جورج كانغيلام: الفلسفة وخارجها (2/1) - أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم:
يحيل العنوان أعلاه على الفصل الأول من كتاب "تجربة المفهوم: ميشال فوكو بين الإبستيمولوجيا والتاريخ" لصاحبه لوقا بالترينيري. "تجربة المفهوم" هو الاسم الذي اطلقه الكاتب على "شكل" فكر ميشيل فوكو، بين نظرية الإبستيمولوجيا والتاريخ: شكل صندوق أدوات ذي صلة خاصة بالتحليل التاريخي لنشوء المفاهيم في المجال العملي، يرغب المؤلف في "جعل استخدامه ممكنا لنا اليوم". في ما يلي محاولة لترجمة هذا الفصل إلى العربية عبر جزأين.
إن نقطة البداية للبحث الذي يجب أن ينتقل من التاريخ الإبستيمولوجي لجورج كانغيلام إلى "أنطولوجيا ذواتنا" الفوكوية لا يمكن إلا أن تكون العلاقة بين الفلسفة وأوجه "خارجها" العديدة. سواء كان الأمر يتعلق بالطب أو العلوم البيولوجية، بالنسبة إلى كانغيلام، أو بالطب النفسي، يالأدب بالاقتصاد ولكن أيضا بالسجون والتمارين الروحية، بالنسبة إلى فوكو، كل شيء يحدث كما لو أن النشاط الفلسفي لم يعد من الممكن فهمه ببساطة من خلال تقليد يخترع نفسه ويعلن نفسه على أنه فلسفي "على نحو أصيل". لم يعد يجب على الفيلسوف، أو لم يعد يستطيع، أن يقرأ الفلاسفة الآخرين فقط: عليه أن ينغمس في الأرشيف وفي راهنية عمل لم تعد حداثته تعترف به على أنه "فلسفي".
هكذا، يرى كانغيلام أن «الفلسفة هي تفكير بالنسبة إليه كل مادة غريبة جيدة، ونقول عن طواعية، بالنسبة إليه كل مادة جيدة غريبة». هذه العبلرة ليست زائدة عن الحاجة، فهي تشير في الوقت نفسه إلى أن الفلسفة ليست تأملا، "خلف أبواب مغلقة"، إذا جاز التعبير، لا تتغذى إلا على نفسها ومفاهيمها، بل إنها منفتحة بنيويا على الخارج، الذي يضع أمامها باستمرار سلسلة من المشاكل، الأسئلة، العوائق. إذا كان هناك تحول في الفلسفة، وإذا كانت هناك إعادة صياغة متواصلة لتساؤلاتها، فلا يحدث ذلك من خلال نوع من الرحلة المستقلة والتدريجية نحو الحقيقة التي تُطرح وتُكشف، بل بسبب انفتاحها البدائي على عالم الممارسات الإنسانية العلمية، السياسية، الجمالية التي تنتج المفاهيم في كل لحظة. إن الفلسفة المنفتحة حقا على الطابع التاريخي للممارسات النظرية لا تتجه نحو ما يشبه الحقيقة المطلقة، بل تبني نفسها من إنتاج الحقيقة الذي يحدث في جميع مجالات النشاط الإنساني. يمكننا أن نجد هنا مبدأ كل الإبستيمولوجيا التاريخية.
1- الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية
بيد أن انفتاح الفلسفة على ما هو خارج عنها يعني بشكل جدي مراعاة نوع معين من المفاهيم: تلك التي، وهي تظهر على شكل ملفوظات علمية، تحمل ادعاء الحقيقة. هذه هي المفاهيم التي تحدد أفق حداثتنا، أفق توجد فيه علاقة متجددة إلى حد ما بين "المعرفة" و"العلم" و"الحقيقة". خلال مقابلة مع آلان باديو، كان كانغيلام قد افترض في الواقع، بطريقة استفزازية إلى حد ما، التكافؤ بين جهات تكوين العبارات الحقيقية والخطاب العلمي، حيث أن العلم هو "المجال الوحيد الذي يمكننا فيه التحدث عن الحقيقة".
لا ينبغي فهم العبارة على أنها حكم قيمة ولا على أنها تأكيد وجودي على وجود الموضوعات العلمية باعتبارها "وقائع خارجية"، بل على أنها تحليل للشروط الصورية لاستخدام كلمة "صادق". في كتابه عن "اليقين"، أشار فيتجنشتاين إلى أننا نستخدم كلمة "صادق" في علاقة بنوع معين من العبارات: ليس تلك المتجذرة بعمق في نظام المعتقدات التي تعصب شكل حياتنا، ولكن تلك التي ما يزال الشك بشأنها ممكنا. إن حقيقة عبارة مثل "أعلم أن هذه يد" لا تقول الوجود الفعلي لليد، ولكنها تعني أن الشك الجدي في مثل هذه العبارة يعني بالفعل الشك في صرح يقينياتنا بأكمله ويجعل بأحد الأشكال من الممكن وضع شكل الحياة ككل موضع نقاش. في الواقع، وفقا لفيتجنشتاين، فإن يقين قضية تجريبية لا يعتمد على تجربتنا في العالم، ولكن على الشروط النحوية لاستخدامها؛ أي أن القضية "تنتمي إلى منظومتنا المرجعية" التي لا تكون فيها حقيقة عبارتنا ضمانة من العالم الخارجي، بل مجرد وسيلة للتحكم في فهمنا للعبارة.

إن الحقائق البديهية التي أشار إليها جورج إدوارد مور باعتبارها "أدلة" على العالم الخارجي لا تستند إلى الوجود الذي لا يقبل الشك لواقع خارجي، لكنها تشكل صرحا من القضايا الداعمة؛ إنها جزء من "سقالات جميع طرق رؤيتنا". في الواقع، تشكل معتقداتنا نظاما: قدرتها على الاندماج في النظام تمنحها قيمة اليقين. وبهذا المعنى، فإن بعض القضايا التي تظهر على أنها تجريبية تشكل في الواقع "قضبانًا" تنزلق عليها جميع القضايا التجريبية، أي أنها تؤدي الوظيفة المنطقية لقواعد اللعبة: فهي مثل قاع النهر الذي، بطريقة معينة، ينظم التدفق اللغوي.
من ناحية أخرى، من ضمن لعبة اللغة العلمية أن نتمكن من تعريف قضاياها بأنها "صادقة" أو "كاذبة"، وذلك على وجه التحديد لأن هذه الملفوظات ليست جزء من صرح اليقينيات لدينا والشك فيها ما زال قائما. انطلاقا من وجهة النظر هاته، تكون القضايا العلمية موجودة على «سطح» النهر: وطريقة تثبيتها تقضي بأن الشك في صدقها أو كذبها ما زال ممكنا بالنسبة إليها، دون أن يؤثر ذلك على قاع النهر. ولهذا السبب بالتحديد يؤكد إيان هاكينج أن العبارات العلمية هي تلك "التي يمكن تصويرها على أنها صادقة أو كاذبة"، أو بعبارة أخرى، تقدم نفسها على أنها "مرشحة" محتملة للصدق أو الكذب . وما يميز الملفوظ العلمي عن الملفوظ التجريبي هو في الحقيقة هذا الطابع المشكوك فيه الذي يدل على أن الملفوظ لا يمكن أن يكون صادقا أو كاذبا إلا بشرط الانتماء إلى أسلوب معين من الاستدلال يحدد هو نفسه شروط وطرق الاستدلال في شأنه: "[.. .] إن (القضايا) المرشحة للصدق أو للكذب ليس لها وجود مستقل عن أساليب التفكير التي تحدد ما الذي يكون صادقا أو كاذبا في مجالها.
الشيء المهم الذي يتعين ملاحظته في التحليل الفيتجنشتايني
لهاكينج هو أنه قبل أن نتمكن من تعيين قيم الصدق، يجب علينا أن نعرف كيف نستدل وفقا لأسلوب معين من الاستدلال. في مقالته عن جاليلي، عبر كانغيلام عن هذه الفكرة بالضبط من خلال التأكيد على أن جاليلي كان "على حق" قبل قول الحقيقة، ليس لأن تجاربه أكدت حساباته أو لأنه استبق الحقيقة بطريقة ما، ولكن لأنه ادرك أن "النظرية الجديدة للحركة، أي الديناميكا الجاليلية، قدمت نموذجا للحقائق الفيزيائية التي ما يزال يتعين الترويج لها، وهي حقائق من شأنها أن تؤسس لعلم الفلك الكوبرنيكي باعتباره دحضا جذريا ومتكاملًا للفيزياء والفلسفة الأرسطيتين. بمعنى آخر، كان جاليلي على حق لأنه استدل ضمن أسلوب معين من الاستدلال، وجدت أقواله شروطها من الصدق والكذب ضمن مجال الاستقرار، وكانت مفاهيمه في علاقة “تماسك منطقي مع مجموعة من المفاهيم الأخرى ". قال فوكو لاحقا إن الشيء الذي يعرّفه العلم بأنه خارجي ليس خاطئا بالمعنى الدقيق للكلمة، "لأن الخطأ لا يمكن أن ينشأ ويتم تحديده إلا ضمن مجموعة من الممارسات". إن أساليب الاستدلال لدى هاكينغ، و"علوم" كانغيلام، وإبستيميات فوكو، هي أنظمة ذاتية التحقق، تحدد هي نفسها حقائقها الخاصة والتي لا يمكن أن يكون لها أي مبرر خارجي، أي طريقة للحكم على صدق قضية لا تتوقف على نظام القضايا الذي تنتمي إليه. وبهذا المعنى، أمكن لكانغيلام أن يؤكد أن العلم – دين الحداثيين – والعلم وحده، هو البحث عن الحقيقة، وبالتالي، لا يتطلب بأي حال من الأحوال "أساسا" انطلاقا من الفلسفة، لأن العلم يعطي الحقيقة من تلقاء ذاته. هكذا يستطيع أن يتحدث عن "أولوية المغامرة الفكرية على العقلنة" وعن أولوية متطلبات الحياة والعمل على ما "ينبغي علينا معرفته والتحقق منه". وبعبارة أخرى، فإن تطور الفكر العلمي لا يستجيب للمتطلبات الوظيفية التي تحددها الفلسفة، بل للممارسات والإجراءات التنظيمية والقرارات المتعلقة بتنظيم الحياة البشرية: وكما قال فيتجنشتاين، الخطاب العلمي لا أساس له من الصحة باعتباره مظهرا لسلوك إنساني هو في حد ذاته "طريقة غير مؤسسة في التصرف".
إذا تخلى الخطاب الفلسفي عن أي هدف تأسيسي، فإنه يتخذ على وجه التحديد هذا البحث العلمي عن الحقيقة كموضوع للتأمل: يبدأ الفيلسوف عمله بالضبط حيث ينتهي عمل العالم. وبالتالي، فإن الفلسفة، بحسب كانغيلام، ليست في “تنافس” مع العلم، كما اعتقد سارتر عندما قال: “في حضارة تكنوقراطية، لم يعد هناك مكان للفلسفة، اللهم إلا إذا تحولت هي نفسها إلى تقنية". على العكس من ذلك، يمكن للفلسفة أن توجد على وجه التحديد لأن المفاهيم العلمية المعقدة والمحددة بشكل متزايد تولد، تتغير وتنتشر من منطقة معرفية إلى أخرى، وتخلق دائما شبكات مفاهيمية جديدة: هذه هي الترتيبات التي تمثل في الواقع شروط التفكير في الحقيقة. وما دامت الفلسفة تفكيرا في الحقيقة العلمية، كيف يمكن للمرء بالفعل إثبات حقيقتها دون اللجوء إلى ما وراء الفلسفة، وفقا لعملية الازدواجية اللامتناهية التي سخر منها فيتجنشتاين، حيث رأى هناك جوهر الفلسفة السيئة؟ إذا لم تكن هناك "حقيقة الحقيقة"، فلا يمكن القول بأن الخطاب الفلسفي بدوره "ليس صادقا ولا كاذبا": لا وجود للحقيقة الفلسفية.
لكن، إذا لم تكن هناك حقيقة فلسفية بل حقيقة علمية فقط، فلماذا لا تقتصر المقاربة الكانغيلامية ببساطة على المقاربة الوضعية الجديدة التي تكون فيها الوقائع العلمية هي تلك التي تتعامل معها الفلسفة؟ إن النظرة الأخرى التي يلقيها الفيلسوف على الحقيقة العلمية تسمح له برؤية ما لا يستطيع العالم رؤيته، أي أن الحقيقة، في الممارسة العلمية نفسها، ليست موضوع تأمل أصلي وغير زمني، بل نتاج نشاط تكون سمته الرئيسية هي التصحيح الدائم، كما يؤكد باشلار في ما يتعلق بالحقيقة العلمية، أو نتاج "صراع"، نوع من المواجهة بين من يعرف وموضوعه، كما أكد أيضا فوكو الذي سار في أعقاب نيتشه. بمعنى آخر، من خلال التشكيك في الشروط التي يمكن من خلالها اعتبار المفهوم علميا، يأخذ الفيلسوف حتما في الاعتبار التاريخية الضرورية للمفاهيم العلمية. ولذلك، فمن خلال "إبستيمولوجيا جهوية"، التي تُفهم على أنها دراسة نقدية لمبادئ ومناهج ونتائج علم معين، يُقاد الفيلسوف إلى تسليط الضوء على الشروط التي يمكن من خلالها تحديد بعض العبارات كعبارات علمية، كعبارات "صادقة" أو "كاذبة". وللقيام بذلك، سيكون من الضروري التخلي عن وجهة النظر العالمية المتمثلة في "التاريخ الفلسفي" والاعتراف ليس فقط بوجود العديد من العقلانيات الجهوية، ولكن أيضا بوجود العديد من التواريخ التي تناسب كل واحد من هذه المجالات وكل مفهوم. ومع ذلك، فإن هذا المعيار الإبستيمولوجي الذي يسبق المهمة التاريخية ينطوي على التوائية فريدة في نشاط مؤرخ العلم والعلاقة بموضوعاته.
2- الموضوع العلمي وتاريخه
أجرى كانغيلام تمييزا جذريا بين موضوع العلم وموضوع تاريخ العلوم: الأول موضوع ليس له تاريخ، في حين:
"[...] تاريخ العلوم هو تاريخ الموضوع الذي هو تاريخ، وله تاريخ. [...] موضوع الخطاب التاريخي، في الواقع، هو تاريخية الخطاب العلمي، بقدر ما تمثل هذه التاريخية تنفيذ مشروع موحد داخليا، ولكن تخنرقه حوادث، وتؤخره أو تحرفه عوائق، وتقطعه الأزمات، أي لحظات الحكم والحقيقة".
باختصار، ليس لمؤرخ العلوم علاقة مباشرة بالموضوع، مثل العالم، بل مع تاريخية الخطاب حول الموضوع. لنأخذ على سبيل المثال العلم الديموغرافي. عندما يكون ما يهم الديموغرافي هو فقط "هنا والآن" لموضوع "السكان"، أي عدد الأفراد في منطقة ما في لحظة معينة، فإن مؤرخ الديموغرافيا يتعامل بدقة مع التغييرات التي تؤثر على الموضوع العلمي "السكان" مع مرور الوقت. وبطبيعة الحال، بالنسبة للديموغرافيا، فإن للسكان أيضا تاريخا: تاريخ تحركاتهم، أزماتهم، تطوراتهم، تفاعلهم مع عوامل طبيعية، اجتماعية وسياسية في آن واحد. تتعامل الديموغرافيا التاريخية مع تاريخ السكان هذا، ثم تأخذ في الاعتبار الحروب، الأمراض، التغذية، إلخ..، مثل العديد من العوامل التي تتفاعل مع تطور الكائن "السكاني". إن الديموغرافيا، كعلم يقع بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، لا يمكنها الاستغناء عن المعطى التاريخي (بخلاف الفيزياء، مثلا). ومع ذلك، بالنسبة للديمغرافي والمؤرخ الديموغرافي، "زمن هذا التاريخ هو في حد ذاته موضوع معطى هناك قبلا". وهذا يعني، بالنسبة إلى كانغيلام، أن تاريخ السكان يمكن أن يكون موضوع دراسة علمية يتم إجراؤها وفقا لنفس المعايير التي يدرس بها رجل العلم موضوعه.
بالمقابل، يجب أن يقع تاريخ العلم على مستوى آخر، وهو مستوى تاريخية الخطاب العلمي الذي يتعلق بالسكان، لأن هذه التاريخية وحدها هي التي تسمح لنا بالحديث عن "علم السكان". وبعيدا عن أن يمثل وجود تاريخ لهذا التخصص تهديدا لعلميته، فإنه يمثل بالضبط نقطة التمييز بين النشاط العلمي والأيديولوجيا، أو المعرفة العامة، لأن "العلم الزائف ليس له تاريخ". إن أخذ تاريخ العلم على محمل الجد لا يعني استخدام التاريخ لإضفاء النسبية أو التقليل من موضوعاته أو عقلانيته، بل على العكس من ذلك لإظهار خصوصيته في ما يتعلق بأنواع أخرى من المعرفة أو اللاعلم. وبما أن الأشكال التاريخية المتعاقبة التي تظهر فيها الموضوعية في العلم هي مكونات الموضوعية نفسها، فقد أمكن لكانغيلام أن يتحدث عن تاريخية الخطاب العلمي باعتباره “موضوعا” لتاريخ العلم. بكلمات أخرى، يتعلق الأمر ب"تحديد هوية الموضوعية والتاريخية هذه كمجال للحقيقة".
إن الطابع التاريخي الجوهري للفهم العلمي موجود أيضا في استخدام المفهوم الباشلاري للعائق، وهو مفهوم موجود في ما اقتبسه كانغيلام وما أشار فيه بالضبط إلى كون المعرفة العلمية تتقدم دائما من خلال عمليات إعادة التنظيم القائمة على المشكلات التي هي "مقاومات" للفكر.
بالنسبة إلى باشلار، تاريخ العلم هو تاريخ قطائع، أولاً مع المعرفة المشتركة، بل مع التجربة، المعرفة العامة، "فلسفة الفلاسفة" الذين يرغبون في التنظير للنشاط العلمي، وأخيرا مع النظريات العلمية الأخرى نفسها. إن حقيقة العلم ليست تأمل حقيقة أبدية منقوشة في الأشياء أو في العقل، ولا هي نتاج تقدم دائم نحو الحقيقة، بل هي نتيجة مؤقتة لسؤال دائم وفقا لعملية دينامية تنتمي، وفق كانغيلام، إلى الحياة نفسها:
"العلم هو خطاب موحد من خلال تصحيحه النقدي. إذا كان لهذا الخطاب تاريخ يعتقد المؤرخ أنه قادر على إعادة بنائه، فذلك لأنه تاريخ يجب على الإبستيمولوجي إعادة تنشيط معناه."
إن تغيير المستوى، من التاريخ إلى إبستيمولوجيا بدون التاريخ "ستكون نسخة غير ضرورية تماما للعلم الذي تدعي مناقشته"، يتم التحكم فيه من خلال المصادفة بين الموضوعية والتاريخية. لكن هذا التحول ما زال يعني ضمنا اعتماد منظور آخر للعلم نفسه، والذي سيلخصه كانغيلام في صيغة “استبدال تاريخ العلوم بالعلم وفق تاريخها”. وبينما يدمج المؤرخ سلسلة من الآثار في وصف منظم للعلاقات الزمنية والمنطقية بين المراحل المختلفة لتطور النسق العلمي، يتبع الإبستيمولوجي مسارا مختلفا تماما: يتمثل عمله في "تقليد ممارسة العالم من خلال محاولة استعادة الإيماءات التي تنتج المعرفة”. تبدو هذه العبارة متناقضة: فقد رأينا أن موقف المؤرخ تجاه موضوعه يختلف عن موقف العالم. ولذلك فمن الضروري توضيح معناها، لأنه في رأينا، في هذه العبارة، يتم إخفاء الرهان المركزي في تاريخ كانغيلام الإبستيمولوجي.
في المقام الأول، ما هو أساسي بالنسبة للإبستيمولوجي هو الحاضر، الحالة الراهنة للعلم: فبينما "ينطلق المؤرخ من الأصول نحو الحاضر"، فإن الإبستيمولوجي "ينطلق من الحاضر نحو بداياته بطريقة تجعل جزء فقط مما كان يُعتبر علما بالأمس قد أسسه الحاضر إلى حد ما. صاغ باشلار هذا المبدأ تحت عنوان "التاريخ المتكرر": "التاريخ الذي يبدأ من يقينيات الحاضر ويكتشف في الماضي التشكيلات التدريجية للحقيقة". ويعني "التكرار" الباشلاري إنشاء محكمة يمكنها، من آخر لغة يتحدث بها علم معين، العودة إلى الماضي لاكتشاف "اللحظة التي تتوقف فيها هذه اللغة عن أن تكون مفهومة أو قابلة للترجمة إلى لغة أخرى، أكثر وضاعة أو أكثر ابتذالاً كانت منداولة سابقا". وهكذا ينقاد الإبستيمولوجي إلى التمييز بين “المعارف منتهية الصلاحية” و”المعارف المعتمدة”، أي بين المعارف “الميتة” والمعارف التي ما تزال حية وفاعلة في الوقت الحاضر، والتي تبعد إلى الأبد تاريخ العلوم عن التاريخ الإبستيمولوجي:
"فالتاريخ، من حيث المبدأ، معادٍ في الواقع لأي حكم معياري. ومع ذلك، يجب علينا أن نضع أنفسنا وفقا لوجهة النظر المعيارية هذه، إذا أردنا الحكم على فعالية فكر ما. [...] ولذلك يجب على الإبستيمولوجي فرز الوثائق التي جمعها المؤرخ. يجب عليه أن يحكم عليها من وجهة نظر العقل وحتى من وجهة نظر العقل المتطور، لأنه فقط في أيامنا هذه يمكننا أن نحكم بشكل كامل على أخطاء الماضي الروحي. [...] يمكننا أن نرى هنا ما الذي يميز مهنة الإبستيمولوجي عن مهنة مؤرخ العلوم. يجب على مؤرخ العلم أن يأخذ الأفكار على أنها وقائع. يجب على الإبستيمولوجي أن يأخذ الوقائع كأفكار، ويدخلها في نسق من الأفكار. الواقعة التي أسيء تفسيرها في ذلك الوقت تظل واقعة بالنسبة للمؤرخ. هي، عند الابستمولوجي، عائق، فكرة مضادة".
بالنسبة لكانغيلام، يجب على عالم الإبستيمولوجي، من خلال غمر نفسه في تاريخ العلم، ان "يقيس بأحدث نظرية علمية في الظهور تلك االنظريات التي سبقته"، وفقا لمبدأ التكرار. ولكنه، من خلال القيام بذلك، يوضح بدقة أن المفاهيم والأفكار والمواقف التي أصبحت الآن جزء من المعرفة العلمية "كانت في وقتها متفوقة وبالتالي [يبين] كيف يظل الماضي المتجاوز ماضيا لنشاط ما يجب الاحتفاظ له بصفة العلمي". لهذا السبب، يرى كانغيلام، أن مبدأ التبعية "الحاضرية" للفهم التاريخي للمهمة الإبستيمولوجية المتمثلة في توضيح أن النشاط العلمي لا يستسلم لغائية تجعل الحالة الأخيرة للعلم هي الإنجاز المطلق وليس المعرفة العلمية الأكثر إثارة للجدل. وتحديدا لأن التاريخ الإبتسمولوجي يعتبر العلم بناء تاريخيا تشكل حالاته السابقة جزء منه، فإنه يتخلى عن دور “الشرطة الإبتسمولوجية على نظريات الماضي”. وهكذا تظهر بوضوح وظيفة الإبستيمولوجيا في ما يتعلق بالعلم: إذا كان الإبستيمولوجي، بحسب كانغيلام، "يحاكي" فعل الإنتاج العلمي، فلا ينبغي له أن يؤسسه، لأن العلم ينتج من تلقاء ذاته معايير حقيقته الخاصة، بل بالأحرى أن يجعل البناء المصحح والمتناقض للعلم مفهوما من خلال وضعه في تاريخية هذه الحقيقة التي هي راهن رجل العلم الذي يواجه موضوعه.
ومع ذلك، هناك سبب آخر يجعل عمل الإبستيمولوجي نشاطا محاكيا باانظر إلى العمل العلمي: بما أن الإبستيمولوجي-المؤرخ لا يجد موضوعه في المكان النظري للعلم، بالتعريف اللازمني، "فإنه في حد ذاته يشكل موضوعا استنادا إلى الحالة الراهنة للعلوم البيولوجية والإنسانية، وهي حالة ليست النتيجة المنطقية ولا النتيجة التاريخية لأي حالة سابقة لعلم متميز [...] ]". ليس من خلال وصف التطور الخطي للنشاط العلمي، ولكن من خلال وضع الموضوع العلمي في "التاريخ غير المرئي، الإشكالي لتراكم المفاهيم" يبني المؤرخ موضوع عمله، أي تاريخية الخطاب العلمي. وهكذا يظهر في نفس الوقت أن الموضوع العلمي بناء. لأنه من الواضح أن موضوع العلم، بحسب كانغيلام، ليس "الموضوع الطبيعي" الذي تجده التجربة، إذا جاز التعبير بسذاجة، كما لو كانت الطبيعة موزعة مسبقا إلى موضوعات، بل هو نتاج البناء الدائم والمتقدم الذي هو بالضبط النظرية العلمية:
"نعني بالموضوع موضوع الدراسة، مادة العمل، التي يتيح لنا تاريخ العلم أن نثبت مرة أخرى أن العمل النظري التجريبي للمعرفة يشكلها، بعيدا عن إيجادها معدة بالكامل".
إن موضوع العلم، بعبارة أخرى، هو نتيجة منهج العمل النظري، وقد تم وضعه، كما قال باشلار، باعتباره "منظورا للأفكار ". إن مفهوم "القطيعة المعرفية" عند باشلار كان في الواقع يهدف إلى إظهار أن "البداهة الأولي ليس حقيقة أساسية" لأنه، في ما يتعلق بالموضوعات المعطاة مباشرة للتجربة اليومية، تقدم الموضوعات العلمية دائما جانبا مراوغا، غير واضح، تم اكتسابه بمسقة. إذا كان عمل الفينومينولوجيا الهوسرلية يتألف من العودة إلى "التجربة الحية" للقاء الأصلي مع ظاهرة متحررة من كل فهم مسبق، فيبدو، على العكس من ذلك، أن الظاهرة الوحيدة المثيرة للاهتمام بالنسبة للعلم هي تلك التي تم بناؤها نظريا وتقنيا، كموضوع، في تجربة المفهمة العلمية وفي تجربة المختبر. ولهذا السبب فإن "الظواهر العلمية الحقيقية هي في الأساس تقنية ظواهرية".
يمكننا أن نرى بوضوح أن العمل الذي يجب أن يجعل الموضوع العلمي ظاهرا هو على وجه التحديد عمل المفهوم: وبهذا المعنى، فإن موضوع العلم يشبه الGegenstand الكانطي لأنه على وجه التحديد تأثير "إدراك" توحيد وإقامة تعدد محسوس من قبل المفهوم.
إن المفهوم هو الشكل الذي يحتوي على "ما يعطي شكلا" لمحتوى معين أو "الامتداد"، أي مجموعة الأشياء التي "تشبعه"، حسب لغة فريجه. على الرغم من أن الBegriff الكانطي غالبًا ما يرتبط بشكل عام بتمثل العقلي، إلا أن وظيفته هي بالضبط وظيفة توحيد التعددية المعقولة المكانية والزمانية من خلال إعطائها شكل موضوع. لكن، على هذه الوظيفة الأخيرة، إعطاء "شكل"، يصر باشلار بشكل خاص محددا دور ما ظل يسميه "فكرة" والذي سيسميه كانغيلام "مفهوما"، أي الأثر المهيكل للنشاط العقلاني. إن المفهوم ليس انعكاسا ذهنيا لواقع يسبق العلم، وليس من "قبيل التذكر"، وليس جوهرا مخيبا للآمال، ولكنه "بالأحرى برنامج" لبناء الموضوعات العلمية.
من الواضح أنه أنطلاقا من هذا البناء الباشلاري للموضوع العلمي مرورا بالمفهوم استطاع كانغيلام أن يؤكد أن الموضوع العلمي يأتي دائما في المرتبة الثانية، لكنه “غير مشتق” من الموضوع “الطبيعي”. بمعنى آخر، إنه نتيجة منهج لا يضمن بأي حال من الأحوال مصادفته لواقع خارجي، لأنه ليس انعكاسا ثابتا للـ«شيء»، بل نتاج العمل التاريخي للمفهوم. لنلاحظ أن هذا هو بالضبط المكان الذي يقع فيه التاريخ الإبستيمولوجي للعلم: من خلال بناء آخر، من خلال إظهار على وجه الخصوص أن الشبكة المفاهيمية التي بفضلها يشكل العلم موضوعاته هي شبكة تاريخية، يؤكد المؤرخ الإبستيمولوجيي في الواقع أن بناء الموضوعات العلمية دائما يحدث من خلال "الضم" و"الإخبار" عن مجموعة من المواد والممارسات الخارجة عن العلم. لذلك يمكننا أن نؤكد أن تاريخ المفاهيم الكانغيلامية يصف بدقة هذا العمل المتمثل في استيعاب و"لإخبار" عم المزاد الغريبة من خلال المفاهيم التي تتداول وتنتشر من مجال معرفي إلى آخر:
"[...] لم يمكن للقياس الحيوي والقياس النفسي أن يتشكلا بواسطة كيتيلي، غالتون، كاتيل وبيني إلا منذ اللحظة التي كان فيها للممارسات غير العلمية تأثير (تجلى) في منح الملاحظة مادة متجانسة قابلة للمعالجة الرياضية. [...] لذلك، فإن تاريخ العلوم، بقدر ما ينطبق على الموضوع المحدد أعلاه، لا يتعلق فقط بمجموعة من العلوم التي ليس لديها تماسك جوهري، ولكن أيضًا باللاعلم والأيديولوجيا والممارسة السياسية والاجتماعية".
ثم يسعى تاريخ العلوم الكانغيلامي إلى ربط العلم بما هو خارج عنه، أو باللاعلم، أو بكل القيم غير العلمية. وهكذا يظهر هذه التاريخ أن العمل العلمي يخترع علاقات غير ضرورية مع الممارسات غير العلمية، مع "خارج" العلم الذي يقدم نفسه دائما على أنه إشكالي. استطاع كانغيلام بعد ذلك أن يؤكد أن اختراعات العلماء «هي إجابات لأسئلة طرحوها على أنفسهم بلغة كان عليهم أن يضعوها في شكل". تظهر الطبيعة "الحدثية" للمعرفة عندما تنشأ مشاكل جديدة ويتم تقديم إجابات جديدة محفوفة بالمخاطر وغير قابلة للتنبؤ بها. من هنا اهتمام كانغيلام بالولادات، بالقرابات، بالتغيرات في المعنى، بالقطائع، وب"تثبيتات" المفاهيم التي لا ينبغي إعادة صياغتها بناء على التسلسل المنطقي للنظريات: تاريخ المفهوم ليس "منطقيًا"، بمعنى أنه لا يستجيب للنمط النموذجي للمسيرة المتدرجة والعقلانية نحو الحقيقة. إن تفضيل تاريخ "انتسابات" المفاهيم إلى النظرية يعني، بالنسبة إلى كانغيلام، نفادي المخاطرة التي كانت موجودة بالفعل في التخطي الباشلاري: وهو الاعتقاد بأن حقيقة العلم توفر وجهة نظر متفوقة وبالتالي إمكانية الحكم ليس فقط في ما يتعلق بتاريخ العلم، ولكن أيضا في ما يتعلق بتاريخ العقلانية دون سواها.
من ناحية أخرى، فإن التفكير في التاريخ غير الخطي للعقلانية تنطلاقا من التاريخ غير الضروري للمفهوم لا يعني أن هذا التاريخ عشوائي تماما. على العكس من ذلك، يتعلق الأمر بتبيان أن ظهور المفهوم وتحوله في كل لحظة يستجيبان لشروط إمكانية دقيقة للغاية تتعلق بصياغة مشاكل معينة، تماما كما يشهد استمرار وجوده خلال فترة تاريخية معينة على "بقاء نفس المشكلة". إذا كان علينا أن نلخص في بضع كلمات النهج المتبع في التاريخ الإبستيمولوجي للمفاهيم، فيمكننا القول إن ذلك ينطوي على التفكير في الطرائق التي بموجبها لا تكون شروط إمكانية المفهوم شروطا ضرورية وفق تطور تدريجي لنظام عقلاني.
3- من تاريخ العلم إلى الفلسفة
هكذا يتمثل عمل كانغيلام في تأصيل النشاط العلمي ضمن سياق فريد ودقيق، وهو أولاً وقبل كل شيء سياق مجتمع معين في لحظة تاريخية معينة: "دراسة العلوم وفقا لتاريخها" تعني بالتالي أن "العلم يجب أن يظهر في عالم يجعله ممكنا"، أي مجموعة من الممارسات، التقنيات والمفاهيم التي يتم صياغتها للاستجابة للمشاكل الحالية. وهذا لا يعني أن إبراز «الظروف الخارجية» وشروط الحقيقة التاريخية يؤدي إلى تأكيد اعتمادها الكلي على قوانين مفترضة ذات طبيعة سوسيولوجية.
من وجهة نظر المؤرخ الإبستيمولوجي، تؤدي النزعتان الخارجية والداخلية في الواقع إلى معارضة زائفة بين "سوسيولوجيا طبيعانية للمؤسسات"، تهمل ادعاء الحقيقة من قبل الخطاب العلمي وتؤدي إلى تنسييه الكامل، من ناحية و"تاريخ بلا نظرية" للواقعة العلمية يتمثل في تن تطبق على النظريات العلمية نفس المعايير (النماذج الإرشادية، الفرضيات) التي يطبقها العلماء على موضوعاتهم، منىناحية اخرى. وفي كلتا الحالتين، يتم مماثلة موضوع تاريخ العلوم مع موضوع العلم. وبعبارة أخرى، سواء اعتبرت الحقيقة العلمية نتيجة لشروط "خارجة" عن النظرية، أو باعتبارها ملاءمة للموضوع الحقيقي - الذي تم الحصول عليه عن طريق منطق الفكر الخالص - فمن خلال النموذج النحوي من النوع السببي التمثيلي يتم نناول التفسير التاريخي. في المقابل، تبين النزعة الوضعية الواضحة في عبلرة كانغيلام، "لا حقيقة إلا وهي علمية"، أنها ضد كل نزعة علموية، ليس فقط لأن كانغيلام يؤكد بقوة استقلال عدد معين من القيم عن الحقيقة العلمية، ولكن أيضا لأنه يندد باختزال العلم إلى واقعة لا ينبغي فهمها إلا انطلاقا من الخطاب العلميىذاته:
"من خلال رغبتها في اختزال نشأة العلم ومعناه في الوقائع العلمية، تجعل العلموية نفسها غير قادرة على فهم قيمة ما تسعى إلى تصوره. تحول في الواقع يحول ما هو عمل ومجموعة منظمة من العمليات، التي ليس لها معنى إلا إذا وجدت في تجربة لم يقوموا بها شيئا يتعين فعله. العلموية تجعل العلم مستحيلا من خلال رغبتها في جعله إلزاميا".
وبعبارة أخرى، فإن البديل الخاطئ لـ “ترادف الباطنية-الخارجية” يمنع السياق التجريبي من أن يؤخذ بعين الاعتبار بشكل جدي، ليس فقط لأنه شرط لإمكانية الخطاب العلمي، ولكن أيضا كهدف للخطابات العلمية "النقدية والتدريجية لتحديد ما يجب اعتباره حقيقيا في التجربة". ومن وجهة نظر "تاريخ الحقيقة"، فإن عملية العقل ذاتها يجب أن تُفهم "كقوة لمؤسسة العلاقات المعيارية في تجربة الحياة أقل مما هي قوة لمؤسسة العلاقات المعيارية في واقع الأشياء أوفي العقل".
لكن المشكلة والتحدي الذي تطرحه الحقائق العلمية، باعتبارها التعبيرات الوحيدة عن الحقيقة في عصرنا، هما أن هذه الحقائق تُعطى لمجمل التجربة تحت نمط علاقة العالم بموضوعه. إنها تظهر في أشكال كونية نهائية وخالدة. علاوة على ذلك، لكي يتمكن العلم من تعريف نفسه على هذا النحو في لحظة معينة من تطوره، يجب أن يكون قادرا على التحقق من صحة حقائقه. وبما أن هذه الحقائق هي استجابات علمية لمشاكل نشأت في أماكن أخرى، في المجالات غير العلمية للممارسة السياسية، الاجتماعية والأخلاقية، إلخ..، فإنها تقدم نفسها باعتبارها استجابات معيارية ومجزية في هذه المجالات نفسها. وهكذا تقدم الحقيقة العلمية نفسها على أنها "وهم دوغمائي" مهيمن في مجال التجربة الإنسانية برمته، عندما يتم تصدير النموذج التفسيري الذي يميز الإجراءات "التأسيسية" للعلم إلى المناطق التي يفي فيها تقييم الحياة البشرية بمعايير غريبة عن الواقعية العلمية. إن "الصراع الحتمي" بين الحقيقة العلمية التي تقدم نفسها كإجراء مهيمن للتثمين والقيم الأخرى للحياة الإنسانية يشير بلا شك إلى المعركة النيتشوية بين التأويلات ولكنه يمكن أن يذكر أيضا بالنقد الفتجنشتايني ضد الحضارة الحديثة وما تقتضيه من "مكننة" الحياة. بالنسبة إلى كانغيلام، لا يمكن النظر إلى هذا الصراع إلا من التموقع على مستوى آخر، المستوى الفلسفي:
"لا مصلحة لنا في أن نطالب للحكم بالتقادم بشكل الحكم العلمي، ما دمنا لم نثبت أن شكل الحكم العلمي هو وحده الشكل الصحيح أو الصادق للحكم. ولكن من السهل أن نرى أن دراسة هذه المشكلة تتطلب تجاوز وجهة النظر العلمية الصارمة. التحقق من صحة الحكم العلمي يعني جعل الحكم العلمي يعتمد على حكم قيمة. لكن العلوم المعيارية تقترح العكس".
إن مسألة "التحقق من صحة الحكم العلمي"، وبالتالي رهان تفكير في الحقيقة، تعني أن مشاكل الفكر لا تختزل في مشاكل علمية وأن أحكام القيمة لا ترد إلى أحكام علمية. إن مبدأ عدم التنافس بين العلم والفلسفة على وجه التحديد هو الذي سمح لكانغيلام بتحديد مهمتين لمشروع فلسفي يتميز بوضع الحقائق العلمية في منظورها الصحيح في علاقة بمجمل الحياة البشرية: أولاً، يجب على الفلسفة، وفقا له، مواجهة لغات الخاصة، رموز خاصة، مع ما يظل ساذجا بشكل أساسي وجوهري في التجربة المعاشة. وثانيًا، الفلسفة هي “المكان الذي تواجه فيه حقيقة العلم قيما أخرى مثل القيم الجمالية أو القيم الأخلاقية” .
وفقًا لكانغيلام، تبدأ الفلسفة على وجه التحديد من "افتراض الكلية" التي هي غريبة عن تخصص الشعبة العلمية لأن هدفها هو "معرفة كيفية تحديد قيمة الحقيقة في ما يتعلق بالقيم الإنسانية الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار "جذورها الحيوية المشتركة"، أي تجربة ما تزال غير قابلة للاستيعاب أو لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشملها الحقيقة العلمية. لا يتعلق الأمر إذن بـ"تحديد" الحقيقة العلمية باسم شرعية ترغب في طرح نفسها على أنها كونية، بل يتعلق بإظهار أن الحقيقة العلمية "ليست القيمة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يكرس نفسه لها". إن تاريخ العلوم إذن هو تاريخ فلسفي لأنه يوضح أن الحقيقة العلمية هي نتاج لقاء: لقاء العلم مع اللاعلم، أي الظروف السياسية، الاقتصادية والاجتماعية للعقلانية العلمية، وبشكل أعم مجموعة كاملة من الأنشطة والتجارب البشرية التي ليست غابتها المعرفة. وفي ما يتعلق بهذه الأنشطة المتعددة الأوجه، "فإن وجهة النظر العلمية هي وجهة نظر مجردة تعكس اختيارا وبالتالي إهمالًا". لكن هذا الاختيار بالتحديد هو الذي يسمح للحكم العلمي بأن يطرح نفسه كحكم على الواقع، وهذا الاختيار مرة أخرى هو الذي يسمح للعلم بأن يتشكل كشعبة. ومع ذلك، بالنسبة للفلسفة، فإن المهمل هو ما يثير الاهتمام، أي كل ما يبقى تحت "القطيعة" المقامة في الواقع من خلال اختيار الأشياء العلمية:
"من الناحية الفلسفية، فإن ما يرفضه العلم لا يقل أهمية عما يخطط للقيام به. رفض العلم، يسميه العلم باطلاً ولا يعترف له بأي قيمة. لكن هذا الباطل الذي يضعه المنطق في معارضة دائمة معرالحق، يجب على الفلسفة أن تطالب، إذا جاز التعبير بحقوقها فيه".
تتمثل وجهة النظر الفلسفية في تاريخ العلوم في تقييم الوظيفة المهيمنة للحقيقة العلمية في مجال من الأنشطة الإنسانية من خلال فحص التشكل التاريخي لكل ما رفضته هذه الحقيقة ذاتها، وبالتالي لا يجد ذاته أكثر "مؤسسا في الحاضر" بقدر أكبر: خطأ، وحش، "حطام" تاريخ العقلانية. لذلك لا يمكن وصف التاريخ الكانغيلامي للمفاهيم لل كعلم ولا كتاريخ للعلوم، بل كتفكير فلسفي في العلم، في الطريقة التي تبني بها العلوم موضوعاتها بفضل شبكة من المفاهيم التي ينطوي تطورها التاريخي على تأثيرات التكوين، التداول، الإقصاء: "من التاريخ إلى العلم، كموضوع للتساؤل الفلسفي، أي منىحيث تكوين، إصلاح وصياغة المفاهيم، تنشأ فلسفة العلم".
إن الدور الذي يخصصه كانغيلام للفلسفة ولعلاقتها بالعلم يكشف بالتالي كل غموض الإرث الكانطي في تفكيره. من ناحية، سنكون قد أدركنا الإلهام المتعالي عادة للفلسفة التي لا تمثل فهما مباشرا للموضوع، قصدا مستقيما تجاه الموضوع، بل بالأحرى بحثا عن شروط إمكانية المعرفة. بهذا المعنى، تتميز المقاربة الفلسفية للعلم بالقصد المائل في ما يتعلق بالموضوع، وهذا يعني أن الفيلسوف الإبستمولوجي يهتم بشكل أساسي بالأدوات المفاهيمية التي يستخدمها العلم لمعرفة الأشياء. من ناحية أخرى، سنلاحظ أنه عندما يذكر استحالة وجود حقيقة من النوع الفلسفي، يرفض كانغيلام ادعاء حقيقة التحليل الكانطي المتعالي، الذي حدد المتعالي بأشكال قبلية من المعرفة. نحن نعلم في الواقع أن قسما كبيرا من الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، بدء من فوكو إلى باشلار، ورجوعا إلى برونشفيغ، سعوا إلى اتباع البرنامج الكانطي المتمثل في تسليط الضوء على ما يتعالى على المعرفة ويسبقها، بينما يسعون إلى أرخنة المتعالي من أجل أن يكونوا قادرين على أن يأخذوا في الاعتبار بجدية "تاريخية هي في آن واحد تاريخية المفهوم والحقيقة، تجعل من الممكن الإبلاغ عن كيف ترى النور في كل مرة حقيقة أخرى تستعمل مفاهيم أخرى". بمعنى آخر، إذا كانت الفلسفة لا تستطيع التدخل إلا بعديا دون تحديد حقائق العلم، فذلك لأن هذه الحقائق ذاتها هي نتاج تاريخ، تتخلله عوائق تجريبية وقطائع إبستيمولوجية، وليست مجموعة من المقولات الثابتة والمشكلة قبلا التي اكتشفتها الفلسفة. إن مفهوم "القطيعة" الإبستيمولوجية عند باشلار لا يقول شيئا آخر. يتم بعد ذلك استبدال فكرة أن العلم نسق بمفهوم العلم كعملية.
الجانب الآخر من الإرث الكانطي في فلسفة كانغيلام هو دعوتها النقدية الصريحة: ضد العلموية التي ترغب في توسيع مبادئ المعرفة العلمية لتشمل سائر مجالات النشاط الإنساني، يتعلق الأمر على وجه التحديد بالقيام ب"نقد فلسفي"؛ أي تحديد حدود المعرفة العلمية باانسبة إلى جميع القيم الأخلاقية، السياسية، الجمالية، إلخ.. وهكذا فإن الفلسفة الكانغيلامية تقدم نفسها بالفعل على أنها هذا النشاط النقدي الذي سيتناوله فوكو لاحقا على حسابه: “لا يمكن للفلسفة ألا تكون موقفا نقديا، بالنسبة إلى جميع الوظائف الإنسانية التي تنوي الحكم عليها، لأنها تسعى من خلاله إلى المعنى مه إعادة دمجه في امتلاء الوعي". بهذا المعنى بغير شك، دعا كانغيلام إلى إنشاء "نقد للعقل الطبي العملي" الذي يمكن أن يتعرف في ظاهرة الشفاء على التعاون بين المعرفة العلمية التجريبية واللا معرفة للقيم الحيوية التي أنشأتها العضوية في حوار مع بيئتها. علاوة على ذلك، تظهر الفلسفة، في انفتاحها على جميع الأنشطة الإنسانية، ومن خلال سعيها إلى فهم روابطها مع التجربة المعاشة، دعوتها "الشعبية"، وتظهر نفسها على أنها "شأن الجميع، وليس فقط الفلاسفة".
ومن ناحية أخرى، ينصب نقد الفلسفة المتعالية الكانطية على العجز عن التفكير في تاريخية العلوم باعتباره عجزًا عن التفكير في التحول – الذي يقوم به العلم أيضا – في أطر التجربة الإنسانية. يتصور كانط المعرفة المتعالية تماما كما يتصور العالم موضوعه: فهو يدرس المعرفة القبلية كمجموعة ثابتة من المقولات والمفاهيم التي أمكن تحديدها بالمقولات الرياضية والفيزيائية في عصره. إذا كان الماقبلي مغلقل ونهائيا، فمن الطبيعي أن توفر الحساسية مواد جديدة لمفاهيم التجربة، لكنها لن تكون عندئذ اختراعا بل اكتشافًا، لأن ما يتغير تاريخيا هو على وجه التحديد التجربة وليس أشكال التجربة. وكما سنرى لاحقا، فإن الإرث
الصدامي للكانطية داخل التيار الإبستيمولوجي الفرنسي أدى، عند فوكو، إلى نقد المشروع الفينومينولوجي. كان هذا المشروع، في نظره، غير قادر على التفكير في تحولات شكل التجربة على ضوء تحولات المعرفة العلمية.
لتلخيص ذلك، يمكننا القول أن العلاقات بين العلم والفلسفة عند كانغيلام تتميز بانفتاح مزدوج. فمن ناحية، من خلال الانفتاح على عالم الحقيقة العلمية كنتيجة للتصحيح الدائم، تتوقف الفلسفة عن كونها تتنبأ بالحقائق الأبدية والخالدة. وهكذا يُظهر العلم، في تطوره التاريخي، للفلسفة حدودها وإمكانياتها الخاصة. ومن ناحية أخرى، الفلسفة هي التي تفتح العلم على عالمه الخارجي، من خلال إظهار كيف أن مفاهيمه ليست انعكاسا بسيطا لواقع خارجي، حيث تكون المعرفة "متوافقة معه"، ولكنها تستجيب لاستخدامات وظيفية ومفيدة ولشروط الإمكانية المتجذرة في مجموعة معقدة من الأنشطة البشرية.
يجب على المؤرخ الفيلسوف بعد ذلك أن يدرك في نفس الوقت كيف ولماذا تكون المعرفة نتيجة لظروف لا تقع ضمن نظام المعرفة، ولكن يجب عليه أيضا أن يفهم كيف تنطوي الحقيقة العلمية على سلسلة كاملة من التأثيرات على الممارسات غير علمية. تتمثل مهمة الفلسفة، بالنسبة لكانغيلام، في دراسة عقلانية المشروع العلمي - وخاصة نشاط العلوم البيولوجية والطبية - أنطلاقا من "آخره"، أي الطرائق غير العلمية لتثمين الحياة البشرية، وعلى وجه التحديد انطلاقا من معيارية الكائن الحي.
وهكذا تجد نفسها المفهمة الجارية في العلوم في مواجهة آخرية يعيد المؤرخ الإبستيمولوجي باستمرار طرح إشكاليتها كحدث لعقلانية بصدد خلق وتحديد ذاتها كذلك. ونتيجة هذه الحركة المزدوجة، والتي هي أيضا في استمرارية كاملة مع التقليد الإبستيمولوجي الفرنسي، هي أن تاريخ العقلانية الكانغيلامية يرتبط دائما بخارج تقني سياسي، بيولوجي، يتكون أيضًا من العديد من الممارسات بالإضافة إلى الأجسام الحية. بل أيضا من علاقات القوة، ولكن دون “التخلي عن قيم عقلانية، موضوعية وكونية الفكر العلمي”. وفقا لكانغيلام، إذا كانت هناك وجهة نظر فلسفية صحيحة تتكون من ربط حقيقة العلم بمجمل القيم الإنسانية الأخرى، فيجب أن تقع بالضبط بين هذين القطبين: الخبرة الذاتية كمركز للتقييم الذي لا يمكن تجاوزه وضرورة تقييم المفهوم الذي يوازن ويبرر باستمرار الأولى باسم العقلانية الموضوعية.
(يتيع)
المصدر:
https://books.openedition.org/psorbonne/104052?lang=fr#tocfrom1n4

 

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟