سيكون من العبث واللامعقول بالنسبة للسواد الأعظم من الناس التسليم بحاجتنا إلى الخطأ، كما سيعدو من اللامنطق بماكان قبول الخطأ بل وتمجيده، إننا نعمل طول حياتنا من أجل تجنبه وليس تكريسه، والحال أن العقاب قد تم اكتشافه ووضعه من طرف أجدادنا الأوائل لطرد الخطأ وعدم ارتكابه أكثر من مرة، الحياة مليئة بالأخطاء التي لا نرغب في أن نكون ضحاياها، لأنها وبكل بساطة تضر بنا ،هذا إذا لم تقتلنا، فكم من الأشخاص قتلتهم قاعدة إعادة الخطأ مرات ومرات فباتوا بأخطائهم هاته تعساء لا حول لهم ولا قوة.
في هذا المقام سنعمل على قراءة الخطأ من زاويته اللامفكر فيها، ومن بعده المتستر عنا، لهذا فنحن ملزمين بطرح سؤال من يرتكب الخطأ؟ الخطأ فعل مرتكب من الحركة وليس من الجمود، ابق مكانك لا تتحرك آنذاك لن ترتكب أي خطأ، لكن إذا غامر الفكر وزاد من جرأته، حينها قد يسقط في الخطأ بداية، لكن تجاوز الخطأ هو من صميم الخطأ نفسه، ليس بينه وبين الصواب علاقة تنافر وتضاد كما يعتقد البعض، الخطأ يحاول أن يصبح صوابا عن طريق الخطأ، مادام الصواب نفسه ليس يستوي منطقه إلا عن طريق خطأ الخطأ، صحيح أن هاته العلاقة المنطقية لم تظهر عند ولادة المنطق مع أرسطو، كان الرجل يعتقد أن الأورغانون الذي أنشأه من شأنه طرد الخطأ، لكنه أغفل جانبا مهما من اللعبة ألا وهو تصور الحياة والوجود بصفة عامة بدون خطأ، الواقع أن منطق أرسطو هو منطق لتصحيح الخطأ وللعصمة من الزلل حسب قول المعلم الأول، حيث وضعه للحد مما كان يعتقده أخطاءً مرتكبة بسبب إشكالية الجذر التربيعي الفيتاغورية، وعن طريق مفارقات زينون الإيلي، وأغاليط السفسطائيين الغريبة، من ثمة فإن صواب أرسطو لم يكن ليخرج إلى أرض الواقع لولا أخطاء الذين سبقوه، هذا إذا كانت أخطاء حقا.
لقد كانت ثورات العقل تتم دوما عن طريق مساءلة الخطأ وعقد حوار معه، خذ بنا إلى أهم إنجازات العقل والتي كانت تتأسس دوما على إصلاح الأخطاء السابقة، أي أنها كانت خاضعة لسلسة منطقية ترى في الخطأ أبا للصواب، حيث يصبح هذا الصواب نفسه خطأ لا يجدي نفعا لا بقليل ولا بكثير، والحق أن العقلانية الديكارتية كانت آخر من حاول طرد الخطأ عندما أسس أب الفلسفة الحديثة لقواعد صارمة في كتابه الموسوم بقواعد المنهج، وذلك تحقيقا لعقل سليم ليس له من الخطأ بشيء، في هاته اللحظة بالذات كنا نسيء فهمنا والخطأ، كما نعتبره عيبا وزلة يرتكبها العقل، مادام هذا الأخير قد جاء لطرد الخطأ والتربع على عرش إمبراطورية الصواب أي بغاية إدراك الحقائق البديهية التي لا تشوبها أخطاء لا من قريب ولا من بعيد.
كان علينا الانتظار حتى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن الذي يليه وبالضبط في مدينة توبنغن الألمانية، كي يأتي هيجل بقراءة جديدة للعقل، حيث لاحظ الرجل أن حقائق العقل تخضع لمنطق التجاوز مع الاحتفاظ، وهو الذي يؤثر إيجابا على عجلة التاريخ، معتبرا أن للعقل مكرا وهذا المكر ليس إلا الخطأ عينه، من هنا فالتاريخ متحرك ليس بثابت، لكن وفي مقابل ذلك من يصنع هاته الحركة؟ الواقع أن كل تجاوز هو تجاوز لشيء ما، هو محاولة تصحيح غموض سابق حيث ما إن يتم الانفلات من قبضته حتى يسقط في تناقض آخر، والحال أن التناقض هو الصانع الأول والأخير لتقدم التاريخ نحو المطلق، وما التناقض انطلاقا من هذا السياق؟ التناقض هو عندما نصطدم مع حقيقتين واقعيتين حيث تبدوان لنا متضادتين تماما، لكن بتطابق تضادهما تنتج الحركة، ويسود مبدأ الصيرورة في كل زمان، من هنا كان الخطأ هو مقياس موقعنا في التاريخ، فنقول أنه لا بد من تجاوز الخطأ كي نسير قدما، حيث نصبح أمام إثبات جديد والذي ينفي نفسه هو الآخر فيتحول إلى خطأ يتم تجاوزه لإدراك إثبات مغاير للذي قبله وهكذا دواليك إلى الوصول للمطلق.
من هنا عملت الفلسفات الجدلية ابتداء من هيجل إلى إنجلز وماركس وألتوسير على إضفاء مكانة أخرى للخطأ حيث تحول إلى محرك إبستيمولوجي عندما كان عائقا قبلهما، ومعه تحولت قوانين الجدل التي لا تقف على حقيقة بعينها إلى فلسفة تمجد الخطأ، هكذا تمكن عقل الإنسان فك هاته الحيلة التي انطوت عليه من زمن بعيد، لهذا فإننا نطلب الأخطاء اليوم من أجل فهم أكبر وتفسير أكثر عقلانية، وعليه فإنه لن نتعجب عندما نرى إبستيمولوجيا كبيرا مثل باشلار يعيد النظر إلى الخطأ معتبرا إياه محركا مؤثرا في بنية التفكير العلمي.
بناء على ما سبق لا شك أن فلسفات الوعي حاولت تكريس منطق معاقبة الخطأ والحرص على طرده من مملكة العقل، لكن كيف أثر هذا على سؤال الأخلاق؟ الواقع أن هذا الأمر سيجعلنا نقف عند دورنا نحن في المساهمة وإن بقدر بسيط في هذا الفكر العالمي، حيث بنية العقل العربي عادة ما تسعى لعدم الاعتراف بالخطأ وهو الذي الامر الذي يؤثر سلبا على الوقوف بكل صراحة وموضوعية أمام هذا العقل، حيث لن يختلف أغلبنا أن العقل العربي عقل مصاب بالجمود، والدليل هو أننا نفكر بنفس البنية منذ القديم، فلا نحن بقادرين على التكيف بطريقة سليمة مع أسئلة الواقع الحالي وخصوصياته، ولا نحن بمستطيعين على الركون في عقلية لم تعد تجدي نفعا في عصر جديد يتغير كل ثانية، إننا لا نشجع على الخطأ على غرار الشعوب المتحركة تاريخها، بل إن أخطاءنا تكاد تتشابه بين قرن وآخر وهي علامة على غياب روح الحركية في بنيتنا الخفية، لهذا توجب علينا أن نعمل كي نخطأ وأن نعتبر الخطأ مِرْيَةَ اشتغالنا وجنوحنا نحو البحث عن حلول لمعضلاتنا، علينا وكخلاصة للقول أن نؤمن أن الأخطاء والوقوف عند الأخطاء هو القادر على إخراج عقلنا من براثن الجمود، من التعصب بشتى تلاوينه، ومن منطق الاستسلام للواقع.