دخل يجتر خطواته بخجل، نظرات مترددة وتائهة. كعزيز قوم ذل. يحمل بيده كيسا صغيرا من البلاستيك يحتوي على بعض الأوراق. يظهر على ملامحه التعب والخوف. نظر الي، ثم حول نظراته المضطربة اتجاه الموظف القابع وراء مكتبه. فعاد وجلس الى جانبي. وسألني بصوت خافت:
-هل هذا الرجل هو المسؤول هنا؟ سألني بكل عفوية وهو يتأمله.
-انه المسؤول عن مكتب المدير.
رفع رأسه بالإيجاب، وظلت نظراته تراقبه كأنه يبحث بين ثنايا مكتبه عن شيء ضائع منه. ثم قال لي:
- هل أنت أيضا تبحثين عن عمل؟ فنظر الى الكيس الذي بين يديه واختضنه كطفل عزيز وغالي.
أجبته دون أن أفهم مغزى سؤاله. وقلت له:
- أنا هنا لغرض آخر.
ابتسم بكل صدق. فجأة، قام واقترب من باب سكرتير المدير وطلب الاستئذان بالدخول، كان مؤدبا وخائفا. يقدم رجلا ويؤخر أخرى كمن سينفذ فيه حكم بالإعدام.
سأله سكرتير مكتب المدير:
- ماذا تريد؟
لاحظت على ملامحه الارتياح لما سأله، علت وجهه ابتسامة صغيرة ثم خطا خطوة أخرى حتى أصبح داخل المكتب وقال له وهو يحرك الكيس الذي بين يديه في كل الاتجاهات:
- أبحث عن عمل، وأحمل معي كل الأوراق التي تثبت هويتي.
ابتسم السكرتير وطلب منه أن يجلس وقال له:
- أولا، من اين أتيت؟
- أسكن غير بعيد من هنا، أنا من قرية رأس العين.
نظر اليه مليا ثم قال له بكل احترام، شعرت ساعتها بأنه مازال هناك مسؤولون يحملون اخلاقا:
- نحن لا نوظف أحدا. يجب عليك أن تتجه الى الجهة المسؤولة.
وهنا وقف كأنه سمع ما لا يرضيه وظل منحي الرأس وقال للسكرتير:
- عفوا سيدي، لقد سألت وقالوا لي إذا أردت أن تعمل في الحراسة، يجب عليك أن تتجه الى هذا المكتب.
كانت أمام السكرتير بعض الأوراق، يوقع عليها وهو يحرك رأسه يمينا وشمالا. كأنه سمع كلاما غريبا. قام واستأذنه وولج مكتب السيد المدير. وظل ينتظر ويلتفت اتجاهي كأنه يستنجد بي ثم يحول نظراته الى مكتب السكرتير وكله أمل أن يسمعه ما يرضيه. كل حركاته تدل على أنه على صواب، وأن من أرشده الى هنا، لم يكذب عليه فقط السكرتير هو الذي لا يريد أن يقوم بعمله. لحظات صمت مريبة كلها انتظار وتوجس. جلس الى جانبي من جديد، وأخذ يخرج أوراقه من كيسه. كانت لحظة مهمة بالنسبة الي، لأنني كنت أرغب في معرفة ما يحتويه هذا الكيس الذي يشدد عليه كل هذه الحراسة. كانت أوراق يظهر عليها الزمن، كأنها انتظرت طويلا في مكان بارد ومظلم حتى فقدت مشروعيتها. قال لي بصوت خافت:
- كل أوراقي تدل على أنني كنت حارسا، واشتغلت عند الأجانب، وفي المدارس وفي المستشفيات...
سألته بدوري:
- لماذا كنت لا تستمر في عملك؟
جمع أوراقه برفق وحذر ثم وضعها تحت ابطه خوفا من أن تضيع منه. وقال لي:
- الشركة هي التي كانت تطردني دون أن أعرف السبب. وأبحث من جديد. ولما كنت أسأل، كانت اجابتهم بأنني كنت تحت التجربة.
آهات متتالية تدفقت من صدره، لاحظت أن أصابع يديه متورمة ومشققة كأرض قاحلة تنتظر قطرة ماء ترويها.
همس الي كأنه يخشى أن يسمعه أحد:
- الفقير يضيع في هذه البلاد.
عاد السكرتير، اعتذر له عن التأخير. وقال له:
- كل ما أستطيع أن أقوله لك، هو أن تذهب الى المكتب الآخر المتواجد في الطابق السفلي. هناك ضع طلبك وإذا كانت هناك طلبات لتوظيف الحراس، سنخبرك.
لم أكن أتصور الفرحة التي غمرته وهو يسمع هذا الخبر. كأنه حصل على وظيفة بالفعل. سلم علي وشكر السكرتير قال له:
- لم يكذبوا علي اذن، ان الله لا ينسى عباده. ثم عاد وسأله من جديد:
- متى أعود.
- لست أدري. يجب عليك الانتظار.
من فرحته، اقترب مني وهمس الي:
- لن أغادر المدينة، سأظل قريبا، من يدري، ربما تأتي الوظيفة غدا.
وانطلق بخطوات أكثر خفة وثقة، يحمل الفرح كله بين يديه. ويحضن الكيس المليء بالأوراق الشاهدة على أقدميته في المهنة وعلى حسن السلوك والسيرة بكل حب.
غادرت المؤسسة بعدما قضيت بعض الحاجيات التي كانت تتطلب مني الانتظار. وأنا في طريقي الى الخارج، وجدته جالسا على أول درج قرب الباب الخارجي. يتفحص أوراقه، يبتسم ويمسح بعينيه الفراغ الذي أمامه. قلت له:
- ماذا تفعل هنا؟ لماذا لم تذهب الى بيتك.
- أنا لست مجنونا حتى أعود الى بيتي، انها فرصة عمري. سنوات وأنا أنتظرها. لا يهم أن أنتظر للحظات أخرى.
جلست الى جانبه لكي افهمه أنه يجب عليه أن يرحل الى قريته وينتظر هناك. ربما انتظاره سيطول. كان ينظر الى الفراغ، يفتح كيسه كأنه يريد أن يتأكد من وجود كل الوثائق ثم يعيده تحت ابطه. ثم قال لي:
- المهم هو أن أحصل على الوظيفة.
تركته يفترش الأرض ويحضن هويته بين يديه، وينظر الى الفراغ الذي أمامه مع ابتسامة عريضة.