الزمان والنظام
عن جاستون باشلار "النظام ليس في الزمان، وإنما الزمان هو تكريس نظام مفيد وفعال نفسيا ولعلنا نستطيع التسليم مع برجسون بأن إختلال النظام في المكان ليس إلا نظاما غير متوقع، وجدلية النظام واللانظام ليست لها قاعدة مكانية " 1 .
على ضوء هذا الإجتزاء، نضع التساؤلات التالية المتعالقة بها وهي:
- الأسبقية الوجودية الإدراكية هي لمن؟ هل للزمان أم للمكان؟ ، أم لا توجد أسبقية تزامنية بينهما؟، فالمدرك مكانا هو المدرك زمانا في ملازمة تمليها قابلية الادراك العقلي، ولا يمليها تكامل أو إنفصال الزمان عن المكان؟ فحيثما ندرك مكانا ندرك زمانيته الملازمة له وبغير هذا التداخل الادراكي الزمكاني المشترك لا ندرك مكانا ولا زمانا .. . .
- إذا كان الزمان جوهرا لا إدراكيا للعقل، والمكان بخلافه جوهر إدراكي للعقل، فهل نستطيع إدراك المكان بغير دلالة ملازمة الزمان له؟ وفي إستحالة إمكانيتنا إدراك الزمان بغيردلالة موجود المكان. كما ليس متاحا لنا إدراك مقدار الزمان بغير دلالة حركة اجسام المكان داخله فيه.
يرى افلاطون أن احتمال إنقاذ الزمان من عشوائيته المطلقة غير المدركة لا يكون إلا من خلال محدودية الزمان بوجود مكاني محدود إدراكيا. حينها يصبح كل مدرك مكاني كوجود منظم مدرك اكتسب منه الزمان العشوائي وجوده المنظم بدلالة مكان محدود إدراكه. مقولة ارسطو الرائعة التي سبقت عصرها هي (الزمان لا يحده زمان) لكن المكان يمكن ان نحد الزمان به؟ لماذا؟ مقولة ارسطو تؤكد التجانس الزمني وماهيته الفيزيائية التي لا تتبدل التي ينطبق عليها عبث المقولة التي نتداولها عربيا (فسّر الماء بعد جهد جهيد بالماء) أما إمكانية أن نحد الزمان بالمكان فهو وارد جدا كون ماهية المكان او صفاته الخارجية لا تجانس الزمان الذي لا يمتلك صفات ولا ماهية يمكننا ادراكها بمعزل عن تداخل الزمان بالمكان على صعيد الادراك فقط وليس على صعيد الجدل الديالكتيكي المتعذر تحققه بين المكان والزمان بسبب اختلاف المجانسة بينهما ان يكونا قطبي تناقض وتضاد داخل ظاهرة وجودية واحدة تجمعهما.
- على ضوء مقولة افلاطون، نرى أن الزمان في احتوائه المكان إدراكيا هو يقوم بتنظيم عشوائيته الوجودية بدلالة نظام المكان أو بدلالة قوانين الطبيعة الثابتة. عشوائية اللانظام الزماني المستمد من إدراك تنظيم المكان له، لا يعني عشوائية الزمان التي اكتسبها من نظامية المكان في جدل غير متجانس الصفات ولا الماهية ولا أية رابطة تجمعهما تجانسيا. المجانسة المادية للمكان لا تجانس المجانسة غير المادية للزمان. وجوهر المكان يختلف جدا عن جوهر الزمان والاكثر اهمية انهما لا يتناقضان جدليا بل يتكاملان ادراكيا.
- جدلية الزمان الادراكي مع المكان ليست جدلا (ماديا) يقوم على تضاد سلب مع إيجاب بل هو جدل يقوم على تغيير إدراكي وليس على استحداث ظاهرة إدراكية جديدة وليدة جدل تناقضي متضاد. والسبب بذلك هو اختلاف المجانسة الماهوية بين المكان والزمان التي أشرنا لها في الفقرة السابقة. علاقة التداخل الادراكي الذي يجمع الزمان بالمكان ليس علاقة جدل ديالكتيك بل علاقة جدل تكامل إدراكي معرفي .
- حسب باشلار ومن قبله برجسون، كل عشوائية مكانية في نظام الاشياء والطبيعة، ينبني عليها نظام طارئ جديد لا يلغي بصفته الخارجية عشوائية المكان. هذه العشوائية المكانية التي تنظّم نفسها بدلالة عشوائية الزمان التي اعتبرناها خاطئة حسب فلسفة افلاطون. الزمان لا ينّظم المكان بل يدركه كما هو كموجود. والمكان ينظم نفسه بدلالة تنظيمه عشوائية الزمان المتعالق مع موجودات المكان.
- أيضا، على ضوء مقولة افلاطون، المكان معطى قبلي منظم يستبق الزمان وجودا. يجعلنا ندرك حقيقتين : اولاهما رغم عشوائية الزمان المنسوبة له من قبل افلاطون إلا أن ميزة الزمان الإطلاقية التي تعجز كل موجود مجاراتها هو أن الزمان نظام يحتوي الوجود والطبيعة والمكان بغض النظر عن دوره السلبي أو الايجابي لهذا الاحتواء الإدراكي. المكان لا يدركه العقل مجردا عن زمن إدراكه والغريب بالأمر كيف يكون المكان معطى قبليا نظاميا يعقبه معطى بعدي زماني يفتقد النظام؟. علما أن مصدر خلقهما واحد هو الله حسب افلاطون وفلاسفة مؤمنين عديدين أعقبوه. لماذا يكون للطبيعة نظاما تحكمه قوانين فيزيائية ثابتة، ويفتقدها الزمان بعشوائيته اللانظامية في تعالقه الوثيق مع الطبيعة؟ لماذا تكون الطبيعة جوهرا مدركا ثابتا بقوانينه، ولا يكون الزمان مدركا بقوانين فيزيائية تحكمه بثبات ادراكي كما هو حال الطبيعة؟
باشلار والوجود
يتناول باشلار قضية فلسفية عالقة كانت مثار اهتمام عباقرة الفلسفة هي الوجود والعدم، وابرز ميراث سبق به هذه العلاقة سارتر في كتابه الشهير (الوجود والعدم) واعقبه هيدجر بكتابه (الكينونة والعدم) وتقوم فلسفة باشلار في معالجته هذه العلاقة على ما يلي:
- "إمتلاء الوجود يقابله العمل الثابت للوظائف" 2، بمعنى توضيحي الوجود الناقص الإمتلاء ناقص القدرة على إداء وظائفه الحيوية المترتبة عليه بالحياة. رغم أن تعبير الإمتلاء الوجودي مفهوم ملتبس غير واضح من الناحية الادراكية او العملانية. فالامتلاء الوجودي غير محدد بماذا يمتلئ؟ وماهي معيارية هذا الإمتلاء بالتمام والنقصان؟ وبأي شيء يكون الوجود ممتلئا؟ باشلار ربما لا يعني بالوجود الممتلئ هو الوجود الطبيعي الذي يدرك بموجوداته، وهو غير الوجود النفسي الذي ربما يقصده باشلار الممتليء بموجوداته المجردة غير المادية التي مصدرها الذاكرة والخيال والنفس.
- إرادة الحياة دائمة السيرورة ولا تتوقف، والوجود يريد خلق حركة ولا يريد خلق راحة حسب تعبير باشلار. والوجود تناغم دقيق لخلق التنوع. والوجود الناجح المتحقق لا يكتفي الوقوف من غير سعي لإضافة نجاحات أخرى جديدة عليه.
وجدلية الوجود والعدم تتبدل وتتغير وفقا للظروف الموضوعية الخارجية حسب باشلار، وليس بتضاد داخلي بين المتناقضات حسب الجدل الماركسي. لماذا لا يكون تناقض الوجود والعدم يحكمه ديالكتيك على النمط الماركسي التقليدي؟
أولا من الخطأ الفادح أن نعتبر إمكانية حصول جدل بين وجود وعدم ، أي بين شيء مدرك من جهة ولاشيء غيرمدرك غير موجود من جهة أخرى، الجدل الديالكتيكي المنبثق عنه ظاهرة مركبة ثالثة مستحدثة إنما تكون هي نتيجة تضاد جدلي داخل مجانسة نوعية تجمع متضادين إثنين في ظاهرة واحدة. والجدل الديالكتيكي لا يكون بجمع مدركين خارجيين منفصلين بل الجدل يكون في تناقض قطبين داخلين ضمن الظاهرة المتجانسة الواحدة. لنا توضيح لاحق لهذا الالتباس في اسطر لاحقة.
- يؤكد باشلار أن فهمنا الصحيح للوجود يتوقف على جملة من الامور منها : الوجود حسب تعبيره تناغم دقيق وخلق التنوع فيه، وطبيعة الوجود هو ان يتغير، والوجود الناجح يريد دوما تجاوز مرحلة نجاحه الى اخرى متقدمة عليها، كما يجد باشلار الحياة لا تنفي نفسها بالفشل، بل هي تبني اعادة نفسها في ديناميكية تقودها ارادة التغيير والتجديد المتقدم الى امام.
لا نجانب الصواب قولنا ان كل ماذكره باشلار لا يشكل رؤية فلسفية جديدة لم يسبقه بها أحد غيره، ويمكننا أن نجمل تعقيبنا باختصار شديد، أنه من المسلمات أن الحياة لاتصنعنا دونما ارادة واستعداد مسبقين منا كبشر من جنس نوعي متمايز على صعيدي الفرد والمجتمع، الحياة نحن من يمنحها إمتياز التدخل في رسم معظم ملامح سلوكنا الوعوي الذي نجد تكيفنا معها ميسورا بسيطا. وكل تقاطع مع إرادتنا في تصنيع حياتنا مع ارادة الحياة الواجب التكيف الايجابي معها في ممارستنا تعديل الخاطيء الذي لا يناسبنا نحو الافضل، سيقود الى انكفاء ذاتي على مستوى الفرد والى استلاب اغترابي على صعيد المجتمع. الحياة تصنع وجودنا الحقيقي الحي بنفس مقدار صناعتنا نحن للحياة التي نرغبها.
جدل الزمان والمكان
في سطور سابقة جرى توضيحنا لا يوجد جدل ديالكتيكي مادي يحكم المكان والزمان، واوضحنا ان علاقة الزمان بالطبيعة وموجوداتها المكانية هي من نوع الادراك التكاملي وليس من نوع التضاد الجدلي في خلق الظاهرة الجديدة. وسبب ذلك أن الجدل الديالكتيكي المادي وجدل التاريخ لا يكون إلا على صعيد المجانسة الواحدة التي تجمع نقيضين لا يمكنهما التعايش معا داخل المادة المتجانسة الواحدة.. الديالكتيك يحدث داخل متناقضات النوع المادي أو التاريخي الموحد في المجانسة. مثال ذلك لا يمكن أن يحدث ديالكتيك بين حيوان وانسان أو بين نبات وانسان او بين زيت وماء او بين منضدة وكرسي الخ.الديالكتيك تضاد بين نقيضين متجانسين نوعيا ينتج عنهما مرّكبا ثالثا جديدا..
تناقض الاضداد جدليا داخل المادة أو الموضوع المتجانس الواحد لا يكون مدركا من طرف ثالث محايد باستثناء العوامل الموضوعية المحيطة بهما من أجل تسريع حدة التناقض الداخلي لينتج عنه المركب الثالث أو الظاهرة المستحدثة الجديدة التي لا تشبه أحد المتناقضين. أما الجدل على صعيد تنازع وتفاوت مصالح الطبقات المتناحرة اقتصاديا كما يحصل بين الطبقة الفقيرة العاملة التي تبيع قوة وناتج عملها للطبقة الغنية الراسمالية التي تستثمر قوة عمل هؤلاء الفقراء.
وتحكم الجدل المادي قوانين تحولية انتقالية خاصة من مرحلة الى مرحلة أخرى وهي القوانين الكلاسيكية الثلاث التي أرستها الفلسفة الماركسية، قانون وحدة وصراع الاضداد، وقانون تحول التراكم الكمي الى تراكم نوعي جديد يحمل خصائص نوعية مغايرة، والقانون الثالث الذي يحكمه التطور الحتمي بقانون ما يسمى نفي النفي في استحداث الظاهرة الجديدة التي تحمل معها عوامل التناقض داخلها وحتمية انحلالها. ما يعنينا من كل هذا التوضيح هو كيف يكون الفكر او الوعي الذي هو تجريد لا يشارك المادة التي يدخل معها بجدل ديالكتيكي وكل منهما(الفكر والمادة) يحمل صفاته النوعية الخاصة به التي تقاطع وحدة التجانس الجدلي داخل الظاهرة النوعية في الخواص الواحدة.؟ لا يوجد جدل منطقي على صعيد الميتافيزيقا ولا على صعيد الفكر المجرد.
جدلية الزمان التي يعالجها جاستون باشلار هي جدلية ميتافيزيقية، وبنى على تلك الفرضية الفلسفية اننا ندرك الزمان على انه سلسلة من الانقطاعات التي تتحكم بها ذاكرتنا.
لكن الحقيقة الجوهرية للزمان تقاطع هذا التوجه الاستدلالي به. وهي ان تفكيرنا خارج فاعلية الزمن الجدلية هي التي تكون سلسلسة من الانقطاعات المتتالية. قطوعات الذاكرة التعاقبية هي التي تقود الزمن بمعنى استكمال الادراك بدلالته. قطوعات التفكير الاسترجاعي المستمد من مصدره الذاكرة، إنما يكون افكارا مكتسبة مخزّنة خارج تعاقبية زمنية يتعالق بها الماضي مع الحاضر.
قطوعات التفكير هي خارج فاعلية جدلية الزمان بها، فالجدل الحقيقي لا يحصل في ميتافيزيقا الافكار بل يحدث في الوجود المادي للاشياء. وتبقى قطوعات التفكير خارج جدلية الزمان هي استذكارات نتخيلها بالفكر الملازم لزمانيته الذي في حقيقته لا زمان يقود الاستذكارات التي نرغب استحضارها، ولا دخل للزمن فيها الا بدلالة أن نعرف استكمال ادراكاتنا بدلالة زمنيتها في حاضرنا الذي نفكر فيه.
علي محمد اليوسف /الموصل
الهوامش: 1،2، جاستون باشلار/ الجدل والزمان /ت: خليل احمد خليل/ ص 36 – ص 38