تلك الأعراس في بلدتي، لم يكن لها في العالمين مثيل... مراسيم جلب الماء من البئر، يتجند لها شخصان او ثلاثة، يملؤون البراميل المصفوفة حيال باب المنزل المفتوح على الدوام. يدخله العوام والهوام، دونما خشية أو تهيب، فما كان بالبيت حاسوب ولا هاتف أو حتى راديو "ترانزيستور" يُخشى عليه من السرقة... بنت الجيران كانت تعرف مكان الملح والخميرة والدقيق... العرس فرصة لتكسير فراغ الفراغ، حيث تدب حركة رجال لم تجمعهم قبل ذلك غير حلقات لعب الورق، أو جلسات مج دخان السبسي... يتعاونون على بناء خيمة العرس المليئة بالغبار، وبصا ق العصافير المزقزقة هناك فوق كرمة التين بمسجد القرية، إلى جوار مرفع الموتى...
يقوم شبان شداد من البلدة بنصب الخيمة الكبيرة على مسافة يسيرة من المنزل، فتعطي للأهالي إحساسا غريبا، تزيده شحنات، رائحةُ بخار الكسكس الفائر... فيتحسس الجميع بطونهم، ويغلقون أفواههم خشية انبعاث الريق. وإذ تميل شمس الظهيرة باتجاه الغروب، تتهيأ نسوة الدوار للقدوم ، وكلهن شوق لصوت طامو البراحة، قائدة فرقة الغناء النسوي البدوي، التي توزع المدح يمينا وشمالا، والأخريات يرددن خلفها اللازمات المتكررة. تجني من وراء غنائها مداخيل تظفر منها بالقسط الأوفر، فتكون الفائزة بين كل الحاضرات: تغني وتطرب، تأكل وتشرب، تؤدي واجب " الغرامة" لصاحبة العرس، وتبقي بعض الدراهم في حزامها...
كاميرا المراقبة آنذاك، لم تكن سوى عين "محيجيبة" التي لا تخطئ صغيرة ولا كبيرة، ترصد الحركات والسكنات من فتحة شا لها الصوفي القاتم، المليء برائحة دخان الزيزفون، وبقع القطران الذي تضعه على مناخرها اتقاء الصرع... تتسلل بين الحين والحين، فتغادر منزل العرس صوب بيت العروس في السفح الآخر، فتنقل تفاصيل التفاصيل إلى من يهمها الأمر: أم العروس... وبعد أن تظفر بلقيمات من طبق البركوكش، تقفل عائدة وفي يدها قطعة صفراء دائرية من فئة خمسين فرنكا. أم العريس في الجهة المقابلة، تعلم الدور الذي قامت به "محيجيبة"، وتهمس في أذن جارتها المتأففة من رجوع الكاميرا قائلة: لا عليك، فأنا لا أقول أمامها إلا ما أرغب أن تقوله للآخرين......
بعض الناس في بلدتي، كان مشهودا لهم بالنشاط الزائد... "عويمير بوراس"، شبيه الرّقّاص في زمن الباشوات، لا يكل ولا يمل من قضاء مآرب أهل العرس، يتنقل من مكان إلى آخر كنحلة لا يهدأ لها طنين... شامة طويلة القامة، الطباخة التي قهرت نيران الأفران، وقهرت كل النساء بسلطتها ، فلا تمدهن بشيء من طعام إلا بعد أن تستوي الصحون، حتى وإن تضوّر صغارهن جوعا..." احميدة الفزغول"، "الفتى القافز" الذي يتحول الى "كراب" أو بائع خمر لعشاق عربدة الأعراس... "عباس شخشيخة"، الذي يتكفل بزجر قفزات الصغار، وثني كل من يخرج عن جادة الأعراف... "سلام الحتروف" الذي يتولى لجم بغلتي العريس ووزيره اللذين يركبانها في جولة، يدعوان الناس إلى الحفل من الدواوير المجاورة... "ويسف المنغاز"، الذي يصاحب الشيخات في الرقص، ويضفي على الجمع نكهة فكاهية يستلطفها الجميع...
تميل شمس العصر، تتساوى كل الأشياء وظلالها، فينزوي الراعي "حميدان" في ركن يحاذي خيمة العرس، يجمع حوله شرذمة من المنقطعين عن الدراسة، ويستل كمنجته المصنوعة من سطل الزيت وظفيرة الحصان، فيشرع في العزف والغناء، مستعينا بتعريجة " ولد اخديجة"... ينضم بعض كبار القرية إلى الجمع، ويتقرب منه عشاق السبسي، فتكتمل البهجة بانضمام "فاطنة الهبيلة" إلى القوم... فذلكة فكاهية لا مثيل لها، لاتنفضّ إلا برجوع العريس ووزيره من جولة "العْراضة" ، حيث تبدأ طقوس أخرى... بعض الرعاة لا يفتأ يثني على كمنجة "حميدان"، بل يدعو الشبان إلى مساعدته على اقتناء كمان عصري، ولن يحتاجوا بعدها إلى تكاليف فرقة "ولد محيجيبة"... هي الرغبة إذن في فذلكة مستمرة، تكسر جمود ليالي الصيف في القبيلة...
غير بعيد عن الأنظار قبيل الغروب، أصوات تعريجات قادمة من الخلف، وامرأتان تدلفان بسرعة البرق الى بيت العريس: تهامس الجميع في أذن الجميع، إن خالة العروس قد جاءت بها على حين غرة، اتقاء السحر والعين... فدخلتا. .
فرقة الموتشو الشهيرة، حلت على متن سيارة "الايركات" التي ترجل صاحبها مزهوا بنفسه، يفتح الأبواب للكوامانجي والشيخات، ويركنها خلف الخيمة، ثم يدخل صالة الضيوف بمنزل العريس حيث يقدم طعام العشاء للفرقة الموسيقية، قبل أن تتحول إلى الخيمة المنصوبة، حيث ينتظر الجميع أولى النغمات التي تُسَوّي أوتار الكمان، وأولى نقرات التعاريج التي يتولى "حميدان" تسخينها على نيران الأفران بعد تحييد البقاريج الزافرة... تتسامى الشيخات إزاء الحشود، وتبدو العيون مشدوهة صوب المشهد المثير لأعضاء الفرقة الموسيقية، قبل أن تخدر النغمات الأولى عقولا وأجسادا متعطشة للفرجة، فينشغل الجميع بالرقص والغناء، ويتسلل العريس وسط الحشد إلى بيت العروس، هناك حيث تقوم أخته الكبرى بدور حارسة الباب، فتأمر النساء داخل المنزل بالشروع في الغناء دون انقطاع، تغطية على كل صوت غريب... وأب العروس، لا يتبعها ابدا إلى بيتها الجديد ليلة العرس. يلزم بيته، يراقب زريبة الأغنام وباقي الحيوانات، وينتظر طرقات تمده بوجبة عشاء متأخرة، كما ينتظر انبلاج فجر تمتزج فيه صيحات الديكة وأهازيج الاحتفاء بعذرية ابنته المحروسة... يتنفس الصعداء، ويتململ باحثا عن أكبر قطعة نقدية، يضعها في الصحن الأبيض المنقوع...ثم يستسلم بعد انصراف الجميع لنعاس مريح بعد أرق مخيف... صباح العرس، يكشف الكثيرَ من البقايا المقززة والمضحكة: سكارى ينامون في جنبات الخيمة، وقد داهمتهم أشعة شمس حارقة... قنن زجاجية متراكمة خلف أفران الخبز الطينية... أداة تصبين حديدية لم تعد صالحة بسبب أرجل صويلح الغليظة... صمت مطبق، تكسره خطوات بنت مسعود وهي تعد وجبة الفطور بعينين حمراوتين، وأنف منتصب، وشفتين على وشك الانفجار... تنطلق أم العروس الى بيتها صحبة عدد من جاراتها القريبات، وبعد ساعات تعدن محمّلات بطعام الفطور ، فتختار منه طبقا مميزا للعروسين، ثم تسلم الباقي لأم العريس... يفطر الجميع، ثم تبدأ الاستعدادات لحفل النساء بعد الزوال بين طقس وآخر تتواصل الوشوشات والهمهمات، ويبقى الانتظار سيد المواقف قبيل طلوع الفجر...
مميزة عن غيرها، أم العريس ، وهي تستقبل النساء الوافدات على الحفل النسوي ، تربط الى ظهرها غربالا على صورة رضيع، في إشارة تفاؤلية الى خصوبة العروسين... نساء القبيلة تصطحبن بناتهن المقبلات على الزواج، تنتظرن تحفيزات البراحة من أجل إبراز مفاتنهن أثناء الرقص، وفي ذلك استعراض يستميل عيون الأمهات الراغبات في تزويج أولادهن... فريق النساء المغنيات لا يأبه سوى بجمع ماتيسر من دراهم، مقابل أغنيات مكرورة، تُعدّد مثالب الرجال والنساء على السواء... الطباخة "بنت مسعود" ، لم يعد يهزها غناء ولا مديح، تقف بعيدة هناك قرب الفرن الكبير، تحرك رأسها في استخفاف وإنكار، كلما سمعت الفرقة تمدح أحد صعاليك البلدة مقابل درهم مغبون. لحظة الغرامة، هي الطقس المرتقب المنشود من قبل والدة العريس، إذ تجلس منتبهة ملوحة برأسها في امتنان، آملة أن تسعفها ذاكرتها في تسجيل المبالغ التي أهدتها إياها النساء. وبعد انتهاء الغرامة، تنزع ربة العرس غربالها لتحمل بدله ما جمعته البراحة من قطع وأوراق نقدية... وتكون وجبة الطعام المتأخرة هي آخر طقس من طقوس العرس، تتجاذب أثناءه النساء أطراف الكسكس والحديث، على أمل اللقاء في عرس آخر...