قراءة ودراسة وتحليل في كتاب "مدخل إلى الخطابة" لِ أوليفيي روبول - محمد فرّاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

يشكل كتاب "مدخل إلى الخطابة" لصاحبه أوليفيي روبول من الكتب المهمة جداً، إن لم نقل من المصادر والمراجع الأساسية جداً في حقل الخطابة والحجاج، فلا يمكن دراسة هذا الحقل الأخير ويستحيل دراسته دون العودة إلى هذا الكتاب، الذي نعلن منذ هذه اللحظة، أنه يشكل "إنجيل الخطابة"، وصدر هذا الكتاب لأول مرة في لغته الأصلية الفرنسية سنة 1991م، من طرف دار النشر الفرنسية الشهيرة: المطابع الجامعية لفرنسا Presses Université de France وتعرف إختصاراً ب "PUF"، وهو بالمناسبة يشكل أواخر ما كتبه روبل، أي قبل آخر كتاب له المعنون ب "قيم التربية" والذي سيصدر سنة 1992م، وما يهمنا حالياً هو كتاب "مدخل إلى الخطابة" الذي سننتظر حتى سنة 2017م لتصدر أول طبعة منه باللغة العربية لغة الضاد، وهذا يعني أننا انتظرنا ما يقارب 26 سنة، ليترجم إلى لغتنا العربية، وسهر على هذه الترجمة الأستاذ والمترجم الفذ : رضوان العصبة، وراجع الترجمة عن أصلها الفرنسي الفيلسوف التحليلي الحاذق: الدكتور: حسان الباهي، وجدير بالذكر، أن ترجمة الأستاذ رضوان العصبة لم تخن النص بتاتاً، والقارئ له أكيد لن يفرق بين أصله باللغة الفرنسية وترجمته للغة العربية، خاصة عندما اطلعنا على النسخة الفرنسية، واكتشفنا مدى دقة وفعالية الترجمة العربية، كما نشير أن المترجم أفرد مقدمة من الطراز الرفيع تخصه، ولا أنكر أنني لم أستطع التمييز بينها وبين مقدمة الكتاب حتى أنهيتها، ويمكن اعتبارها مدخلاً وقراءة جيدة للمتن الروبولي، بعدها مباشرة قدم روبول تقديما موجزا لكتابه، وبعد التقديم عرض تعريفه للخطابة ووظائفها الأربعة:

الوظيفة المقانعية (الحجاجية والخطبية) والتأويلية والكشفية والتربوية.

والكتاب يحتوي على تسعة فصول كالآتي:

الفصل الأول: أصول الخطابة في اليونان.

الفصل الثاني: أرسطو، الخطابة والجدل.

الفصل الثالث: النسق الخطابي.

الفصل الرابع: من القرن الأول إلى القرن العشرين.

الفصل الخامس: الحجاج.

الفصل السادس: التصويرات.

الفصل السابع: القراءة الخطابية للنصوص.

الفصل الثامن: كيف نحدد الحجج؟

الفصل التاسع: أمثلة عن القراءة الخطابية.

قبل بداية عرض قراءتنا النقدية للكتاب، نشير إلى قواعد منهجية في حقيقة قراءتنا للكتاب، فهذا الكتاب بالمناسبة قرأته ما يقارب ست مرات، ويستحق أن يقرأ وتعاد قراءته مرات عديدة، وفي كل قراءة كنا نعمل على تدوين ملاحظات وهوامش وإضافات وتعديلات ورؤوس أقلام، وبعد أن دونا ما دوناه حول هذا الكتاب، عملنا على تطبيق منهج تحليل-نقد الخطاب وهو منهج أوليفيي روبول نفسه، فطبقنا منهجه على كتابه هذا الذي كتب وفق خطوط هذا المنهج، وحاولنا أن نبقى أوفياء لمنهجه ولبعض تصوراته وأرائه في الكتاب، ومحاولة عرضها وتفسيرها وشرحها وتأويلها من أجل فهمها ونقدها ودحضها وبيان قيمتها وحدودها ومستوياتها، لهذا نقول عن قراءتنا هذه أنها تجاوزت القراءة بالمعنى السطحي إلى الدراسة في المتن بالمعنى الحقيقي، لأننا حاولنا أن نعود إلى الأصول والمصادر والمراجع الأساسية التي أحكمت متن الكتاب، والآن نترككم مع هذه القراءة الماتعة، ونلتقي عند الختم.

بادئ ذي بدء يمكن أن نعتبر هذا الكتاب بمثابة مقرر جامعي جامع أو دروس ومحاضرات جامعية في الخطابة والحجاج، فينطلق روبول من حقيقة تعددية الخطابة وتنوعيتها، أو كما نقول بلغتنا المعاصرة "الخطابة فلسفة الإختلاف والتعدد"، فلا وجود لخطابة واحدة ولا يمكن أن توجد، كما أن للخطابة معنى نسبي، لأن كل خطاب كيفما كان نوعه في السياق المعاصر أصبح نسبيا ورفع عنه طابع الإطلاقية واليقين.

لينطلق فيما بعد روبول، بتعريف الخطابة عند الحس المشترك أو الإنطلاق من المعنى المتداول/الدوكصا للخطابة لدى العوام إلى المعنى الأبستيمي/الضبط المعرفي لها، حيث إن "الخطابة عند الحس المشترك هي مرادف المضخم والمتكلف والمفخم والمبهرج والكاذب" (ص: 19)، لهذا نجد عوام الناس يرفضون التحدث معهم بشكل خطابي، حتى ولو كان خطابا رسميا على منبر رسمي، لكن الخطابة في المصنف في الحجاج لبيرلمان وأولبرخت تيتيكا تعني "فن المحاجة هدفها الإقناع"، أما عندي موريي وجيرار جنيت وكوهن وجماعة مو فالخطابة بالنسبة لهم تعني "دراسة للأسلوب" كما إهتمت هذه الجماعة بالتصويرات أو ما يجعل النص أدبيا، وبالتالي كان توجههم هو صلة الخطابة بالأدب والأسلوب واللغة.

لكن مع روبول أصبحت "الخطابة فن المقانعة بالخطاب"، أما عن معنى الخطاب فهو كل إنتاج كلامي مكتوب أو شفوي، مكون من جملة أو متوالية من الجمل، يملك بداية ونهاية ويمثل وحدة المعنى." (ص: 20)، ويجب التركيز جيداً على تعريف كل من الخطابة والخطاب لدى روبول لأن فهمهما جيداً يمكن من فهم أطروحة الكتاب ككل، ذلك أنه عندما نسلم بهذا التعريف ونتعتبر الخطابة فن المقانعة فهذا يعني أنها فن المرافعة والذي يمتد إلى الخطبة السياسية، والمصنف الفلسفي والوعاظ الدينية أو اللاهوتية والمنشور والإعلان الإشهاري والعجالة والحكايات بجميع أنواعها، والرسالة الطلبية والمقال والدراما والرواية والقصائد الهجائية أو المدحية ومختلف العلوم الإنسانية كل هذه المجالات والميادين تشملها الخطابة والحجاج، وبالتالي هي فنون مقناعتية بالنسبة لروبول.

أما عن المجالات التي لا تشملها الخطابة والحجاج أو نقول عنها "غير خطابية" فهي القصيدة الغنائية والتراجيديا المشجاة الملهاة وبعض أصناف الرواية والحكايات الشعبية والقصص المضحكة، إضافة إلى أن دليل استخدام شعار "ممنوع التدخين 🚭" ليس خطابيا.

ويقصد روبول بالمقانعة "حمل المرء على الاعتقاد في شيء ما."، ذلك أن الإنسان في طبيعته كائن قابل للإعتقاد أو الإحساس والشعور بشيء ما معين، كما أنه كائن يتوفر على الذكاء والفطنة والدهاء والعقل والتعقل شيء ما، لهذا نقول أن كلا من الخطابة والحجاج "مقانعة خطابية أو الحمل على الإعتقاد دون الحمل على الفعل" (ص: 21)

لهذا فالغرض من المقانعة الخطابية هو تكوين المهارة التلقائية لدى المتلقين، كما أن هذه المقانعة هي كفاية يمكن اكتسابها عن طريق التعلم لأنها تقنية بسيطة نابعة من عبقرية الخطيب.

كما تعني الخطابة كذلك إيجادة حسن التصرف والتحدث وهي تقنية للتعبير والتواصل والتفاعل مع الآخر.

كما أن الخطيب الحقيقي بالنسبة لروبول دائما هو الفنان الذي يكتشف حججا أكثر فعالية، وتصويرات لم يفكر فيها أحد من قبل، لأن فن المقانعة هو فن الخداع والتغرير لأنه فن عقلي وإنفعالي إحساسي، كما أن العقل يشير إلى الحجة-الإستدلال، أما المثال الذي يقدمه الخطيب فهو إنفعالي-إحساسي يتوجه إلى الجمهور-العوام، كما أن القياس يتم توجيهه إلى المتخصص.

لهذا نراعي في أي خطاب موجه إلى المتلقي ثلاثة مؤشرات:

خطاب-الإيتوس: وهو الخلق الذي ينبغي أن يتخذه الخطيب لإجتذاب الإنتباه والفوز بثقة السامع.

خطاب-الباتوس: وهو مجموع الميولات والرغبات وأهواء السامعين التي يمكن الخطيب أن يستثيرها في المتلقي.

خطاب-اللوغوس: هو نفسه خطاب الحجة-الإستدلال.

وهذه المقومات الثلاث لكل خطاب، أخذها ربول عن أرسطو الذي اشتهر بها في كتابه "الريطوريقا".

أما الخطيب الروماني شيشرون ينظر إلى أن غايات كل خطاب/خطيب، هو الإعلام بما هو إخبار وإفهام، ثم الإمتاع بما هو حدوث إرضاء ممتع هزلي، ثم أخيراً التهييج بما هو إثارة وتحريك وهز دواخل المتلقي.

وعندما نتحدث عن مقانعي الخطاب فإننا في العادة ما نشير إلى حقل الخطابة والحجاج، إضافة إلى حقل البرهان لأنه وسيلة إقناع محضة وليس إنفعالية-إحساسية، وهكذا تصبح الخطابة متداخلة مع البرهان-العقل والمحاجة وكل ما هو خطبي.

فالخطابة هب فن الفهم والإدراك والعقل والإبداع بإمتياز لأنها تعبر عن الكشف والإكتشاف بما هو إنكشاف، كما أن من أبرز وظائفها نجد: الوظيفة المقانعاتية، ثم الوظيفة التأويلية-الفهمية، ثم الوظيفة الكشفية-الجدلية، ثم أخيراً الوظيفة التربوية-البيداغوجية، كما أن الخطابة تشكل "كلاً واحداً" لأنها تهتم بالثقافة العامة.

وتكمن قوة الحجاج في الحقيقة، من كونه يتيح لنا تأويلية الخطاب الذي يعبر عن فن تأويل النصوص، لتصبح الخطابة فن إنتاج وإبداع وخلق وإبتكار وتجديد وبحث الخطابات.

أما عن الخطيب الجيد فهو كل خطيب يتقن الكلام-الحديث جيداً، ويفهم جيداً المحاور، كما يملك حسا علميا رصينا، لينتج خطابا جيداً في متناول المتلقي ويستطيع إقناعه.

ويمكننا القول أن أوليفيي روبول قارئ جيد جداً لتاريخ الخطابة، حيث يعتبر أن "أفضل مدخل للخطابة هو تاريخها."، ولهذا يصرح أن كل أشكال الخطابة والحجاج والخطاب متأصلة في التاريخ لدى كل الحضارات القديمة بدءاً من الحضارات المصرية-الفرعونية القديمة، والهندية-القديمة، والصينية، والعبرانية، والفارسية، والحِكَمُ الشرقية القديمة، وحضارة بلاد الرافدين، ...إلى آخره من الحضارات القديمة، لكن "الخطابة إبداع إغريقي" حيث "أبدع اليونانيون التقنية الخطابية"، كما أبدعوا طريقة في التعليم تتمثل في "تعليم متميز مستقل عن المضامين"، كما هدفوا من الخطابة الدفاع عن أي قضية ودعوى وثنية، لهذا أصبحت الخطابة عندهم تفكير يروم الفهم.

وقد لاحظ روبول أن "الخطابة لم تتطور تقريباً البتة خلال ألفيتين ونصف تقريباً من جورجياس إلى نابليون الثالث." (ص: 22)، لهذا شكلت نشأة الخطابة حدثا تاريخيا عظيما لدى اليونان، حيث أن سنة 480 ق.م معركة سلاسين حيث انتصار اليونان على التوسع الفارسي، كما شهدت سنة 399 ق.م وفاة سقراط، ولهذا ظهرت الخطابة في أثينا وخاصة في جزيرة صقلية سنة 465 ق.م، أي بعد طرد الطغاة، ولهذا كان الغرض من الخطابة لدى اليونان غرضا قضائيا قانونيا أدبيا.

بدأ كل شيء إذن؛ أو بدأت قصة الخطابة عندما نشر كوراكاس وهو بالمناسبة تلميذ الفيلسوف أمبادوقليس وتلميذه الخاص تيزياس "فنونا خطابية" أو "تعاليم عملية" عبارة عن أمثلة مخصصة للمتقاضين، وهكذا كانت "الخطابة -حسب كوراكاس- صناعة مُقَانِعَةٌ"، لكن رغم كل ذلك نشير إلى أن المحاججة الخطابية ليست صادقة-يقينية بل محتملة-أيقوس eikos/مرجحة، لهذا في تلك اللحظة كانت الخطابة في خدمة القضاء.

كما نال كلام وخطاب كل من أنتيفون وجورجياس  إعجاب الأثينيين حتى أنهم استحلفوه أن يعاود زيارتهم خاصة في "مدح هيلين"، كما اشتهر جورجياس بالخطاب المشاهيري ومدحه العمومي ونثره الفصيح.

أما عن التعليم السوفسطائي يخبرنا روبول قائلاً:

"ومن جهة أخرى، فجورجياس يستحق إسم السوفسطائي بالمعنى الأكثر تقنية. كان مثل الآخرين -بروتاغوراس، وبروديكوس، وهيبياس، وكريتياس، إلخ- أستاذاً، يلقي دروسه عن البلاغة والفلسفة من مدينة لأخرى، فيتقاضى عن كل درس الأجر المهول عشرة ألاف درخمةً. بمعنى أنه يحصل عن يوم من العمل على الأجر اليومي لعشرة آلاف عامل! وسيكون الأمر نفسه عند بروتاغوراس. في الواقع، كان هذا التعليم يستجيب لحاجة، لأنه إلى هذا الوقت لم يكن يتلقى اليونانيون إلا تكوينا أوليا تماما، دون وجود ما يشبه تعليما عاليا أو ثانوياً. إننا ندين بهذا التجديد للخطباء: تعليم فكري معمق، دونما غاية دينية أو مهنية، ودونما هدف آخر إلا الثقافة العامة." (ص: 34).

كما يعترف روبول بأن السوفسطائيين كانوا هم السابقين الأوائل لمأسسة الخطابة، وبهذا يصبح السوفسطائيين مبدعي الخطابة بإمتياز كفن للخطاب المقانعي أو شكلت الخطابة عندهم "رؤية للعالم والوجود"، كما يقر بأن "السوفسطائيين هم التربويين الأوائل" (ص: 38) أو نقول بدقة أنهم هم البيداغوجيين الأوائل الذي مارسوا فن التدريس/أو البيداغوجيا التطبيقية.

كما نلمح لدى بروتاغوراس الذي يقر بأن "الإنسان مقياس كل شيء" نوعاً من "الإقرار والإعتراف بالنسبية المطلقة" وإنطلاقة لتيار المنفعية، لأن بروتاغوراس يقر بتعارض الخطابة و الحقيقة في ذاتها، كما عد روبول بروتاغوراس بكونه "معلم الإنسانوية والتسامح".

فالعلم الوحيد الممكن هو علم الخطاب والحجاج والكلام والحديث أي علم الخطابة والبلاغة، ومن خاصيات هذا العلم ومبادئه وقواعد عمله، أنه "علم ليس صادقا-يقينيا ولا محتملا." كما يتأسس على ثنائية الإقناع والغلبة، ويميل إلى إقحام المخاطب في الخطاب، وفتح النقاش-الحديث معه، كما أن غايته الأساسية ليس إيجاد الصدق وبلوغ الحقيقة-اليقين، بل فقط تحقيق السيطرة والهيمنة بالكلام، ولهذا كانت الخطابة لدى السوفسطائيين مَلَكَةً ومَلِكَةً يمتلكونها ويطيعونها.

كما أن السوفسطائيين في الحقيقة كانت لهم قُدْرَةٌ قَادِرَةٌ على إدارة منازلهم ومدينتهم متقن الإدارة، وإرادة قوية في التعليم والتربية، بل أكثر من ذلك كانت الخطابة والحجاج لدى اليونان عموماً بمثابة "نمط وأسلوب وتفكير حياة"، واستطاعوا من خلال الخطابة أن يكونوا أمة واحدة بالكلام والحديث واللغة والثقافة العامة.

وقد لاحظ روبول أن خطابة إيزوقراط هي خطابة أخلاقية وقيمية تقوم على المبادلة، ذلك أن شروط الخطيب الجيد عند إيزوقراط هو أن يكون على إستعداد وتعداد طبيعي، وأن يمارس مهنته الخطابية بشكل متصل ومستمر ودائم، كما يجب أن يكون تعليمه شموليا كليا نسقيا.

وما هو معروف على إيزوقراط هو أنه جعل من الفلسفة فنا خطابيا، فكان مغاليا في خطابته، كما وضع مبدأه القائل بأن على المرء "أن يكون خطابياً"، ولهذا ركز على التكوين الفكري العميق والأخلاقي للخطيب، ويمكن اعتباره كذلك من رواد المدافعين عن "الثقافة العامة والخطاب والخطابة لليافعين الشباب".

كما اعتبر روبول إيزوقراط من رواد تيار "الإنسانوية" لأنه كان يرى أن : "الكلام هو المِزْيَةُ الوحيدة التي مَيَّزَتْنَا بها الطبيعة عن الحيوانات، فجعلتنا بالتالي نتفوق ونسمو على الباقي." كما يضيف في "مدح هيلينا" بأن "الجمال هو الأكثر تبجيلاً والأثمن والأكثر الخيرات الرَّبَانِيَّةِ".

أما عن التعريف الذي وضعه جورجياس للخطابة فهو كونها "قدرة مقانعة للخطاب"، وهذا هو التعريف الذي يرفضه أفلاطون-سقراط ويعمل على تقديم نقد أساسي عميق للخطابة جعلته يقف ضديدها لا لجانبها، لكونها تدعي أنها "صناعة مقانعة".

كما لاحظ أفلاطون أن الخطيب غير مختص ويملك فقط رؤية شاملة على فن الكلام.

لهذا "فمن يتحكم في الكلام يتحكم في جميع التقنيات" (ص: 43) كما أن "الكلام خاص بالإنسان وأصل جميع قواه"، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي فطرته الطبيعة على الكلام، أو نقول بكل بساطة "الإنسان كائن كَلاَّمٌ" لدرجة أصبح "الكلام إله" يتحدث في الإنسان.

وقبل الإنتقال إلى التبكيت السقراطي-أفلاطوني للخطابة، نقف عند ملاحظة روبول على بروتاغوراس الذي يدعوا إلى نموذج/منهج أصيل في التربية والبيداغوجيا حيث يقول بروتاغوراس يجب علينا : "تربية الشباب لا لأجل أن يجعل منهم تقنيي أمر ما، بل لأجل تربيتهم all'epi peideia، أي لأجل ثقافتهم العامة"[1] أما عن تبكيت وتقويض ونقد ودحض وهدم سقراط وأفلاطون للخطابة، فنلحظ سقراط يتهجم على جورجياس في "محاورة جورجياس" قائلاً: "الخطابة مهارة عمياء ومملة تركز على مخيلات الناس ولذَّاتِهِم." ويضيف أيضاً: "إن الخطباء والطغاة هم أقل الناس قوة."[2]

وهكذا تحولت الخطابة مع سقراط إلى كونها مجرد فن وتقنية، كما أن الخطيب لا علم له بالعدالة، وبالتالي يفتقد إلى العدالة التي هي أسمق فضيلة، ليؤسس فيما بعد أفلاطون-سقراط علم الخطابة على علم الجدل أو الديالكتيك الذي يقود بالضرورة إلى تكوين معرفة يقينية بالأمور الأخلاقية والقيمية والسياسية يقين علوم الطبيعة لدى المشتغل به.

وكان رد الاعتبار هذا للخطابة قد تم في محاورة بعنوان "فايدروس"، هكذا نفهم أن أفلاطون نقد وهدم الخطابة في محاورة "جورجياس" وأعاد الاعتبار للخطابة الجدلية في محاورة "فايدروس".

لهذا كانت الخطابة الجدلية هي الخطابة الحقة والصالحة للفلسفة الحقة.

كما يضيف أفلاطون أن "الجدل يجعل المرء قادراً على الكلام والتفكير"[3] ويشير روبول أن باربارا كاسان قسم تصور أفلاطون للخطابة إلى قسمين: أولاً: خطابة السوفسطائيين وإيزوقراط وهي ليست فنا بل تملق كاذب وفقط. وخطابة جدلية تعبر عن روح الفلسفة.

لهذا نلحظ أن أرسطو جعل من الخطابة كالجدل أي لها جنس كلي نافعة ومفيدة.

كما أن روبول اعتبر كل من أرسطو وجورجياس وإيزوقراط لهما نفس التصور للخطابة بكونها لها قيمة إيجابية ومنفعة.

فالخطابة متصلة بالعدالة الصادقة والصدق الحق، وحينما ندافع عن الأمر كمن ندافع عن نقيضه، لأن الحجج صالحة لجميع أجناس الخطاب العمومي، فالكلام سلاح من لا سلاح له، ذلك أنه من خلال الكلام نتعرف على العادل والجائر والنافع والضار والخير والشر والنبيل والحقير.

فكانت الخطابة الأرسطية ليست غرضها السيطرة والهيمنة بل هدفها الدفاع عن النفس، مما أعطى لها طابعا شرعيا وموضوعيا، وقيمة إيجابية ونسبية في نفس الوقت، وما يجب علينا سوى معرفة إيجادة إستعمال قوة الخطاب، حيث أن الخطابة هي "فن إيجاد وسائل المقانعة منفتحة على كل الاحتمالات الممكنة." ذلك أن "الخطابة شيء، لكنه شيء ذو قيمة أكيدة"، فكون الخطابة جد مستساغة وجد ناجعة وأكثر إجرائية لكونها تثبت الدعوى.

كما حاول أرسطو ربط الخطابة بالوضع البشري مثلما فعل إيزوقراط.

لهذا لاحظ روبول أنه "على الخطابة أن تستعين بالأفاهيم المشتركة، أي التي في متناول الأغلبية."

كما أننا نغلب الإنسان بالكلام، ولا نغلبه بالقوة البدنية الجسمانية الجسدية، فنغلب أي إنسان بواسطة قوة اللوغوس أو الخطاب العقلاني.

في كتابه "الأخلاق إلى نيقوماخوس" (الجزء الأول، الفقرة ب: 1094) يؤكد أرسطو أن "مجال الخطابة هو مجال المُحْتَمَلُ الرَّاجِحُ"، وهذا مأثور قوي على أن مجال الخطابة ميدان اللايقينيات والتناقضات، فالجدل هو مشادة كلامية محضة، إنه مواجهة خصمان أمام الجمهور، إن الجدل شبيه بالمناظرة، ندافع من خلالها عن دعوى معينة، فالغلبة تكون لمن يحاصر الخصم ويضيق عليه ويكشف تناقضاته من أجل إسكاته أمام دهشة الجمهور الحاضر.

وما يميز الجدل كذلك هو كونه فن المطارحة والتنابز، لهذا قال سقراط أن "الجدل في خدمة الصادق"، ليرد عليه أرسطو بكون "الجدل يقوم على الممكن"، وغالا أرسطو حينما اعتبر "الجدل فن الحوار المنظم"، كما أن الإستدلال الصارم هو إستدلال يعتمد على الممكن، ويحترم دقة القواعد المنطقية، فيتعارض الممكن endoxa مع المفارق paradoxa، ما يدل على أن العادي هو الممكن، فما هو معروف عن القياس الجدلي أنه قياس ينطلق من مقدمات ممكنة أوندوكسا endoxa عكس القياس البرهاني الذي يروم مقدمات بديهية وضرورية تثبت نتيجتها بدقة، لهذا يشكل "سؤال ماذا يبدو لك؟ سؤالا جدليا بإمتياز"، لأن الجدل في عمقه هو عبارة عن "لعبة"، حيث تصبح "الغلبة هي الإقناع"، ومعنى الجدل لعب، أي يلزم القيام بكل شيء، لأجل الفوز على الخصم، لكن دون غش وفي حترام تام لقواعد المنطق.

على الخطيب أن يتظاهر بالحيادية والموضوعية ويترك مسافة، كما يجب أن يكون مظهره سليما.

ومن مميزات الخطيب الجيد هو الخطيب الذي يستطيع إخفاء القصد عبر إدخال "شظايا عقيمة" غير نافعة في الحجاج لأجل إخفاء قصدنا.

يعترف روبول أن على الخطيب الجيد أن يتقن "حيل تضليل الخصم" من خلال إخفاء النتيجة والتلاعب بالكلمات.

إضافة إلى أن الخطيب الجيد هو الخطيب الذي يتقن "فن المشادة الكلامية" من خلال اعتبار الخصم الواقعي أثناء الخطاب، والعمل على ترتيب الحجج جيداً، كما تقديم الأمثلة والتمثيلات، ومراعاة الاستدلالات الإستنباطية، وتجنب كل ما هو إستقرائي.

ومن هنا نستنتج أن الجدل هو قدرة الخطيب على تقديم رؤية-نظرة واحدة وأحادية، ويجنبه من الوقوع في التعدد-التناقض، لأن الجدل كما قلنا سابقاً لعبة يقوم رهانها على إثبات أو نفي-تبكيت دعوى ما، مع مراعاة مبادئ الاستدلال.

فقواعد الجدل هي بمثابة مبادئ واضحة مركزة على الحدود للبحث عن الحقيقة في الحجاج.

أما عن استخدامات الجدل فنجد:

الاستخدام التربوي: وهو عبارة عن تمرين فكري معمق يساعدنا على المحاجة في كل موضوع.

الاستخدام الفلسفي: وهو بكل بساطة يعرض لنا الدور الابستيمولوجي للجدل من خلال القيام بالقضايا والاعتراضات.

الاستخدام الإجتماعي: على الخطيب ألا ينشغل إلا بمشاكل الواقع، كما أن الخطابة هي أداة-وسيلة-تقنية فعل إجتماعي مجالها المشورة والمشاورة.

هكذا نفهم أن الخطابة عند أرسطو هي بمثابة جدل أونتيستروفوس antistrophos، لأن الجدل منهج فلسفي بإمتياز، فتسخدمه الخطابة كوسيلة من وسائل المقانعة، وبالتالي كدليل أو تدليل، تصير الخطابة معه تطبيق فعلي للجدل، لأن هذا الأخير أداة-وسيلة فكرية مقانعية قابلة للتحقيق الجزئي.

فالخطابة والجدل قادران على إثبات دعوى ونقيضها، ويسمح من خلالهما بمناقشة كل ما يقبل المطارحة، مما يضفي عليهما طابع الأداتية-التقنية-الوسائلية، كما يميزان الصادق من الظاهر، فتصير الخطبة مقانعة حقيقية للخديعة، ويمكن موقعة كلا من الخطابة والجدل بين البرهان apodeixis.

إن الإستدلال -حسب روبول- في الخطابة والحجاج كما في الجدل يستند على المحتمل-الأيقوس.

لهذا اعتبر كل من أفلاطون وسقراط أن الخطابة مع الجدل تتعارض تماما مع السفسطة.

لهذا خلص أرسطو -حسب روبول- أن الخطابة والحجاج مجالهما المحتمل لأنهما يتشاوران في وقائع غير مؤكدة، لكنها قابلة للتحقق نسبيا.

لهذا يعتبرها روبول أنها "مبحث جاد لأنها مرتبطة بالفعل الإجتماعي."، كما أن الجدل يرفض كل شرعوية وتعسفية، كما أن الصراع على الحقيقة "مجرد مضيعة للوقت" لكونها ليست معطاة "وحيث لن نبلغها ربما إلا بما هي احتمال"، لهذا أعلن أرسطو تداخل كل من الخطابة والجدل، لأن هذا الأخير لعبة فكرية تتضمن الخطابة.

حتى عندما نتحدث عن رهان-آفاق الخطاب والخطابة هو التفكير في المصير القضائي أو السياسي أو الأخلاقي والقيمي للناس.

وبصريح العبارة فالخطابة عند أرسطو "فن يقع تحت الفلسفة والعلوم الحقة الدقيقة".

ونركز هنا على ما ركز عليه روبول حينما اعتبر الجدل (لعب تمرن) مجاله الممكن-أوندوكسون-أيقوس خاصة في المجالات القضائية والسياسية والمشاهيرية، وغاية الخطابة الأولى إقناع الجمهور.

كما يحذر كل من أفلاطون وسقراط كون "السفسطة سيطرة بالخديعة مجالها الوهم.".

أما فيما يتعلق بأجزاء الخطابة الأربعة: الإبداع والترتيب والإلقاء lexis وأخيراً الخطاب، كما أن للخطابة ثلاثة أجناس شهيرة:

1- الجنس المشاجري أو القضائي le judiciaire (خطاب حول الماضي)  يتمثل في المحكمة والقضاء هدفه الإدانة والمرافعة، يحدد العادل والجائر.

2- الجنس المشاوري أو السياسي le délibératif (خطاب حول المستقبل) يتمثل في مجلس الشيوخ وهدفه مناقشة مسائل المدينة ويحدد النافع والضار.

3- الجنس المشاهيري L'Epidictique (خطاب حول الحاضر) يتمثل في الحضور الجماعي في ساحة المدينة بهدف مدح الأبطال وقتلى الحروب وإحياء المراسيم الشعبية، ويحدد النبيل والخسيس، كما أن هذا الجنس المشاهيري يوجه خيارات مستقبل الحاضرة، لهذا يعتبره روبول دو بعد تربوي بالأساس.

يخلص روبول قارئا لأرسطو أن هناك ثلاثة أصناف من الحجاج:

الإيتوس: هو الهيئة التي وجب أن يتصف بها الخطيب لأجل أن يوحي بالثقة لسامعيه أو يعبر عن الطبع الأخلاقي والقيمي من خلال الصدق والرشد والودادة والهدوء والإتزان والخضوع المستمر للمراقبة الأخلاقية.

الباتوس: مجموع الإنفعالات والأهواء والأحاسيس والدواخل والمشاعر والنزوات والميولات والممارسات والدوافع التي يجب أن يستثيرها الخطيب في سامعيه بفضل الخطاب، كما يمثل الطبع النفسي الفجائي لدى مختلف الجماهير.

واعتبر روبول كلا من الإيتوس والباتوس مجالان إنفعاليان.

اللوغوس: هو الخطاب العقلاني أو مجموع الأدلة الداخلية التي يخلقها الخطيب وهي تتوقف على منهجه وموهبته الشخصية، كما يمكن الاستعانة بالأدلة الخارجية التي نحصل عليها من الخارج.

من بين المقومات الأساسية للخطابة نجد الإبداع بما هو خلق للحجج ووسائل التدليل، يليه الترتيب والنظام اللذان يشكلان خطة بناء الخطاب، كما لا ننسى الإستهلال الذي  من خلاله نبدأ الخطاب، زد على ذلك السرد الذي يعرفه روبول بكونه "عرض الوقائع الخاصة بالقضية"، أما عن الخاصية الجوهرية لهذا العرض فيجب أن يكون "موضوعيا وظاهريا"، ذلك أن صفات السرد الثلاث هي كالآتي:

■ الوضوح: من خلال مراعاة الخطيب للتسلسل الزمني والمفاهيم المستعملة وتنظيم الحَكْيِ.

■ الإيجاز أو الموجز: من خلال إنتقاء وإقصاء الزوائد الكلامية الغير النافعة في الخطاب.

■ المصداقية: أو قول الصدق والصراحة من خلال ذكر الحدث مع أسبابه واحترام الموضوعية مع الختم أثناء إنهاء الخطاب.

ويرفض روبول فكرة تعداد الحجج ذاتها أثناء الخطاب، حيث يقول: "وفي نظرنا، يجب معارضة فكرة تعدد الحجج نفسها فليس يملك خطاب إلا حجة واحدة تصلح لإنتزاع القرار." (ص: 87) ويلح روبول بالمناسبة على قيمة الترتيب لكونه يلعب وظيفة إقتصادية وكشفية في أي خطاب.

ولهذا على الخطيب الجيد أن يحسن إختيار الكلمات والجمل والعبارات بكل عناية ودقة، لأن ذلك يضفي جمالية خطابية نثرية وظيفية كما أن أفضل أسلوب في الخطاب هو المنسجم مع موضوع الخطاب.

نضيف أن على الخطيب الجيد مراعاة المتلقي-السامع أو مقام السامع (خاصة المثقف وتمييزه عن الأقل ثقافة وتمييزهما معاً عن الضليع في التخصص)، ومن الأفضل له إنتقاء واختيار كلماته بشكل جيد، ويتحلى بالواقعية في كلامه، وليتجنب كل طوباوية، ومراعاة إيقاع وسياق الكلام، ويتحلى ما أمكن بالإيجاز، ويبرز شخصيته في كل خطاب.

ويضيف شيشرون مقوما آخر في كتابه "عن الخطيب" ألا وهو "التضخيم الذي يسمح بتوسيع الجدال والارتقاء من القضية إلى المسألة"، هذا الإنتقال يتيح للخطاب بجانب كلا من السرد والإثبات "قوة في الحجة" بل قوة في الخطاب أيضا، كما يتيح التنظيم الهوميري للحجاج ثلاث ممكنات: أولاً: عرض الحجة، ثانياً: دحض الحجة المضادة، ثالثاً: إستعادة الحجة من جديد.

وتجذر الإشارة أن الخطابة تنماز دائما عن الأدب والنثر ويظل مشكلها الوحيد هو اللغة الصحيحة السليمة (النَّقِيَة والخالِصَةُ)، ولهذا صرح كينتيليان قائلاً: "إن صفة الكلام الأولى هي الوضوح."، ولحل إشكالية اللغة والبلاغة على الخطيب أن يكون واضحاً.

لكن شيشرون لطالما أكد أن "الإلقاء يجعل الخطيب يبدو ما يريد أن يبدو عليه." ويتفق شيشرون مع ديموستين الذي رأى أن "ميزة الخطيب الأولى هي الإلقاء الهيبوكريزيس"، كما إعتبر شيشرون أن "الذاكرة إستعداد/هبة طبيعية" لدى الخطيب وقيمة الذاكرة تكمن في تنمية فن حفظ الخطاب، وخالفه كينتيليان حينما أكد أن "الذاكرة تقنية تتعلم في مواضع متفرقة."

وعن قراءة روبول لكينتيليان ومؤسسته الخطابية، لاحظ [روبول] أن كينتيليان يعرف الخطابة بفن إجادة الكلام لكونها فضيلة، كما أنها فن وظيفي يمكن مقابلتها بالثقافة، كما أن مؤلف "المؤسسة الخطابية" هو عبارة عن مصنف تربوي مكتمل الأهداف يسعى تكوين الخطيب الجيد، من خلال إستدراج المتعلم-التلميذ دائماً إلى أن يتساءل، لهذا أعاد وفتح مجال التربية والتعليم الخطابي، كما صالح بين الخطابة والأخلاق وجعل من الثقافة قيمة أسمى وفضيلة إنسانية بإمتياز، من خلال الخطابة والثقافة يمكننا تكوين الإنسان الصالح الشريف والمثقف، هكذا وضع كينتيليان بالنسبة لروبول أسس التربية الإنسانوية عكس أرسطو الذي فصل بين الخطابة والأخلاق، عندما خص كتابي "الأخلاق إلى أوديم" و "الأخلاق إلى نيقوماخوس" خاصين بالأخلاق والقيم والتربية.

ونفس الأمر نلحظه عند شيشرون عندما عبر في كتابه "عن الخطيب" قائلاً: "على الخطيب أن يكون مثقفا وَمُكَوَّناً في جميع المجالات الأساسية: القانون والفلسفة والتاريخ والعلوم."، وهذا دليل قوي على دعوة شيشرون إلى تحلي الخطيب بإمبريالية-توسعية المعارف وكذا تربيته على الثقافة العامة.

هذا الحوار الشيق بين كل هؤلاء الخطباء، أقصد من اللحظة السوفسطائية (جورجياس، بروتاغوراس، هيبياس،...) مرورا بكل من سقراط-أفلاطون إلى أرسطو وبعده كل من شيشرون وكينتيليان هو ما سيجمله تاسيت في كتاب بعنوان "حوار الخطباء"، واعتبر أن سبب أفول الخطابة مع هؤلاء هو كسل الشباب، لأن الخطابة وليدة الديمقراطية اليونانية وبفضل هؤلاء الخطباء تمت مأسستها.

ويسخر روبول من أفول الخطابة بعد هؤلاء الأباء المؤسسين قائلاً: "إن الخطابة العظمى [ويقصد الخطابة القديمة] قد مَاتَتْ مع الحرية [أي الديمقراطية] وما تركت مكانها إلا الخطابة مصطفة وتزيينية وفارغة." (ص: 103)

وكان روبول يريد للخطابة أن تتحول من التنظير إلى الممارسات ويعرض مثال المدائح التي كانت تمثل خطابات مشاهيرية والاستشاريات التي هي خطابة سياسية عملية بإمتياز، كما أن المطارحات هي في حقيقتها مدافعات مؤيدة أو معارضة.

لينتقل روبول فيما بعد للحظة الثانية للخطابة في العصور الوسطى والتي ستشهد بروز مشكلة الصلة بين الخطابة والدين الجديد "المسيحية"، علما أن الخطابة ساهمت في تطور الدور التبشيري للكنيسة، وبهذا إحتاجت الكنيسة إلى الخطابة، بل اعتبر روبول أن "الكتاب المقدس خطابي كلياً".

ومن غرائب الصدف أن أجد روبول، يقف وقفة مطولة يعرف فيها مسجد "القدس" المتواجد بفلسطين ويوضح معانيه، واعتبر أن له معنى باطني يشير إلى "البعث ومملكة الرب أو مدينة الرب يوم الحساب"، ومعنى حقيقي وتاريخي تحيل على أن "عيش داود وسليمان فيها"، أما عن معناها الأمثولي ف"ترتبط القدس بالمسيح وتعني الكنيسة"، ومعناها المجازي أو الأخلاقي تعني "القدس روح المسيح".

ويستنتج روبول في النهاية قائلاً: "ليست المسيحية سبب أفول الخطابة"، لكن جيروم كاركو بينو في كتابه "الحياة اليومية في روما" رفض التعليم الخطابي وعبر عنه بكونه مجرد "خطابة وهمية" و "براعة كلامية" و "صورية مزمنة"، وتأييدا له رفض القديس بولس رفضاً مطلقا "حكمة الكلام Sophia Logou"، ولن يتوقف الأمر هنا، بل حتى الفيلسوف الفرنسي ديكارت الملقب ب "أبو الفلسفة الحديثة" سيهدم الجدل في الخطابة "لأنها ليست فنا يمكن تعلمه عبر الدراسة."

لكن ما يمكن التواضع عليه هو أن الجدل في الغالب يقدم آراء محتملة وقابلة للنقاش، ذلك أن الحقيقة بديهية لأنها "تأمل الذات لذاتها"، وتعبر عن "ما يتفق عليه"، عكس المحتمل الذي من مميزاته الكذب.

وهذا ما جعل الفيلسوف الإنجليزي جون لوك يصرح بكون الحقيقة مصدرها التجربة المحسوسة، واعتبر الخطابة حيلة من حيل الكلام الذي يبعدنا عن الحقيقة، "فإن كل الفن الخطابي [...] -يقول جون لوك- ليس يصلح لشيء إلا لإدخال أفكار خاطئة في الذهن وإثارة الأهواء والإغواء بالحكم على نحو أنها [أي الخطابة] في الحقيقة خُدَعٌ تَامَّةٌ."[4]

ومختصر تصور جون لوك حول الخطابة هو أنها فَنُّ لِلْكَذِبِ، لأن الحقيقة تتجلى في التجربة الحسية، وهكذا تصبح الخطابة مجرد ستار بين الذهن والصادق.

ونضيف إليه نقد ديكارت الذي رأى أن الحقيقة هي بداهة الأفكار الواضحة المتميزة.

ولا ننسى أن الفلسفة الوضعية المعاصرة ترفض الخطابة بإسم الحقيقة العلمية، وأن الغرض ليس إنتاج خطابات بل تأويلها.

ومن هنا خلص روبول أن الخطابة الحديثة خطابة متشظية مقسمة إلى دراسات متمايزة، لهذا فالخطاب المختصر أو الموجز هو الذي يتضمن الحجاج البارع.

ولهذا عمل كل من جون كوهن مع جماعة مو وجيرار جنيت ورولان بارت على إعتبار "الخطابة معرفة طرق اللغة المميزة للآداب"[5] كما أعلن رولان بارت في كتابه "خطابة الصورة"، قائلاً: "إننا نعيش في عصر الصورة" وغاية الخطابة هو "تأويل الصورة وكشف الوجه الدال للأدلوجة".

وسيلحظ روبول التحول-التوتر-المنعطف الجديد للخطابة الجديدة خاصة مع بيرلمان وتيتيكا حيث "إن إشكالية كتاب "المصنف في الحجاج: الخطابة الجديد" لصاحبه شايم بيرلمان وأولبرخت تيتيكا تتجلى في كيف نؤسس أحكام القيمة؟ وما الذي يجعلنا نقول: هذا عادل وهذا غير عادل؟" (ص: 119)، ولهذا كانت الخطابة الجديدة خطابة دون غاية، وترتكز على منطقي الاكتشاف والمحتمل، وتحاول مقاربة مختلف أصناف الحجاج ومخططاته، وتعمل جاهدا على تجنب الإمتاع والتهييج.

ينطلق روبول من مسلمة أن "الحجة هي قضية موجهة إلى أن نقبل بها قضية أخرى" (ص: 120)، لهذا فإن من سمات الحجاج أنه يتوجه إلى سامع-متلقي، كما يتم التعبير عنه بلغة طبيعية-عادية-تداولية-يومية، وهنا وجب تمييزه عن البرهان الذي تكون لغته صناعية-رمزية-رياضية، وينطلق الحجاج في الغالب من مقدمات محتملة ومرجحة، ويقوم على مبدأ التدرج في الخطاب، كما أن نتائجه تقبل النقاش دائماً.

وحينما يتم التركيز في الحجاج على السامع-المتلقي فذلك بغرض التعرف على مجمل أفكاره وطروحاته وعواطفه وإنفعالاته وإحساساته ومشاعره ودواخله ومعتقداته أيضاً، كما نلح على أن تبقى وجهة نظر الخطيب نسبية ومؤقتة ومتغيرة ومحدودة كي لا تكون متحيزة ودوغمائية-وثوقية.

حاول روبول بيان قيمة وحدود تعريف أندري لالاند في "معجمه النقدي والتقني للمصطلحات الفلسفية"، حيث يعرف "الحجاج بكونه متوالية من الحجج تنحو جميعها إلى النتيجة ذاتها."، وما يعيبه روبول على هذا التعريف هو أنه لم يحدد كون النتائج المتحصل عليها في أي خطابة أو محاجة أنها "قابلة للنقاش" بمعنى قابلة للتجاوز.

"ومهما يكن، ليست النتيجة [في الحجاج] ملزمة؛ فهي دائما قابلة للنقاش؛ [...] يجب التنازل عن كل شيء أو لا شيء لأجل الأكثر أو الأقل احتمالية." (ص: 126).

وتجذر الإشارة هنا أن روبول كان قد سَاءَلَ نفسه والقارئ عن "ما هو المحتمل؟ [وأردف مجيباً] هو كل ما تفترض فيه الثقة." (ص: 123)، وسيعمل على تمديد المحتمل حينما إعتبر أن "في المسائل القضائية والاقتصادية والسياسية والتربوية والأخلاقية والفلسفية لسنا نتعامل مع الصادق أو الكاذب بل مع الأكثر أو الأقل إحتمالاً." (ص: 123)

أما عن أهمية الحجاج والخطابة، فيرى أن "قيمة حجاج ما [تكمن] في القضية التي يخدمها." (ص: 127)، فكل إستعمال حجاجي هو إستعمال لقصد ما، لأنه لا وجود للصدفة ولا يمكن أن توجد في حقل الحجاج والخطابة، كما "لا يمكن دحض خطابة إلا [من خلال] خطتها الخاصة، إلا بخطابة أخرى." (ص: 131)، لهذا ننبه أن الخطيب لا يمكن مواجهته إلا بخطيب آخر، أو مواجهته بالفيلسوف، ومن هنا نفهم لماذا كانت علاقة الفيلسوف [بدءاً من سقراط] علاقة صراع مع الخطيب، لأن الفيلسوف يعرف حقيقة الخطيب، كما يعرف الخطيب حقيقة خطيب آخر !!!

وهناك إشارة حثيثة إلى الفلاسفة في الغالب ما يصلون إلى مذاهب جد مختلفة ومتعارضة، وهذا ما يجعلهم متعارضون مع البرهان الذي يتطلب حقيقة واحدة ووحيدة، لهذا "توجد رياضيات وحيدة في الوقت الذي توجد فيه فلسفات [كثيرة]." (ص: 138)، لهذا نلحظ هذا الانقسام التقليدي في تاريخ الفلسفة، حيث نجد في القسم الأول: الفلسفة تعرف نفسها بكونها خطاب منطقي-برهاني صارم، أما القسم الثاني: تعرف الفلسفة فيه نفسها بكونها خطاب خطابي احتمالي.

ومن غرائب وعجائب الصدف أن نجد روبول يعتبر أن التعليم الحقيقي هو موت المتعلم وولادته من جديد، فنقرأ لديه : "إن كل تعليم حقيقي إنما هو بمعنى ما -معنى إستعاري وبالتالي خطابي- مَوْتٌ وَوِلاَدَةٌ جَدِيدَةٌ." (ص: 139). ورغم إعترافه باستعارية هذا القول، إلا أننا نجثم على القول المأثور، ونؤكد بكل صراحة أن التعليم الحقيقي هو التعليم الذي يُمِيتُ المُتَعَلِّمَ ويُحْيِيهِ من جَدِيدٍ، أي يخلصه ويحرره من الأحكام المسبقة والمعارف الجاهزة القائمة على بادئ الرأي-الدوكصا، ويحيي لديه المعرفة السليمة القائمة على الإبستيمي-المضبوطة معرفيا.

ويميز روبول فيما بعد تمييزا تقنياً الحجاج فهو "أولاً: موجود كوسيلة تدليل متميزة عن البرهان، [...]، ثانياً: إنه يتضمن جزءاً خطابياً وأن القدامى كانوا على حق في توحيد عناصره العقلية والانفعالية في كُلِّ واحِدٍ هو الخطابة." (ص: 140)، ولهذا نفهم أن الخطابة والحجاج كل واحد لدى روبول ولا يقيم تمييزا قطائعيا بينهما، لأن الحجاج نظرية إستدلال مختلفة عن البرهان الذي قلنا عنه أنه رياضي-منطقي، لهذا يظل كل حجاج موحدا مع الخطابة ومنسجما معها.

وفي الفصل السادس المعنون ب "التصويرة" يتسائل روبول "ما التصويرة؟ [ويجيب] هي طريقة أسلوبية شأنها أن تسمح للمرء بالتعبير التَّعْبِيرَ الحُرَّ والمتقن في الآن ذاته، تعبير حر، بمعنى أننا لسنا ملزمين باللجوء إليه من أجل التواصل." (ص: 141). هكذا تلعب التصويرة دوراً وظيفيا وفقط وليست بضرورية لأجل التواصل.

لكن الخطابة الإغريقية القديمة جعلت من التصويرة فعلا مثيراً للذة ولعبت دور الإمتاع والتهييج، لأن التمتع أثناء الخطاب هو تلذذ ومُحَسِّنٌ خطابي، وجعلوا من تكرار بعض الألفاظ والجمل والعبارات تصويرة، لهذا وثقوا الصلة بين الباتوس والتصويرة والخطابة والحجاج.

أما عن أنماط وأنواع التصويرات فهي كثيرة تعد ولا تحصى، لكن سنكتفي بذكر أبرزها:

1-التصويرات اللفظية: تلك التي تتضمن القافية، عندما قال أفلاطون: "الجسد هذا القبر Sôma Sêma"

2- التصويرات المعنوية: تلك التي تتضمن الإستعارة، عندما قال ماركس: "الدين آفيون الشعوب"، إعتبر رايمون آرون: "الماركسية آفيون المفكرين".

3- التصويرات البنيوية: تلك التي تتضمن إيجاز الحذف، عندما نقول: "كل إنسان مائت، سقراط مائت" تنقصها أو قمنا بإيجاز حذف "سقراط إنسان".

4- التصويرات الفكرية، تلك التي تتضمن الأمثولات والأساطير والمجازات، مثلا: أمثولة الكهف الشهيرة لأفلاطون.

5- التصويرات الإيقاعية: تلك التي تتضمن الإيقاع، وتركز على الإتزان والموازنة والإستقامة في ألفاظها.

6- التصويرات الصوتية: تلك التي تتضمن الوحدات الصوتية، وتركز على المقاطع الصوتية، فتقطع الألفاظ أو الكلمات والمصطلحات وتهدف تحقيق المجانسة الحرفية.

وهذه هي ست تصويرات المهمة بالنسبة لروبول، كما "أن لهذه التصويرات اللفظية قوتها المقانعية، إنها تسهل الإنتباه والتذكر." (ص: 146).

وهناك صلة بين التصويرات وعلم التأثيل اللغوي Étymologie لأنه علم التعريف والفصل والوصل يهتم بتاريخ الكلمات وتاريخ اللغات وتاريخ المعجم والمصطلحات والألفاظ، إنه مبحث المعنى الحقيقي للكلمة أو التصوير اللفظي للمصطلحات، فعلم التأثيل اللغوي عِلمٌ لِلدَّوَالِّ اللفظية والتصويرات المعنوية لأنه يركز على وضوح اللفظ، وتوثيق مستجدات الألفاظ وتعجيمها.

كما أن إيجاز الحذف يعني حذف للكلمات الضرورية لبناء الخطاب، لكنها ليست ضرورية لبناء المعنى.

هناك نمط آخر من التصويرات تلك المتعلقة بالتكرار، أي تكرار الكلمات بمعاني قد تكون مختلفة أو نفسها في بعض الأحيان، وهو ما يحيلنا إلى "التطويل، أي تكرار الفكرة نفسها بكلمات مختلفة." (ص: 157).

فالخطيب الجيد هو الذي يتجنب التطويل والإستطالة في الكلام-الخطاب.

و"تدل الكناية Métonymie على شيء [ننادي به] باسم شيء آخر مقترن به في العادة." (ص: 149)

أما "الإستعارة فهي تشبيه مختصر موجز." (ص: 150).

كما أن "المبالغة هي تصويرة المغالاة Exagération hyperbole" (ص: 151).

كان لابد لنا من التوقف عند هذا الثلاثي المفاهيمي: الكناية-الإستعارة-المبالغة لكونهما من مقومات كل خطاب.

فالمبالغة في نهاية المطاف مجرد تعظيم وتضخيم وعملقة وتهويل ومغالاة في الخطاب لإستمالة ذهن المتلقي.

كما أن التلطيف تصويرة إيتوسية تظهر الخطيب متواضعاً وحكيماً وحذراً.

وعودة إلى "الأمثولة Allégorie فهي وصف أو حكي يعبر عن وقائع مألوفة، ومحسوسة، لإيصال حقيقية مجردة الإيصال الإستعاري.

إنها [أي الأمثولة] بنية المثل، والحكاية الرمزية، والرواية ذات المفتاح والأرموزة Parabole." (ص: 160).

أما عن "التهكم فهو قلب المعنى Antiphrase أو المغايرة، هدفه السخرية، إنه حقا تصويرة فكرية، ما دام يملك معنيين." (ص: 162).

يذكرنا هذا بالتهكم والسخرية السقراطية والتي يعمل من خلالها على "قلب العبارة" والوصل الحميمي بين الأفكار واللغة، ف "ليس علمه ما يجعل سقراط معلماً، بل هو تهكمه." (ص: 163).

أما عن "الالتفات Apostrophe فهو يقوم على التوجه إلى آخر غير سامعه الواقعي لأجل إقناع هذا الأخير الإقناع أحسنه." (ص: 164)

والتفاتة الخطيب إلى السامع-المتلقي للخطاب تتيح له فرصة تحقيق الإقناع.

ولهذا لاحظ كل من بيرلمان وتيتيكا أن "الإلتفاتة تصويرة مشاركة توحد بين السامع والخطيب" (مصنف في الحجاج، ص: 240)

وينصح روبول الخطيب الجيد بأن يعمل وفق منهج "رد الحجة Apodoxie أي رفض للمَحَاجَّةِ المُحَاجُّ عَليْهِ إما باسم تفوق وأفضلية الخطيب لا درس لأتلقنه أو باسم دونية السامع. لست أنت من يعطي الدروس. إنه نوع من العنف الكلامي." (ص: 166).

أما عن الفصل السابع المعنون ب: "القراءة الخطابية للنصوص" وهو فصل مهم جداً -بالنسبة لي- لأن روبول يعرض من خلاله منهجه الخاص بتحليل الخطاب/تأويل النصوص من أجل تحليل مضمون ومحتوى الخطاب، كما أن التحليل-النقد-التأويل-التشريح المبتغى هنا يكون بنيويا-داخلياً لا تفكيكيا-خارجياً.

يقول روبول في بداءة الفصل: "والمنهج الذي نقترحه هنا ليس إلا الخطابة نفسها في وظيفتها التأويلية فهي تباشر النص بهذا السؤال:

ما الذي يجعل النص مُقَانَعِياً ؟ وبالتالي ما هي هذه العناصر الحجاجية والخطبية [للنص] ؟" (ص: 171) و"إلى من نتحدث أو بتعبير آخر، من هو السامع الواقعي للخطاب؟" (ص: 173).

وهذه الأسئلة وأخرى أمثال:

من هو المتلقي الذي نحاول إقناعه أو إستمالة ذهنه؟

متى نريد ذلك؟ ماذا نريد من الخطاب؟ لماذا نريد ذلك؟ كيف نريد أن يكون خطابنا؟ ... إلى آخره من الأسئلة القبلية التي يطرحها الخطيب على نفسه.

وأكد روبول أن "القاعدة الذهبية للخطابة هي وضع السامع بالحسبان، والحال يتمايز السامعون بكيفيات متعددة." (ص: 174).

لهذا على الخطيب الجيد أن ينظر في حجم المستمعين وعددهم، ويضع في اعتباره السمات السيكولوجية والسوسيولوجية للمتلقين محل إعتبار مثل : (السن، والجنس، والمهنة، والوضعية الإجتماعية، والمستوى الدراسي والثقافي عموماً، ...إلى آخره.)

والخطيب الجيد هو الذي يتوفر على المعارف اللازمة لمواجهة المتلقي، من خلال إحاطته بمستوى جيد في الحجاج ومتملكا لمعجم خاص في الخطابة.

ويؤكد روبول على مراعاة الخطيب للأبعاد الأيديولوجية السياسية أو الدينية في كل خطاب، فالصلة التي تربط الخطيب والسامع:

إتفاق قبلي، محاورة، محاجة، التفاهم بين المتحاورين، التركيز على الوقائع والقيم، الإتفاق المشترك.

لأنه "يصعب تأويل خطاب إذا هو جهل [المتلقي] الإتفاق القبلي الذي يقتضيه." (ص: 174).

هكذا نستنج قيمة الإتفاق القبلي المشترك بين الخطيب والمتلقي ومدى فعاليته في كل خطاب.

وما يميز القراءة الخطابية هو كونها قراءة تساؤلية، بل "إن السؤال الرئيسي للقراءة الخطابية إنما هو سؤال الجنس، الذي يحكم بصرامة مضمون الخطاب المقانعي" (ص:175)، ولهذا وجب على القارئ للخطاب أن يكون حذراً ويراعي دائما سؤال الجنس-النوع لأنه يتحكم في موضوعية ومشروعية كل خطاب يدعي أنه مقانعيا.

وسينتقل بنا روبول فيما بعد إلى مقوم أساسي من مقومات الخطاب الجيد، والذي يؤدي دائماً دوراً توضيحيا "فالمثال [...] استقراء جدلي، يذهب من واقعة إلى واقعة ماراًّ بقاعدة مضمرة." (ص: 185)، لكونه يتيح للخطيب فرصة التوضيح والشرح، نقول: "بالمثال يتضح المقال" هذه القاعدة مهمة جداً عند كل خطيب يريد أن يكون جيداً.

إن سؤال "مع أي صنف حجاجي نتعامل؟ -حسب أرسطو- يوجد صنفان، بنيتان حجاجيتان، واثنان فقط، المثال، الذي يذهب من الخاص إلى العام، ومن الواقعة إلى القاعدة، وبالتالي فهو استقراء؛ والضمير، الذي يذهب من العام إلى الخاص، والذي هو بالتالي استنباط." (ص: 185)، والخطيب الجيد هو الذي يتقن توظيف هذين البنيتان الحجاجيتان، أي الاستقراء والاستنباط، ويعرف كذلك الإجابة على سؤالي متى؟ وكيف؟ نستعمل-نشتغل وفق هذين المنهجين الشهيرين في تاريخ الفلسفة والخطابة والحجاج.

أما عن الغاية الموجودة في نفس روبول بكل صراحة هو أن تميل الخطابة والحجاج واللغة إلى اليومي، "فيسمى القياس الذي يستخدمه الحجاج اليومي ضميراً، وهذا المفهوم يستعمل لتمييزه عن القياس البرهاني. ليست مقدمات الضمير في الواقع قضايا بدهية، دون أن تكون مع ذلك اعتباطية، إنها قضايا ممكنة endoxa قضايا مسلم بها عموماً، وبالتالي محتملة." (ص: 186). وهذه دلائل قوية على نوع الخطابة والحجاج والخطاب الذي يريده روبول، يجب أن يكون يوميا واقعيا، بدهيا، ممكنة، ومحتملة.

يرفض روبول القياس الأرسطي المطلق الشهير:

مقدمة كبرى: كل إنسان فان.

مقدمة صغرى: سقراط إنسان.

نتيجة: سقراط فان.

ويقول: نكتفي بالقول:

"لأنه إنسان، سقراط فان." (ص: 187).

حتى الشعار الفرنسي الذي أعلنته الحكومة الفرنسية قبل هزيمة 1940م في سياق الحرب العالمية الثانية، وهو كالآتي وفق القياس الأرسطي الشهير:

مقدمة كبرى: كل دولة قوية تنتصر؛

مقدمة صغرى: فرنسا دولة قوية؛

نتيجة: فرنسا دولة ستنتصر.

نكتفي بالقول: "سنغلب لأننا نحن أقوياء".

وهكذا يعلق روبول ناقداً-رافضاً القياس الأرسطي الشهير:

"عندما تكون [لدينا] مقدمة بدهية عند الجميع، فإنه غير مفيد ذكرها" (ص: 187).

نفتتح فقرتنا هذه بقول مأثور ل Mardaga : "إن كل خطاب إنما هو جواب عن سؤال."[6]

نلاحظ في نهاية الفصل السابع، إهتمام روبول بمسألة التَّنَاص وتمييزها عن مفهوم آخر يصدر عنها بالذات لا بالعرض هو مفهوم التنصيص. "هذا الأخير هو الحضور الصريح لخطاب آخر [مغاير] في الخطاب. حضور يتمظهر بطريقتين. أولاً، بالاستشهاد. ثانياً، بالصيغة التي تستمد بالمقابل سلطتها [قيمتها] من الغُفْلِيَّةُ." (ص: 188)، والاستشهاد بنصوص أو آراء وتصورات لفلاسفة وأدباء وعلماء ...إلى آخره، والعمل على تحليلها، بمعنى عرضها ونقدها وتشريحها، من أجل البحث عن عناوين مناسبة للنصوص.

أما عن صنافة أرسطو الحجاجية، فهي كما سبق وأن أشرنا أنها تنقسم إلى قسمين:

1- حجج استقرائية: تنطلق من الخاص إلى العام، مثل: المثال.

2- حجج استنباطية: تنطلق من العام إلى الخاص، مثل: الضمير.

ومن هنا نستنتج إهتمام أرسطو بالمسألة الحجاجية وصورتها وإيلائها المرتبة الثانية في متنه، بعد المنطق.

ينطلق الفصل الثامن من إشكالية نظرية الحجاج المعاصرة، والمتمثلة في السؤالين التاليين المهمين: "كيف نحدد الحجج بشكل عام؟ وبالضبط تلك التي تساهم في جعل الخطاب مقانعيا بشكل خاص؟

وهذه هي الإشكالية التي حاول كتاب "مصنف عن الحجاج" لبيرلمان وتيتيكا، والذي عمل على قراءة ودراسة ونقد محتويات ومضامين المقدمات وأصناف-أنواع-أنماط الحجج أو مواضع الحجة.

"يميز مصنف عن الحجاج بين أربعة أصناف من الحجج:

-الحجج شبه المنطقية (الفلس هو الفلس).

-الحجج المؤسسة على بنية الواقع مثل الحجة بالأولى.

-الحجج المؤسسة لبنية الواقع مثل التمثيل.

-الحجج التي تفصل أفهوماً، مثل التمييز بين الظاهر والواقع." (ص-ص: 193-194، مع بعض التعديلات.)

ولكي لا نذهب بعيداً عن الصفحة 194، المهمة جداً، نلحظ أن روبول يعيد تذكيرنا بأهمية الإتفاق القبلي، ف "لا حجاج ممكن endoxa دونما اتفاق قبلي بين الخطيب وسامعيه."، ويحدد في نفس الصفحة تعريف الواقعة التي لها منزلة مهمة في كل خطاب لأنه ينفتح على الواقع.

فيتساءل: "ما الواقعة؟ الجواب الوحيد الممكن هو معاينة يمكن أن يقوم بها الجميع، والتي تفرض نفسها على السامع الكلي."

والآن سنتحدث عن إشكالية القيم في المتن الروبولي، علما أن آخر ما كتبه روبول في أواخر حياته، هو كتاب "قيم التربية"، ومع الأسف الشديد أنه غير متوفر بلغة الضاد، متوفر فقط بلغته الأصلية، أي اللغة الفرنسية، ولم يكتفي روبول باستخلاص القيم في حقل التربية والتعليم، بل جعل من القيم مثل الحق، والخير، والجمال، والحسن، ...إلى آخره هي أساس وجوهر وغاية الحجاج نفسه، هكذا نفهم مدى قيمة القيم في حقل الخطاب والحجاج، وكأن روبول يريد أن يقول أنه "لا وجود لحجاج بدون قيمة." لم يصرح روبول بهذا القول المأثور، بل فقط استخلصناها من متنه الكامل، بعد قراءات متعددة وفاحصة ومتمحصة، كما أن طموح روبول يسمو إلى قيم كلية شمولية التي هي غاية كل حجاج وخطابة.

فقيمة "المحتمل هو ما يسلم به الجميع إلى حين إثبات العكس."، إذا تشكل قيمة المحتمل في كونها تنشأ الثقة المفترضة لدى السامع، إلى حين إثبات العكس.

ويتساءل روبول "هل يجب التخلي إذن عن أحكام القيمة لأجل بلوغ الموضوعية؟ إن هذا الأمر في مجالات الحجج -القانوني، والسياسي، والجمالي، والأخلاقي، إلخ- غير ممكن." (ص: 195).

إن حقل القيم هو حقل الوقائع المفترضة، أو حقل الكل المسلم به إلى حين إثبات العكس.

أما عن التمييز الذي وضعه كل من بيرلمان وتيتيكا على القيم، فيوجد "صنفين من القيم. القيم المجردة، كالعدالة أو الحقيقة، التي تتأسس على العقل." (ص: 196)، أما فيما يتعلق بقيمة الحقيقة المجردة والتي تتأسس على العقل، نفهم منها أو نستنتج منها لماذا فضل أرسطو الحقيقة على أصدقائه، يقول: "وعلى هذا فَبَيْنَ الصداقة، وَبَيْنَ الحق، اللذين كلاهما عزيز على أنفسنا، نرى فرضاً علينا أن نُؤْثِرَ الحق."[7]

وسنحاول أن نهتم بمواضع الحجج التي أشار إليها كتاب "مصنف في الحجاج" لصاحبيه بيرلمان وتيتيكا، واللذين ركزا على تبرير اختياراتنا الحجاجية بالعودة إلى القيم المتعالية أو الأكثر تجريداً، وهذا ما يصطلح عليه بمواضع المُؤَثَّرُ، أي هناك قيم سامقة-سامية تؤثر على اختياراتنا القيمية، أو توجهاتنا الحجاجية.

إضافة إلى مواضع أخرى كالآتي:

1- مواضع الوحدة: أي وحدة النسق وانسجامه.

2- مواضع النظام: والذي يندرج ضمن مواضع الوحدة، يركز على الترتيب.

ومواضع الكم والكيف والموجود والماهية، هذا الأخير يركز على حقيقة الأشياء الثابتة.

يحذرنا روبول من المغالطات السوفسطائية لأنها تجاهل للمطلوب، ومعنى تجاهل، أي تناقض-نقيض الأطروحة، "إن المصادرة على المطلوب خطأ حجاجي."[8] لهذا لاحظ أندري لالاند في موسوعته الفلسفية، "اعتبار الدعوى المطلوب برهنتها متفقا عليها الإتفاق المختلف قليلاً."، ولتجنب المصادرة على المطلوب أكد روبول مرتين لحد الآن في متنه على "الإتفاق القبلي مع السامع الكلي."

لكن في الكثير من الأحيان، "نناقش بحماس، ويغلب ألا نتفاهم."[9] وفي حقيقية الأمر يشكل اللاتفاهم، أي عدم الإتفاق القبلي مع السامع إحدى المعيقات والعوائق أو الحوائل التي تحول نجاح كل نقاش-خطاب-حجاج.

ومن بين الحجج الشبه المنطقية حسب روبول نجد: التناقضات والتمانعات: الهزء. والتماثل Identité أو المماثلة، "والسابق Précédent وهو الاستناد إلى حدث نجعله تبريراً لحوادث لاحقة أخرى، مشابهة له."، التبادلية Réciprocité وهي التعبير المشهور المتداول لدى الجمهور "العَيْنُ بالعَيْنِ والسِّنَّ بالسِّنِّ."، بل وردت بالقرآن الكريم في سورة المائدة، الآية: 45.

يقول الله عز وجل: {{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ والسِّنَّ بالسِّنِّ والجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لهُ ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولاَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. الآية: 45. [سورة المائدة]. }}، لن نقوم بشرح الآية وتفسيرها أو تأويلها حسب التأويل القرآني، فقط نفترض أن عبارة "النفس بالنفس والعين بالعين" تعني حسب التأويل الروبول: التبادلية. (يمكن العودة إلى الصفحتين: 200-201.)

أما عن الحجج شبه منطقية على صيغ منطقية رياضية-صورية-رمزية:

" • + × + = + : أصدقاء أصدقائي هم أصدقائي.

  • + × - = - : أصدقاء أعدائي هم أعدائي.
  • - × + = - : أعداء أصدقائي هم أعدائي.
  • - × - = + : أعداء أعدائي هم أصدقائي.

الحجة تدعو إلى افتراض الثقة، ما دمت صديق صديقي، سأعمالك كذلك." حتى يثبت العكس!

من الملاحظات الهامة التي يمكن الإشارة إليها في معرض هذه القراءة تلك التي الهوامش الترجمية التي وضعها المترجم، وهي إضافات نوعية قيمة لا يمكن مجاوزتها، حيث أصبحت هذه الهوامش والاضافات بمثابة مكملات للمتن لا يمكن الاستغناء عنها لفهم المتن كاملاً، خاصة هامش (ص: 202)، والتي يعرف فيها حجة من الحجج التي تندرج ضمن حقل الخطابة والحجاج، ف "الحجة بالجهل: [تقتضي أن تكون] الدعوى صحيحة ما دام لم يثبت بالدليل أنها خاطئة." (المترجم) لأن "منح فائدة الشك معناه التنازل عن اعتبار شخص مذنباً في حالة الشك، أعني في حالة عدم وجود أدلة واضحة." (المترجم)، وما نستفيد منه هنا هو أن الحجة بالجهل تفترض كذلك ثقة مفترضة نستند عليها حتى يتم إثبات العكس، وبالتالي نفترض صحة وصدق قول خطابي معين، مالم يثبت بالدليل أنه خاطئ أو مغلوط.

أما عن حجة التعريف، فهناك أربعة أنماط من التعريف، وهي كالآتي:

1- التعريف الضبطي: أو المضبوط إبستيمياً ومتفق عنه في استخدام الكلمات والمفردات والمصطلحات والألفاظ، ويستعمل كثيراً في حقل العلوم الطبيعية الدقيقة.

2- التعريف الوصفي أو الواقعي: وهو تعريف ينطلق من إستعمال الحد الواقعي أو المعنى المتداول-المستعمل-المُعَرَّفُ.

3- التعريف التكثيفي: أو المكثف والمضخم، وهو تعريف وصفي. أعني بكذا ... وكذا ... ثم كذا ... وكذا ... إلى آخره.

4- التعريف الخطبي: وهو تعريف يأتي في الغالب غير تام وغير كامل فهو ناقص دائماً، يحتاج إلى المصادر والمراجع وغير دقيق دقة إبستيمولوجية، إنه تعريف مغرض ومحيز ومؤقت.

كما أن الحجج المؤسسة على بنية الواقع، أي وبكل بساطة المحاجة على تأويل وتفسير الواقع، ويجب مراعاة حجة التتابع أو التراتب المنطقي للأفكار، ولا ننسى قيمة الروابط السببية في كل خطاب.

أما عن "الحجة الذرائعية هي تلك التي تسمح بتقدير وتثمين فعل أو حدث بدلالة نتائجه الملائمة أو غير الملائمة."[10] أما عن حجة السلطة فيتم تبريرها "إثباتاً بالاستناد إلى قيمة صاحبه، هو أرسطو من قاله aristoteles dixit."[11]

عندما نقول للمستمع بأن أرسطو أو أفلاطون أو فيلسوف أو عالم معين قال هذا الكلام، نكون أمام حجة بالسلطة إستناداً إلى قيمة صاحبه المعرفية أو الفلسفية أو الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية أو الإيديولوجية أو التربوية، ...إلى آخره.

ويتساءل روبول : "على ماذا تتأسس [حجة] السلطة؟ إنها تتأسس في الحياة اليومية، على الأخلاقية، وفي السياسة، تتأسس على الماضي الجاد للمترشح بله المجيد." (ص: 207.) هكذا يضيف روبول  التاريخ-الماضي الجاد المجيد للمستشهد به أثناء عرض حجة السلطة كأساس مهم يضفي قوة إلى هذه الحجة، فمثلا حينما نقول للسامع: "قال أرسطو" يعرف السامع جيداً القيمة التاريخية والماضي الجاد لأرسطو والمجيد، وبهذا يكون الخطيب قد أقنع سامعه من خلال قيمة حجة السلطة التاريخية لأرسطو.

فيضيف: "ليست السلطة هي التي تقرر، بل هو العقل الذي يختار؛ لكنه يختار سلطة أخرى." (ص: 208)، وهذا دليل على أنه رغم سماع المتلقي مخاطبه يستشهد أو يحاجج بالسلطة التاريخية لأرسطو، فأنذاك يكون على المتلقي أن يختار هو نفسه بنفسه ولنفسه، أي من خلال عقله، يختار، لكنه يختار سلطة أخرى!

وهنا لاحظ روبول أن هناك حجة عقلية تسمى "الحجة على الذات هي حجة السلطة معكوسة [أو مقلوبة]." (ص: 208)، ومعنى ذلك أن ضديد حجة السلطة هو الحجة على الذات، ومعناها حينما نقرر أن نختار بواسطة عقلنا-ذاتنا، نختار سلطة أخرى!

يعبر رد-رفض حجة السلطة  بالحجة على الذات-العقل، حينما نقول مثلاً: "لست أنت من يعطي الدروس!"

"أثناء الجدال التلفازي الذي سبق الانتخابات الرئاسية لسنة 1981م، قال "جيسكار ديستاين Giscard Destin." ل "ميتيران Mitterrand" : "هل تعلم سعر المارك الألماني اليوم؟" فأدرك ميتيران، الذي يجهل سعره دون شك، أن جيسكار يريد أن يفرض نفسه على الجمهور كإقتصادي جاد، وخبير، وأستاذ [إقتصاد]. فأجابه سريعاً بالمثل: "سيدي جيسكار، أنا لست تلميذك." وما صار الأمر من مسألة سعر المارك طيلة الجدال." (ص: 25.)، وهذا دليل قوي على قيمة حجة السلطة، بل وقيمة الحجة على الذات-العقل، فجيسكار يملك سلطة معرفية إقتصادية ويحيط بأسعار المارك والتقلبات المالية، لكن ميتران لا علاقة له أو لا علم له بالإقتصاد، لكن استطاع بواسطة الحجة على الذات-العقل، صرف سعر المارك عنه طيلة الجدال.

وفي نفس السياق تقريباً، "في الوقت الذي كان يستعد فيه الجمهور، في أحد مسارح الإقليم، لغناء "لامارسييز La Marseille"، صعد شرطي الخشبة ليعلن أن "كل ما لا يظهر على الملصق ممنوع"، فقاطعه أحد الحضور : "وأنت، هل أنت موجود على الملصق؟"[12] فصعود الشرطي على الخشبة وإعلانه أن "ما لا يظهر على الملصق ممنوع!"، دليل على حجة سلطته كونه شرطيا مكلفا بأمن وتأمين الحفل الغنائي، لكن مقاطعة أحد الحضور من خلال الحجة على الذات-العقل، واخباره أنه هو كذلك غير موجود على الملصق فهو كذلك ممنوع، شكل له صدمة حجاجية أو أزمة حجاج، وبالتالي كان يجب على المسؤولين عن تنظيم الحفل الغنائي أن يضعوا الشرطي كذلك على الملصق كي لا يكون ممنوعاً، ولا نعرف هل نسوا ذلك أم إنطلقوا من فرضية حجة سلطة الشرطي!

ويجب أن نراعي كذلك حجة التراتبيات المزدوجة أو السلالم التراتبية المزدوجية، أو بكل بساطة أفضلية شيء على شيء الذي نعبر عنه بمبدأ تفاضل الأشياء.

"الرب فوق الناس جميعاً.

النفس فوق الجسد.

الإنسان فوق الحيوان.

المجتمع فوق الأفراد.

القانون فوق الجميع.

الخير فوق الشر. ...إلى آخره."

هناك أيضاً الحجج المؤسسة لبنية الواقع. مثل حجة المثال، من خلال ضرب الأمثال في كل خطاب موجه إلى المستمع من أجل الإقناع، من خلال الإنطلاق من الواقعة الجزئية المتعينة إلى القاعدة الكلية المجردة بدون التعميم! لأن "التعميم لغة الجهلاء"، ف "دور المثال ليس إثبات القاعدة بل منحها حضوراً في الوعي، وبالتالي تقوية التأييد." (ص: 212.)، نضرب الأمثال للمستمعين من أجل تأييد وتأكيد الأطروحة التي ندافع عنها، وليس تعميم ما توصلنا إليه أو إثبات القاعدة المتوصل إليها، يجب على الخطيب الجيد أن ينتبه لتوظيف حجة المثال أثناء نقاشه، وأن يتجنب التعميم ما أمكن.

حجة الشاهد Modèle: أو حجة النموذج الذي نقتدي به، مثلاً حينما قال الله عز وجل في قرآنه الحكيم: {{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمُ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمُ شَهِيداً ... }} (سورة البَقَرَةِ، الآية: 143.) ، وهذا دليل على حجة الشاهد المتأصلة في القرآن الكريم، بل حتى عندما قال القديس بولس: "اقتدوا بي مثلما أقتدي أنا بالمسيح."، فهذا تدليل آخر على حجة الاقتداء أو النموذج أو كما لمحناها في القرآن الكريم بحجة الشاهد.

حجة المقارنة: نستخدم كثيرا في خطابنا حجة المقارنة، ومعنى المقارنة هو أن نفكر وفق منطق قيمة/أهمية/إيجابية الشيء وحدود/عيوب/سلبية الشيء، هذه الخلفية المؤطرة لنظرنا، حينما نستعملها نطلق عليها المقارنة.

حجة التمثيل: أو "الإستدلال بالتمثيل إنما هو بناء بنية واقعية تسمح بإيجاد أو إثبات حقيقة بفضل تشابه في الصِّلاَتِ." (ص: 215.)، وحجة التمثيل هذه دائما ما تقوم على وقائع متغيرة بإستمرار، أو ظواهر مختلفة، مثل أن نقول: "الشيخوخة مساء الحياة." لهذا اعتبر المصنف في الحجاج لصاحبيه بيرلمان وتيتيكا أن "الاستعارة تمثيل مكثف."، ويضيف روبول أن "الاستعارة هي بإمتياز التصويرة التي تؤسس بنيات الواقع." (ص: 219.)

وسننتقل الآن إلى حجة أخرى، كثيراً ما لا نركز عليها في أي خطاب كيفما كان نوعه أو شكله، وهي حجة الأزواج المفاهيمية، وأشار إليها كل من بيرلمان وتيتيكا في مصنفهما المذكور: "إن حجج فصل الأفاهيم إلى أزواج تراتبية، مثل ظاهر/واقع، وسيلة/غاية، معنى حرفي/معنى مجازي، إلخ، وهي تنماز بالتالي عن جميع الحجج الأخرى التي تصل المفاهيم."[13]

وحاول روبول نقد إستعمال الأزواج المفاهيمية ضمن حقل الخطابة وذرئها مخصوصة لحقل الحجاج، حيث "صار هذا الزوج حيلة/صدق ضِدَّ الخطابة نفسها التي اختزلت في مجموعة من <<الحيل>> أي مجموعة وسائل غريبة كليا عن الغاية المستهدفة [المقانعة] والتي تصلح [أي الأزواج المفاهيمية] أيضاً لغاية مضادة." (ص: 224.)، ويضيف في نفس سياق نقد الأزواج المفاهيمية في الخطاب، حيث "نقانع بحجج <<قوية>> و <<مستساغة>> إلخ، لكن، لما كان لا هدف لهم إلا مقانعتنا، فإن ندعي أن الخطيب قد يستخدم أيضاً حججاً كاذبة، وغير صادقة، إن هي بانت أكثر نجاعة." (نفس الصفحة.) ولهذا يجب علينا أن نكون على علم بالحيل التي تحدث داخل متن كل خطاب، وأن نراعي تمفصلات أو الفصول التي تحدث داخل نسق الخطاب نفسه.

"ولنذكر لأجل الختم بالمبدأين اللذين أظهرتهما تحليلاتنا [إشارة للمنهج التحليلي] :

المبدأ الأول: لا وجود لحجة يقينية أكيدة ما دامت كل حجة يمكن أن تعارض بحجة أخرى.

المبدأ الثاني: أن الحجاج ليس مع ذلك مُغَالِطِيًّا؛ الحجة الناجعة هي الصحيحة المتوجهة إلى السامع الكلي." (ص: 225.)

وما يمكن الخلوص له هنا، أن مجال الحجاج ليس مجال الحقيقة واليقين المطلق، إنه مجال المحتمل والمرجح والنسبي.

كما أن مجال الحجاج يخلو من المنهج المغالطتي المنسوب للسوفسطائيين.

والحجة القوية والحقيقية بالنسبة لروبول هي الحجة التي يوجهها الخطيب إلى سامع كلي.

و "ما يُنْقِدُ الخطابة، هو أن الخطيب ليس وحيداً، وأن الحقيقة تنوجد وتَنْثَبِتُ باختبار الجِدَالِ. إما مع الآخرين. وإما مع نَفْسِهِ." (نفس الصفحة.)، أي أن الحقيقة تنكشف تحت مراقبة المنهج الجدلي-الدياليكتيكي وليس المنهج المغالطتي-السوفسطائي.

في الفصل التاسع المعنون ب: "أمثلة عن القراءات الخطابية" ينطلق روبول قبل الشروع في طريقة-منهج القراءة الخطابية للخطاب، بالتحدث عن وحدة النسق الخطابي، حيث "إن وحدة الخطاب، إنما يخلقها مُؤَلِّفُهُ: هو من يقرر ما يتحدث عنه، وهو من يقرر متى يبدأ خطابه ومتى ينتهي، وهو من يقرر أن يكتب مصنفا، أو دراما، أو رسالة، أو حكمة بسيطة."، بإختصار نقول: الخطيب هو من يتحمل مسؤولية ما يريد أن ينتجه من خطاب سواء كان كتابيا أو شفويا.

والآن سننتقل بشكل مباشر إلى طرائق ومقاربات ومناهج القراءة الخطابية للخطاب، يقول روبول:

"لنذكر بالقواعد الرئيسية للقراءة الخطابية:

أولاً، تقوم أولاً وقبل كل شيء على طرح أسئلة على النص، مانحةً هذا الأخير كل حظوظ الإجابة عنها.

ثانياً، تركز هذه الأسئلة أو مواضع القراءة قدر المستطاع على مجموع النص: ما هو عصره، وجنسه، وسامعه الواقعي، ودافعه المركزي، وترتيبه، ...إلى آخره؟

نتجنب ما أمكن التعليق الخطي، الذي ينتقل بسرعة إلى إعادة الصياغة.

ثالثاً، تبحث القراءة الخطابية عن الرِّبَاطِ الحَمِيمِيِّ بين الحجاجيِّ والخَطَبِيِّ.

رابعاً، تجتهد أن تكون حواراً مع النص." (ص: 228.)

نسنتج من كل هذا أن قواعد البحث عن حقيقة النص الخطابي أو القراءة الخطابية للخطاب تستدعي:

تحليل-نقد النص الخطابي من خلال: تحديد من يكون السامع-المتلقي؟

تحديد ما هو الدافع المركزي أو أبولوجيا أو أطروحة النص ودعواه؟

تحديد كيف يَرِدُ أو كيف تم عَرْضُ الحجاج في النص؟

تحديد ما هو الترتيب السليم للنص؟

تحديد أبرز الضمائر المذكورة في النص؟

تحديد التصويرات والاستعارات القوية جداً في النص؟

تحديد الأمثلة أو الاستشهادات الواردة في النص إن وجدت؟

تحديد المصادرة على المطلوب والتي تدل على الرعونة في استعمال الحجاج والتصرف كما لو أن السامع يسلم بما ليس يسلم به في الحقيقة! لكن في حالة إن وجدت في النص؟ أما إن لم توجد فلا داعي لذلك.

تحديد الأزواج المفاهيمية إن وردت في النص؟

تحديد تمفصلات النص؟

مراعاة الخلط بين المفاهيم التقنية والمفاهيم العامية.

مراعاة عقدة النص التي تخلق تَوَتُّراً، من خلال حَلِّهَا أو الاكتفاء بتحديدها!

ويطبق روبول ذلك على نصوص ديكارت فيخلص بالقول:

"لقد صادفنا ديكارت، عديد المرات، بوصفه عَدُوَّ الخطابة وهادم الجدل. والحال، نحن هاهنا أمام نص جدلي من حيث نوعه، [يقصد نص ديكارت الماثل أمامه] ، والذي ينتهج هذه الأدلة التي ليست إلا ممكنة. المرفوضة من قبل المُؤَلِّفُ [يقصد ديكارت] وأبعد من أن يستخدم البراهين، يحاجج! أبغير علم منه؟ بالتأكيد لا." (ص: 237.) 

بعد تحليل-نقد النص الديكارتي، قام روبول بتحليل-نقد أربعة نصوص أخرى، لن ندخل في تفاصيلها يمكن العودة إليها من أجل بيان منهج-طريقة القراءة الخطابية للنصوص.

على سبيل الختم؛ تشكل خاتمة الكتاب بمثابة خلاصات وتركيبات لمجمل الخطوط الرئيسية الكبرى للكتاب، وأنا أقوم بمحاولة تلخيصها وجدت الكثير من الصعوبات، لذلك إرتأيت أن أترك الأفكار الأساسية الختامية كما هي، بل أنصح بالعودة إليها وقراءتها بداية قبل المقدمة نظراً لأنها ألمت بكل جوانب وأبعاد الكتاب، بل تساعد من لم يستطع فهم وإدراك أفكار الكتاب الكبرى بأن تقدم له الأفكار المهمة وهي على الشكل الآتي:

"لقد تساءلنا في بداية هذا الكتاب إن لم يكن هو نفسه خطابيا. يجب الإقرار بأنه كذلك، ما دام يروم المقانعة، ويدافع عن دعاوى عن الخطابة." (ص: 259.) وهكذا يعترف روبول بأن كتابه هذا أيضاً خطابي لأنه وبكل بساطة مُقَانِعِيٌّ.

ف "عرفت الخطابة، منذ القدامة، بإعتبارها فن المقانعة بالخطاب." لتصبح الخطابة فيما بعد فنا وظيفيا-أداتيا-وسائليا بإمتياز.

"الخطاب توحيد حَمِيمِيٌّ بين الأسلوب والحجاج." فعند حديثنا عن نظرية الخطابة لا يمكن إستثناء نظرية الأسلوب واللغة، تذكروا معي جماعة مو، التي ربطت بين الخطابة والأسلوب، ثم "إن خطاباً ما خطابيا بقدر ما يكون مغلقاً ولا يقبل إعادة الصياغة."، فالخطاب يبقى محصوراً بين سيرورتي الإنغلاق والإنفتاح، ويجعل روبول من الإنغلاق خاصية الخطاب الخطابي، كما يرفض إعادة صوغ وصياغة كل خطاب.

كما أن الخطاب الذي يدعي أنه خطابي-مقانعي لا يمكننا بالمرة فصل شكل ومظهر خطابه عن محتواه ومضمونه الخطابي، بغض النظر عن محتواه الذي يدافع عنه.

ويرفض روبول الخطابة الزخرفية لأنها خطابة مصطنعة، ويدافع في المقابل عن الخطابة الطبيعية بلغة طبيعية عادية وواضحة.

نلاحظ عبر تاريخ الخطابة والحجاج رفض كل من أفلاطون وديكارت أن تكون اللغة تعبيراً عن الفكر، ذلك أن اللغة تترجم الفكر من خلال خيانته والتعبير عنه تعبيرا مغلوطا.

"ليست الخطابة في خدمة الصادق والدليل هو أن الإبداع الخطابي، بما هو أبعد من أن يكون بحثاً صادقاً عن الحقيقة، [...]، وهكذا ليس <<الفن الخطابي>> إلا في خدمة اللا يقيني، وأحيانا الكذب، ودائما الظاهر. أليس يؤكد هو نفسه بأنه يبحث عن المحتمل لا عن الصادق ؟" (ص: 261.)

ونخلص من هذا القول الذي يشكل أطروحة هذا الكتاب أن:

  • الخطابة بحث عن الكاذب.
  • الخطابة بحث عن اللايقيني.
  • الخطابة بحث عن الظاهر.
  • الخطابة بحث عن المحتمل-الراجح.

لهذا عبر أرثور شوبنهاور في كتابه "فن أن تكون دائماً على صواب" عن هذا السجال المتأصل في كل خطاب، حينما قال: "الخطاب سجال مستمر هدفه الانتصار على الآخر بأي ثمن، حتى على حساب الحقيقة؟ دائما على حساب الحقيقة، مادام الرابح ليس من هو على صواب، بل من يملك قوة الكلام."، فمن يملك قوة الكلام يملك الحقيقة ولو كانت مجرد كذب وبهتان وهذيان في حقل الخطابة والحجاج واللغة.

لهذا عبر فرانسي جاك، عن إمكانية أن تكون "الخطابة في مقابل الحوارية الحقيقية."[14]

وهو عبارة عن بحث مشترك عن الصادق-اليقين لكن في إطار الحرية والمساواة.

ويعلق روبول على هذا التصور الجاثم في هذا الكتاب قائلاً: "إن خلق شروط الحوار الحر، و أولاً في الذات هو ما يمكن أن تكونه حقيقة الخطابة. تتعلق بالناس أكثر من تعلقها بالأشياء، وبنا أكثر من الآخرين." (ص: 263.) فالخطابة متعالقة بين الذات والآخر وخلق شروط الحوار حول الحقيقة والصدق واليقين تظل دائماً ممكنة.

وبدءاً من الصفحة 265 من الكتاب إلى الصفحة 272 خصها روبول لثبت المفاهيم التقنية وننصح بالعودة إليها كلها، للتعرف على المعجم المفاهيمي-التقني الخاص بحقل الخطابة والحجاج.

وختاماً، نقول: "أشطب أو أعرض عن مقدماتنا-قراءتنا-دراستنا هذه وأدلف إلى محراب الكتاب من أجل قراءته قراءة نقدية."

المصدر الوحيد المعتمد:

أوليفيي روبول، مدخل إلى الخطابة، ترجمة: رضوان العصبة، مراجعة: د. حسان الباهي، أفريقيا الشرق-المغرب، 2017.

أما عن بعض المراجع التي تشكل بيبليوغرافيا المؤلف وينصح بالعودة إليها فهي:

Aristote, Rhétorique, 3ème édition, traduction française : M. Dufour, 1967.

Cicéron, De L'orateur, traduction française : E. Courbaud. Les belles Lettres, 3ème édition, 1967.

Chaïm perelman et Loussi Olbrechts - Tyteca, Traité de l'argumentation. La nouvelle rhétorique, Édition: de l'université de Bruxelles et vrin, 1976.

Platon, Gorgias, traduction française : A. Croiset, Les Belles lettres, 1960.

Quintilien, Institution oratoire, traduction française : J. Cousin, Les Belles lettres, 1ère édition, 1975-1980.

Olivier Reboul,

La rhétorique, << que sais-je ? >>, PUF, 1992.

Introduction à la rhétorique, Quadrige, PUF, 2011.

Groupe M, Rhétorique générale, Larousse, 1970.

Rhétorique à Hérenius, traduction française : G. Achard, Les Belles Lettres, 1989.

Rhétorique (s), Collectif, direction. J. F. Garcia, presses de l'université de Strasbourg, 1989.

Rhétorique et pédagogie, ibid. 1991.

Arthur Schopenhauer, L'art d'avoir toujours raison, ou dialectique éristique, Strasbourg, Circé. 1990.

 

[1]   أفلاطون، محاورة جورجياس، الفقرة ب: 466.

[2]   نفس المرجع السابق، نفس الفقرة.

[3]  محاورة فايدروس، الفقرة ب: 266.

[4] John Locke. An essay concerning human understanding, edited by Roger woolhouse, penguin classies, 1997, 2004, p: 452.

[5]  الخطابة العامة، ص: 25.

[6] Mardaga. Discours, rédit, image, 1989.

[7]  أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس، ص 181.

[8]  المصنف في الحجاج، ص: 153

[9]  أنظر: أنطوان أرنولد وبيير نيكول، المنطق أو فن توجيه الفكر، ترجمة: عبد القادر قنيني، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2007، ص: 273.

 

[10]  أنظر المصنف في الحجاج، ص: 358.

[11]  أنظر بيرلمان وتيتيكا، المصنف في الحجاج، ص: 410.

[12]  مصنف عن الحجاج، ص: 274.

[13]  مصنف في الحجاج، ص: 562.

[14]  فرانسي جاك، الحوارية، المطابع الجامعية الفرنسية PUF، 1979، ص: 212-222.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟