يشبه شيء وقالوا أن هذه الصفات قائمة بذات الله سبحانه أي أنها ليست عين الذات ولكنها ليست غير الذات فهي قائمة بالذات زائدة عليها وهذه الصفات موجودة أزلية وعند الأشاعرة حرة فانه لا فرق بين صفات الذات وصفات الأفعال وقد عد عبد الله بن سعيد الكلابي خمسة عشر صفة لله. فماهي الحجج التي قدمها الأشاعرة لإثبات الصفات الأزلية؟
أنماط الحجاج العقلي:
- قالت الأشعرية بأن الله عالم بعلم قادر بقدرة وحي بحياة ومريد بإرادة وذلك لأن من قال انه عالم ولا بعلم كان مناقضا لأنه لا يتصور أن يكون الذات عالما بغير علم لأنه لما ثبت لله هذه الصفات وجب وصفه بها لأن الوصف اقتضى الصفة كاقتضاء الصفة للوصف فإذا وجب وصفه وجب إثبات الصفة له ويورد الأشعري في كتابه في الإبانة عن أصول الديانة ردا على أبي الهذيل العلاف لقوله أن علم الله هو الله :"قيل له: إن قلت إن علم الله هو الله فقل: يا علم الله اغفر لي وارحمني! فأبى ذلك فلزمته المناقضة."
- الدليل على أنه متكلم بكلام قديم ومريد بإرادة قديمة أن الله تعالى ملك والملك من له الأمر والنهي فهو آمر وناه وأمره إما أن يكون قديما وإما محدثا فان كان محدثا فإما أن يحدثه في ذاته أو في محل أو لا في محل. أولا يستحيل أن يحدثه في ذاته لأنه يؤدي إلى أن يكون محلا للحوادث وذلك محال ويستحيل أن يكون في محل لأنه يوجب أن يكون المحل به موصوفا ويستحيل أن يحدثه لا في محل لأن ذلك غير معقول فتعين أنه قديم قائم به صفة له. وكذلك في الإرادة والسمع والبصر...
- إذا قلنا بأن الصفات هي عين الذات وانطلاقا من صفتي العلم والقدرة ينبغي أن نقول انه عالم قادر وان قلنا بهذا أي الله عالم قادر فإما أن يكون المفهومان من الصفتين واحدا أو مغايرا وان كان شيئا واحدا وجب أن يعلم بقادريته ويقدر بعالميته وليس الأمر كذلك فقوجب أن يكون هناك صفة علم وقدرة مختلفين.
- يزيد الأشاعرة دليلا آخر على تعدد الصفات وهو أنه إن قلنا الله عالم قادر يعني إسناد القدرة والعلم للذات الإلهية إما أن يرجع إلى اللفظ المجرد وإما إلى تغير الصفات والرجوع إلى اللفظ المجرد باطل لأن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين أعني أنه يقضي باختلاف مفهوم قادر عن مفهوم عالم وهو ما يعبر عنه بالحدود أي اختلاف حد قادر وحد عالم فتعين أن تكون هناك صفتان قائمتان بنفسهما غير ذاته، هذه الصفات أزلية قديمة قائمة بذاته تعالى لا هي هو ولا هي غيره.
- لجأ الأشعري في كتاب اللمع إلى برهان عقلي لإثبات أن الله عالم بعلم وخلاصته أن يكون الله عالما بنفسه أو بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه فان كان عالما بنفسه كانت نفسه علما ويستحيل أن يكون العلم عالما ومن المعلوم أن الله هو العالم لذا يستحيل أن يكون هو نفسه. لكن ألا يمكن أن نقول أن الله عالم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه؟
يرد الأشعري بقوله:" لو جاز هذا لجاز أن يكون قولنا:عالم لم يرجع به إلى نفسه ولا إلى علم يستحيل أن يكون هو نفسه وإذا لم يجز هذا وبطل ما قالوه..." ويتمثل هذا الدليل في أن الأشعري يعتقد في استحالة أن يكون العلم عالما ومعنى هذا أنه لا يتصور أن تكون العالمية هي العلم نفسه بل يريد أن يفترض ذاتا هي غير صفاتها، أي ذات هي شيء وصفاتها شيء آخر ولذا كان عليه أن يبين ماذا عسى أن تكون هذه الماهية التي هي غير الصفات القائمة، فهل نظر إلى الذات وحصر لها صفة وهي مجرد الوجود وأن ما عدى ذلك من صفات يعد صفات قائمة الذات؟
لقد لخص الأشعري رأيه في الذات والصفات في قوله عن صفتي العلم والقدرة:"وعلمه يتعلق بجميع المعلومات وقدرته تتعلق بجميع المقدورات وإرادته تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص" ويؤكد الجويني في كتابه علم الله أن الله سبحانه مستحيل أن يريد ما لا يعلم ويوجب القول بصانع مختار يريد خلق العالم لأنه أراد ذلك وأن الصانع لم يزل مريدا في أزله لما سيكون فيما لا يزال وكونه مريدا عين إرادته فلا يمكن أن يكون الله لا يزال مريدا وعلمه مقصورا على الكليات دون الجزئيات وبالتالي فانه يربط الإرادة بالعلم.
- أنماط الحجاج النقلية:
هناك في كتاب الله حسب الأشعرية عدة آيات تثبت الصفات وتؤكد الصلة الحقيقية بين القدرة والعلم،
الله عالم بعلم يعني أن أعماله المحكمة لا تتسق في الحكمة إلا من عالم ويمكن أن نذكر الآيتين "وما تحمل من أنثى إلا بعلمه" وقوله تعالى" أنزله بعلمه".
الله قادر بقدرة لأن صنائعه لا يمكن أن تأتي إلا من قادر ويمكن أن نذكر الآية الكريمة التالية:"إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين" والقوة هي الإرادة باتفاق المفسرين.
الله مريد بإرادة وإلا كان موصوفا بواحد من الأضداد مثل السهو والكراهية، قال تعالى:"فعال لما يريد".
الله واحد يبرهن عليه الجويني بدليل التمانع المذكور في الآيات التالية:" لو كانت فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وأيضا:" ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من الله إذا لذهب كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض" وقوله عز وجل:"أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم".
الله متكلم وسميع وبصير لأن ما يضاد هذه الصفات يستحيل أن يطلق على من أحكم الخلق ودبر الكون وهندس ما كان ولا يزال وسوف يظل مدهشا للعقول!
4- الصفات أحوال الذات :
إذا كان أبو علي الجبائي يقول باستحقاق الباري للصفات لذاته فان ابنه أبي هاشم يقول إن هذه الصفات هي أحوال ويستعرض الشهرستاني نظريته في نهاية الإقدام في علم الكلام بقوله:" أما بيان الحال وماهو أعلم أنه ليس للحال حد حقيقي يذكر حتى نعرفها بحدها وحقيقتها على وجه يشمل جميع الأحوال فانه يؤدي إلى إثبات الحال للحال بل لها ضابط وحاصر بالقسمة وهي تنقسم إلى ما يعلل والى ما لا يعلل وما يعلل فهو معان قائمة بذوات وما لا يعلل فهو صفات ليس أحكاما للمعان" ويفسر الشهرستاني هذا القول بأن كون الحي حيا عالما قادرا سميعا بصيرا لأن كونه حيا عالما يعلل بالحياة والعلم في الشاهد فتقوم الحياة بمحل وتوجب كون المحل حيا وكذلك العلم والقدرة والإرادة وكل ما يشترط في ثبوته الحياة وتسمى هذه الأحكام أحوالا وهي صفات زائدة على المعاني التي أوجبتها. أما ما لا يعلم فيقول عنه الشهرستاني:" هو كل صفة إثبات لذات من غير علة زائدة على الذات كتحيز الجوهر وكونه موجودا وكون العرض عرضا والضابط أن كل موجود له خاصية يتميز بها عن غيره، فإنما يتميز بخاصية هي حال وما تتماثل به المتماثلات وتختلف فيه المختلفات فهو حال والأحوال عند المثبتين ليست موجودة ولا معدومة ولاهي أشياء ولا توصف بصفة" فالله عند أبي هاشم عالم لذاته بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودة وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها فأثبت أحوالا هي صفات لا معلومة ولا مجهولة أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذات.
يشرح ألبير نادر الحال عند أبي هاشم بقوله هو حكم على علاقة بين جوهر وعرض أو بين ماهية وصفة، وإذا كانت الأحوال ليست أشياء ولا توصف بصفات ولا تعلم مستقلة منفردة وإنما نعلمها مع الذات فليس ذلك إلا لأن الحكم الذي يعبر عن علاقة بين حدين لا يوجد إلا إذا كان هناك حدان فإذا غاب الحدان لم يمكن الحكم.
يتعجب الشهرستاني من قول أبي هاشم عن الأحوال أنها لا موجودة ولا معدومة بأن ما لا يتصور له وجود ولا تعلق العلم به بطل الاستدلال عليه وتناقض الكلام فيه ويرى في الذات رأيا آخر فيرى أنها الحقائق الذاتية في الأجناس والأنواع وعلى ذلك يكون الحال وجها من أوجه الذات وبذلك يمكن القول أن صفات الله هي أحوال والى هذا المعنى كان يهدف أبو هاشم فقوله أن كونه تعالى عالما بكل معلوم حال دون الحال التي لأجلها كان معلوما بالمعلوم الآخر وكذلك كونه قادر على كل مقدور حال لا يقال إنها الحال التي لكونه عليها كان قادرا على المقدور الآخر ورغم أن له في كل معلوم حالا مخصوصا وفي كل مقدور حالا مخصوصة ولما كان أهل السنة ينكرون الأحوال فقد ردوا على مثبتها ردا مقنعا بقولهم وقد ورد ذلك على لسان الشهرستاني في نهاية الإقدام في علم الكلام:"الكلام على المذهب ردا وقبولا إنما يصح بعد كون المذهب معقولا ونحن بالبديهية أن لا واسطة بين النفي والإثبات ولا بين الوجود والعدم وأنتم اعتقدتم الحال لا موجودة ولا معلومة وهو متناقض بالبديهية ثم فرقتم بين الوجود والثبوت فأطلقتم لفظ الثبوت على الحال ومنعتم إطلاق لفظ الوجود فنفس المذهب إذا لم يكن معقولا فكيف يسوغ سماع الكلام والدليل عليه".ص134 وشرحا لرده فان أهل السنة والجماعة ينكرون أحوال أبي هاشم لأنه لا وسط بين النفي والإثبات ولا بين الوجود والعدم،فالشيء إما أن يكون معدوما وإما أن يكون موجودا فإطلاق لفظ الثبوت على الحال وهي غير موجودة أمر مناقض للبديهية ولا معنى للاشتغال برده لخروجه عن حد المعقول.
مشكلة قياس الغائب على الشاهد:
يرى الشهرستاني أن هناك جوامع أربعة لقياس الغائب على الشاهد فان رأينا واحد منها وهي الحجج العقلية والنقلية فإننا نستنتج أن ثلاثة حجج الأخيرة هي العلة والشرط والحد وقد أراد الشهرستاني بهذا رد اللبس على مقالة الأشعري في الذات وعلاقتها بالصفات والتي يقيس فيها الغائب بالشاهد والله بالإنسان فنبهه إلى وجوب ربط الغائب بالشاهد. أما العلة فقد ثبت كون العالم عالما شاهدا معللا بالعلم والعلة العقلية مع معلولها يتلازمان ولا يجوز تقدير واحد منهما دون الآخر فلو جاز تقدير العالم عالما دون علم لجاز تقدير العلم من غير أن يتصف محله بكونه عالما فاقتضى الوصف الصفة كاقتضاء الصفة للوصف. أما الشرط فان كون العالم عالما لما كان مشروطا بكونه حيا في الشاهد وجب طرده في الغائب لأن الشرط وجب طرده شاهدا وغائبا فالإنسان لكي يكون عالما هو مشروط بكونه حيا وكذلك الله، بقي ما يقوله الشهرستاني عن الحد وهو وجوب اطراده شاهدا وغائبا. فالقول إذن في قياس الغائب على الشاهد لا يستطيع الإنسان أن يتحرر من الاعتبارات الإنسانية لكن الأشعري أراد الرد على الكثير من الفرق التي دخلت الإسلام بغية تقويض دعائمه.
شبهات ومخاوف:
يرى محمود قاسم أن قول الأشعري بأن الصفات مغايرة للذات وفهمه للمغايرة على نحو خاص " أنها جواز مفارقة أحد الشيئين الآخر على وجه من الوجوه" فيه نوع من الالتباس فغيرية الأشعرية لا تدل على زيادة الصفات على الذات إنما هي حل التناقض القائم في قول الأشعري أن الصفات لا هي الذات ولا غير الذات ويستخدم محمود قاسم المبدأ المنطقي القائل بعدم التناقض للإقرار بأن الصفات إما أن تكون الذات أو لا تكون ويعترف بعجزه عن فهم قضية الأشعري في الصفات فيقول في مقدمة الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد:" ونعترف من جانبنا أننا لا ندري كيف تكون الصفات لا هي هو ولا هي غيره على حد تعبيره فان العقل الإنساني وغير العادي أيضا يلمح نوعا من التناقض البديهي في هذا التعبير". لكن الأشعري حسب رأي نقاد آخرين كان مصيبا في قوله وعميقا في تفكيره فيقول إن الموجود معا ذات وصفات لا ذوات متعددة وهذا لا ينافي وحدة الله الواجبة لأن معناها أنه لا يوجد معه اله آخر أو ذات أخرى يشاركه في هذا الوجود فإذا قلنا إن الصفات ليست عين الذات فنحن على صواب لأنها ليست ذوات منفصلة عنها وعلى ذلك فقول الأشعري ليس جمعا بين نقيضين والدليل "أن من يخبر بحضور إنسان واحد فقط يخبر بحضوره مع صفاته فإذا سأل ذلك المخبر عن صفة القادم وذاته هل هما متحدان مفهوما ووجودا فلاشك أنه يجيب نفيا" .
يزيد الشهرستاني في الحجة للقول بأن الصفات قائمة بالذات بتأكيده أنه لا يجوز أن توجد ذات الإنسان إلا إذا كانت لها صفات زائدة عليها مغايرة لها وتختلف كل صفة عن الصفات الأخرى فلا يجوز أن توجد الذات الإلهية دون صفات زائدة ومغايرة لها. ولذا نرى أن الأشعري كان فذا في قوله أن الصفات لا هي الذات ولا غير الذات فهو ينفي أن تكون الذات والصفات واحدة فيتعدد القديم لأن الذات قديمة والقديم واحد وينفي كذلك أن تكون الصفات مستقلة بذاتها فتكون ذواتا منفصلة تجري عليها أحكام الذات من القدم والأزلية والوجودية وهذا لا يجوز وبذلك يرى أنها تقوم بالذات وبينها علاقة وليست الواحدة منهما هي الأخرى كما نقول أن الجوهر هو المتحيز والقابل للعرض ولكننا لا نستطيع القول أن المتحيز القابل للعرض جوهرا فليست كل صفات الجوهر كما لا يكون كما لا يكون المتحيز وحده والقابل للعرض وحده جوهرا ولكن المتحيز القابل للعرض يقوم بالجوهر ولا يكون جوهرا أو خلافه.
ولعل الاستشهاد بالرأي الذي ذكره أحمد أمين في كتابه ظهر الإسلام حول هذا الخلاف بين المعتزلة والأشعرية والذي بين فيه أن كلا الفرقتين جاوزتا حدهما ودخلا في سفسطات لا طائل منها وليس العقل البشري بمستطيع شيئا من ذلك فأكد أنه يستطيع أن نقول بالنسبة إلى أنفسنا إن كان علمنا غير ذاتنا وقدرتنا غير ذاتنا أو هي هي فكيف نستطيع أن نقول ذلك في الله أن عقولنا ضعيفة ومحاولة الوقوف على هذه الموضوعات ليست في متناول العقل البشري الذي لا يستطيع إلا إدراك بعض صفات الحقيقة فحسب أحمد أمين لا نستطيع أن ندرك ماذا؟ ولكنه بإمكاننا أن ندرك بعد جهد كيف؟ فكيف نريد أن نصل إلى حقيقة أن الذات في وحدة مع الصفات أو الصفات هي زائدة عن الذات؟
* كاتب فلسفي
المراجع:
أحمد أمين ضحى الإسلام ج3 دار النهضة المصرية القاهرة 1964
الشهرستاني نهاية الإقدام في علم الكلام مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع القاهرة 1968
الأشعري أبو الحسن مقالات الإسلاميين تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد القاهرة 1969
فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة الدار التونسية للنشر تحقيق فؤاد السيد 1974
شرح الأصول الخمسة تحقيق عبد الكريم عثمان الطبعة الأولى القاهرة 1965