الحياة هي صراع الجميع ضد الجميع هكذا استطاع ميلان كونديرا تلخيص ليس فقط حالة المعاش الراهن بل حالة المعاش الحديث بِرُمّتِهِ الذي تم تدشين وِلاَدَتَهُ فلسفياً على يد ديكارت ، فجراء تلك الأطروحات الفلسفية الديكارتية خرجنا كما يقول هيدجير من براديغم التوافق الذي كانت تتأطر الحياة بالعصور الوسيطة والقديمة داخل إطاره الى براديغم التسيد ، فآلية تآويل الانسان كذات المنجز الاهم للحداثة الغربية تم تسييره وفق خطة ديكارتية هدفها التسيد والسيطرة على الطبيعة وتحول العَالم بفضل ذلك إلى موضوع خارج عنا ومن ثمّ إلى صورة مُدرَكة .
وبعد ان تم تآويل الانسان كَذات وتحول العالَم الى صورة مُدرَكة تم تحقيق "السيرورة الاساسية للازمنة الحديثة وهي غزو العَالم من حيث هو صورة مُدرَكة "1.، وعبر استمرار تلك السيرورة من حلم التسيد والسيطرة نستطيع القول بأننا وصلنا مع براديغم التسيد والذي تم تدشينه منذ عدة قرون الى انتاج انسان جديد كُل الجِدَّة وهو إنسان نستطيع ان نسميه بإنسان الشُغل والمول ، فهو انسان تآكلت ذاته وماتت فاعليته مما حدا بالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الى إعلان موت الانسان .2
وإنسان الشُغل والمول قابع داخل أزمتين روحية ووجودية ثقيلة وتلك الازمة نتيجة أن "العالم في حالة لامعقولة وغير منطقية لا تدل على أن من يحيون فيه قد عرفوا الطريقة المثلى للعيش، وأحلام الحداثة تتحول مع الوقت إلى أوهام وسراب، وكأن قوة خارجية لها إرادة مطلقة في أن يظل الإنسان حائرًا تتسع أمامه حدود الجهل إلى ما لانهاية، كلما ظن أنه في طريقه إلى سيادة كونه"3 وازمة مادية طاحنة نتيجة لسيطرة "اللحظة الخريفية للرأسمالية الأُسية السرطانية الباحثة عن النمو الاقتصادي إلى ما لانهاية، دون أن تضع في اعتبارها أي معنى للنهاية تخيم على المشهد"4
تلك الازمة مضاعفة داخل أفقنا العربي لفشل ثورات الحلم العربي بتدشين زمن عربي جديد عبر الفشل في ترجمة شعار الحرية للجميع والعدالة للجميع والكرامة للجميع لواقع حي مُؤسس عليه ، وبعد خيبة الامل تلك القاسية أصبحنا نحيا داخل مجتمعات بلا أفق مستقبلي ناتج عن فعل الردة عبر طريقين
أ- طريق الردة بفعل الانخراط المتزايد بالتطبيع مع واقعة الحياة كما هي بعد الكَفِ عن أي مسعى جدي للاستشكال أو الاعتراض ناهيك عن أية مقاومة لتلك الواقعة الحياتية العفنة –وخصوصا بعد الانكسارات التي طالت الربيع العربي - نظرا لان الانخراط ليس انخراطا عاديا بل انخراطاً فَنَائياً - بالتعبير الصوفي- راضياً بدور المفعول به في معادلة الحياة بشكلها الراهن وشروطها القائمة حتى ولو ظن ذلك المنخرط انخراطاً فنائياً غير ذلك .
ب- طريق الردة بفعل الانخراط المتنامي لجماعات رديكالية – داعش مثالا- تنفي واقعة الحياة لا بل تُمّعنُ في محاولة قتلها في محاولةٍ للوصول الى واقعٍ تاريخي سابقِ علينا لا نستطيع تَمثُل معاشهِ كما كان ، فنحن بنظر هؤلاء داخل واقعة زمنية مُخًالِفة كل المُخاَلفة لحالة المثال التاريخي ولكن مشكل هؤلاء عدم الوعي باننا علينا ان نخترع واقعة جديدة نستطيع العيش بداخلها اذا كنا راغبين في نفي تلك الواقعة المنطوين داخلها ومن شروط الاختراع لتلك الواقعة الزمنية الجديدة هو عدم التحجر داخل اطار زمني ضيق بل ندخل في محاولة للاستفادة من كل الوقائع الزمنية السابقة علينا والحالية لاختراع واقعة تخصنا نحن ولا تخص زمن سابق علينا لا نستطيع اعادة تَمثُل مَعاشُه كما كان لان هذا وهم خطير نجد آثار ذلك الوهم بشعاً في ممارسات تلك التنظيمات .
نحن إذاً داخل واقعة حياتية تتضاعف بداخلها الازمات بلونيها الروحي والمادي وهذا يفرض علينا طرح تساؤل جاد هل ثمة ممكنات رصينة تطرح نفسها أمامنا ؟ وجوابنا بأنه نعم ثمة ممكنات رصينة تطرح نفسها أمامنا نستطيع ان نُموضَعها تحت إطار فعل الخروج الباحث عن ملجأ ، وهذه الممكنات الرصينة نستطيع ان نُعددُها في ثلاث أفعال رصينة
أ- فعل سلبي : وهو فعل الخروج عبر مُمكن الاعتزال عبر آلية الرهبنة وهي عبارة عن آلية لاعتزال تام لواقعة الحياة والدخول في علاقة انفعال مع المتعال، فهو مُمكن إذا يطمع في الخروج من اطار واقعة الحياة بموقفيها الفاعل (كأمر موجب ) والمفعول به (كأمر سلبي) في محاولة للهروب الباحث عن ملجأ وملاذٍ آمنٍ من ضغط وأزمة الواقع ، إشكالية هكذا ممكن في زمن كًزماننا انه مُمكن شبه مستحيل تحققيهُ الان كما كان معهود بتلك الالية ان تتحققَ بالعصور الوسيطة والقديمة فعصرنا الحديث وخصوصا ومنذ عقود في حالة تزايد آليات السيطرة والتحكم فنحن أصبحنا نحيا داخل واقعة حياتية يهيمن عليها ما يسميه هيدجير بعلم السبرنتيقا أي علم التحكم
ب- فعل صفري : وهو فعل الخروج عبر مُمكن الانتحار وهو مُمكن الانكفاءُ بالذاتِ على الذات كطريق سلامة يبتغى به خروجا من دوامة الصراع اليومي واللامتناهي والذي يخرج به من اطار المفعول به الى اطار الفاعل ولكنه الفاعل داخل نطاق ذاته ، وانا هنا لا أهتم بأي نقاش علموي عن ظاهرة الانتحار في محاولة إلصاقه كنتاج لمرض عقلي أو حالة جنون – كما ناقش إيميل دوركايم تلك الادعاءات بكتابه الهام الانتحار- أو نقاش ديني يقتل النقاش ولا يصل بنا الى محاولة فهم الظواهر وهو يضع الانتحار داخل دائرة المحرمات أو المتمردة على الاله ذاته وإن كنت استطيع أن أتفهم حالة التشدد الديني من أمر الانتحار فهو يريد ان يقول لنا بصورة أو بأخرى ان الاله خالق الانسان وهو المخلوق الارقى في سلم مخلوقات الاله وهو خليفته لا يحبذ أو لا يود أن يرى - مخلوقٌهُ الارقى- في حالة ضعف وانهزام أمام واقعة حياته ، ومُمكن الانتحار يتعلق به أمران ، الامر الاول : هو موقف المنتحر الشجاع والمبدد لكل ألوان الخوف التي قد تقف عقبة دون محاولة ارتكاب البعض لفعل الانتحار فالمنتحر بغض النظر عن أي موقف قيمي هو شجاع وخصوصا انه هو الشخص الذي اتخذ قرار بأن يتخلص من واقعة حياته بإرادته وانه شخص يقف على حافة حياته بشجاعة يحسد عليها ، الامر الثاني : أنه على الرغم من تلك الشجاعة في ارتكاب لفعل الانتحار الا أنه يَنُم وبشكل جدي وقوي عن انهزامية شديدة الوطأة امام واقعة الحياة التي يحياها والتي لولا شدة وطاتها واستحالتها على التبدل والتغير ما اتخذ هكذا قرار .
السؤال الذي يفرض نفسه هنا لماذا لا ننتحر بكثافة امام واقع كهذا ؟ وفي الاتجاه المضاد لماذا نفزع عن كل وقوع لحادثة انتحار؟ بخصوص لماذا لا ننتحر بكثافة نظرا لان الامر نابع من الخوف ، الخوف من مجهول الوجود الاخر والخوف من واقعة الانتحار ذاتها والوقوف على حافة الحياة واستقبال حياة جديدة، والسبب الثاني نابع من الكبرياء لانه ببساطة رغم رصانة فعل الانتحار في واقع كهذا الذي نحيا فيه هو يجرح كبريائنا ويكشف عن مدى هشاشتنا وضعفنا وذلك جٌرح كبير نتفادى بقدر الامكان وقوعه ، اما بخصوص لماذا الفزع عند وقوع حادثة انتحار ؟ الامر لا اعتقد ان مرده امر ديني كما هو الظاهر بقدر ما هو ان حدث الانتحار ذاته يجبرنا على التوقف وأخذ مسافة عن الواقعة الحياتية المنّخَرط داخلها انخِراطاً فَنَائياً للتفكير وذلك أمر جد مرير على المنخرِط ولا يطيقه ويحاول بشتى الطرق التخلص من هذا الالم الوجودي الذي ينتابه لبرهة قصيرة، فالمنتحر ينيط اللثام عن مدى هشاشتنا وضعفنا داخل واقعة الحياة وأننا كأفراد ومجتمعات عاجزين عن اتخاذ أي فعل داخل - ومن - واقعة الحياة .
ج- فعل إيجابي : وهو فعل الخروج عبر مُمكن المقاومة لواقعة الحياة التي نحيا داخلها ، وأعتقد أن الممكن الفلسفي الصوفي يوفر لنا طريقاً جيداً لفعل المقاومة فنحن نسعى من خلال ذلك المُمكنُ لحالة تأسيس نظري تتًظهرُ فيه واقعة الحياة داخل وعينا بشكلٍ أفضل وأكثر عمقأ لنتأهل لتعامُلٍ أفضل مع واقعة الحياة الراهنة والتنظير للمامول للخروج من الواقعة الحياتية الراهنة هذا في الشق الفلسفي ، ونسعى أيضا الى تاسيسٍ ذاتي وفق إطار قيمي يُضاد الاطار القيمي الصراعي والتي تتأطر وفقهُ واقعتنا الحالية الراهنة هذا في الشق الصوفي ، وامر المقاومة وفق التأسيسان النظري(الفلسفي) الذاتي(الصوفي) لا تنتهي حدودهما على الفرد بل هما سبيلان لتاهيل الفرد للاشتباك بصورة أفضل مع واقعه وتواصله مع الناس لا من منطق استعلاء بل من منطق أن يَفهم وأن يُفّهم تمهيدا لاحداث تغييرات جذرية فهو اذا مُمكن ليس باعتزالي كحال الرهبنة بل هو فعل انخراطي ولكن ليس انخراط بالتسليم لحالة الراهن بل في محاولة تغيير شروط حالة الراهن .
كما أنه ثمة ميزة تجعل الاولوية لذلك الممكن الفلسفي الصوفي لانه وببساطة يقفان في مقابلة الموقف العلموي الفقهي القائمان دائما على تطوير آليات وتقنيات للسيطرة والتحكم فكما يقول هيدجير اننا نحيا في زمن احتل فيه علم السبرنتيقا-علم التحكم- مكان الفلسفة ، فالممكن الفلسفي يسعى لانتاج "الانسان المتركز"5 وعن طريقها نكتسب " هذه الجوهرة النادرة في رؤية الاشياء بمنظار مختلف،والحديث بلغة مغايرة،وتقدير الامور بمكيال آخر ... والحرية والرشد العقلي بالتفكير الذاتي وعدم الانصياع إلى سلطة التمثلات والاوهام أو لحن اللسان وزخرف الاقوال .... ولا نكتفي بالمظاهر البارزة والمخادع البرانية ولكن نلج في عمق الظواهر ونرى العلاقات والرهانات" 6 ، والممكن الصوفي لانه يقدم الاطار الخلقي ومحاولة تَملُك موقف وجودي وانتاج للمعنى على عملية الضبط القانوني والتشريعي للحالة الفقهية وهذا ما نحن بأشد الاحتياج إليه في راهننا المأزوم .
وأخيرا ثمة شيئان يقفان عائقا أمام هذا الممكن المقاوم فمن ناحية الشق الفلسفي يقف أمامه عائق(السطحية) ومن ناحية الشق الصوفي يقع أمامه عائق (الثّقل) .
نصل أخيرا للقول بأن الانسان الذي يتخذ مسافة ما عن واقعته الحياتية وحده الذي يستطيع ان يجد مخرجاً أمناً أياً كان المخرج سواء كان اعتزاليا أو انتحاريا أو مقاوما ، وهي مواقف خروجية تنم عن مواقف جدية من الواقعة الحياتية فالمعتزل ينظر للحياة من منظار التفاهة ، والمنتحر من منظار الاحتقار ، والمقاوم من منظار الشفقة على المنطوين داخل الحياة أيا كان دافع الشفقة أكان حبا كرغبة في الانقاذ أو كراهية لتقبل المنطوين لشروط الحياة القائمة بدون أي مسعى للاستشكال أو المقاومة .
1- مارتن هيدجر، كتاب التقنية والحقيقة والوجود ،محاضرة عصر تصورات العالم ، ص 176 ، ترجمة محمد سبيلا ، وعبدالهادي مفتاح ،المركز الثقافي العربي .
2- يجب ان ألا يُفهم من كلامنا أي موقف عدائي من واقعة الحداثة الغربية بل كل ما في الامر اننا لا نريد نفي الواقعة او قتلها بل محاولة تطويرها وفق شروط جديدة تلائم واقعنا الراهن وهناك عدة نماذج مطروحة بديلة لنموذج التسيد كنماذذج كالصداقة الكونية أو الضيافة الكونية أو الائتمان وذلك النموذج الذي يشتغل على تأطيره الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن منذ سنوات قليلة .
3- محمد عزت، مقال "تشارلي ايبدو"الحداثة والموت ، موقع ذوات
4- المصدر نفسه
5- حوار مع المفكر الجزائري محمد شوقي الزين ، مجلة أفلا يتفكرون ، العدد الخامس، مؤسسة مؤمنون بلا حدود
6- المصدر نفسه