رضوض الذاكرة – قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

نهضنا معا وغادرنا المقهي وتركنا وراءنا الجدران الصماء والزبائن وخيوط الدخان وقرقعة النراجيل وأصوات ارتطام الفناجين بالطاولات. تقدمنا يتبع أحدنا الآخر حتى عبرنا الباب وقهقهات النادل تعلو على كل الأصوات.
احتوانا الشارع الطويل الممتد الذي لا ينتهي ومشينا صامتين موقِّعين بأقدامنا مثل جنديين أتقنا تدريبهما. وراح كل منا يغازل أهداب ذكرى ويلج أنفاق روحه التي لم يتسن للآخر الدنو منها.
سرنا. لست أدري أطال بنا المسير أم قصر. تحيط بنا من الجانبين أشجار باسقة متشبثة بالتراب تعاند الأعمدة والجدران المحاذية وترتفع هاماتها لتلامس أسلاك الهاتف. احتمينا بظلها من لفح الهاجرة واتقينا بأغصانها الوارفة أشعة الشمس المنهالة فوق رأسينا بلا رحمة مثل حديد مُذاب.
أصوات متداخلة تكاد تثقب آذاننا، منبهات سيارات، أزيز فرامل، نداءات باعة جوالين، تغاريد بلابل، عربدة أطفال طائشين يعاكسون فتاة، هدير طائرة تعبر الجو، صفير قطار منهك يعلن انتهاء رحلة شاقة ومضنية...تمر من أمامي قطة بفروها البني اللامع تحمل بين فكيها صغيرها باحثة له عن مكان آمن.
الشارع الطويل الممتد لا ينتهي وهذه الأصوات المتداخلة تنسج أنغاما يعجز عن وضع نوتاتها أمهر العازفين. كنا نسير معا جنبا إلى جنب، لكن روح كل منا تخوض عباب يم بعيد عن الآخر. يمتطي كل منا صهوة جواد محمحم فُكَّ لجامه وأُطلِق له العنان فانطلق يعدو لا تكاد حوافر تلامس الأرض، كلما بلله العرق ازدادت سرعته حتى كاد يحلق في الفضاء، يجوب فيافي موحلة ويجوس خلال آفاق بلا حدود، يطأ أرضا ملغومة حينا وقفرا حينا لا شجر ولا ماء، وحدها الرياح تتناوح فيها يعلو فحيحها وينخفض، يتسربل بين الفجاج والشعاب المقفرة المميتة.

رأسي يغلي كالمرجل وألف ألف ذكرى تنتصب مكشرة عن أنيابها متوثبة متنمرة تتلبس بي، تحاصرني تغرز أنيابها الحادة في كل مساماتي. تنتظر لحظة قدح الزناد لتنطلق الشرارة الأولى وتليها زخات الرصاص التي لا تُبقي ولا تذر، فتخترق الجسد والروح وترُج الفؤاد رجا عنيفا فيتهاوى الجسد ويتفصّد اللحم ويتفتت ويسيل الدم ثخنا حارا وسرعان ما يتيبس فيسد المنافذ وتكون النهاية.
هذا الصباح غادرت السجن بعد سبعة أشهر من العذاب والحرمان، ومن الرقاد على البلاط الإسمنتي النديّ البارد، ومن التبول والتبرز في زاوية والنوم في الزاوية المقابلة. سبعة أشهر تهاوت من عمر أعجف.
أمام باب السجن وجدتها بانتظاري، وحدها كانت تقف بقامتها المديدة. كنت أظن أن الذين كانوا معي يوما في الشارع سينتظرونني وسيحتفلون بخروجي. لكنها كانت وحيدة تحمل في وجهها ضحكة كل الغائبين. ووحدها كانت بحجم الفرح الذي غمرني مثلما غمرني عطرها الذي أنساني زنوخة الزنزانة ورائحتها العطنة المقززة. مدت يدها مصافحة. حين تلامست يديْنا أحسست أن الحياة قد دبت في أوصالي مرة أخرى. شعرت أن روحا تخترق روحي فتنصهران معا. لم تقل لي أكثر من "حمدا لله على سلامتك". لم أجبها. بقيت صامتا أتملى تقاسم وجهها التي لم تتغير منذ عرفتها، فعجبت كيف يمضي بي نحو النهايات حاثا الخطى مخلفا تجاعيد وأخاديد وغضونا، بينما يقف بها الزمن عن السير في عمر الإيناع والرواء.
أقلتنا سيارة تاكسي إلى المقهى. جلسنا متقابلين على كرسيين هرمين متسخي الحواف تتوسطنا طاولة بلاستيكية اكتوت حافاتها بأعقاب السجائر. لبى النادل طلبنا بشيء من الامتعاض لم يخْفِه. اخترقت الصمت الذي خيّم بيننا وسألتها:
- أكُتب عليّ أن أكون الوحيد الذي يحمل وزر الآخرين؟ أكُتِب عليّ أن أساق إلى تلك المهاوي السحيقة وأُلقى من علٍ حتى يُدق عنقي دون أن يكترث بي الآخرون؟ أكُتب على فؤاد والدتي أن يرتج كلما حامت سيارة البوليس حول بيتنا تسأل عني؟ أما يحق لتلك الوالدة أن تزغرد يوم نجاحي وتمشي متشامخة فاردة طولها شاقة القرية جيئة وذهابا في خيلاء لأن ابنها نجح؟
كانت تصغي إليّ شاردة، لعلها كانت تجمع شتات تلك الصور وتركبها لتحصل في النهاية على لوحة قاتمة تدمي القلب. كانت يدها اليمنى تروح وتغدو حاملة الكأس بين الطاولة وفمها، وباليسرى كانت تمسك سيجارة بين سبابتها وإبهامها تتلذذ بنكهتها وتغزل من دوائر الدخان حبالا شعرت أنها تلتف حول رقبتي وتكاد تخنقني كلما حاولت التخلص منها ازدادت التفافا مثل الأصفاد التي قيدوني بها يوم أُلقي عليّ القبض أثناء تلك المظاهرة المنددة ببؤس شعب أضنته الحياة وأدمت أقدامه نتوءات الطرق الترابية وحجارتها وكشط جلده الارتطام بالجدران الكالحة.
زجوا بي يومها في مكتب المحقق الذي سألني:
- ما اسمك وماذا تشتغل؟
أجبته وأنا أقف أمامه مقيد اليدين وراء ظهري ومحدقا في الركن الأيمن من المكتب:
- أحمد الهادي. وأنا طالب، لا أشتغل. مازلت طالبا.
ضحك بشراهة. كنا وحيديْن في مكتب فسيح. كان طليقا وكنت مقيدا، كان حرا وكنت مكبلا، كان فاردا جناحيه وكنت منتوف الريش. كنا مختلفين في كل شيء. كان متدثرا برداء السلطة والقانون والعدالة، وكنت - في نظره- مارقا آبقا.
- طالب...طلبة آخر زمان. يعطوكم زوز فرنك وباكو دخان ويعبو أمخاخكم بالترهات ويدزوكم في الشارع باش تقودو المظاهرات. تو هذا حد نيتك أنكم تتقلبو النظام وتشدوا الحكم؟
لم أجبه. أضاف:
- واحد موسخ كيفك إنت آش ينجم يكون؟ وزير؟ كاتب دولة؟ مدير إدارة مركزية؟ مله ماركة.
وبعد أن سجل كل أجوبتي، أمرني بالتوقيع في الأسفل دون أن يمكِّنني من الاطلاع على ما كتب. ثم بصوت حاد نهرني:
- اخرج.
سرت متعثرا في خوفي وارتباكي وتقززي من رائحة الكحول المنبعثة من فمه الأدرد. ثم نادى بأعلى صوته:
- يا الغول.
فدخل رجل بطول صومعة، عريض كجسر. وأضاف المحقق:
- هزوه افرحوا بيه. لا يحب يقرا ولا يحب يعترف.
بيديه الغليظتين سحبني الغول من ياقة قميصي فتسربلت. نزلنا عدة درجات حتى وجدت نفسي في قاعة فسيحة تشبه القبو. التفت نحوي وحدجني بنظرة خاطفة وصاح:
- تحب تولي قائد. تو نوريك كيفاش تولي قائد يا ابن الكلب.
وبقبضة يده التي بحجم الدنيا هوى على معدتي فأحسست ارتجاجا عنيفا. ثم بعصاه الغليظة هوى على رأسي فغامت الدنيا أمامي وتهاويت ولم أفق إلا بعد يومين على صوت الغول يدندن لحنا شرقيا.
تكلّمتْ جليستي أخيرا:
- تضحيات لا بد منها.
- أمَنذورٌ أنا للتضحيات؟
- من يركب البحر لا يخشى من الغرق.
- لكن تيارات هذا البحر عنيفة وأمواجه متلاطمة، ومركبي قُدَّ من ألواح هشة. وهذا البحّار الذي أمامك لا يتقن السباحة في الأعماق.
- أقَرَّرتَ الانسحاب؟
- لا طاقة لي بتحمل وقع تلك العصِيِّ الغليظة تحطم أضلعي. ولا طاقة لي بتحمل تلك الإبر الحادة تخترق مسامات جلدي. سئمت رطوبة الزنازين وظلمة الأقبية وجلسات الاستنطاق. صار ضوء المصابيح الحاد المسلط على عيني يعشي بصري ويؤلمني. لم تعد لي قدرة على تحمل ثورات الغول وأعوانه. سئمت من كل ذلك وأكثر. دعيني لأحزاني. سأكابد لرتق ما انخرم من روحي علّ جراحها المتقيحة تندمل وتشفى.
- تبدلت كثيرا. لماذا قررنات أن تجهض أفراحك قبل اكتمال دورة نموها. ما الذي حصل لك حتى تبلغ حدودا قصوى صار التباعد فيها أمرا حتميا؟ لماذا يولد فرحك خديجا لا هو صبر في ظلمات المشيمة والرحم، ولا هو كابد حتى يضمن لنفسه الحياة رغم عدم اكتمال تكوره؟

- السجن بدلني.
لم تضف كلمة. أشارت إلى النادل. سحبت من حقيبتها ورقة نقدية وأعطتها له، ثم نهضتْ فنهضتُ إثرها. ثم سارت فسرت خلفها. حاذيتها بعد أن عبرنا باب المقهى ومشينا صامتيْن في هذا الشارع الطويل الممتد بلا نهاية.
هناك حذو تمثال ابن خلدون في قلب العاصمة وقفنا يواجه أحدنا الآخر. تأملتها بوضوح، ازداد وجهها توردا فترة قبوعي في السجن، وازدادت شفتاها امتلاء واكتنز جسمها أكثر. قالت وهي تحدق في الأفق البعيد:
- شوف طريقك وخلي الخدمة هذي لغيرك.
- اتفقنا.
قلت وصمتُّ. سرنا في اتجاهين متعاكسين. قررت ألا ألتفت إلى الوراء أبدا. وظللت أبتعد عنها والطريق الطويل الممتد لا ينتهي وألف ألف فكرة يطحن بعضها بعضا في رأسي.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟