رِسَالَةٌ فِي التَّسَامُحِ: رِسَالَةٌ فِي حُدُودِ الحَاكِمِ ورَجُلِ الدِّينِ - محمد فراح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

عرفت الفلسفة الحديثة ثلاثة رسائل شهيرة حول التسامح:

الأولى: رسالة في التسامح (بالإنجليزية: A Letter Concerning Toleration)‏ للفيلسوف الإنجليزي جون لوك نُشرت في الأصل عام 1689م. نشرها لأول مرة باللغة اللاتينية، على الرغم من أنه تمت ترجمتها على الفور إلى اللغة الإنجليزية. ظهر عمل لوك وسط مخاوف من أن الكنيسة الكاثوليكية قد تستولي على إنجلترا، وتستجيب لإشكالية الدين والدولة من خلال اقتراح التسامح الديني كحل. هذه الرسالة موجهة إلى صديق لوك المُقَرَّب فيليب فان ليمبورغ، الذي نشرها دون علم لوك.

الثانية: رسالة في التسامح (بالإنجليزية: Treatise on Tolerance) للفيلسوف الفرنسي فولتير نشرت في الأصل عام 1763م. ظهر عمل فولتير في حدث محاكمة جان كالاس سنة 1762م  وهو تاجر بروتستانتي فرنسي اتهم بقتل ابنه مارك أنطوان لمنعه من اعتناق الكنيسة الكاثوليكية . أُعدم كالاس في 10 مارس 1762م، بعد تعرضه للتعذيب؛ ولم يعترف قط بالجريمة التي كانت تفتقر تمامًا إلى الأدلة. أُعدم كالاس إلى حد كبير استجابة لرد فعل الغوغاء الغاضبين وحماسة بعض القضاة المحليين. وهذا هو ما جعل فولتير يشعر بالظلم الشديد في هذه القضية، فقام بحملة خاصة وعامة لتبرئة جان كالاس. من خلال إظهار التحيز والتعصب الكاثوليكي في رسالته. وفي عام 1765م، سَيُقِيلُ لويس الخامس عشر ملك فرنسا القاضي الرئيسي وأعادت محكمة أخرى محاكمة القضية من جديد، وسيتم تبرئة كالاس بعد وفاته، وتعويض أسرته بمبلغ 36 ألف فرنك فرنسي أنذاك، هذا بإختصار سياق "رسالة في التسامح" لفولتير والذي يختلف عن سياق لوك.

الثالثة: رسالة في التسامح لديدرو، باللغة الفرنسية (Sur la tolérance et autres textes) والتي مع الأسف الشديد لم تترجم بعد إلى اللغة العربية عكس رسائل كل من لوك وفولتير، رغم أن عدد صفحاتها لا تتجاوز 110 صفحة، كتبها سنة 1760م قبيل رسالة فولتير، وتعرضت للتهميش حتى سيعاد التعرف عليها سنة 1968م بفرنسا وإعادة طبعها ونشرها من جديد، وكتبت الرسالة أيضاً في سياق فلسفة الأنوار ومهدت له، وكان الغرض منها أيضاً الحد من التعصب الديني الكنسي، هذه بإختصار شديد سياق نشر الرسالة.

وما قد يلاحظه القارئ هو أن الرسائل الثلاثة في التسامح سواء الإنجليزية لجون لوك، أو الفرنسيتين لديدرو وفولتير لم يكن الغرض منهم التسامح كما تبدى في عنوان الرسائل الثلاث، بل كان الغرض منهم أكبر وأعمق، وكما عَنْوَنَّا المقال، فإن هذه الرسائل الثلاث رسائل في رسم الحدود الفاصلة بين سلطة الحاكم المدني (الدولة) وسلطة رجال الكنيسة (الدين).

وسنكتفي في مقالنا هذا بنموذج "رسالة في التسامح" لجون لوك، علماً أننا سنخصص مقالاً آخر لرسالتي كل من ديدرو وفولتير الأنواريين نظراً للغاية الواحدة التي تصب فيهما الرسالتين ألا وهي الفصل الحد بين سلطة الحاكم المدني وسلطة رجال الكنيسة.

فسياق كتابة جون لوك رسالته حول التسامح هو سياق الحرب والصراعات والنّزَاعَاتِ الدينية الكنسية بإمتياز بين كل من البروتستانت في الشمال والكاثوليك في الجنوب والكنيسة الأرثوذكسية في الشرق داخل دولة ذي حكم مدني، فرسالة جون لوك في التسامح لا يمكن فهمها وتأويلها دون "مقالتان في الحكم المدني"، بل وكتاب "مقالة فلسفية حول الفهم البشري" الذي توقف عن كتابتها لإنهاء "رسالة في التسامح".

يعني هذا أن جون لوك كتب رسالته في التسامح مضطراً، أي هناك حروب وصراعات ونزاعات طاحنة ومظاهر عنف وتعصب شديدة على الفيلسوف أن يقدم حله له أولاً، ثم يتم مشروعه الفلسفي الذي كان في صدد الاشتغال عليه، أقصد هنا "مقالة فلسفية حول الفهم البشري" الذي سينشر سنة 1689م، أي بعد "رسالة في التسامح" مباشرة، ومع الأسف الشديد، لم تسلم "مقالة فلسفية حول الفهم البشري" من الكتب غير المنقولة إلى اللغة العربية، رغم أنه عندما تعود إلى الترجمة الفرنسية لها تجد الكثير من النصوص الفلسفية القوية في المقالة التي تحتاج إلى ترجمة عربية علها تساعدنا في فَهْمِ الفَهْمِ أي العقل العربي الإسلامي المعاصر !

لكن هذا ليس موضوعنا الآن، فالغرض من مقالنا هو بيان حدود سلطة الحاكم المدني وسلطة رجال الكنيسة، وهذا ما سيقودنا إلى بالضرورة إلى التعرف على فرضية حالة الطبيعة عند جون لوك نظراً لأهميتها في فهم رسالته في التسامح والتي استقاها من مواطنه الإنجليزي طوماس هوبز في كتابه الشهير "الليفياثان أو الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة"، والذي قرأه جون لوك وقدم تصوراً آخر لحالة الطبيعة التي قدمها طوماس هوبز.

وبعجالة فحالة الطبيعة عند طوماس هوبز حالة حرب الكل ضد الكل والإنسان ذئب لأخيه الإنسان، فالشر متجذر متأصل في الطبيعة الإنسانية، لا ينكر مواطنه جون لوك هذا، فهو يعيش حاضراً حالة حرب رجال الدين البروتستانت ضد الكاثوليك وكلاهما معاً ضد الكنيسة الأرثوذكسية يتصارع كل هؤلاء للظفر بسلطة الدولة.

لكن جون لوك يعترف بأن حالة الطبيعة المفترضة هي حالة الحرية بالدرجة الأولى، فالناس أحرار بطبائعهم، وبما أنهم أحرار بطبائعهم فهم بالضرورة متساويين بالطبع، ولكي لا يساء فهم جون لوك للحرية لأنه يعتبر الأب الروحي للتيار الليبرالي في العصر الحديث. مع كل من جون استيوارت ميل ودافيد هيوم. إلا أن جون لوك لا يعني بالحرية أن نفعل ما نشاء، ولا وجود لفيلسوف في تاريخ الفلسفة الضخم يعرف الحرية بأن نفعل ما نشاء، بل الحرية عكس ذلك تماماً.

فالحرية لدى جون لوك تعني حرية التملك الفردي أو الملكية الفردية، فالأفراد يمتلكون خيراتهم الطبيعية منذ حالة الطبيعة لا يجوز المساس بها، فهم أي الأفراد مستقلين بملكياتهم الفردية بالطبع، غير خاضعين لأي سلطة في حالة الطبيعة يحق لهم التصرف في شؤونهم كما يشاؤون هذه هي الحرية لدى جون لوك فمن حقي التحكم في شؤوني ملكياتي الخاصة كما أشاء دون تدخل الغير.

والأفراد بهذا المعنى يتمتعون بحقوقهم الطبيعية أي خيراتهم الطبيعية لا يقيدهم شيء غير القيود التي فرضتها الطبيعة.

لكن مع التحول والإنتقال إلى حالة المجتمع يخبرنا جون لوك في كتابه الشهير "مقالتان في الحكم المدني" أن هذا الإنتقال سيشهد بداية خضوع الإنسان لسلطة إنسان آخر لكن "بالإتفاق" مع أقرانه [أي إنسان مع إنسان آخر] على تأليف دولة التي يسميها جون لوك جماعة واحدة من الناس والإنضمام إليها والفناء فيها، وتجذر الإشارة هنا أن مفهوم "الإنتماء" مفهوم مهم جداً لفهم أطروحة جون لوك حول الدولة والذي سيشتهر فيما بعد بمفهوم المواطنة Citoyenneté et comportement civique.

إتفق الناس حسب جون لوك على أن يفعلوا ذلك، أي يكونوا دولة ما داموا لا يسيئون إلى حرية الآخرين في التملك الفردي أو الملكية الفردية للخيرات الطبيعية كما رأينا سابقاً تعريف الحرية.

فالدخول في دولة أو جماعة من الناس جاء شريطة أن ندع الناس وشأنهم أحراراً يفعلون ما يشاؤون بحريتهم في التملك الفردي كما كانوا في حالة الطبيعة المفترضة.

واجتماع الناس بالنسبة إلى جون لوك جاء بعد الإتفاق على تأليف الجماعة بعد أن كانوا أفراداً أو الحكومة المدنية بعد أن كانوا أفراداً منعزلين، من هنا نفهم التيار الفرداني المعاصر بزعامة ألان رونو في كتابه "عصر الفرد" الذي يدعوا فيه إلى أن نعود أفراداً كما كنا سابقاً في حالة الطبيعة المفترضة فالأصل هو الفرد وليس المجتمع، فحالة الطبيعة حالة أفراد يتميزون بملكيتهم الفردية وليس حالة مجتمع، هذا الأخير سيأتي فيما بعد حيث سيصبح الأفراد ينتمون إلى هيئة سياسية واحدة، هذه الأخيرة يقودها الأكثرية.

من هم الأكثرية حسب جون لوك؟

الأكثرية هم الأغلبية العظمى من التجار والحرفيين والمهنيين والصناع التقليديين وأصحاب الحرف والمهن الحرة ورجال المصانع والحاذقين والبارعين في التجارة والخدمات والبيع والشراء والمحتالين والمخادعين والماكرين ...إلخ هم اللذين سيأخذون على عاتقهم الحق بالتصرف في كل شيء في الحكومة المدنية بما يخدم مصالحهم التجارية والربحية، وسيلزمون الآخرين الأقلية من رجال الدين البروتستانت والكاثوليك والأرثودوكس والنخبة المثقفة والطبقة الأرستقراطية عموماً عليها أن تخضع للأغلبية المنتجة.

على كل إمرئ لا ينتج ولا يبدع التقيد بقرار طبقة الأكثرية الأغلبية الساحقة، وهكذا ستشهد حالة المجتمع المدني ميلاد مجالس التجار والحرفيين والمهنيين والبَرَعَة.

ومنذ هاته اللحظة ستشهد حالة الحكومة المدنية ميلاد القوانين الوضعية التي تواضع عليها الأكثرية الأغلبية خدمة لمصالحهم الفردية في التملك، وحماية لممتلكاتهم الثمينة، وخوفاً على خيراتهم المدنية من كل أشكال الخسارة والإتلاف والضياع.

هكذا سيعد قرار الأكثرية الأغلبية بمثابة قرار المجموع وهو قرار إلتزامي نلتزم فيه جميعاً على صون ملكيتنا الفردية وحمايتها مع عدم مراعاة قرار الأقلية من رجال الدين البروتستانت والكاثوليك والأرثودوكس والأرستقراطية والنبلاء والنخبة المثقفة التي هي نخبة غايتها التأمل العقلي والخلاص ولا تراعي الملكية الفردية أو تعترف بها.

كما أن قرار الأكثرية قرار يخدم العقل الحسابي الذي يراعي المصالح الفردية ويصون حقنا التجاري وملكيتنا الفردية التي تشكل مكسباً طبيعياً.

على كل إمرئ الالتزام بتعاقده مع الآخرين على تأليف هيئة سياسية واحدة ستتخذ شكل حكومة مدنية أو دولة تراعي مصلحة الأكثرية الأغلبية وتخضع لجميع قراراتها وتتقيد بها أمام كل فرد من أفراد الهيئة السياسية، فالمسألة مسألة التزام.

كما أن عدم التقيد بقرارات الأكثرية أو بمضامين ومحتوى "العقد الأصلي" يجعل من هذا الأخير عقداً بدون معنى أو جدوى وفائدة، لأن أي إخلال ببنود العقد الذي يخدم المصالح هو إخلال بحماية المصالح الفردية وبالتالي فسخ العقد بشكل مباشر، وعودة إلى حالة الطبيعة المفترضة أو عودة إلى حالة حرب الكل ضد الكل كما عبر عنها طوماس هوبز.

تصر الأكثرية المبرمة للعقد على أن يكون العقد الأصلي عقداً يراعي حرية الأفراد في التملك كما كان الأفراد أحراراً في التملك في حالة الطبيعة المفترضة.

فما ينشئ الحكومة المدنية السياسية ويكونها هو اتفاق فئة من الناس أو أكثرية من التجار الأحرار اللذين يؤلفون أغلبية جمعتها المصالح التجارية والظفر بالربح لهذا إتحد هؤلاء التجار على تأليف مجتمع تجاري ربحي مصلحي يخدم مصالحهم الفردية بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية الكنسية والعرقية والطائفية والجغرافية والتاريخية واللغوية ...إلخ، وعلى هذا الأساس نشأت الحكومة الشرعية في العالم أو ما أطلق عليها جون لوك الحكومة المدنية.

لهذا لم يستحيي لوك حينما قال: "الدولة هي جماعة من الناس تكونت لغرض وحيد هو حماية الخيرات المدنية وتنمية هذه الخيرات المدنية" والتي بالمناسبة هي خيرات الأكثرية من التجار والحرفيين والصناع التقليديين اللذين برعوا في الصناعة كما برعوا في الصناعة.

أما عن الخيرات المدنية، فقد يعتقد القارئ الكسول أنها خيرات مكتسبة في حالة الدولة، لكن العكس فالخيرات المدنية قبل أن تكون خيرات هي حقوق طبيعية-مدنية بمعنى متأصلة في الطبيعة الإنسانية مثل: الحق في الحياة، والحق في الملكية الفردية، والحق في سلامة البدن، والحق في الحماية ضد كل أشكال العنف والخسارة والاتلاف والآلام، والحق في امتلاك الخيرات الخارجية مثل الأرض، والظفر بالنقود، والمنقولات ...إلخ، وكل هذه الحقوق أو الخيرات المدنية يمكن اختزالها في حق واحد هو "الحق في التملك".

لهذا عبر جون لوك قائلاً: "أن من واجب الحاكم المدني أن يؤمن للشعب كله، ولكل فرد على حدة -بواسطة قوانين مفروضة بالتساوي على الجميع-" [وتجذر الإشارة هنا إلى أن فكرة المساواة أمام القانون أخذها جون لوك عند كل من صولون وبيريكليس، كما أخذ أيضاً فكرة المواطنة من الحضارة الرومانية].

كما من واجب الحاكم المدني أيضاً المحافظة الجيدة على الحق في الامتلاك، أي امتلاك كل الأشياء التي تخص الحياة [ضروريات الحياة: من امتلاك أرض، وامتلاك منزل، وامتلاك مصنع، وامتلاك تجارة تُدِرُّ ربحاً].

والقوانين المدنية بالمناسبة هي قوانين وضعية أو حقوق وضعية مسموح بها وشرعية وكل من تجرأ على مخالفتها يجب أن يتعرض للقمع من خلال الترهيب وتخويفه من العقاب.

لكن ما هو العقاب الذي يقترحه جون لوك؟ العقاب هو الحرمان، أي حرمان الفرد من كل أو بعض هذه الخيرات التي كان من حقه وواجبه أن يتمتع بها.

هكذا يصبح العقاب لدى جون لوك عقابا صارما يحرم المرء من ملكيته الطبيعية بشكل كلي أو جزئي والتي هي من حقه.

فليس العقاب عند جون لوك حرمان من الحرية، بل حرمان من الملكية الفردية، فكيف نرضى هذا لجون لوك؟ لن يرضى أحد بإرادته عن حرمانه من ملكياته الخاصة سواء جزء منها أو كلها، فهو يعتبر ذلك خيراً مدنياً ومكسباً طبيعياً، حرمانه منها هو حرمان من وجوده الفعلي وانتفاء له، فشعار التجار هو : "أنا أملك إذن أنا موجود"، ونستحضر هنا المثل الشعبي المغربي الشهير الذي يقول: "اللهم قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"، هكذا يفكر التجار، فاللهم قطع أعناقهم ولا قطع ملكياتهم.

كما أعطى جون لوك للحاكم المدني قوة مجتمعية في التصرف من أجل الضرب بيد من حديد على من سولت له نفسه انتهاك حق الغير في التملك.

واختصاص الحاكم المدني حسب جون لوك هو حماية الخيرات المدنية وتنميتها، فلا ينبغي للحاكم المدني ولا الدولة ولا السلطة المدنية أن تمتد إلى نجاة النفوس كما كانت تفعل الكنائس الكاثوليكية والبروتستانية والأرثودوكسية التي كانت تدعي أنها تحافظ وتصون وتحمي النفوس من أجل خلاصها ونجاتها في الآخرة.

ومن هنا نفهم محاول جون لوك في "رسالة في التسامح" التي رسم فيها الحدود بين السلطة الزمنية المتمثلة في السلطة المدنية الوضعية أو الدولة والسلطة الروحية المتمثلة في الكنيسة الكاثوليكية.

ليخلص إلى أنه لا الحاكم المدني ولا رجال الدين البروتستانت أو الكاثوليك أو الأرثوذوكس ولا أي إنسان آخر مكلف برعاية النفوس ونجاتها !

تشكل "رسالة في التسامح" حَدّاً من سلطة الحاكم المدني "فلا ينبغي للحاكم المدني أن يتدخل إلا فيما يؤمن السلام المدني وممتلكات رعيته" يقول لوك، معتبراً أن أمور الدين تخص الفرد والله فقط. "إنها أمور كلها بين الله وبيني أنا".

وسنعرض فيما سيأتي نصوصاً أقوالاً لجون لوك مستقاة من رسالته في التسامح تعرض أفكاره الواضحة، خاصة عندما اعتبر أن حرية الضمير أو الاعتقاد الديني حق هي أيضاً من حقوق الإنسان الطبيعية.

« تقتضي الضرورة التمييز بكل الدقة الممكنة بين الحكم المدني، وبين ما ينتمي إلى مجال الدين،  وتوضيح الحدود الفاصلة بينهما. وإذا لم نفعل هذا، فلن تكون هناك نهاية للخلافات التي سنشهدها على الدوام بين أولئك الذين يهتمون بخلاص النفوس البشرية من جهة، ومن يهتمون بمصالح الدولة من جهة أخرى. » [1].

يشكل القول أعلاه دليلاً قوياً على سبب اختيارنا عنوان هذا المقال، ذلك أن غرض لوك كان هو "ضرورة التمييز" و "وتوضيح الحدود الفاصلة بينهما" أي بين كل من مجال الدين والدولة، أو مجال رجال الدين البروتستانت والكاثوليك والأرثوذوكس، ومجال الحاكم المدني، وينبغي بالنسبة إلى جون لوك وضع الحدود التمييزية بين الحقلين.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يقول لوك: « الكنيسة عبارة عن جماعة يشترك أفرادها في خدمة الله بمحض إرادتهم وبشكل علني، يعبدونه بطقوس يتصورونها مقبولة من الله وكفيلة بحصولهم على الخلاص. » [2].

قدم جون لوك هذا التعريف للكنيسة بوصفها مؤسسة دينية تنتمي إلى مجال الدين، هذا المجال الذي سيصبح مع لوك مجالاً خاصاً وخصوصياً وشخصياً بالأفراد يخدمون مصلحة الله، في حين أن الدولة كما قلنا جماعة من الناس تكونت لغرض وحيد هو حماية الخيرات المدنية العمومية للأكثرية من التجار والحرفيين كما سبق وأن أشرنا في عرض المقال ذلك « أن كل سلطة الدولة لا تتعلق إلا بالخيرات المدنية، وإنها مقصورة على رعاية شؤون هذه الدنيا، وأنه لا يحق لها أن تمس أي شيء يتعلق بالحياة الآخرة. » [3].

فالدولة أسست لغرض الدنيا وليس لغرض الآخرة، والخيرات المدنية هي خيرات دنيوية، لا خيرات أخروية، وعلى الدولة أن ترعى شؤون هذه الدنيا، فالدولة تدبير هذه الدنيا، لا التفكير في كيفية تدبير أمور الآخرة، لهذا أراد لوك الفصل والتمييز ورسم حد بين مجال الدنيا ومجال الآخرة.

ويجب الانتباه على « أن الإنسان ليس مقدرا عليه بالطبيعة أن يكون عضوا في كنيسة، وأن يرتبط بفرقة دينية، بل هو ينضم طواعية إلى الجماعة التي يعتقد أنه يمارس فيها الدين الحق والعبادة المقبولة عند الله. وأمله في النجاة الذي يستشعره فيها لما كان هو السبب في دخوله في كنيسة ما، فإن هذا أيضا هو السبب الوحيد في استمراره فيها. حتى إذا ما اكتشف فيما بعد خطأً في المذهب أو أي عوج في العبادة، فمن الضروري أن نفس الحرية التي بها دخلها تفتح له دائما باب الخروج منها... ». [4]. فالإنتماء إلى مؤسسة الكنيسة يأتي طواعية واختياراً وحرية عكس مؤسسة الدولة التي أصبحت ضرورة لحماية الملكية الفردية، كما أن الانتماء إلى الدولة يحقق المواطنة العالمية أما الانتماء إلى الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية أو الأرثوذكسية لا يمثل سوى انتماءاً دينياً متعالياً لا علاقة له بالمواطنة التي يسعى إليها جون لوك.

وتجذر الإشارة أن الشخص المواطن هو الشخص الذي يحترم حرية الآخرين في التملك وينتمي فعلياً إلى الدولة « فلا يحق لشخص خاص بأي حال من أحوال أن يضر بأموال (خيرات) الغير المدنية أو أن يدمرها بدعوى أن هذا الغير يؤمن بدين آخر أو يمارس شعائر أخرى. إذ لابد من المحافظة على كل حقوقه الإنسانية والمدنية باعتبارها حقوقا مقدسة إنها لا تخضع للدين؛ ويجب الاحتراز من ارتكاب أي عنف أو ضرر في حقه... » [5]. والمواطن العالمي بهذا المعنى هو مواطن يضع يترك مسافة بينه وبين انتمائه الديني لجماعة معينة أو كنيسة.

فالمسألة الكنسية مسألة تخص الله وحده، أو هي علاقة بين الله وعبده، عكس العلاقة السياسية التي هي علاقة إنسان بإنسان علاقة مصالح متبادلة بإمتياز، إنها علاقة ربحية.

هكذا إذن « إذا انحرف أحد عن سواء السبيل، فإنه هو الذي يضل، ولن يصيبك أنت أي ضرر من ضلاله هو . ومن أجل هذا لا يجوز لك أن تعاقبه بقسوة ولا أن تحرمه من خيرات هذه الحياة بسبب أنك تعتقد أنه سيعاني في الحياة الآخرة ». [6].

لا يمكننا أن نحكم على معتقدات الأفراد الآخرين وعلى انتمائهم الديني والعرقي أو الكنسي لنحكم على خيراتهم الطبيعية، وهنا يجب أن نميز بين الخير المدني الذي قلنا عنه أنه طبيعي وبين الخير الإلهي الذي هو خير أخروي (يوجد في حياة الآخرة)، وينصح لوك بالفصل بين الحياتين الدنيا والآخرة.

 كما يرفض جون لوك أشكال الاعتداء والنهب والسرقة واللصوصية والاحتيال والاتلاف والعنف والمكر والخديعة التي تحدث باسم الدين في حق التجار والحرفيين ورجال المصانع والمهنيين فالغرض من الدولة هو حماية الخيرات المدنية وليس تعريض خيرات الأفراد لأشكال الخسارة. « وعلى هذا لا الأفراد، ولا الكنائس، ولا الدول لديها أي مبرر عادل للاعتداء على الحقوق المدنية وسلب الآخرين أموالهم الدنيوية بدعوى الدين. ومن يرون غير هذا الرأي فإني أسألهم أن يتأملوا بأنفسهم كم يزودون هم الإنسانية عن هذا الطريق بفرص لا حصر لها للمنازعات والحروب، وبقوة دافعة إلى النهب والقتل والبغضاء الأبدية ». [7].

كل هذه السلوكيات لا تؤدي إلا إلى انتشار جميع أشكال الحرب والصراعات والنزاعات والطائفية والعراكات والاقتتال بين الناس، لهذا حاول جون لوك الفصل بين مجال الدين ومجال الدولة كي لا يبقى لدينا ذلك الخلط بين الحقوق المدنية والحقوق الإلهية.

« ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه هو، لأن ، هذه المسألة شأن خاص ولا يعني أي إنسان آخر. إن الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي إنسان، ولأية جماعة، ولا يمكن أي إنسان أن يعطيها لإنسان آخر فوقه إطلاقا. » [8].

يرفض جون لوك السلطة التي يفرضها إنسان على آخر بإسم الدين، أو بإسم الإيمان، خاصة وأن رجال الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية أو الأرثوذكسية كانوا يدعون إلى التدخل في شؤون الناس وإرغامهم على الدخول في الجماعة الكنسية، وهذا ما وقف جون لوك ضده وصب جام فكره عليه، لأنه كان يريد أن يفصل فصلا قطعياً بين حقل الدين وحقل الدولة، كما يقطع كذلك مع تلك الهيمنة الكنسية التي يدعي من خلالها البابا أنه سيفكر بدلاً عنا لأن له سلطة إلهية علينا، كل هذا سيصبح سراباً من الأوهام مع جون لوك.

هكذا كانت الغاية من الرسالة هي تسطير الحدود الفاصلة بين كل من السلطة الزمنية بمعناها المادي والسلطة الروحية بمعناها الوجداني، ولعل هذا الفصل هو المؤسس الأول للعَلمانية بمعناها المُعَاصِر التي نجد لها تأصيلاً تاريخياً عند لوك، ومعنى عَلمانية هنا هي ذلك الفصل الذي يقام بين السلطتين، أي إنها نظرة إلى العالم بما هو عالم مستقل عن كل سلطة دينية أو كنسية.

وعلى سبيل الختم؛ نعلن منذ الآن أن قراءتنا لرسالة لوك في التسامح كانت قراءة نقدية فاحصة وتمحيصية بإمتياز، حيث لم نرد عرض مضمون الرسالة كما قدمها لوك، وإنما توقفنا عند اللحظات القطعية والفصائلية في الرسالة، أي اللحظات القطائعية التي تقطع مع المجال الديني وتقيم حدوداً شارخة بينه وبين المجال الدنيوي بهذا المعنى، وقراءة الرسالة من وجهة نظر كهذه أو قراءة الرسائل في التسامح بهذه الطريقة الجديدة قد تضفي عليها مدخلاً جديداً للفهم والتأويل، فإذا خرجنا من هذه القراءة ونحن نفصل بين المجالين فصلاً قد نغالي ونقول عنه أنه مطلق يكون قد تحقق المراد من المقال.

 

المصادر والمراجع المعتمدة:

[1]- جميع المقاطع الواردة في هذا المقال مأخوذة بتصرف من كتاب: جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمها عن اللاتينية مع مقدمة وتعليقات، الدكتور. عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى سنة 1988.

[2]- نفس المرجع، ص: 76.

[3]- نفس المرجع، ص: 89.

[4]- نفس المرجع، ص: 147.

[5]- نفس المرجع، ص: 132

-[6] John Locke (1686), Lettre sur la tolérance. Traduction française de Jean LeClerc, 1710. Paris : Garnier-Flammarion, 1992. Collection Texte intégral. Traduit par Jean Le Clerc ,p: 168

[7]- Ibid, p: 172.

[8]- Ibid, p: 198.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟