قبل الدخول في صميم الموضوع المختصر في العنوان أعلاه، يجدر بي أولا التعريف ببرتراند راسل.
هو فيلسوف وعالم منطق وشخصية عامة بريطانية، ولد عام 1872 ومات سنة 1970. درس الرياضيات والفلسفة في جامعة كيمبريدج وتخرج فيها العام 1894، ودرس فيها كما حاضر في عدد من الجامعات. عرف عنه إسهامه الكبير في تطوير المنطق الرياضي الحديث، وحاول مع الفيلسوف وايتهد أن يستكملا الأساس المنطقي للرياضات من خلال كتابهما المشترك “أسس الرياضيات” (Principia Mathematica).
فضلا عن ذلك، ألف راسل عددا كبيرا من الأعمال الفلسفية عن مشكلات العلم الطبيعي، وكان غزير الإنتاج فكتب في الأخلاق والسياسة والتربية وغيرها. وقد ترجم بعض من كتبه إلى لغة الضاد، منها “تاريخ الفلسفة الغربية” و”حكمة الغرب” الذي أعتمد عليه بالأساس في كتابة هذا المقال، بالإضافة إلى سيرته الذاتية و”مبادئ الرياضيات” وغيرها. نال جائزة نوبل للآداب في العام 1950. هذا، وقد اشتهر بمواقفه الداعية إلى السلام ونزع السلاح وتدمير الأسلحة النووية، لأجل ذلك سجن مرتين.
انسجاما مع الخلفية المنهجية لهذه المحاولة، سوف أعالج الموضوع المقترب وفق الترتيب الذي تبناه سرد راسل لأهم المراحل التي مر منها أرسطو مع تخصيص فقرتين ختاميتين لعرض التقييم الذي كونه راسل عن أرسطو .في الفقرة الأولى، سوف أعرض للنقط المضيئة في الصورة التي رسمها راسل عن المعلم الأول، وفي الثانية سأتطرق لما يقابل تلك النقط من أخطاء والتباسات.
يمتد الحيز المخصص لأرسطو ضمن كتاب راسل “حكمة الغرب” المترجم في جزأين الى العربية من طرف فؤاد زكريا والصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت ضمن سلسلة عالم المعرفة، (يمتد) على ما يقارب 33 صفحة من الجزء الأول، الفصل الثاني المعنون ب “أثينا”، أي من الصفحة 140 إلى الصفحة 173.
يتميز أرسطو عن كل من سقراط وأفلاطون بكونه غريبا عن أثينا، حيث ولد عام 384 ق.م. في أسطاغيرا من أعمال تراقيا. وكان أبوه طبيب البلاط لملوك مقدونية، ولما بلغ أرسطو الثامنة عشر من عمره أوفد لأثينا ليتلقى العلم على يد أفلاطون في الأكاديمية. ظل أرسطو ملازما لأستاذه أفلاطون إلى أن وافت المنية الأخير سنة 348/7 ق.م.، وتلك مرحلة استغرقت ما يناهز عشرين سنة.
لسبب سوف آتي على ذكره لاحقا، غادر أرسطو الأكاديمية متوجها إلى مدينة ميسيا الواقعة على ساحل آسيا الصغرى، مستجيبا للدعوة التي وجهها إليه حاكمها هرمياس الذي كان زميلا لضيفه في الدراسة، وهنا سوف ينضم إلى مجموعة من الدارسين ويتزوج من ابنة أخي مضيفه، وبعد ثلاث سنوات سافر إلى مدينة ميتليني الواقعة في جزيرة لسبوس.
من الصدف العجيبة أن يتم، سنة343 ق.م.، استدعاء أرسطو إلى بلاط فيليب الثاني في مقدونيا ليكون معلما لابنه المدلل الأمير الاسكندر تماما كما تم في السابق استدعاء شيخه أفلاطون للقيام بنفس الشيء لفائدة أمير سراقوزة المدلل هو الآخر.
في عام 340 ق.م.، عاد أرسطو إلى موطنه الأصلي ولبث فيه إلى أن مات الملك فيليب سنة 335 ق.م.، ثم عمل في أثينا منذ ذلك التاريخ حتى وفاة الإسكندر في العام 323 ق.م. مباشرة بعد هذا الحدث، قرر أرسطو الرحيل عن أثينا خوفا من أن ينتقم منه الأثينيون بسبب موالاته للمقدونيين واتهامه بالمروق عن العقيدة وتفاديا للمصير الذي لاقاه من قبل سقراط، لذا توجه رأسا إلى مدينة خالكيس التي استقر بها إلى أن توفي عام 322 ق.م؟
إن أول اعتراف من راسل بعظمة أرسطو يتمثل في كون المعلم الأول قدم إسهاما شهيرا إلى الفكر المنهجي من خلال مؤلفاته في المنطق. وحتى وإن كانت أغلب مضامين هذه الكتب مستمدة من أفلاطون، فقد كانت عنده النظريات المنطقية مبعثرة ومتناثرة بين مواد أخرى، لكنها مع أرسطو غدت مركزة ومعروضة بصورة ظلت تعلم بها من دون تغيير تقريبا حتى يوم الناس هذا.
في إطار الحديث عن إسهام أرسطو في مجال المنطق، يذكرنا راسل بفكرة عبر عنها في موضع سابق من كتابه وهي أن السمة العامة التي يمتاز بها العلم والفلسفة اليونانيان هي وجود فكرة البرهان فيهما. وبعد إجراء مقارنة سريعة بين فلكيي الشرق الذين كانوا يكتفون بتسجيل أرصادهم وبين مفكري اليونان الحريصين على تعليلها، يشير راسل إلى أن إقامة البراهين كان شيئا معمولا به قبل أرسطو، لكن لاأحد حاول تدوين الأشكال التي تتخذها البراهين وهو ما قام به أرسطو بنجاح.
في فقرة لاحقة، يخبرنا صديق وايتهيد بأن المنطق الأرسطي يرتكز على عدد من المسلمات المرتبطة بمذهبه الميتافيزيقي، أولاها أنه يسلم بلا مناقشة بأن جميع القضايا تتخذ شكل الموضوع والمحمول، وهو الشكل الذي استمده من محاورة “تيتاتوس” لأفلاطون. وبعد الوقوف عند القياس باعتباره النموذج الأساسي لكل برهان، ينتقل راسل إلى الحديث عن تصنيف العلوم عند صاحب “الأورغانون” لتبيان مكانة علم المنطق ضمن هذا التصنيف.
هكذا ميز أٍرسطو بين ثلاثة أنواع من العلوم تبعا للهدف الرئيسي الذي يحققه كل نوع منها. النوع الأول خاص بالعلوم النظرية التي تمدنا بالمعرفة المضادة للظن، وتعتبر الرياضيات أسطع مثال بهذا الشأن، وإن كان أرسطو يدرج ضمنها الفيزياء والميتافيزيقا، على أن فهمه للفيزياء لا يعدو اعتبارها دراسة عامة للمكان والزمان والسببية، وهي دراسة يندرج جزء منها تحت باب الميتافيزيقا، أوحتى المنطق ذاته مفهوما بمعنى أوسع. أما النوع الثاني من العلوم حسب التصنيف الأرسطي فيتضمن العلوم العملية مثل الأخلاق التي تستهدف تنظيم سلوك الإنسان، فيما النوع الثالث خاص بالعلوم الإنتاجية التي تهدف إلى توجيهنا نحو إنتاج موضوعات مفيدة أو ممارسة الفنون.
ظاهر للعيان أن المنطق لا يدخل ضمن إطار أي من هذه العلوم. فهو لم يكن علما بالمعنى المعتاد، إنما كان آلة تعصم الذهن من الخطإ، وطريقة للتعامل مع الأشياء، وأداة يستعان بها في البحث العلمي. وهذا هو معنى الكلمة اليونانية “أورجانون” التي استخدمها أرسطو حين كان يتحدث عن المنطق.
وبما أن دراسة بناء اللغة تعتبر لدى أرسطو مقدمة أساسية ومدخلا ضروريا لأي بحث في المنطق، تم القيام بهذه الدراسة ضمن مؤلفاته المنطقية في كتاب بعنوان ا”لمقولات” المحددة في عشر، وقد شخصت قديما في بيت تعليمي عربي مضمونه أن زيدا الطويل كان بالأمس متكئا ببيته، بيده قضيب لواه فالتوى، وتكون المقولات بالتالي هي: الجوهر- الكيف- الكم- الإضافة (العلاقة)- المكان- الزمان- الوضع- الملك- الفعل والانفعال.
ثم هناك مجال آخر نال ما يكفي من التقدير والاحترام من لدن راسل في حق أرسطو؛ ألا وهو مجال الفلسفة الطبيعية المختلف عن مجال فلسفة الطبيعة عند المثاليين الألمان الذين جاءت على أيديهم في صورة انحراف ميتافيزيقي عن الفيزياء. أما لدى أرسطو، فقد اكتست الفلسفة الطبيعة طابعا علميا تشهد عليه النظرية الأرسطية في السببية المرتبطة بنظريته في المادة والصورة. ومن المعلوم أن السببية ذات جانبين: مادي وصوري. وينقسم الجانب الثاني إلى ثلاثة أقسام وهي العلة الصورية والعلة الفاعلة والعلة الغائية. لأجل توضيح المعنى المقصود من هذا التصنيف الثلاثي، يضرب راسل مثالا حيث يقول في الصفحة 155: “لنتصور حجرا معلقا على حافة درجة من درجات سلم يدفع به فوق الحافة ويوشك على السقوط، في هذه الحالة يكون السبب المادي هو مادة الحجر ذاته، ويكون السبب الصوري هو الشكل العام للسلم وموقع الحجر فيه. وأخيرا فإن السبب الغائي هو رغبة الحجر في البحث عن أدنى مستوى ممكن، أي قوة الجاذبية.”
تلكم كانت نماذج من الإيجابيات التي اعترف بها راسل لصالح أرسطو، فما هي يا ترى بعض السلبيات التي سجلها عليه؟ للشروع في الإجابة عن هذا السؤال، لا مناص من العودة إلى ما تم تأجيله في السطور الأولى من حديث عن سبب مغادرة أرسطو للأكاديمية مباشرة بعد موت أفلاطون. السبب في ذلك يعود إلى أن رئيس الأكاديمية الجديد سبيوسبيوس كان متعاطفا بشدة مع الاتجاه الرياضي في الفلسفة الأفلاطونية، وهو الجانب الذي كان أرسطو أقل فهما له من جميع الجوانب الأخرى. وفي موضع آخر، يعترف راسل بأن أرسطو قد عرف الرياضيات السائدة في عصره، وهو أمر يبدو أن عضويته في الأكاديمية تؤكده، ولكن من المؤكد أيضا أنه لم يكن ميالا إلى الفلسفة الرياضية لأفلاطون.
وعلى ذكر هذا الأخير، فقد سجل راسل أنه لا يمكن وضع الثقة في أرسطو عندما يأخذ في سرد آراء شيخه، ويصبح غير موثوق به عندما ينتقل إلى تفسير معناها. وينطبق هذا الحكم نفسه على تعليقات أرسطو على الفلاسفة السابقين لسقراط، فحين يقدم سردا مباشرا لآرائهم، يستطاع الاعتماد على ما يكتب، أما التفسيرات فلا بد أن تؤخذ كلها بحذر.
في المجال السياسي، يعترف راسل بأن أرسطو لم يفهم مغزى التغيرات السياسية التي حدثت خلال حياته، والتي كان فيها العصر الكلاسي قد بلغ نهايته منذ أمد طويل. يعزى هذا القصور في الفهم إلى أن آراء أرسطو السياسية مبنية على دولة المدينة اليونانية التي كانت وشيكة الأفول، في حين أن الإمبراطوريات المركزية كتلك التي أنشاها الإسكندر الأكبر فكانت خليقة بأن تبدو له، كما تبدو لجميع اليونانيين بدعة دخيلة. فقد كان لدى اليونانيين في هذه المسألة، كما في غيرها من المسائل الثقافية، اعتزاز محموم بتفوقهم إلى درجة الاستعلاء، مع أن دولة المدينة كانت في طريقها إلى الزوال، والإمبراطورية الهلينستية في حالة صعود.
وفي نظرته إلى المواطنة، أخذ أرسطو بوجهة نظر ضيقة إلى حد ما، فهو يريد ان يقصر لقب المواطن على أولئك الذين لهم حق الاقتراع، ويكون لهم في الوقت ذاته دور مباشر وفعال في عملية حكم الدولة. يؤدي هذا إلى استعباد الجماهير الغفيرة من المزارعين والصناع، والحكم عليهم بأنهم لا يصلحون لممارسة المهام السياسية.
أما في مجال الميتافيزيقا، نجد راسل يقر بأنه ليس من السهل مناقشة أرسطو، وذلك لأسباب من بينها أن ميتافيزيقاه مبعثرة بين عدد كبير من مؤلفاته، ومن بينها كذلك أنه يفتقر إلى الالتزام الواضح القاطع.