يعتبر الإنسان أسمى الكائنات، كونه يتسم بملكة العقل والتفكير وهو الوحيد الذي يجسد تفكيره في ممارساته اليومية بطريقة واعية ومنظمة ، غير أن تطور التفكير البشري مر بعدة مراحل حيث إن كل مرحلة تحمل في أحشائها بذور فنائها الشيء الذي جعل الفكر البشري دائم التقدم والارتقاء باعتباره قائما على مبدأ هدم القديم وبناء الجديد، من هنا يمكن أن نطرح الإشكال التالي ما الذي يعني لنا أن نفكر بأنفسنا ؟هذا الإشكال تتفرع عنه جملة من الأسئلة من قبل ما هو التفكير ؟ ما هي أنواعه ؟ وما هي أساليبه؟ ماهي موضوعات التفكير ؟ هل يمكن الحديث عن عوائق التفكير في الذات ؟ كيف تمكن الفلاسفة من الانتصار للتفكير العقلاني ؟ .
إن التفكير في أعم تعريفه يعني جملة من العمليات العقلية التي يقوم بها الكائن البشري لحل المعيقات و المشاكل التي تعترض سبيله .يذهب لالاند في موسوعته الى تعريف التفكير " بنحو عادي أكثر يقال على كل الظواهر المعرفية (في مقابل المشاعر و المشيئات ) عندئذ يكون الفكر مرادفا للعقل وللعاقلة .[1]" كما يذهب جميل صليبا "أفكر في الأمر تفكيرا أي أعمل العقل فيه ، أو رتب بعض ما يعلم ليصل إلى المجهول . وفكر في المشكلة أعمل الراوية فيها ليصل إلى حلها . والتفكير عند معظم الفلاسفة عمل عقلي عام ، يشمل التصور ، والتذكر ،والتخيل والحكم والتأمل ، ويطلق على كل نشاط عقلي" .[2]
بناء عليه فإن التفكير هو ذلك النمط الذي يستم به الكائن البشري عن باقي الكائنات الأخرى ، أما فلسفيا فأن نفكر فهذا يعني أن نتفلسف، وقد اقترن التفكير عند اليونان بالدهشة لذلك تسببت في قلق الفلاسفة واندهاشهم ليتساءلوا عن أصل الوجود وماهيتة
وتتنوع أنماط التفكير إذ نجد هناك التفكير الخرافي؛ ويعتبر نمطا بدائيا وساذجا نظرا لقصور عقلية الإنسان البدائي عن إدراك الأسباب الحقيقية للظواهر ويرجع الفرد تفسير الظواهر الطارئة إلى علل غيبية تتمثل في تعدد الآلهة، ولحل المشاكل التي تعترضه عليه أن يقدم قرابين الإرضاء الآلهة؛ مثلا كان يتم تفسير البركان كظاهرة طبيعية بغضب الآلهة . وبالإضافة إلى هذا النمط نجد نمطا أخر وهو النمط الديني؛ وهو الذي يفسر الظواهر بإرجاعها إلى قدرة الله؛ فمثلا سقوط المطر يكون من عند الله ـ تفكير إيماني ـ . لكن الفكر البشري حقق قفزة نوعية عندما اكتشف نمط التفكير الفلسفي؛ الذي يتميز عن غيره بالتأمل العقلي والتفكير الشمولي للظواهر،فهو يفسر الظواهر بارتباطها بالظواهر الأخرى في الوجود كله، حيث يرجعها إلى عللها البعيدة، وأسبابها غير المباشرة، ولكل فيلسوف نسق عقلي خاص به يستخدمه في تفسير الوجود كله يسمى "المذهب الفلسفي "، الذي يختلف من فيلسوف لأخر وبالتالي فإن هذا الأسلوب تأملي، عقلي، ويتميز بالشمولية والتفسير الكلي . وفي الأخير نجد نمط التفكير العلمي؛ أو الوضعي (كما يسميه أوغست كونط ) وهذا الأسلوب يفسر الظواهر بإرجاعها إلى أسبابها المباشرة، أوعللها القريبة التي يتوصل إليها عن طريق الحواس؛ من خلال الملاحظة والتجريب بغية الوصول إلى القوانين التي تفسر الظواهر للاستفادة منها في حياتنا العملية ،بمعنى تفسيرها تفسيرا علميا بالكشف عن الاسباب والقوانين التي ادت الى بزوغ الظاهرة .
بناء عليه يمكن القول إن أنماط التفكير تختلف من مرحلة لأخرى، ومن فئة إلى أخرى، وفي بعض الأحيان من فرد إلى فرد أخر داخل نفس المجتمع، فكلما كانت سيادة نمط تفكير معين في مجتمع الا و هيمن هذا الأسلوب على نمط تفكير أفراده ، فمثلا في مجتمع ساد فيه التفكير الخرافي سيؤثر ذلك على طبيعة نمط تفكير أفراده، وإذا كان المجتمع دينيا سيسود بالضرورة نمط التفكير الديني، و إذا عاش الفرد في مجتمع ساد فيه نمط التفكير العلمي فبالضرورة سيؤثر ذلك على أفراد المجتمع. وفي مجتمعاتنا العربية نجد مشكلة كبيرة ؛وهي أن هناك من المثقفين من يطلع على آخر ما أنتجه الفكر البشري في مجال العلوم، لكن يعيش في مجتمع ديني فيصبح المثقف في تناقض،أي بين مطرقة الدين وسنداد العلم .
لقد خاض التفكير الفلسفي صراعات شديدة خلال تاريخه المجيد، ففي بلاد اليونان خاض صراعا ضاريا ضد الأسطورة، وفي العصور الوسطى خاضه ضد الوصايا المفروضة عليه من طرف السلطة الدينية، إذ شكل عصر الأنوار عصر التمرد، وإعادة الاعتبار للفكر البشري كفكر مستقل عبر رفض كل سلطة مفروضة على العقل، وكذا هدم القديم بهدف تأسيس لبديل جديد فأصبح الإنسان يفعل وفق ما تمليه عليه بصيرته، و وفق منطقه الخاص هذا ما يوضحه جون جاك روسو من خلال قوله :" إن المواطن الصالح هو الذي يعرف كيف يتصرف وفق حكمه الشخصي " بمعني أنه يجب أن يبني معياره الخاص به، الذي من خلاله يرفض ما يملى عليه من طرف أشخاص آخرين " أباء الكنيسة" ، و أن يعمل بحيث إنه كائن عاقل له القدرة على التفكير الذي يؤطر به جميع ممارساته هذا ما يوضحه روسو حينما يقول :" إن الإنسان أشرف من أن يفرض عليه أن يكون مجرد وسيلة في خدمة غيره من الكائنات "[3] إذن فممارسة التفكير الحر المبني على قواعد، وقوانين عقلية يعيد الاعتبار للذات الإنسانية باعتبارها ذات حرة ولها كرامة و مسؤولة عن ذاتها لكن كيف لها أن تحصل ذلك ؟
يجيبنا ديدرو بأن الفلاسفة إذا أرادوا أن يحصلوا على الكرامة، وأن يكونوا أحرارا ، يجب عليهم أن يرتقوا من مستوى العامة إلى مستوى الفلسفة التي تنبذ الأفكار الجاهزة، والمسبقة والعامية، وأن يمتلكوا سلاح النقد باعتباره السلاح الأمضى لرفض كل الأفكار البالية فيقول ديدرو: " وهو الفيلسوف الذي يزيل من أمامه كل فكرة مسبقة مثلما يزيل الأعراف، والمتفق عليه علما وسلطة، وفي عبارة واحدة كل ما يفتتن العقول، وبما هو كذلك فهو فيلسوف له الجرأة على الاعتماد على تفكيره الخاص ... إن كل الوقائع متساوية لكونها قابلة للنقد "[4] .إن النقد البناء ميزة اتسم بها عصر الأنوار، فهو كذلك رفض جل الأفكار التي تقف أمام التفكير، وتجعله يعيش الوهم ويعتقد أنه حقيقة، فعصر الأنوار إذن عصر النقد بامتياز، هذا ما قاله كانط بكل صراحة ووضوح: " قرننا هو قرن النقد بآثم معنى الكلمة النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء " [5].
فقبل عصر الأنوار انتزع العقل الإنساني من قيمته، فلا يفكر إلا فيما تريده الكنيسة ، ولا يفعل الإنسان إلا ما يمليه عليه رجال الدين، ولا سلطة تعلو فوق سلطة الدين، فغابت الجرأة و، سلبت الحرية، كان الإنسان مكبلا بالقيود، يذكر كانط في مقاله الأنوار: "بالحق الحرية مسألة من بين كل ما يمكن أن يحمل هذا الاسم، أعني حرية أن يستعمل المرء عقله علانية في جميع المجالات. لكنني أسمع الآن الصراخ من جميع الجهات: ((لا تفكّر))! فالضابط يقول: لا تفكر بل نفَّذ! ورجل المال يقول: ((لا تفكر بل ادفع!)) والكاهن يقول: ((لا تفكر بل آمِن!)) ولا يوجد في العالم سوى سيد واحد يقول: ((فكر قدر ما تشاء وحول كل ما تشاء، إنما أطع!)) ) في كل مكان حد للحرية"[6] يمكن القول بأن هناك "مؤامرة" ضد العقل والعقلانية. لكن مع مجيء الأنوار أصبحت للإنسان الجرأة على إعمال عقله ، فكما قال كندرسيه: " ينبغي أن تكون لنا الجرأة على إعمال النظر في كل شيء وعلى نقد كل شيء وحتى على تدريس كل شيء " وهذا ما يدعمه قول كانط في مقاله المشهور ما الأنوار حينما قال " فلتكن لك الجرأة على استخدام عقلك أنت "[7] .
بناء على سلف ما نستنتج أن التفكير بالنفس يعارض التفكير من خلال الآخرين ، ويرفض االدوغمائية ، كما يرفض السلطة المفروضة على العقل، ويتجاوز القصور الذاتي الناتج عن الكسل والجبن، كما يعتمد في أساسه على الجرأة المبنية على تحصين الحرية واختراق المألوف .
لكن مهما استطاع الفكر أن يتحرر فلا يمكن أن يحقق هدفه وغايته إلا إذا نهج منهجا خاصا به، لذلك ذهب مجموعة من الفلاسفة لبناء منهج أنسب للتفكير بهدف الوصول إلى الحقائق اليقينية، التي لا يمكن الشك فيها، وأبرز هؤلاء الفلاسفة الذين أبدعوا هذا المنهج نجد روني ديكارت من خلال كتابه "قواعد المنهج" فما هي القواعد التي يرشدنا اليها روني ديكارت ؟
ينطلق ديكارت في كتابه هذا من القاعدة الأولى التي يسميها بقاعدة البداهة:" ألا أقبل شيئا على أنه حق، ما لم أعرف بوضوح أنه كذلك ، أي يجب أن أتجنب التسرع وألا أتشبث بالأحكام السابقة، ولا أدخل في أحكام إلاّ ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز يزول معهما كل شك" . إن هذه القاعدة نجد لها امتداد في الفلسفة اليونانية خصوصا عند الفيلسوف سقراط الذي يرشدنا إلى التخلي عن الأحكام العامية والمسبقة والجاهزة أما أفلاطون فيرى بأن العائق الذي يقف أمام عملية الفكر فهو الأفكار الحسية التي تبعدنا على طريقة التفكير السليمة والسديدة . ويذهب ديكارت في القاعدة الثانية التي يسميها بقاعدة التقسيم :" أن أقسم كل واحدة من المشكلات التي أبحثها إلى أجزاء كثيرة بقدر المستطاع، وبقدر ما يبدو ضروريا لحلها على أحسن الوجوه " تم تليها قاعدة التركيب :"أن أرتب أفكاري ، فأبدأ بالأمور الأكثر بساطة وأيسرها معرفة ،حتى أصل شيئا فشيئا ، أو بتدرج إلى معرفة أكثرها تعقيدا، مفترضا ترتيبا، حتى لو كان خياليا، بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضا " وأخيرا قاعدة المراجعة : " أن أعمل في جميع الأحوال من إحصاءات ومراجعات شاملة ما يجعلني على ثقة أنني لم أغفل شيئا " .[8]
إن قواعد المنهج نجد لها تجسيدا في كتاب "تأملات ميتافيزيقية" إذ نجد ديكارت قد شك في كل شيء إلا في كونه يشك في نفسه ، فالشك عند ديكارت يعني التفكير، والتفكر يعني بالنسبة إليه إثبات الوجود هذا ما يقصده من خلال عبارة الكوجيطو " أنا أفكر إذن أنا موجود " يوضح الكوجيطو أن مشروعية الشك ليست في نهاية الكلام سوى تبرير لطريق المنهج، وقد وضع ديكارت المنهج في خدمة المنطق والعقل والوضوح، فهذا الأخير الذي يعتبر "أعدل قسمة بين البشر" عليه أن يفكر في جميع المشاكل والأمور بشكل منظم ومنهجي حتى تصبح معقولية .
بناء عليه فإن التفكير بأنفسنا معناه رفض كل الأوامر المفروضة على عقولنا، وكنس كل الأفكار الجاهزة و المسبقة البالية التي تشوش على عقلنا ، ولا يمكن أن يتحقق التفكير الذاتي إلا إذا توفرت شروطه، ومن بين هذه الشروط نجد الاستقلالية حيث إن الفكر الفلسفي لا يمكن أن يعبر عن ذاته إذ لم استقل بنفسه، بالإضافة إلى مبدأ النقد؛ فالفكر إذ لم يكن ناقدا فبالضرورة سيصبح تبعيا، وبالتالي يسلب من حريته ، ومهما كان الفكر حرا لا يمكن أن يحقق أهدافه إلا إذا امتلك منهجه الخاص الذي يتسم بالمعقولية والمنطق والوضوح ، لذلك استطاع ديكارت أن يصل إلى الكوجيطو المشهور: "أنا أفكر أنا موجود " لكن سنكون أكثر واقعية إذا ما استحضرنا المنهج الفينومينولوجي الذي يرد من خلاله هوسرل على ديكارت بإعترافه أننا نفكر وهي مسألة يتفق فيها الإثنين غير أن هوسرل يرى بأن التفكير يعني دائما التفكير في شيء، ومن هنا يمكن أن أطرح إشكال ما فما موضوع تفكيرنا إذن ؟
[1]ـ لالاند الموسوعة الفلسفية منشورات عويدات بيروت باريس تعريب خليل أحمد خلبل (ط) الثانية 2001المجلد الأول ص 955
[2] ـ جميل صليبا ، المعجم الفلسفي ، الجزء الأول ،دار الكتاب اللبناني1982 ص 317
[3]ـ تزفيتان تودوروف ، روح الأنوار ، تعريب حافظ فوعة ص 45
[5]ـ إيمنويل كانط ؛ كتاب نقد العقل الحالص الطبعة الأولى 1781