يجب أن نكون ديكارتيين أولا، لأن بنية أسئلة الواقع المعيش، تفترض منا الانطلاق من التفكير للتأسيس للوجود، إذ كل وجود متماسك هو نتيجة تفكير منهجي صارم، قائم على روح السؤال والشك في البديهيات، ومبني على صرح عقلاني محض، العقل ملكة تساعدنا على التمييز بين الصواب والخطأ، يحتفظ بما هو صائب، ثم يعود للخطأ يفككه إلى أكبر قدر ممكن من الأجزاء، يركبه مرة أخرى ثم يفحصه ويراجعه ليس باعتباره خطأ متعاليا، وإنما بمدى قوته ووقعه علينا.
نحن ديكارتيون إذن لأن بنية مجتمعنا لازالت محكومة بروح اتصالية، لازال الانفصال أفقا بعيد المنال، إذ ليس بينهما تضاد كما يُعتقد، بقدر ما أن الانفصال ابن بار للإتصال، صحيح أنه قتله، لكن الأمور من أساسها تُؤخذ، والأصل يبقى دوما منبع الفصل والتفرع، واقعنا المعيش واقع تحكمه عقلية القطيع، وكل منفصل عن القطيع مصيره الطرد الرمزي منه والمادي، واقعنا واقع إمَّعة يتوجس من الفرد لصالح النحن، إذ الفرد عندنا ليس من التفرد والفرادة وإنما من الفردنة والعزلة، إننا نعتبر كل استئصال تنكر للأساس، ونعتبر قتل الأب جريمة، إننا ننتج أبا فينا من حيث لا ندري، من هنا تنبني خصوصية مجتمعنا على الاتصال ضد الانفصال، على الأصل ضد الفرع، وعلى الأيقونة ضد السيمولاكر.
إن كل فلسفة هي وليدة أسئلة مجتمعها وألغازه، الفلسفة حاجة لتطوير مجتمع بعينه وليست ترفا فكريا، الفلسفة لا تأتي أخيرا بعد العلم، بل إن ليلها هو بداية نهار جديد، من ثمة فكل استيراد لفلسفة ليست من واقع مجتمعنا، هي في نفس الآن عزلة وطرد، هي نظرة دونية لهذا المجتمع للفلسفة، بالتالي فإن مجتمعنا في حاجة لديكارت أكثر من هيجل وكانط، ثم ديريدا وبلانشو وفوكو بعد ذلك، عندما كتب كانط نقد العقل العملي لم يكن المؤلف ضمنيا موجها للإنسان الكوني، وإنما للإنسان المسيحي الذي وجب أن يُعمِلَ عقله انطلاقا من الأخلاق العملية، وليس بناء على إملاءات عقيدة أصبحت تسير نحو التبخر والتشتت والأفول، من هنا ومن هنا فقط نحن ديكارتيون أولا.
ثم إننا ديكارتيون بالواقع والضرورة وليس اختيارا يمليه وجداننا ورغبتنا، بل يجب أن نكون ديكارتيين لأننا لا زلنا في حاجة لمنهج يساعدنا على إعمال عقلنا المتجمد، عقلنا الذي يخلط بين الحقيقة والخيال، بين الفكر والواقع، وبين الثقافة والاعتقاد، إن قضيتنا الأساس حاليا هي قضية منهج، قضية البحث عن خطاب الحقيقة، وتحديد منهج الوصول إليه والقواعد التي توجهه، مادام مجتمعنا فاقدا لبوصلة التمييز، وطبوغرافية تحديد مكمن قوتنا وضعفنا، من ثمة يجب أن نكون ديكارتيين لأن سؤال الحقيقة بدوره لازال بعيدا عنا، إذ امتلاك حقيقة ما هو نثر ورود تطويرها وليس تحويلها لعقيدة، الحقيقة من التحقق وليست من الحق بشيء، الحقيقة أساس بناء الفكر ثم نقدها بعد ذلك، في مجتمعنا لا زلنا لم نفكر حتى في البحث عن الحقيقة فما بالك بنقدها، لهذا وجب أن نكون ديكارتيين كي نبحث، كي نُعمل العقل على حساب الجهل، وكي نرتب أمورنا الأولية بدل التفكير في الفراغ وبدون آليات الصناعة العقلية.
حاجتنا لديكارت تستمد قوتها من إبستيمولوجيته، الإبستيمولوجيا الديكارتية هي إبستيمولوجية البداهة والوضوح، لكن أية بداهة؟ إنها بداهة الانفتاح وليست الانغلاق، فديكارت أسس للبداهة القائمة على العقل، أولا كي يفهم وجود الله عقليا وليس وجدانيا، وثانيا لأنه أسس البداهة عن طريق التفكير الفلسفي، البداهة فلسفيا مفتوحة دوما للنقد، عكس البداهة الدينية التي تتأسس على المطلق الذي لا يجب أن يشوبه أي تغير، وإلا لاعتبرنا ديكارت رجل دين وليس فيلسوفا، إنها حيلة من ديكارت بطبيعة الحال، وما أفكار نقد العقلانية الديكارتية إلا كمين وضعه لنا الرجل، كي يبقى حاضرا بقوة بما أنه الأصل في هذا النقد وفي الدعوة للانفصال والقطائع، حيث لا قطيعة بدون اتصال، ولا غياب بدون حضور، ولا تحجب بدون ظهور، إنها عودة غير مباشرة للأصل والأيقونة والاتصال.
الغرض من حاجتنا لديكارت يمكن أن نحل به أيضا مشكلة الاعتقاد الديني في مجتمعاتنا، إذ الانغلاق والتعصب الديني السائد اليوم، هو ماكان سائدا في أوربا خلال عصر النهضة الأول والثاني وما قبله بكثير، لهذا فكتاب تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، هو كتاب يعمل على طرد كل الشوائب التي تسيء للدين، إنه تأسيس للدين انطلاقا من العقل نحو الله، وليس انطلاقا من الله نحو الإنسان عن طريق الوساطة، أي أن كل وساطة تربط بين الخالق والمخلوق تم قذفها إلى أقصى الأقاصي، فأصبحنا أمام تمثل الإنسان لربه وليس انطلاقا مما يملى عليه من طرف المذاهب ورجال الدين، لهذا فنحن أيضا في حاجتنا لديكارت والفلسفة الديكارتية من خلال كتاب التأملات، مادمنا نعيش صراعا بلباس إيديولوجي سياسي، لكن عمقه ديني محض، وما يوجد من صراع الآن في بلاد المسلمين هو غياب فهم واضح للدين، والفهم بطبعه يرتبط بالعقل، وغياب الفهم هو غياب العقل، حيث كلما غاب العقل حضر العنف والعكس بالعكس، لهذا فنحن في حاجة للديكارتية كي نتعلم أولا إعمال العقل، كي نؤسس لمجتمع الإنسان والفاعلية، كي نتعلم بداية كيف نفكر ونناقش بعيدا عن العنف، وكي نمتلك أيضا منهجا من خلاله نصبح أمة مبدعة وليس أمة لا تبدع إلا الخرافات، وما حضور الخرافة إلا علامة على غياب العقل.
من هنا لا يصبح غياب الحقيقة حضورا لها، وإنما يتوجب على الحضور أن يحضر في الزمن والمكان، إن طرد الخرافة رهين بحضور العقل، وما الفلسفة الخارجة عن إطار خصوصية مجتمعها إلا تكريس للنظرة الدونية التي باتت الفلسفة تعيشها اليوم من طرف المجتمع، كما أنها تبقى حرث في الفراغ وليس في أرض خصبة ننتظر ثمارها وحصادها الخَلاّقِ، لهذا ولهذا فقط يجب أن نكون ديكارتيين ثم بعد ذلك يتسنى لنا نقده بطريقة طبيعية وكما يحلو لنا.