على سبيل التّقديم
يَشْتَرعُ كتابُ "شيخوخة الخليل"،* للنّاقدِ المغربي "محمّد الصّالحي"، أفقاً نقديّاً متفرداً في مُساءلة قَصِيدة النّثر العربيّة، وتحديد ماهيّتها وخصائصها البنائيّة والشكليّة والفنيّة والإيقاعيّة، بِعَدِّهَا إِمْكَاناً جديداً من مُمكناتِ الصّوغ الشعريّ. ويتبدّى هذا الأفق النقديُّ الجديدُ، في سعي النّاقد، بحذقٍ ومكابدةٍ وتروٍ، إلى تبديل موقع وآلياتِ النّظر إلى هذه القصيدة التي رزحت، رَدْحاً من الزّمن، تحت وابلٍ من الدّراسات المشروخةِ بالنّزعةِ الدّعائيّةِ والاختزاليّةِ والسطحيّةِ. بهذا المعنى، يجترحُ هذا الكتابُ مُقْتَرَباً نظرياً عميقاً، غايتهُ الأساسُ الصّياغةُ العلميّة الملائمةُ للواقعِ الشّعري لقصيدةِ النّثر.

وفي هذا المَسْعى المحفوفِ بالمطبّاتِ، وعبرَ امتدادِ فصولِ الكتابِ، لا يَنِي النّاقد يضعُ المسلّمات الصّلبة، التي سّيجت قصيدة النّثر العربيّة، موضعَ المساءلةِ والتّمحيص؛ ليكشفَ، بمسباره النقديّ، تَهَافُتَ بعض هذه المسلّمات وهَشَاشَةَ مُنْطلقاتها الإبستمولوجيّة. ذلك أنّ الخطابَ النقديَّ الذي واكبَ ظهور قصيدة النّثر خلال ستينياتِ القرن الفائتِ، ظلّ قاصراً عن إدراك كنه هذه التّجربة الشعريّة بما تنطوي عليهِ من مقوماتٍ وخصائصَ، وعمدَ إلى مُعالجتها بالاستنادِ إلى مقارنتها بأشكالٍ أُخرى، أو الاحتكام في تحديد تُخُومِهَا إلى معاييرَ طباعيّة أو غيرها من المعاييرِ الخارجيّة التي تهملُ شعريّة النّص. والشّعريّة، هاهُنا، مقصودٌ بها تلكَ الطّاقة الخفيّة/ الداخليّة التي تجعلُ من نصٍّ ما نصّاً شعريًّا، بصرفِ النّظر عن الإسقاطاتِ الخارجيّة أو هَواجِسِ المقَارنَة.

بهذه الإضمامة الشعرية التي وسَمها الكاتب، والمسرحي، والشاعر محمد الشوبي بعنوان "وطن على حافة الرحيل"1، يواصل سبره لأغوار الأجناس الأدبية المختلفة. فقد استهل إصداراته أوّلا بالسرد، في مجموعته القصصية "ملحمة الليل" (2014)، وثنّاها بمسرحية "حر الغرام" (2017)، وتخللَتها مقالات صحافية في الفن، والسياسة، والإعلام، هو الآن بصدد جمعها وإعدادها للطبع في كتاب. ولعل هذا التجوال بين الفنون الأدبية مرده إلى طبيعة شخصية الشاعر، التي نراها دائمة الترحال بين الفضاءات والأمكنة المختلفة، داخل الوطن، وخارجه، كما تنمّ عن ذلك التذييلات التي يوثِّق بها كل قصيدة. فقصائده كُتِبت في مدن مختلفة، بعضها ذات رصيد حضاري وثقافي معروف، وأخرى تعيش على الهامش، فنفخ فيها من روحه، وبعث فيها الحياة بدفء كلماته، ونسغ أشعاره. ولئن استأثرتْ بعض المدن بأكثر من قصيدة في الديوان، وأوحت للشاعر بالكتابة عنها، وفيها، فلأنها، دون شك، تركتْ في وجدانه أثرا، وأشعلتْ بداخله فتيل الإبداع، وألهَبتْه بحرقة الكتابة.

حين بدأت قراءة رواية "تدريبات على القسوة" للكاتبة الكبيرة عزة سلطان والصادرة عن دار روافد للنشر والتوزيع، كنت أظن أنني سأقرأ بوح امرأة مثقفة طحنتها الحياة كما فعلت بالكثير من المثقفات اللائي يكافحن من أجل إثبات وجودهن.. لكنني فوجئت منذ البداية بجمل لم أتوقع أن تكتبها كاتبة عادية مما دفعني إلى التواصل مع الكاتبة والتي سألتها عمن كتب  السطور الأولى ..

خالفت الرواية كل ظنوني وهي كثيرة فلم تحك عن ويلاتها وخيباتها حياتها أو حيوات صديقاتها الكثيرات بل اختارت أن تتماهى مع فتاة تقتات من خلال جسدها..

لم تكن صدمة عميقة بالنسبة إلي أن اتعرف على الشخصية المحورية والتي أبدعت الكاتبة في وصف حياتها وطفولتها والأسباب التي دفعتها إلى اختيار ذلك الطريق الموحش والذي يقتل من تختاره .

منذ شبابي المبكّر، أواسط ستّينات القرن الماضي، في مدينة باجة التي همّشتها دولة الاستقلال، وجعلتها قفرا بلقعا على كلّ الصعد، ولا سيّما على الصعيد الثقافي، كانت تبلغ إلى مسمعي رغما عن ذلك عبارات الثناء والإعجاب بالشاعر منوّر صمادح الملقّب بشاعر الحريّة والثورة، لنزوعه الدائم إلى تجاهل المحاذير والقفز على حصون المحظور السياسي التي شيّدتها سلطة "الزعيم الأوحد'' آنذاك، للتقليص من مساحة حريّة التفكير كما التعبير قولا وكتابة. بما جلب انتباهي إلى اسمه ليستقرّ في الذاكرة. وذلك بحكم إنجذاب الشباب إلى فعل التمرّد على السلطة أكثر من انجذابه إلى موالاتها. لا سيّما في تلك الفترة التي شهدت انتشارا سريعا للفكر الشيوعي التروتسكي (Trotski) الثوري بين الشباب. ولم أكن في تلك المرحلة أتذوّق الشعر، ولا أتوفّر على أدوات فهمه لتخطّي عتباته والولوج إلى مضامينه، فضلا عن تحليله وفتح مغاليقه وتقييم جماليته بأدوات نقد وتحليل الخطاب الشعري سيميائيّا، انطلاقا من العنوان ثمّ الفاتحة النصّية والخاتمة، ودراسة الأضداد والتناص، وثنائيّة التشاكل والتباين(1)، لدراسة الصوت والمعنى بما هما رمزية تشاكل الصوت، ورمزية تشاكل الكلمة.

الدارس للشعر العربي قديمه وحديثه والمتذوق له والمتعمق في قراءته لاشك يعرف أن قصائد يمكن أن توسم بالافتضاحية من قارئ تعود على نمط واحد من الشعر- أكان وعظيا أم حكميا أم تأمليا- وهي ليست من قبيل الأدب المكشوف ولا الشعر الذي يطلب الفن للفن ضاربا عرض الحائط بالضوابط الأخلاقية وبالتعاليم الدينية التي يصر البعض على إقحامها في ميدان الشعر فهي ليست قصائد في الغزل الصريح حيث يبدع الشاعر في وصف حسي وتهييج للقارئ أو المستمع مشيدا بدونجوانيته أو منحرفا بالغزل عن مقصده في كونه يتناول المرأة على وجه أخص إلى غزل يشيد بالمثلية وبجمال المذكر ،كل هذا وذاك يعرفه الدارس للشعر العربي من امرئ القيس الذي يروى له بيت يوسم بأنه أفحش بيت قاله شاعر أو مثلية أبي نواس ومغامراته التي خلدها ديوانه الشعري ،وما هو مبثوث في دواوين الشعراء ومدونات حفظت هذه الأشعار كالأغاني والعقد الفريد وخزانة الأدب والكشكول والمستطرف وغيرها لشعراء يتباين مستواهم ومنزلتهم ومأثورهم من الشعر شأن صريع الغواني ومسلم بن الوليد ووالبة بن الحباب وصولا إلى شعراء العصر الحديث كإلياس أبي شبكة والشاعر الرجيم حسين مردان.

في علاقة الأدب بالفلسفة ، تتلون المذاهب والتيارات الفكرية والسياسية . ومن خلالهما يكون حضور الفيلسوف والأديب قويا وفاعلا في بناء وعي جديد ، ينظر إلى الذات والمجتمع نظرة مغايرة للمألوف والطبيعي . فبناء المجتمع يمر عبر بناء الذات ، من خلال الصراع المتجدد بين النزعة الفردانية والنزعة الشمولية حسب الفيلسوف الفرنسي مانويل مونيي . إن القناعات الشخصية هي التي تخلق عالم التفرد و الحرية ، علاوة على الصلة التي تربطها الشخصية بالزمان والمكان ، فأي شغل لهذين الأخيرين هو بمثابة رسم حدود للذات في علاقتها بالغير .
من خلال ذلك ، هل شخصية المبدع تتحدد بالكتابة والإبداع ؟ أم أن هذا الأخير هو سجن للذات في بحثها الدؤوب عن التوازن في ضوء الغد المتجدد باستمرار .
بالموازاة مع ذلك ، يغدو التعبير عن الذات المبدعة ، في ظل تفاعلها اللامشروط مع الواقع ، أمرا بديهيا حيث يضئ عوالمَ جديدة ، ويرتاد ضفافا أثيلة من خلال ربط الفلسفة بالأدب . فالبحث عن الذات يمر عبر النظرية الشخصانية أو الإنسانية ، التي أرسى دعائمها مونيي ما بين الحربين الكونيين . وفيها إعادة الاعتبار إلى الإنسان وكرامته وقيمته المهدرة ، عبر تحديد أبعاد معاني الذات في العالم ، علاوة على ذلك يصبح الشخصُ له معان في الوجود .

 لا يتجادل اثنان حول كون النساء اقتحمن عالم الرواية العربية المعاصرة وتفوقن في الكثير من الأعمال على الرجال، وأن المستقبل يبشر بروائيات سيبصمن لا محالة تاريخ الرواية العربية  ببصمات سيكون لها أثرها، خاصة عندما يتمكن بعضهن من إثارة اهتمام المثقفين في عملهن الأول وهن لم ينهين  عقدهن الثاني كما هو الشأن مع الروائية السعودية الشابة رجاء عبد الله الصانع في رواية (بنات الرياض) الصادرة في طبعتها الأولى سنة  2005  لتتوالى طبعاتها بعد  النجاح الذي حققته الرواية ..

تحكي الرواية التي اقتبست الكاتبة عنوانها من أغنية الفنان عبد المجيد عبد الله «يا بنات الرياض»  عبر رسائل (email) قصص أربع فتيات ينتمين للطبقات المخملية في المجتمع السعودي، ورغم توفر الإمكانيات المادية، حاولت الكاتبة كشف الأقنعة عن واقع تنخره التناقضات، يقف حجرة عثرة أما طموحات الشباب، فيعجز فيه الشاب أو الشابة عن اختيار شريك(ة) حياته(ا) ويقبل الشاب ترك حبيبته ليتزوج فتاة لا يحبها، تلبية لسلطة تقاليد مجتمع محافظ مغلق...  سنحاول في هذا المجهود البسيط ومن خلال تجارب البطلات الحفر عن  بعض مظاهر هذا التناقض في مجتمع وصفته الساردة ب ( المجتمع المريض)[1] كما رصدتها روائية شابة في 50 رسالة تحكي تجارب أربع فتيات هن :

   " الحكواتي كالطائر رزقه في لسانه " (*) 
 1 ـ االحكواتي..الحلايقي..(**)
       من بعيد لاح كشبح يتّكِئُ على عصا تَسنُد مِشيته.. على كتفه اليابس حمل كيسا أحنى ظهره، وقف لحظة ينظر إلى الساحة التي شهدت صولات جده وأبيه من بعده، يجُسّ نبض الأمكنة المباركة التي ستحضن الحلْقات..
بعناية العارف الحاذق اختار مكان حلْقته، وكمهندس طوبوغرافي محنّك، وقف يعبر ساحة وقوفه.. يرسم بعصاه حدود الدائرة، يوسّع مرة.. يُضيّق مرة.. يعد الخطوات مرات.. برجله يكشط حدود دائرته من الحجارة والأوراق وبقايا طعام..
حدّد المركز بدقة وبنظرة عارف.. وضع فيه زربية مُهترئة تآكلت جوانبها المطرّزة.. فوقها وضع حقيبة قديمة متهالكة.. فتح الحقيبة.. أخرج منها كتاب ألف ليلة وليلة، اصفرّت أوراقه وتمزّقت، وآلة " الكنبري " (***)..