ها قد بدأ الليل يسدل سجوفه ويرخي أستاره شيئا فشيئا، .وبدأت السماء تمطر مطرا ساجما سرعان ما انقلب إلى مطر غزير يسقط زخات زخات، والسحب واجمة مكفهرة عابسة الوجه، تنتقل في الفضاء عجلى كحمامة تطاردها الصقور، وأنت ما زلت تطل من النافذة على الشارع سابحا في همومك ومآسيك، تعتصر قلبَك أحزانُك، يهد اليأسُ وجدانَك ويمزق الأسى كيانَك، سارحا في سوانح أفكارك، منقادا لأوهامك، تخضب وجهك بدمع يغرورق من عينين كأنهما سيل جارف أو صنبور ماء ترك مفتوحا، ليلك بهيم وكل أوقاتك عصيبة، لا يعرف النوم إلى أجفانك سبيلا، تظل الليل كله أو بعضه تتأمل أرجاء المدينة الصاخبة وأضواءها القاتمة، وتسرح بخيالك في جوانح أفكارك. كنت دائما ما تطيل التفكير كأنك على أهبة أن تخرج للعالم بنظرية حول الكون، لكنك هذه المرة سئمت من طول تجوالك في تلك الغياهب التي لن تقذف بك إلا في عالم الشك والحيرة.
نداء ـ قصة : الحسين لحفاوي
"موحشة هذه المدينة بدونك".
هذا ما كتبته له في آخر رسائلها الإلكترونية، حين رن هاتفه الجوال كان يلج باب غرفة النزل الذي سيقيم فيه، تعثر في قراءة الرقم، كان رقما جديدا غير مسجل لا في ذاكرته و لا في ذاكرة جواله، حاول الاتصال بهذا الرقم مرة و مرتين و ثلاثا، لكنه في كان في كل مرة يتلقى الإجابة نفسها، صوت أنثوي يخاطبه، بنفس الجفاء و بنفس العذوبة و بنفس الحياد " الرقم المطلوب غير مبرمج بالشبكة".
ظلت كلمات تلك الرسالة تتردد في ذهنه، لم يقدر على محوها من جواله و لا من ذاكرته، و استمرت محاولات الاِتصال بصاحبها لكن سعيه كان يخيب في كل مرة.
القارئ... ـ نص : غزلان شرعي
كان أول اللقاء حاسما..
ولم يكن القطار الذي استقليته محض صدفة..
حتى أنني عندما أصبت بالغثيان...
كانت خطة..
خطة القدر..
أن تتشابك أقدارنا
.. أن استفرغ قرب باب منزلك!!
لم تكن ابدأ صدفة
حياة رتيبة ـ قصة : رشيد تجان
يخرج من البيت بعد الساعة الحادية عشرة صباحا بعد أن يقضي كل حاجاته ومتطلباته البسيطة. لابسا سروال الجينز الأزرق وقميصه الصيفي المزركش بألوان متناسقة الأشكال كأنه لوحة تشكيلية، بظهر مقوس شيئا ما، متراخ بعض الشيء بفعل السنين التي يحمل عليه، ومدى الأشغال التي قام بها في المؤسسات التي اشتغل بها كمدرس لمادة التاريخ ثم كحارس عام ومدير لإحدى الثانويات. رأسه شبه فارغ من الشعر بفعل الصلع الذي هاجمه، وما تبقى منه فهو أبيض فوق الأذنين والقفا. يضع نظارة طبية سميكة الزجاج. يجلس في المقهى القريب من بيته ويجالس بعض زملائه أيام العمل، إن كانوا، يتبادل معهم الحديث حول ما تعج به الساحة الوطنية والدولية من أحداث وأخبار، يقرأ الجرائد ويطلع على جديد الأخبار.
قلب يبحث عن اكتماله.. ـ قصة : محمد أبوزرة
رجت من الحانة، محافظا على جزءٍ من توازني، ركنت إلى جذع نخلة ونمت.
استيقظت على وقع مداعبة خيوط شمس الصباح لوجهي.. أخذت طريقي إلى البيت؛ رأيت صديقي على الجهة المقابلة للرصيف، لوحتُ له، فلم يرد علي.
استغربت! لكني تلمست له عذرا، فربّما لم ينتبه! لأنه كان منشغلا بصاحبه.. لكني كنت متأكدا من أنه رآني.. لم يَهمَّني الأمر كثيرا.
مررت بمحل العم "منتصر" الذي يبيع فيه المرايا. بعد تجاوزي له ببضع خطوات، توقفت..! تراجعت خطوات حتى استقريت أمام المرآة التي في الواجهة.. صعقني ما رأيت! كيف يعقل ألا تنعكس صورتي عليها..!! نظرت حولي، ساورني شك في أنني لم أعد مرئيا..
ركضت إلى المكان الذي صحوت فيه.. إنه جَمع من الناس ملتف هناك حول أمر ما!
جُوليا وَمَرَايا السّجن الأبيضِ(2) ـ نص : عبد الرّحيم دَوْدِي
حبّر الجُملة الأولى بتوترٍ وطوّح بقلمهِ بعيداً. "جُوليا، أيّتُها الوديعةُ اللئيمة، إنّك لا تستحقينَ ورقة، واحدة، ولو مسروقة...". كانتِ الصّورة، صُورتها الدّامغةُ تنثالُ، بصيّغٍ متعدّدة، على ذهنهِ المثلومِ. تذكّر، في هذه البُرهة المتشنّجة إلْمَاعَة الصُّوفيّ، الذي التقاهُ صُدفة في أعالي إيِفري. قالُ له، هذا الرجل الذي يشبهُ الأنبياءَ، إنّ الحقيقة مَثْوَاهَا الممالكُ العُليا. كلّ موجودٍ لا يستوطنُ هذه المرتفعاتِ الشّاهقة، منذورٌ، بحكمِ قانونِ الطّبيعة، للانتفاءِ. إنّ الوجود هو ما يهْرعُ إلينا وينامُ في الدّاخلِ، مُستكيناً لصمته الأزليّ. لم يفهم رحيم فَحْوى الإلماعة الماكرة، لكنّه أحسّ بها تَسْرِي في كيانه، مُبْهمةً كسديمٍ لا تكادُ تَبِينُ تجاعيدُ وجههِ. كانتْ إلماعة تَضَاءَل فَهْمُهُ عن دَرْكِ مجاهلها.
بعد الوداع ـ نص : فاطمة سعدالله
عادت الأحلامُ أدراجَها ..نسيت حقيبةَ الحكايا ،عند منعطف القلم كان النبض يلهث وهو يؤجل الرحيل.. على بريق الذكرى يومض الشوق، يمتد درب الكلمات نحو مجرة الوصول يهز رأسَه المتوّجةَ بالياسمين ... البياض ثلجٌ متجمّدٌ والعشبُ اخضرارٌ يَسيل على وجناتِ الصمت قطرةً..قطرة.ً.
في أوردة النوايا الحسنة،يسكن الصباحُ سفيرا تكْتحلُ جفونُه بتَرْنيمة ابتهالٍ يتمدّدُ في خاصرةِ الفجْر .. تفرح فطائرُ القمح المُحمَّصِ في مواسم الانبعاث ..يَنسَكبُ بُخارُها سبائكَ يقينٍ حاميةً تنْبضُ سرّا في قلب الشتاء .. عند مصافحة الضباب للإياب تجثُم دقاتُ الساعة على أجنحة الحروف .. تتوقف العجلة ُ عن الدّوَرانِ .. تتشابكُ عقاربُ الكيْنونةِ في "صراعٍ سِلْميٍّ " وبين ابتهالٍ وتهجْدٍ تنمو سنابلُ العطاءِ تنْعتِقُ جدائلُ الكلماتِ من شوْكِ الوَجَعِ ..
جُوليَا ومَرايا السّجنِ الأبيَض(1) ـ قصة : عبد الرّحيم دَودِي
لِيكنْ الأَمْرُ كَذَلِكَ...
هَاجسَ نفسهُ بالعبارةِ اللاذعة وهمّ بالانصراف. كانتِ الشّمس، فوق سقفِ الكونِ، تتلوّع محتدّة. وكانَ قَلبُه أشدّ التيّاعاً من هذه الشّمس. لا يهمّ، فهذه الحياةِ مُشرعةٌ على كلّ احتمالاتِ الارتياب. مَا بالُ جوليا! ربّما تهيّأ لها، بُحكم الاعتيادِ واستشراءِ التّفاهة، أنّ خلفَ الإصرارِ قصداً مُريباً، لابدّ. كانَ رهاناً فاشلاً؛ فثالث الأثافي، كانت على النّحو السّائد. كلامٌ مَلصُوقٌ وقلبٌ تائهٌ لا يفقَه أسرار الحياةِ! الشّمس تَسُوطُ رأسهُ بأسياخٍ من نّار. السّؤالُ قاسٍ: لِمَ تُرسلُ وَحيَكَ، هذا المدموغ بقسوةِ الخيالِ، إلى البلادِ البعيدةِ؟ ضَعهُ تحت مؤخرتكِ يا هَذا. إنّها لن تفهمَك. سَتَذهبُ بها الظنون في كلّ المسارب. أي نعم، في كلّ المساربِ، حتى تلك القصيّة الأبيّة على الارتياد. هاهُنا نظر إلى هاتفه. كالعادة لا رسالة تفكّ شفرةَ الحرّ الطّاغي في الأرضِ وفي السّماء.