مثلت مسألة الجسد والنظام مجالا خصبا للتأمل الفلسفي منذ القدم، وأضحى فيما بعد محوراً لمناولات عديدة، تتراوح بين ماهو تأملي-تجريدي وماهو إنساني-مادي، فكان دافعاً نحو تثوير وتطوير مناهج البحث في هذا المجال على المستوى التفسيري-التنظيري والمستوى العملي-الممارساتي.
ويعد الجسد تجربة مُحايثة لعالمنا المعاش باعتبار ما تُسيّجه وتساكنه المفارقات، إذ يروم استجراح مسالك جديدة للحفر في أعماق الذوات البشرية واستكناه أغوار دهاليزها واستفتاح مغالقها. ومن هنا ظل التفكير فيه أمرا لا يخلو من متعة البحث.. فيتقاطع فيه البيولوجي مع النفسي في ٱتصال حميمي بالإجتماعي-الكوني، وبين هذا وذاك تتبلور سيرورة الوقائع فلا تكُف أبداً عن إنتاج االمعاني الأصيلة لواقع إنساني جسدي فعلي.
تنعكف هذه الورقة العلمية محاولة منا لاقتحام أغوار النظام وفوضى الجسد لأجعل منه موضوعاً للمساءلة تستنطق فيه المسكوت عنه عبر حلقة مثاقفة فلسفية.
إذا كانت الفلسفة الكلاسيكية – وخاصة الميتافيزيقية مع التصور الأفلاطوني – قد عملت على إحداث شرخ كبير بين الثابت والمتغير وذلك في إطار الثنائية الضدية القائمة على الفصل بين النفس والجسد، فإن هذا الباراديغم سيتجذر أكثر في زمن الحداثة وبالتحديد ضمن الخطاب الدّيكارتي الذي بموجبه تمّ تمجيد العقل وتبخيس الجسد. باعتباره عائقاً إيبيستيمولوجياً أمام الوصول إلى الحقيقة.
إلا أن الفلسفة المعاصرة بمنطلقاتها الإختلافية ستعمل على هدم الثنائيات التقليدية التي قامت عليها تصورات الميتافيزيقا الغربية، وبالتالي ستعيد الاعتبار للجسد وتحرره من براثن التهميش والتحقير. فترتقي به إلى مصاف التمجيد والتهليل ضمن أفق إنتاجي لخطاب متصالح مع كل ماهو حسي-مادي، مما يؤصل قيمة الجسد الذي طالما ظلّ مسكوتا عنه ومُحاطا بسياج من الصمت المطبق.
حاولت في هذه الورقة التي اشتغلت عليها، والمعنونة ب:الجسد بين المداهنة والمهادنة، أن أوضح بداية التحديد المفهومي لمصطلحي: المداهنة/المهادنة، لكي يتسنى لنا فهم العلاقة القائمة بين اللانظام والنظام بمعنى الجسد والنفس. فأبرز الرؤى الفلسفية تراوحت مواقفها بين من يداهن يناقص وينافي كل ماهو حسي-مادي، وبين من يهادن ويماجد ويرد الاعتبار للامفكر فيه والمنسي.
مصطلح (المُداهَنةَ) صِفةُ ذَمٍّ وخلق قذر، لا يحط فيه إلا من خف في العلم وزنه، أو من نشأ نشأة صغار ومهانة.
أما مصطلح (المهادنة) فيعني الْمُصَالَحَةُ، الْمُسالَمَةُ، ووَقْفُ القِتَالِ،ويرادفه: الهدنة. فكلمة : المداهنة نقيض المهادنة يعني: حط ، اقصاء، تحطيم وتذليل. في مقابل: تصالح، تواد، تراض، وتمجيد.
وفقا لهذا التوضيح المفهومي، سيتم معالجة العلاقة المفهومية بين الجسد، الذي طالما اعتبر مصدرا للانظام والفوضى، والنظام الذي مصدره العقل أو النفس.
وفي هذا الإطار يطرح الإشكال التالي:
كيف تتم معالجة هذا الزوج المفهومي: جسد/نظام في ظل تهادن أوتداهن النظريات الفلسفية؟
وما قيمة الجسد وفق التصورات الفلسفية التقليدية والحديثة؟ وفيم تتجلى تمظهرات التذليل و التمجيد لكل ماهو حسي-جسدي؟
تعد مسألة الجسد والنظام موضوع بحث فلسفي هام لما يتضمنه من فكرة العلاقة الوطيدة بابستيمية وأنطولوجيا الأنا. ويتخللها ميلاد جديد للامفكر فيه الذي انتقل من الغياب إلى الحضور ومن التحقير إلى التعظيم.
وسنحاول في هذا المقال الوقوف على طبيعة تلك العلاقة القائمة بين جسد/نفس. لنتبين لنا لاحقا أن مختلف التصورات بقيت ولاتزال رهين مهادنة أو مداهنة لكل ماهو جسدي.
تعتبر التصورات الميتافزيقية أن تحقق الكينونة الإنسانية يتم بإقصاء كلّ ماهو غيري، سواء كان غير داخلي: جسد، رغبة، شهوة، لذة...أو غير خارجي : العالم، الحقيقة، الطبيعة، الذاوات الأخرى، التاريخ....فهما لا يحددان جوهر الذات وماهيتها. هذه الذات في معناها الميتافيزيقي مؤسسة للإنسانية، فهي الأنا باعتبارها وعيا بالذات، تتحدّد في النهاية كجوهر، ويسند إليها كل الممارسات الحسية والنشاطات بما في ذلك الجسد.
لئن اعتبر التصور الأفلاطوني حضورالإنسان في العالم وكمال وجوده لا يتتحققان إلا بالنفس وحدها بإعتبارها تجسد جوهر الذات، في حين يمثل الجسد عرضا يعيق تفكيرها ويعيب قيمتها. لذلك يختزل الإنسان في بعده الواعي، بما أنه يعد عطالة أنطولوجية وعائقا ابيستميلوجيا. في حين أن النفس هي التي تحرّكه وتسيره، فأصبح مصدرا للرذيلة يعرقل تأمل النفس في عملية صعودها نحو عالمها المثالي الحقيقي.
وقد اعتبر أفلاطون الجسد سجنا مقيتا للروح ومكبلا لحرية الذات وسبيلا لسحق أحقيتها في الفعل والإبداع. وهو مرتع للشهوات والنزوات التي تنزل بالإنسان إلى مستوى متدني، بمعنى أنها تحط قيمته المتسامية إلى مستوى الحيوانية.
يرى الطرح الأفلاطوني هنا أن ما يقوم به الجسد يختلف عما تقوم به النفس. فالجسد منجذب نحو الملذات ومنغمس غارق في الغريزة، إلا أن النفس تواقة للمعرفة والحكمة. وهذا تصور تتجلى فيه ثنائية واضحة وجلية. وفي ذلك اعتراف صريح بتفوق النفس وسموها عن الجسد بحيث تكون الحياة إذن موت للنفس، ولذلك توجب أن نعكس الآية بأن نتعلم كيف نموت.
ولعل هذه الأطروحة شبيهة تماما ببعض المواقف الدينية التي ترى أن الإنسان متكون من جوهرين متمايزين: روح وجسم، والعلاقة القائمة بينهما مؤقتة مادامت النفس من طينة إلهية متورطة في سجن الجسد، لذلك يتوجب على الذات البشرية المؤمنة حقيقة قهر جسده والتملص من شهواته وغرائزه.
في هذا الإطار يتجاوز فيلسوف المطرقة هذه التراتبية: روح-جسد نحو مهادنة تلك المداهنة أي المهاجنة والمهاجمة الشرسة ضد ماهو جسدي، فيلينه تعظيما بإعتباره الأقوى والأعلى. ويضيف نيتشه أن سقراط، معلم أفلاطون، يجد ظالته في البحث عن الحقيقة لأن غايته المعرفية لا تتمثل في مجرد البحث بل كذلك في الإنشغال بالجدل. وهنا تحديدا يكمن توهم فيلسوف التوليد من خلال العقل الذي وحده سيكشف له حقيقة الوجود متغافلا بذلك عن العالم الذي كان من الأجدر أن ينغمس فيه ويلامسه ويحقق وجوده الفعلي. وانطلاقا من ذلك يقر نيتشه أن قاعدة سقراط تنبني على المعرفة التي هي في حد ذاتها الفضيلة، يقول في هذا الإطار: "فالدليل الذي تقوم عليه المسلمة السقراطية الفاصل هو من يمتلك االمعرفة. والعقل يجسد قاعدة أولى وأساسية تقوم عليها كل معرفة غايتها الأخلاقية تتمثل في كيفية الوصول إلى الخير المطلق بإعتباره يمثل السعادة الحقيقية بعينها، فهذا الخير أساس كل لذة عقلية وسعادة روحية يجنب الذات الوقوع في الرذيلة التي مسكنها الغرائز.يظل العلم والمعرفة مقياس بلوغ الفضيلة، هنا يقر نيتشه أن كل ما أوصل إليه سقراط من معرفة"1 ماهي إلا حركة معادية للوجود والجسد. فما ينبئ به سقراط يعد طمسا لغرائز الجسد ومتع الحياة، فهو بمثابة الحقد الدفين للأهواء والغرائز. وبذلك يظل مجرد أقنعة كاذبة تحجب الجسد وتنافى الوجود. فعوضا أن تعبر تلك الأخلاق عن أجواء الفرد فإنها تضمرها وتدفنها.
الانسان ذلك الجسد ذو بعد بيولوجي-حيواني، إن صح التعبير، وكذلك يمتلك قوة تعبير عظمى عن الحياة في أبهى تجلياتها وأزهى تمظهراتها، يقول نيتشه :"لكننا نعده الحيوان الأكثر قوة ، ذلك لأنه أكثر دهاء". 2فالجسد أساس بناء الذات الإنسانية التي تعيش وتتعايش في العالم المادي-الظاهراتي، فتدرك حينها الذات تلازم إرادتها واقتدارها بتقدمها، وتعتزم الاقدام على الحياة بشغف وفرح عبر الغريزة بغية تحقيق التوازن الجسدي والنفسي، مما يؤول إلى السيطرة كي تسمو مكانتها.
لقد تجلت لنا أهمية النظر في اللامفكر فيه خلال تطرقنا لثنائية يتخللها التناقض والنزاع لتتلاقى القوة الديونيزوسية والروح الأبولونية. وتطرح معضلة علاقة النفس بالجسد حسب أرسطو في إطار فهم العلاقة بين الصورة والمادة اللامتشكلة بماهي الهيولي . ومن ثمة تتمظهر إنسانية الإنسان بالصورة أي بالنفس باعتبارها حقيقة الذات أي العقل الذي بفضله ينتج الأنا افكاره توقا إلى معرفة الحقيقة. إذ يختزل الإنسان في بعده الواعي أي أنه: حيوان عاقل.
وكذلك بالنسبة لديكارت النفس فكر وليست مبدأ حركة وبالتالي فهي جوهر مفكر. أما الجسد فهو جوهر مادي لإستقلاله بذاته. ولكن حركته آلية ميكانيكية منبثقة من طبيعته المادية.
يهوي نيتشه هنا بمطرقته ليقضي على كل الحقائق المصطنعة والمقولات المزيفة الناطقة بالنظام والتعالي. فهما (النظام والتعالي) لم يزيدا الإنسانية إلا مداهنة تلوى أخرى. فتتأكد مهادنة الجسد باعتباره عنوان انغماسنا في هذه الحياة . لذا فالجسد، وفق تعبيره، يعد قبلَ كل شيء جسد متمرِّسٌ بالحياة لا يخضع لنظامية أفكار العقل. فكلَّ معرفةٍ إنَّما تقوم عن الإحساس وتصدر عنه. إذ كيف يُمكن أن نحيا في العالم المعاش بالفكر وحده، مثال: العلاقة الزوجية، التي تعد علاقة ضرورية في استمرارية الوجود وحفظا للنسل، سنتبين من خلالها أن الجسد هو سبب التواصل البينذاتي، أما عن العقل فهو عامل مساعد في ترميم تلك العلاقة أو تهديمها.
تميزت كل من الفلسفة الكلاسيكية والفلسفة الحديثة بالانزياح الكلي لتعظيم ملكة الفكر باعتباره مصدر التفكير والتأمل ومنبع النظام وتوليد الأفكار. وفي المقابل كان لها تصور سلبي للجسد الذي يفقد الإنسان إنسانيته، ويبعده عن المعنى الحقيقي للأرض، أي معنى الحياة. حافظ ديكارت على علو وسمو النفس، وفصل بينها وبين الجسد، واُعتبر كل تقدّم أو كل اكتشاف وإنتاج ينهض في تسيير الحياة مصدره العقل فقط. أما الجسد فهو مجرّد امتداد، أمام عظمة الروح، أي بمثابة الآلة التي يمكن الاستغناء عنها.
وفق التصور الجينيالوجي، تعد إدانة كل ماهو حسي-جسدي ليس بتمييز صادق في الحياة والفكر الذي نريد، فنحن حتما نعرف أجسادنا حق المعرفة. ولا نعرف أرواحنا لكونها تنتمي إلى التفكير في ما وراء الميتافيزيقا. وبالتالي يمنح الجسد الإنسان إرادة القوة التي تجسد الحياة لـديونيزيوس المثال الأميز للتعبير عن الحياة وإعادة انتاج النشوة فيها خارج سطوة العقل ودائرة النظام.
الجسد تلك الأداة العظمى للتفكير، إذ لا يمكن الحديث عن الفكر خارج الجسد. وإذا أمعنا النظر سنجد أن نيتشه يقدح في التصور السقراطي –الأفلاطوني – وكذلك المسيحي للجسد ، هذه التصورات التي تعتبرالإنسان كائن مقدس بالروح والفكر لكنه حزين ومثقل الكاهل بالجسد، "ليعتبره فيلسوفنا تلك الأنا التي لا تتبجح بتلفظ كلمة أنا. إذ أن فيه من العقل ما يفوق خير حكمة في الإنسان".3 فحينما تتطلع الذات إلى التواري، تدفع الإنسان إلى الاستنكار والاستهزاء بجسده، فتكشف عن عجزها في خلق الأفضل، وهو العجز الذي يولد النقمة على الأرض. هذا ما يكرهه بل ويبغضه نيتشه لأن المستهزئ بالجسد يعرقل تقدم الإنسان نحو المستقبل الأفضل، حيث "الإنسان الراقي"، فما دام الجسد عنده يجسد مجموع قوى تتألف مع بعضها البعض لتشكل إرادة قوة، سنجده يبشر بالإنسان الأعلى الذي يمنح الجسد قدرة على الولوج إلى العود الأبدي في حركة سائرة وصيرورة دائمة.
مع هيڨل يمثل الوعي بالذات فعل انسجام مع الذات، وهذا الوعي الذاتي لا يتحقق إلا بحضور الآخر. بمعنى أننا أمام وعي بالذات ووعي موضوعي. فكل وعي عليه أن يحافظ على الآخر لأننا أمام صراع ذاتين تسعى كل منهما إلى تحقيق رغبتها، وهي نفس الرغبة التي يتطلع إليها وعي الآخر، وبالتالي يكون ثمة تنازل أحدهما للآخر كي يتجلى كيانه، فينتج عن ذلك نزاع بين حدين. وهو ما يسمى عند هيقل: جدلية السيد والعبد، بحيث يتمظهر اللاتوازن المتضمن لوعي يحمل بذاته وفي ذاته مكابدة الفشل ضمن الاعتراف المتبادل؛ إما تحقيق الكيان الواعي بذاته وإما خوض تجربة ما تنفك تستجيره وتستعبده.
ومع نيتشه آن الأوان الذي يجب أن نعيد فيه الإعتبار لهذا المدان دون جريمة ارتكبها، ليصبح الجسد العقل الأكبر بينما الروح عقلا صغيرا يقتصر دوره في كونه أداة طائعة في يد الجسد لإنه مجرد لعبة يتحكم فيها كيف ما شاء ومتي يشاء.
فيلسوف المطرقة يزدري محتقرِي الجسد. ففي مؤلفه العظيم: هكذا تكلم زرادشت، بين شخصة زرادشتُ على أنها الكاشف والشَّارحُ لانحطاط القيم ولاحتقار الجسد. وبالنِّسبة إليه لم تساهم الماورائيَّات الكلاسيكيَّة والنَّظريات التاريخيَّة إلا في تشوِّهُ كل ما هو إنساني في الإنسان. وبالتالي فهو يدحض المثاليَّةِ ويؤصل سيادةَ الجسد كمصدَرٍ لكلِّ تأويل. مما دفع نيتشه إلى اعتبار الجسد عقل أكبر لتفوقه على العقل ذاته نظرا لما يمتلكه من الذَّكاء والحكمة، وليس ما يمتلكه من مشاعر فحسب. ويؤكد في هذا الإطار:" إن الجسد السليم يتكلم بإخلاص وبكل صفاء ، فهو الدعامة المربعة من الرأس حتى القدم، وليس بيانه إلا إفصاحا عن معنى الارض"4. فالجسدُ يحكم ويتحكم في العقلَ، وليس العكس كما تداوله التاريخ الفلسفي التقليدي. وهو أيضا لا يتمثل شيئاً إنَّما يتجسد حركية وتعدُّديَّةَ لقوى عظيمة لها من الشأن القيمي الكثير.
هكذا يتم ازاحة غرور العقل، بما أن الأمر يتعلق بالرفع من شأن العالم المادي أو بمعنى أصح رفع وعلو من شأن ماهو عضوي-جسمي في الإنسان. لذلك فإن للجسد إرادة قوَّة ترتبط به بصفة جوهريِّة. فهو أفضلُ قائدٍ، لأنَّه رمزٌ لإرادة الإقتدار وأفضل موضعُ تنفيذ لها. والحياة بعينها تتحدد بالجسد في أحلى تجليها وبأكثر جلائها. فهو الذي يسقي الروح مشاعرا ويحيطها وهجا وفرحا عبر أهازيج الحياة، يقر في هذا الإطار أنه لولا الموسيقى، لكانت الحياة غلطة كبيرة. ولنا الفن كي لا تميتنا الحقيقة.
وهنا تكمن حقيقة الجسد التي تعبرعنها النزعة الديونيزوسية، فهي تلك "الجسدية العارمة المفرطة بالنشوة المحمومة والمعربدة قبل ظهور النزعة الأبولونية العقلية التي تتسم بضبط النفس والرغبة في التفسير العقلي للكون". وهي تلك النظرة الثاقبة المتعطشة للحياة، والتى ستحقق فعليا التصور الجمالي ذاته عبر تقديس وتجميل حياة جديرة بأن تعاش بألمها وأملها بنعيمها وشقائها في آن بحيث نجد تلك المتعة.
على هذا النحو يرد الاعتبار للحسي- الجسدي بعدما تم اقصاؤه لصالح المافوقي-المتعالي. ومع التصور الجينيالوجي تتجلى أهمية النظر في اللامفكر فيه خلال تطرقنا لثنائية برؤية جديدة يتخللها التناقض والنزاع لتتلاقى القوة الديونيزوسية والروح الأبولونية.
يختلف موقف سبينوزا في مسألة تناول معضلة النفس والجسد، فقد حاول إيجاد كيفية الرباط أو الارتباط بينهما باعتبارهما صفتين مختلفتين لكن ينتميان لجوهر واحد مجسدا في الله، بمعنى أنّ الإنسان جوهر واحد يحمل في ذاته تلك الصفتين: الفكر والامتداد. حيث يقول : " إنّ الروح والجسد هما نفس الشيء الذي يتم تصوره أحيانا تحت صفة الفكر، وأحيانا تحت صفة الامتداد"،5 فالفكر من الروح والامتداد من الجسد، وكل إنسان يحمل عقلا مختلفا عن الإنسان الآخر، كل عقل هو حالة خاصة لجسد إنساني معين، فحركة جسديّة توازيها حادثة تلائمها وتماثلها على مستوى العقل.
كل ما يحس به الجسد ويستشعره من مشاعر وأحاسيس ، كذلك العقل يشعر به باعتباره فكرة، (مثال: عن الطعام والرغبة في الطعام، فالجوع مثلا هو إحساس جسدي، أمّا الرغبة في تناول الطعام فهي شعور عقلي، ومثلما يشعر الجسد بالجوع يشعر العقل بالرغبة في الطعام). وإذن كل ما هو نفسي جسدي أيضا والعكس صحيح كل ما هو جسدي نفسي. يعني أن أفكار العقل ورغبات الجسم شيء واحداد لا يمكن فصلهما عن بعضهما والعكس صحيح أيضا. إنها ثنائيّة تُفسّر كعمليّة ازدواجيّة موحّدة يضع فيها سبينوزا الجسد والنفس في مرتبة واحدة.
قام نيتشه بقلب المفاهيم والمقولات الكلاسيكيّة والحديثة. فاعتبر الجسد تلك القاعدة الأساسيّة لوجود الإنسان ففضله على العقل ورفّع من قيمته وفق ترتيب تفاضلي. يرجّح الكفّة لسلطة الجسد، فهو منبع للطاقة ومصدر القدرات ، يجمع من الأعضاء المتناسقة والمتكاملة والمتآلفة، البيولوجية والغريزية ما يجعلنا ككائنات حية نتواجد ونتكاثر، فنحافظ على استمراريّة كينونتنا ونكرس قدراتنا في التعبير عن احساسنا بإنسانيتنا في الحياة المعاشة. فالوعي مُجرّد وسيلة في يد سلطة الجسد وأداة طيعة لخدمته، حيث يقول: "الجسد عقلك الكبير وهذا العقل الصغير الذي نسميه وعيا ليس سوى أداة صغيرة ولعبة في يد عقلك الكبير، يمكن خلق أفكارك وأحاسيسك كائن أكثر نفوذا، حكيم مجهول يسكنك، إنه جسدك"6 العظيم الذي يعد مصدرا للحكمة والفضيلة.
اعتبر التصور النيتشوي أن الفلسفات التقليدية وبالتحديد الميتافيزيقية قد حاكت مؤامرة على اللامفكر فيه أي الجسد، إذ طاله من الاحتقار والتتحقير ما يجعله مصدرا للشر والهلاك. ولم تكتف بذلك بل ساهمت في تكبيل الغرائز وكأنّها لعنة تقتسف النفس وتستجينها. يقول نيتشه: "للمستهينين بالجسد أريد أن أقول كلمتي: ليس عليهم أن يتعلّموا من جديد ولا أن يعيدوا تعليم الآخرين بل فقط أن يقولوا وداعا لجسدهم – وأن يصيروا بكما "7 ، إذ الجسد سبب للحياة ومبرهن للوجود البشري.
هذا الجسد فكرة أروع من فكرة الروح وأرقى من رقي النفس القديمة، فقد جسد عنوان انخراطنا في الحياة الأرضية. وهو بشتى أبعاده أرضنا الأولى، ومثل جسر التواصل بين كل الأزمنة أي الممكن اللامتناهي المتسم بالحركة الدائمة وبالسعي الدؤوب نحو استكشاف أفق المجهول. وعليه تتحدد الحياة البشرية بتمجيد وتقديس الجسد الذي يحي الروح وهجا ويذيبها نغما بمشاعر مختلطة ينظمها العقل ويهذب سلوك البشر.
المراجع:
[1]فريدريك نيتشه، مولد التراجيديا، ترجمة شاهر حسن عبيد، دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا اللاذقية، 2008،ط1، ص 106.
[2]فريدريك نيتشه،عدو المسيح، ترجمة جورج ميخائيل،دار الحوار للنشر والتوزيع، ط2، ص 116.
[3]العلوي هشام، الجسد بين الشرق والغرب، نماذج وتصورات، منشورات الزمن، العدد 44، 2004، صفحة عدد 47.
[4]فريدريك نيتشه،هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فيليكس فارس، دار جريدة البصرة، الاسكندرية، 1938، ص 25.
[5]«L’Âme et le Corps sont une seule » e » même chose qui est conçu a t »t sous l’attribut de la Pensée, tantôt sous cel ui de l’Étendue.’ »»»aruch Spinoza
[6] Nietzche, La volonté de puissance, Tome 1, Livre II, p226[7]فريدريك نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة علي م اللهصباح، منشورات الجمل، 2007، ط1 ،صفحة عدد 75، سطر عدد1
نادرة معمر قاسمي
طالبة دكتورا وباحثة في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس- تونس