تاريخ الفلسفة، تاريخ العلوم وفلسفة تاريخ الفلسفة (الجزء الأول) - أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 باعتباري من أصدقاء الفلسفة، بشهادة أحد أساتذتها الباحثين الجامعيين بالمغرب على الأقل، خطر على بالي الإقدام على مغامرة ترجمة هذه الدراسة الأكاديمية التي جاد بها جاك بوفريس (Jacques Bouveresse)‏؛ الفيلسوف الفرنسي المولود في 20 غشت 1940 بإبينوي، والذي تتعلق فلسفته بلودفيغ فتغنشتاين والفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة وفلسفة العلوم والمنطق. منذ عام 1995، شغل كرسي فلسفة اللغة والمعرفة بالكوليج دو فرانس.

"لا ينبغي أن تكون هناك فلسفة. إنها زلقة من جميع الجوانب. مهنة خطيرة مثل بناء الأسقف." ألان

1. الفلسفة وماضيها
في مقدمة الكتاب الذي نشره عام 1978، بالتعاون مع مايكل آيرز وآدم ويستوبي، "الفلسفة وماضيها"، يبدأ جوناثان ري، بشكل مفهوم ومتوقع، بالإصرار على حقيقة أن الفلسفة تحافظ على علاقة مع تاريخها، علاقة هي من نوع محدد تماما ومختلف تماما عن تلك الذي ترتبط بها العلوم مع تاريخها:
"تاريخ الفلسفة ليس ملحقا اختياريا للفلسفة. إنه يحدد النظريات والخلافات الرئيسية للفلسفة. إنه يقدس المفكرين العظماء والنصوص الأساسية لهذا التخصص؛ ويحدد الاتجاهات والفترات الرئيسية لتطوره. وهو بهذه الطريقة يقدم تعريفا ضمنيا للفلسفة، مشيرا إلى أن كونك فيلسوفا يعني أن تكون خليفة لأفلاطون وأرسطو والبقية، وأن تداوم على الممارسات التي – منذ بداية تاريخ الفلسفة – خلفها هؤلاء الرجال العظماء كإرث. وبطبيعة الحال، لا تزال هناك خلافات حول طبيعة الفلسفة. مثلا، طرح الفلاسفة الغربيون المعاصرون تعريفات مختلفة متنافسة: الفلسفة هي التحليل المفاهيمي، أو البحث عن الافتراضات النهائية للأنساق الفكرية، أو نظرية الممارسات النظرية، أو الصراع الطبقي على مستوى النظرية [إشارة إلى مفهوم الفلسفة الذي دافع عنه ألتوسير]، وهكذا.. لكن هذه التعريفات لن تكون متنافسة إذا لم تهدف إلى أن تكون تعريفات لنفس الشيء، وتحديد "نفس الشيء" هذا يتأثر بتاريخ الفلسفة. وبالتالي فإن مقولاتها لا يتم تطبيقها بأثر رجعي (وربما بشكل خاطئ) على الماضي فقط. تُترجم صورتها عن الماضي إلى واقع الحاضر: فطبيعة الفلسفة الحديثة تتحدد جزئيا من خلال الافتراضات المسبقة غير المدروسة لتاريخ الفلسفة."
أحد الأشياء التي قد تبدو مثيرة للدهشة في هذا المقطع هي فكرة أن تاريخ الفلسفة نفسه قد يكون بصدد القيام بطريقة أو بأخرى بالتحديد، الذي يحلم به الجميع، للموضوع الدقيق الذي يفترض في المفاهيم المتعددة والمتباينة للغاية تمثيله كل منها بطريقته الخاصة، أو ربما التي تمثل كل منها جانبا مختلفا منه. للوهلة الأولى، في الواقع، ما يمكن أن نتوقعه من تاريخ الفلسفة حول هذه النقطة يبدو قبل كل شيء أنه ينتج عددا أكبر من الإجابات المختلفة على السؤال المطروح، وليس بالتأكيد كونه يقربنا من إجابة محددة من شأنها أن تفرض نفسها بشكل نهائي كما لو أنها الإجابة الصحيحة. من المحتمل أن يكون الخيال الفلسفي قادرا على إظهار نفسه، عندما يتعلق الأمر بالإجابة على هذا السؤال، على أنه مبتكر وغير متوقع كما هو الحال عندما يواجه أي سؤال فلسفي آخر. والفلاسفة الذين اهتموا بشكل صريح بهذا النوع من المشاكل غالبا ما بدأوا بملاحظة أن الخلافات بين الفلاسفة حول مسألة ماهية الفلسفة بالضبط كانت كبيرة وبدت غير قابلة للحل مثل تلك التي تظهر في شأن جميع الأسئلة الفلسفية المعتادة. إذا كنا مستعدين، رغم كل شيء، لقبول فكرة أن تاريخ الفلسفة يمكن أن ينجح في النهاية في تزويد الفلسفة بإجابة مقبولة عالميا عن سؤال واحد على الأقل، وهو سؤال هويتها، فإن الاعتراض الواضح هو أن ذلك يتضمن مفهوما عن تاريخ للفلسفة ليس فقط ضربا من تفاؤلية لا شيء يبررها، لكنه أيضا نوع موضع شك إلى أعلى درجة ومتنازع عليه بشدة بشكل عام.

السبب الذي دفعني إلى اقتباس مقتطف من كتاب، صدر منذ ما يقرب من أربعين عاما، عن العلاقات المحددة والإشكالية التي تقيمها الفلسفة مع تاريخها، هو أن المؤلفين كانوا يناقشون مشكلة كان لها بالنسبة إلي، في تلك اللحظة، أهمية خاصة، بل حاسمة تقريبا. لقول الأشياء بطريقة مبسطة وربما حتى تبسيطية بعض الشيء، وجدت نفسي في مواجهة وضع فيه احتلت مسألة أهمية تاريخ الفلسفة ومسألة طبيعة العلاقة التي يقيمها مع التخصص الذي يؤرخ له مكانة قد توصف بأي شيء ما عدا أنها تافهة. في مقدمة التظلمات التي تم التعبير عنها في فرنسا ضد الفلسفة التحليلية، من قبل أشخاص لم يعرفوا عنها شيئا تقريبا في معظم الأوقات، كانت هناك، بالفعل، طريقتها الحقيقية أو المفترضة في التجاهل العلني لتاريخ الفلسفة وفي كونها تطبق على المشكلات الفلسفية تناولا عيب عليه واقعة إدراكها كما لو كان من الممكن مواجهتها والاقتراب منها بطريقة مباشرة ومستقلة تماما تقريبا عن التقليد الذي جعل ميلادها ممكنا وعن تاريخ هذا التقليد. ولكن، من ناحية أخرى، الانطباع الذي أمكنني الخروج أو خرجت به فعلا من الفلسفة الفرنسية، والذي كان تاريخ الفلسفة بلا شك إحدى نقاط قوته بل ربما نقطة قوته، كان هو الميل إلى منح الأخيرة مثل هذه الأهمية بحيث بدت الفلسفة نفسها مندمجة بشكل أو بآخر مع تاريخها. علاوة على ذلك، يمكننا أن نلاحظ أن مؤرخي الفلسفة بشكل عام لديهم ميل قوي جدا لاعتبار أنفسهم المدافعين عن الفلسفة الحقيقية، وهم المسؤولون عن حمايتها ضد جميع أشكال التخريب التي من المحتمل أن تهدد، بشكل مباشر أو غير مباشر، هويتها ونزاهتها.
عندما يتساءل مارسيال جيرو نفسه، في كتابه "فلسفة تاريخ الفلسفة"، أين بالضبط وبأي شكل يمكننا أن نواجه الفلسفة لأول مرة، يجيب دون تردد أن اللقاء مع الفلسفة هو قبل كل شيء لقاء مع مذاهب وتاريخها:
"من يلجأ إلى الفلسفة القائمة لا يجد مجموعة من الحقائق، بل تاريخها. ومن ثم، يبدو أن الحقيقة التي لا تقبل الشك هي أن تاريخ الفلسفة، قبل أي تعريف وأي بحث، يحتفظ بعلاقة محددة مع الفلسفة بشكل عام، تختلف تماما عن العلاقة بين تاريخ العلوم والعلوم بشكل عام."
بمعنى آخر، إذا أردنا مواجهة تخصصات علمية مثل الرياضيات أو الفيزياء، فيكفي للوهلة الأولى أن نقرأ عرضا يصف الرياضيات أو الفيزياء اليوم، أي يقدمها في حالتها الحالية. لكن بالتأكيد لا يمكن فعل أي شيء من هذا القبيل في حالة الفلسفة. إن معرفة الفلسفة تعني، بطريقة أساسية، معرفة ما كانت عليه، وليس فقط ما أصبحت عليه في النهاية. عندما نسعى إلى ربط الاتصال بالفلسفة نفسها، لا نواجه أبدا مجموعة من الحقائق الراسخة التي انتهت بفرض نفسها على مجتمع الممارسين ككل، ولا طريقا قادرا على تشكيل تقدم يمكن التعرف عليه بوضوح نحو حقيقة نهائية. لكن هذا يثير على الفور مشكلة هائلة، وهي ما إذا كان من يسعى إلى ملاقاة الفلسفة سينجح أم لا في ملاقاة شيء آخر غير تاريخها نفسه. ومع ذلك، رغم أن هذا الأخير قد يكون فلسفيا، إلا أنه لا يمكن الخلط بينه وبين التخصص الذي هو تاريخه. الشيء الوحيد الذي يستحق التأكيد عليه الآن هو أن جول فويلمان، في هذا النوع من الأسئلة، هو حقًا وريث جيرو. هو أيضا مقتنع بأن الاتصال بالفلسفة يتم في المقام الأول من خلال اللقاء مع الأنساق الفلسفية التي نقلها إلينا التاريخ. يمكننا أن نفكر في إجابة مختلفة تتمثل في القول بأن الاتصال بالفلسفة هو قبل كل شيء اتصال بالمشكلات الفلسفية. لكن إحدى الخصائص الأساسية لمنهج جيرو، والتي نجدها عند فويلمان، هي أن فهم المشكلات التي يطرحها الفيلسوف ويسعى إلى حلها يبدو أنه يمر بالضرورة عبر الفهم المسبق للنسق الذي ظهرت وصيغت فيه. إن تحليل البنيات يسبق ويؤسس تحليل المشاكل، وليس العكس.
إن الفرق الذي أكده جيرو وآخرون كثر بين العلاقة التي تقيمها الفلسفة بتاريخها وعلاقة العلوم بتاريخها، يبدو بالكاد قابلاً للنقاش، بل وواضحا تماما. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا لا يمنع الفلاسفة من أن يطبقوا بانتظام إلى حد ما على تاريخ الفلسفة معالجة لا ينبغي، باعترافهم الخاص، أن تستخدم في الواقع إلا في حالة تاريخ العلم. في الواقع، في الفترات الثورية، نحن لا نتردد في الحديث، في ما يتعلق بالفلسفة، عن الاضطرابات النظرية والمفاهيمية التي تنطوي تقريبا على نفس النوع من اللارجعة مثل بعض الثورات العلمية. كنت، من جهتي، قلقا جدا بشأن الكم الهائل من الأشياء غير المسبوقة التي كان من المفترض أن "برهن عليها" الفلاسفة الأكثر أهمية في فرنسا في الأعوام 1960-1980، وبشأن كم تلك المتعلقة بالحقائق أو الأدلة التقليدية التي كان من المفترض أن "دحضوها"، دون أي إمكانية للنقاش وبطريقة تحظر من حيث المبدأ أي نوع من العودة إلى الحالة السابقة.
ولا يسعني إلا أن أكرر في هذا الصدد ما كتبته في نص نشر قبل عشر سنوات بعنوان «الفلسفة وتاريخها» عن «الانزعاج الذي أثاره الإعلان في داخلي في فترة زمنية من اكتشافات مذهلة أو أعمال جليلة لا تنسى حققها الفلاسفة أو كانوا بصدد تحقيقها، (تقع) عموما ضمن نوع الاستدلالات السليمة على الاستحالة، والتي قد تتمثل، مثلا، في إثبات بشكل لا يقبل الجدل أنه لم يعد بإمكاننا فعل أي شيء بأفكار تقليدية مثل أفكار الذات، المعنى، الحقيقة، الموضوعية، إلخ..، بل علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لمحاولة التخلص منها تماما". من الغريب، على أقل تقدير، أن نرى الفلاسفة يؤكدون بانتظام على أن فكرة التقدم ليس لها معنى حقيقي في الفلسفة، وفي الوقت نفسه يتحدثون، بشكل لا يقل انتظاما، عن بعضهم على أنهم أظهروا بشكل قاطع أشياء ذات أهمية حاسمة، والتي لم يكن من الممكن أن يكون لدى أسلافهم أي فكرة عنها بعد.
ولكن يمكننا أن نلاحظ في الوقت نفسه أنه حتى أكثر مفكري التقليد الفلسفي تطرفا يحرصون، في معظم الحالات، على تقديم الأمور كما لو أن أسلافهم الأكثر شهرة كان من الممكن أن يكونوا بأي حال من الأحوال ضحايا الأخطاء أو الأوهام التي تم تصحيحها لاحقا. يمكن أن يكون لدينا شكوك جدية حول إمكانية العثور، في مجال مثل الفلسفة، على أمثلة لا جدال فيها عن الحقائق التي يمكن وصفها بأنها "راسخة". ولكن من المؤكد أنه من الأصعب إقناع الفلاسفة بقبول فكرة أن تاريخ تخصصهم ربما أدى إلى الاعتراف بشيء مثل "الأخطاء الراسخة". في الواقع، لكي يحدث هذا، سيكون من الضروري أن تكون بعض التأكيدات التي صاغها الفلاسفة قابلة للدحض وتم دحضها بشكل فعال، وهو احتمال لا يعطيه معظمهم أي معنى تقريبا. الانطباع الذي يحصل عليه المرء من هذا هو أنه عندما يتعلق الأمر بتقييم المذاهب والأنساق الفلسفية، فإن أفكارا مثل فكرتي الحقيقة والخطإ تكاد تكون عديمة الفائدة أو الصلاحية الفعليتين.
2. الفلسفة المعاصرة و”أجزاؤها الثلاثة الرئيسية”
الإشارة التي قمت بها إلى الاكتشافات المذهلة والأعمال الخالدة التي من المفترض أن يكون الفلاسفة قادرين عليها قد تجعلنا نرغب في الاستشهاد، كتذكير بالتواضع والحيطة، بأحد أشهر ممثلي هذا التخصص، والذي كان مع ذلك مقتنعا حقا، من جانبه، بأنه يشكل خطرا كبيرا على عصره وحتى أنه قادر على تفجير أسسه بشكل أو بآخر: "بشكل عام، لا أعتقد أن الفلسفات خطيرة. الناس هم الناس – وما الفائدة من التحدث بشكل أكثر وضوحا؟ – ويحتاجون إلى أن تظل أزياؤهم وأقنعتهم الصغيرة جميلة عندما يقدمون أنفسهم: الفلسفات جزء من هذه الأقنعة." (Friedrich Nietzsche, Fragments posthumes, -print-emps-Automne 1884, textes établis et annotés par Giorgio Colli et Mazzino Montinari, traduits de l’allemand par Jean Launay, Paris, Gallimard, 1982, p. 294-295)
إن ما قلته عن الكم المعتبر من الأشياء التي ندعي بانتظام أنها "تمت البرهنة عليها" بالفعل، في تخصص معرفي، مع ذلك، نذكر أنفسنا في كثير من الأحيان بأنه ليس برهانيا ولا يمكن أن يكون كذلك، من الواضح أن له علاقة بالملاحظة المفيدة جدا وهو ما فعله ديفيد ستوف عندما تحدث عن "تحييد كلمات النجاح"، وهو سمة من سمات فلسفة العلم اللاعقلانية، ويتمثل في استخدام كلمات مثل "المعرفة"، "الاكتشاف"، "الواقعة"، "التحقق"، " "الفهم" "التفسير" و"حل (مشكلة)" وغيرها الكثير مما يعني إنجازا معرفيا من نوع معين، من خلال تحييد هذا الجانب. ولتوضيح ما يتعلق به الأمر يأخذ المثال التالي:
"حاليا، في أستراليا، غالبا ما يكتب الصحفي جملة مثل "الوزير اليوم يدحض الادعاءات بأنه ضلل البرلمان"، في حين أن ما يقصده هو أن الوزير نفى هذه الادعاءات. "دحض" فعل في نحو النجاح (على حد تعبير رايل). والقول بأن الوزير دحض الادعاءات يعني أن ننسب إليه إنجازا معرفيا معينا، وهو إثبات كذب الادعاءات. من ناحية أخرى، كلمة "نفي" ليست من نحو النجاح. ولذلك فإن الصحفي الذي استخدم كلمة "دحض"، عندما كان كل ما يقصده هو "النفي"، استخدم إحدى كلمات النجاح، ولكن دون أن يقصد إيصال فكرة النجاح، الإنجاز المعرفي، الذي هو جزء من معنى الكلمة. لقد حيد كلمة نجاح."
لسوء الحظ، أعتقد أن الصحفيين ليسوا وحدهم من يمارسون ما يسميه ستوف تحييد كلمات النجاح. الفلاسفة يفعلون نفس الشيء بشكل متكرر. من الواضح أن للتحييد ميزة تتمثل في السماح لأولئك الذين لديهم مصلحة في جعل استعمال كلمات النجاح ممتدا بشكل ملحوظ وسخيا بشكل خاص؛ وهذا ما يحدث عندما يتم تطبيقها على الفلسفة، بطريقة تميل إلى المبالغة بوضوح في واقع وأهمية ما تنجزه من وجهة نظر معرفية بحتة.
وفي مقال بعنوان "What’s Wrong with Contemporary Philosophy“ (ما العيب في الفلسفة المعاصرة؟)”، يصف كيفن موليجان وباري سميث وبيتر سيمونس الفلسفة الغربية بأنها مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، لا يبدو أن أيا منها للأسف في الوقت الحاضر قادر على إنتاج أي شيء يرقى إلى مستوى الانتظارات التي يحق لنا أن نترقبها في الوقت الحاضر من الفلسفة: الفلسفة التحليلية، الفلسفة القارية وتاريخ الفلسفة. إن واقعة تقديم تاريخ الفلسفة كجزء، وحتى كأحد الأجزاء الرئيسية الثلاثة، للفلسفة نفسها قد تبدو للوهلة الأولى
مثيرة للقلق. ولكنها تتوافق، في مجملها، بشكل جيد مع الوضع الذي ذكرته بإيجاز، في ما يتعلق بفرنسا، والذي كنت قد عايشته بالفعل عندما كنت طالبا، باستثناء أن الفلسفة التحليلية لم تكن موجودة. إن المواجهة حدثت، بشكل أساسي، بين الفلسفة القارية، فيما تضمنته أو على الأقل كان من المفترض أن تشمله باعتبارها الفلسفة الأكثر ثورية، والفلسفة الجامعية، أي تاريخ الفلسفة بشكل أساسي.
إن تاريخ الفلسفة، كما لاحظ كيفن موليجان وباري سميث وبيتر سيمونس، يُمارس اليوم من قبل الفلاسفة التحليليين (هو الآن على أية حال أكثر مما كان عليه عندما بدأت الاهتمام بالفلسفة التحليلية) والفلاسفة القاريين. "في أوروبا القارية، كما يكتبون، باستثناء الدول الاسكندنافية وبولندا، الفلسفة هي، إلى حد كبير، مجرد تاريخ للفلسفة. يعكس التماهى شبه الكامل للفلسفة مع تاريخها في أوروبا القارية شكوكا هائلة تجاه أي نوع من الطموحات النظرية من جانب الفلسفة. هذه التأكيدات […] لا تخضع كثيرا للجدل، كما يُظهر فحص منشورات الفلاسفة في أوروبا القارية بسهولة." أعترف أنني لست على دراية كافية بالوضع الحالي لأقرر ما إذا كان من المحتمل أن يتم الطعن في ما قيل للتو أم لا. لكنني أعتقد أن المؤلفين يطرحون بلا شك سؤالاً ذا صلة ومهما عندما يكتبون:
"كيف يمكن لمثل هذا العدد الكبير من الفلاسفة التحليليين أن يستمروا في ممارسة الفلسفة بطريقة أكثر أو أقل صرامة ونظرية دائما، ومع ذلك لا يعتقدون أن الفلسفة يمكن أن تكون علما ولا أنها يمكن أن تضيف شيئا إلى رصيد المعرفة الإنسانية الإيجابية؟ في بعض الأحيان يكون هذا المزيج ناتجا عن الاقتناع بأن الفلسفة لا يمكن أن توصف أبدا بأي شيء آخر غير كونها مأزقية. في بعض الأحيان يكون ذلك بسبب الاعتقاد بأن الفلسفة يمكن أن تطمح إلى نتائج سلبية على الأكثر. في بعض الأحيان يرجع ذلك إلى الاعتقاد بأن الهدف النهائي للفلسفة ليس نظريا - أيا كان الكم النظري الذي بمكن توظيفه في السياق - ولكنه عملي، علاجي، مثلا. أحيانا يكون ذلك بسبب الحيطة، وأحيانا بسبب خداع الذات، وأحيانا بسبب التأثير الخبيث لكانط .
من الواضح أن هذا النوع من الأسئلة يطرح بشكل أكثر وضوحا وبشكل مباشر في ما يتعلق بممثلي التقليد التحليلي. ولكن يمكن أيضا أن نسأل عن بعض نظرائهم القاريين الذين هم أيضا مقتنعون بأن الفلسفة يجب أن تُفهم كمشروع نظري وممارسته بأكثر الطرق صرامة ممكنة، لكنهم مع ذلك يرفضون بشكل قاطع فكرة أن هذا قد يعني أن الفلسفة يجب أن تسعى جاهدة لتشبه الفلسفة العلم قدر الإمكان. من الواضح أن فكرة “الفلسفة العلمية”، بالمعنى الذي دافع عنها برتراند راسل وأعضاء حلقة فيينا، بعيدة جدا عن التصور الذي لدى فلاسفة مثل فويليمان وجرانجر عن تخصصهما. ومن الواضح أنه من الصعب، على أية حال، أن ندعي للفلسفة مكانة العلم، بالمعنى الحرفي للكلمة، وأن نثير في نفس الوقت، كما فعل كلاهما، شكوكا جدية حول إمكانية أن نطبق على قصاياها فكرة الحقيقة التي تظل قريبة بما فيه الكفاية من الفكرة المعتادة.
هناك تمييز مهم آخر يقوم به مؤلفو المقال الذي أتحدث عنه، وهو التمييز الذي يمكننا التعرف عليه للوهلة الأولى بين طريقتين لتصور تاريخ الفلسفة وممارسته. "من جانب، يكتبون، هناك تاريخ الفلسفة باعتباره تاريخ الفلسفة في مناطق، في ثقافات، إلخ..حيث يتم تحديد الفلسفة التي يتم دراسة تاريخها من قبل الأمة أو المجموعة اللغوية أو الثقافة التي ينتمي إليها الفيلسوف المعني. من جانب آخر، هناك تاريخ الفلسفة باعتباره تاريخ أفضل ما فكر فيه، قيل وحفظ، فيه تتحدد الفلسفة التي يدرس تاريخها، وطريقة دراسته، من خلال الاقتناع بأنه يمكن للفلسفة أن تتقدم لأنها تقدمت". ولذلك فإن اتجاه تاريخ الفلسفة من النوع الأول هو بالأحرى قومي أو إقليمي. أما تاريخ الفلسفة من النوع الثاني فهو، على العكس من ذلك، أممي إلى حد ما، لأن اختيار الأفضل كموضوع بحث والتقدم الأصيل، إذا كان هناك تقدم في الفلسفة، لا يمكن إلا أن يكونا أمميين في جوهرهما. ليس من المؤكد، فضلا عن ذلك، أن التعارض بين الفلسفة التي يتم تصورها وممارستها بطريقة "قومية" (اتجاه يميل، لبعض الوقت، إلى تأكيد نفسه بوضوح مرة أخرى في فرنسا) والفلسفة التي تتبنى منذ البداية بحزم وجهة نظر أممية ليس أكثر أهمية ودلالة اليوم من التعارض بين الفلسفة القارية والفلسفة التحليلية.
لاحظ موليجان وسيمونس وسميث أن «تاريخ الفلسفة، في معظمه، تم تطويره على أساس إقليمي: ما يتم دراسته يتحدد من خلال الأمة أو الثقافة التي ينتمي إليها الفيلسوف، وليس من خلال القيمة الموضوعية لعمل هذا الفيلسوف". للأسف،
النزعة الإقليمية، بهذا المعنى، لا تؤثر فقط على تاريخ الفلسفة، ولكن أيضا إلى حد يظل مهما جدا، وهو بشكل عام أكثر أهمية في فرنسا منه في عدد لا بأس به من البلدان الأخرى، على الفلسفة نفسها. أحد الأسباب الحاسمة التي جعلتني أشعر في وقت مبكر جدا بالحاجة إلى اتخاذ مسافة من الفلسفة الفرنسية المعاصرة يكمن على وجه التحديد في حقيقة أنني كنت أجد دائما النزعتين الإقليمية والقومية غير معقولتين وغير محتملتين، في مجال مثل الفلسفة. عندما نتحدث عن هذا النوع من المشاكل، نسمع عموما الإجابة بأنه، ما عدا في اللحظات النادرة والقصيرة التي تميل إلى أن تكون استثناءات، كانت الأمور تحدث دائما بهذه الطريقة تقريبا في فرنسا. لكنني أعترف أنني لم أفهم أبدا كيف يمكن لذلك أن يجعلها أكثر إرضاءً وأكثر قبولاً.
أحد تصريحات مؤلفي "ما العيب في الفلسفة المعاصرة؟" ، الذي لا يمكن بالتأكيد أن يكون محل نزاع، هو ما يتعلق بالهيمنة الساحقة التي تمارس، بين الفلاسفة ومؤرخي الفلسفة، من خلال مفاهيم النوع الأول من النوعين اللذين ميزوا بينهما. يكتبون قائلين: "انظروا إلى الخيار الثاني. إنه الآن فضول وليس خيارا حيا. ولعل آخر المؤمنين بهذا الخيار هم برينتانو وبعض طلابه. وكثيراً ما ينتابنا الآن شعور بأن أخذ الخيار الثاني على محمل الجد يعني عدم إخلاصنا لمهمة المؤرخ. وقد اشتبه بعض مؤرخي الفلسفة ضمن التقليد التحليلي في اتباع هذا الخيار؛ لكنهم يحصدون الآن استهجان المؤرخين الذين يصرون على التفسير النصي الخام وتتبع التأثيرات. "إن المشكلة الأساسية التي يطرحها موقف مثل موقف برينتانو هي أن لديه كل فرصة لأن يُنظر إليه على الفور على أنه وضعي، بأكثر للكلمة من معنى قدحي، إلى الحد الذي لا يتصور فيه أي وسيلة أخرى للفلسفة للوصول إلى حالة المعرفة الأصيلة القادرة على التقدم بدلاً من غير تجهيز نفسها بأساليب مستوحاة مباشرة من مناهج العلم، الأمر الذي له عيب مزدوج يتمثل في فرض نموذج عليها ليس من الضروري قبوله والتقليل إلى حد كبير من أهمية الاختلاف بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم.
3. نموذج برينتانو ومسألة التقدم في الفلسفة
في الواقع، يدرك برينتانو أكثر من أي شخص آخر حقيقة أن تاريخ الفلسفة، إذا نظرنا إليه من الخارج، لا يشبه إلى حد كبير تاريخ العلم:
"العلم لا يبدأ من جديد في كل رأس. هناك تقليد، كنز من المعرفة يتم الحفاظ عليه، إلى حد أن العصر اللاحق يلتقط تراث العصر السابق. لكن تاريخ الفلسفة مختلف. ما الذي يمكن أن يبقى ثابتا وينجو من تغير الزمن وينتقل من فيلسوف إلى فيلسوف؟ بطريقة معادة، وهذا هو الحال في العصر الحديث، نجد انقلابا كاملا للأنساق: يدخل التالي في المعارضة الأكثر حزما ووعيا مع السابق. إن الدوغمائية ذات الحجم الكبير يعقبها النقد، الذي غالبا ما يتحول فيه ضبط النفس إلى شكوكية، فلسفة مطلقة تدعي المعرفة الوفيرة (überschwenglic). فكيف يمكن إذن أن يكون علما، وبالتالي حقيقة، ذلك الذي يتغير شكله ولونه كل عام تقريبا، بحيث لا يعد من الممكن التعرف عليه؟"
في المحاضرة الذي ألقاها في فيينا عام 1895، أمام الجمعية الأدبية، حول "المراحل الأربعة للفلسفة"، بدأ برينتانو بالإشارة إلى أن تاريخ الفلسفة، وهو تاريخ المحاولات المبذولة لتحقيق العلم، يشبه من بعض النواحي تاريخ العلوم الأخرى (وهو يفعل ذلك على أية حال، على الأقل في الفترات التي يمكن اعتبارها صاعدة). ولكنه يشبه أيضا، من جوانب أخرى، تاريخ الفن، بحيث أنه بينما يمكننا أن نتحدث، في حالة العلوم الأخرى، عن تقدم مستمر، من شأنه التوقف عند لحظة معينة عن طريق الدخول في فترة من الجمود، يظهر "تاريخ الفلسفة، مثل تاريخ الفنون الجميلة، إلى جانب عصور التطور الصاعد، عصور الانحطاط، التي غالبا ما لا تكون أقل ثراء، بل وأكثر ثراء من حيث مظاهر العصر، من فترات الخصوبة الصحية".
إن الفترات التي يكون فيها الشعور بالفرق السحيق (الذي يثيره برينتانو، في المقطع قبل الأخير المذكور) بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم هو الأقوى، لا ينبغي على وجه التحديد اعتبارها فترات عظمة. بل هي فترات عدم نضج أو انحطاط، لا نستطيع (لحسن الحظ) أن نستنتج منها أن الأمور محكوم عليها بالبقاء إلى الأبد، أو حتى هكذا ببساطة لفترة طويلة:
"إن كل العلوم في مراحلها غير الناضجة معرضة إلى أقصى حد لخطر خسارة ما تم اكتسابه بالفعل مرة أخرى. إنها تشبه العضوية الدقيقة للطفل، الذي يستسلم بسهولة أكبر من الذي وصل إلى النمو الكامل لقوته أمام اضطراب أو مرض. وهكذا فإن البحث الفلسفي لا يُظهر بشكل فعال تطورا أقل من العلوم الأخرى فحسب، بل يظهر أيضا انحطاطا أكثر تكرارا وأعمق.
ربما كان العصر الذي مضى للتو هو عصر الانحطاط، حيث كانت جميع المفاهيم تسبح بشكل مشوش في بعضها البعض، ولم يعد هناك أي أثر للطريقة الطبيعية (naturgemäss). في هذه الحالة، لن يشكل الصعود والانحدار السريع للأنساق المتعارضة مفاجأة غير سارة بالنسبة إلينا.
لكن الحاضر في هذه الظروف هو بلا شك عصر انتقال من هذه الطريقة المنحطة في الفلسفة إلى بحث أكثر طبيعية. في وقت مثل هذا، سوف تتباعد المفاهيم الفلسفية بشكل طبيعي عن بعضها البعض. ولا يزال بعضها تحت تأثير أحدث الأنساق؛ ويبحث آخرون عن نقاط ارتباط في العصور القديمة؛ وهناك آخرون يبدأون مرة أخرى بطريقة جديدة تماما، مستعينين بمؤشرات منهجية من أحدث العلوم؛ والجزء الأكبر منها يمثل بنسب متفاوتة خليطا من العناصر القديمة والجديدة. وهذا أيضا يفسر تماما هذه المواجهة الفوضوية للمفاهيم الفلسفية في عصرنا، والتي تساهم ربما أكثر من أي شيء آخر في تدمير سمعة الفلسفة في أوسع الأوساط، ولهذا السبب نسلط الضوء على الحذر قبل أي شيء آخر كسبب لانعدام الثقة السائد."
ولذلك فإن برينتانو مقتنع بأن الإحباط الذي يميل إلى أن يسود يمكن أيضا تفسيره والاعتراف به على أنه يتوافق مع مرحلة انتقالية بالضرورة:
"لذلك نرى بوضوح أنه من المستحيل أن الفلسفة، حتى لو لم تُحرم من القدرة على النشر العلمي الحقيقي (Entfaltung)، لا يمكنها أن تصل الآن إلى درجة عالية من التفويض؛ وبالتالي لا يمكننا بأي حال من الأحوال، انطلاقا من حالتها الحالية المتخلفة، أن نستنتج أن التقدم العلمي فيها مستحيل بكل بساطة، وأن أبحاثها، في الوقت نفسه، لا تستحق حقا اسم الجهود العلمية. ولكن إذا كانت الحالة غير الكاملة التي تجد الفلسفة نفسها فيها الآن لا تبرر استخلاص استنتاج من هذا النوع، فإن كل الأسباب التي، كما قلنا، قد أنتجت عدم الثقة والإحباط العميق حيال الأبحاث الفلسفية، لا ينبغي لها أن تثبت أي شيء ضد الخاصية العلمية للمشاكل الفلسفية، لأنه يمكن فهمها بسهولة على أنها نتائج لهذه الواقعة."
ومن بين الأسباب التي تجعل، إذا استمر التقدم لفترة من الوقت فقط، نفس الشيء ينطبق على الانحطاط، يمكننا أن نعتبر واقعة أن الشكوكية، التي تتوافق مع المرحلة الثانية من مراحل الانحطاط الثلاثة، ليست موقفا يمكننا أن نتمادى فيه لفترة طويلة جدا. تأتي دائما، عاجلاً أم آجلاً، لحظة تصبح فيها الحاجة إلى المعرفة قوية بما يكفي لكسر السدود التي تسعى الشكوكية إلى معارضتها والتغلب تماما على العقبات التي قد لا يزال العقل النقدي نفسه يسعى لمعارضتها:
"إن المطلب الطبيعي للحقيقة، الذي أعاقته الشكوكية، يشق طريقه بعنف. وبحماسة مشددة بطريقة مرضية (من المرض، المترجم) نعود إلى بناء العقائد الفلسفية. بالإضافة إلى الوسائل الطبيعية التي عملت بها المرحلة الأولى، نخترع طرقا للمعرفة لا تحتوي على أي شيء طبيعي، ومبادئ خالية من أي نوع من التمييز، وقوى عبقرية حدسية على الفور، وتكثيفات صوفية للحياة الفكرية، وسرعان ما ننتشي بالحيازة المفترضة للحقائق السامية، التي تفوق بكثير أي ملكة بشرية."
لكن مرحلة التمجيد العقائدي الصوفي لا يمكن لها أيضا أن تستمر إلى ما لا نهاية، لأن الاهتمام بالعلم والمنهج العلمي والطريقة العلمية للمعرفة بشكل عام، والذي ظل خاملا لفترة من الوقت، ينتهي أيضا بالاستيقاظ يوما ما؛ الشيء الذي يشكل بالنسبة إلى الفلسفة إعلانا عن الدخول في فترة صعود مرة أخرى. كما هو متوقع، في المرحلة الأخيرة من الانحطاط، كان الاختفاء شبه الكامل للاهتمام بالعلم مصحوبا بخسارة كاملة إلى حد ما لفكرة العلم نفسها، مما جعل من الممكن الارتقاء إلى مرتبة العلم - و حتى في حالة الفلسفة، إلى مرتبة العلم الأسمى – بالمشاريع الفكرية التي تمثل في الواقع عكس ما يفترض أن يكون عليه العلم. يُحدث برينتانو، في هذه النقطة، فرقا جوهريا بين حالة كانط، الذي، رغم أنه كان بالفعل في مرحلة الانحطاط، لا يزال من الممكن الإعجاب به لمساهمته التي قدمها في العلم نفسه، وحالة فلاسفة مثل شيلينج وهيجل. وفي مقدمة محاضرة "المراحل الأربعة للفلسفة"، تم التعبير عن الفرق على النحو التالي:
"قد يسيء المرء فهمي تماما إذا اعتقد أنه بالنسبة إلى هؤلاء المفكرين الذين صنعوا عصرا جديدا، والذين لا أستطيع أن أحترمهم كمروجين حقيقيين للفلسفة، فإنني أرغب في الاعتراض على شيء من مواهبهم العالية غير العادية. في الحكم الذي صاغه حول القيمة العلمية للنظام الهيغلي، أتفق مع شوبنهاور؛ في ازدرائه للقوة الفكرية للإنسان، من المستحيل بالنسبة إلي أن أتفق مع رأيه. وبالمثل، أرجو، خاصة عندما أتعامل مع كانط، ألا يساء فهم رأيي الحقيقي حول هذه الروح الاستثنائية. إن الأشياء التي جلبها إلى علم الطبيعة، مثل تلك التي جلبها بروكلس إلى الرياضيات، تظل بمنأى تماما عما يقال عن نسقه الفلسفي."
إنه اختلاف من نفس النوع، الذي أحدثه، في فترة ردة الفعل التي أعقبت وفاة هيغل، علماء هم في نفس الوقت فلاسفة (مثل هيلمهولتز) بين كانط وبعض ورثته. حول تطور الفلسفة في ألمانيا بعد كانط، يصوغ برينتانو حكما خاليا من أي نوع من التساهل، ولكنه مع ذلك يترك في النهاية بعض الأمل المتبقي، لأن الأمور ربما تكون في طور التغيير، هذه المرة نحو الأفضل:
"بينما لم يذهب الإنجليز، على المسار غير الطبيعي الذي سلكه ريد، إلى أبعد من ذلك، وحتى في المدرسة الاسكتلندية، يقترب خليفة ريد الثاني، توماس براون، مرة أخرى من الطريقة الطبيعية للنظر إلى الأمور، في ألمانيا بعد ذلك يأتي كانط مع فيخته بأسلوبه في الأطروحة والنقيض والتركيب؛ بعد فيخته شيلينغ، مع حدسه الفكري، نمط مطلق من المعرفة؛ لا يمكن تدريسه؛ ولا نرى لماذا يجب على الفلسفة أن تجبر نفسها على أخذ هذا العجز في الاعتبار بشكل خاص؛ لا ! يجب علينا منع الوصول إليها انطلاقا من المعرفة العادية بحيث لا يؤدي إليها أي طريق أو مسلك. وبعد شيلينج يأتي هيغل بفلسفته المطلقة، التي تدعي أنها فكرة تعرف نفسها على أنها الحقيقة الكاملة، والتي تعيد إنتاج العالم الطبيعي بأكمله وعالم الروح من نفسها. يريد هيغل أن يبدأ من فكر خال تماما من المحتوى، أن يجعل النفي وسيلة للتقدم الجدلي، وبعد سلسلة من خطوات الرقص التي نفذها في المقياس الثلاثي الثماني للطرح والنفي ووحدة الاثنين، يؤمن حقا بأنه وصل إلى الهدف الأعلى.
حسنا، فليكن! يتم الحكم على هذا النسق الهيجلي وادعاءاته. قبل بضعة عقود مضت، كان لا يزال يُحتفى به عالميا باعتباره أعلى ما يمكن أن تحققه القدرة البحثية لدى الإنسان، واليوم يُدان عالميا تماما مثل الانحطاط الأكثر تطرفا للتفكير البشري. إنها علامة جيدة. ويمكننا في الواقع الاعتماد على فكرة أن عصرنا هو بداية فترة جديدة من التطور."
إن النقطة الحاسمة، في وضعية مثل تلك التي يعتقد برينتانو أننا على الأرجح بصدد الخروج منها، هي بالطبع نقطة المعايير التي تجعل من الممكن التمييز بين المعرفة الحقيقية، التي تدعي الفلسفة بشكل طبيعي أنها تمثل نموذجا، بل نموذجا متميزا عنها، وبين المعرفة الوهمية. لكن الشيء الوحيد الذي يرفض منحه للفلسفة بشكل قاطع هو إمكانية وجود طريقة خاصة للمعرفة، تختلف بشكل أساسي عن طريقة العلم وتتفوق عليها:
"يقال […] أن أسلوب التفسير والبحث الذي يدعيه الفيلسوف هو من نوع مختلف تماما عن ذلك الذي يطمح إليه ممارس العلوم الطبيعية. يقال إن الفيلسوف يريد أن يخترق الماذا والكيف الداخليبن للأشياء، وهو ما لا يمكن للملاحظة والتجربة الوصول إليه. - نحن نجيب. هذا أيضا ليس إلا نتيجة للحالة المتخلفة للفلسفة. وهذه علامة على أنها قد لا تكون لديها بعد أفكار واضحة حول حدود المعرفة الممكنة والطريقة الصحيحة لطرح أسئلتها. وفي مجالات المعرفة الأخرى أيضا كان الأمر مماثلا في الماضي.
في الواقع، لقد استغرق الأمر وقتا طويلاً للغاية حتى يتخلى ممارس العلوم الطبيعية عن ادعاء "فهم قوى الطبيعة الأكثر حميمية كما هي وبالطريقة التي تعمل بها"، ويقرر التخلي عن طموحات من هذا النوع للفلسفة. تصرف على هذا النحو لأنه في هذه الأثناء "أدرك بوضوح أن الحدود التي فرضها على بحثه هي في نفس الوقت تلك التي فرضتها الطبيعة نفسها على جهود العلم."
ما يجب قوله إذن ليس هو أن الحدود الصارمة للغاية التي يواجهها البحث العلمي تجعل من الضروري للغاية وجود نمط آخر من المعرفة، أكثر طموحا وحرية، والذي تكون الفلسفة قادرة على تقديمه على وجه التحديد. بالأحرى، كما يعتقد برينتانو، عندما اختار العلماء ترك الأمر للفلسفة للذهاب إلى أبعد مما شعروا بأنهم مخولون للقيام به، فقد قدموا لها في الواقع هدية مسمومة (Danaergeschen) كان ينبغي لممثليها أن يرفضوها. كان من الأفضل لهم، "في مجالهم، أن يتخلوا بالمثل عن البحث المتعلق بالجوهر الداخلي للعمليات باعتباره شيئا مستحيلًا.
4. الفلسفة بين تهديد الشكوكية الراديكالية وتهديد وهم المعرفة
في المراحل الصاعدة من تطور الفلسفة، تتكيف المطالبات بالعلم وبشكل عام المعرفة، وفقا لبرينتانو، تلقائيا مع الحدود والقيود التي تفرضها الطبيعة نفسها على الجهد المبذول للوصول إلى المعرفة الحقيقية. وبعبارة أخرى، فإن الوسائل التي أتاحتها لنا الطبيعة هي التي تحدد ما إذا كان بإمكاننا أن نطمح بشكل مشروع إلى معرفة من هذا النوع أو ذاك. وفي مراحل الانحطاط، على العكس من ذلك، تنقلب العلاقة بين الأمرين. ومن الحاجة التي لا يمكن كبتها والتي نشعر بها إلى معرفة أشياء معينة، نستنتج أن لدينا أيضا الوسائل اللازمة لمعرفتها، ونفترض، للتأكد من أننا قد حققنا ذلك بالفعل، وجود مناهج للمعرفة تعطي الانطباع بأنها مناسبة للغرض، ولكن لسوء الحظ ليس فيها من الطبيعة ما يذكر ويمكن اعتبارها مصطنعة تماما. وهكذا نفهم بشكل أفضل لماذا يرى برينتانو أنه من الضروري الإصرار في هذه المرحلة على الفرق الحاسم بين الأساليب التي تتوافق مع الطبيعة (naturgemäss) وتلك التي لا تتوافق معها.
مرة أخرى، من الواضح أن التصور الذي يتبناه بشأن هذه المسألة يرن، في آذان معظم الفلاسفة، بطريقة وضعية للغاية بحيث لا يمكن اعتبارها مقبولة، ولا يأخذ، في نظرهم، على نحو مرضيا (من الرضى، المترجم) لا نهج الفلسفة ولا نهج العلوم نفسها. ولكن تجدر الإشارة على الأقل إلى أن برينتانو لا يقترح بأي حال من الأحوال استبدال الفلسفة بالعلم. إن ما يطلبه من الفلسفة هو ببساطة أن تطبق، في المجالات المختلفة التي يتعين عليها أن تتعامل معها والتي ليس من الممكن تجريدها منها، بما في ذلك، بالطبع، الميتافيزيقا، مناهج تمنحها فرصة أكثر جدية لتحقيق نتائج حقيقية.حتى في الميتافيزيقا ليس هناك طريقة أخرى للوصول إلى المعرفة غير تلك التي تنطبق على جميع الحالات. ويمكن للفلسفة، حسب برينتانو، أن تتمسك بما هو ممكن من حيث المعرفة دون أن تفقد شيئا من كرامتها وأهميتها. ولذلك ليس لديها أي سبب للسماح لنفسها بالاستسلام لوهم المعرفة المستحيلة والتي رغم ذلك لا غنى عنها، والتي تفرض هيمنتها نفسها في المرحلة، التي يمكن أن نسميها الدوغماتية الصوفية، والتي، خلال سيرورة الانحطاط، تتوالى كردة فعل على ذلك التنازل المتشكك. لذلك، فإن إحدى المشكلات الرئيسية التي تواجه الفلسفة هي أنها تتأرجح بين مراحل الاكتئاب من الاستسلام لاستحالة المعرفة ومراحل التمجيد التي تتميز بالإيمان غير المنضبط بأشكال المعرفة المستحيلة التي من المفترض أن تكون مخصوصة لها.
لاحظ موليجان وسميث وسيمونس، كما رأينا، أنه حتى عندما يتقدمون بطريقة نظرية واضحة، لا يميل الفلاسفة التحليليون الحاليون عموما إلى الاعتقاد بأن الفلسفة يمكن أن تكون علما أو حتى أنها، بطريقة اكثر عمومية، تكون بصدد المساهمة في زيادة حقيقية في المعرفة التي نمتلكها من جهة أخرى. أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو بلا شك حالة مايكل دوميت، الفيلسوف التحليلي الذي، رغم أنه يستخدم على نطاق واسع وسائل نظرية وتقنية متطورة إلى حد ما في فلسفته، مع ذلك يؤكد أنه لا توجد معرفة فلسفية خالصة، ليس للفلسفة من مهمة أخرى يجب إنجازها سوى تزويدنا بالتوضيح والفهم الأفضل لما نعرفه بالفعل بطريقة أخرى.
فهل هناك، رغم ذلك، حقائق يمكن اعتبارها فلسفية على وجه التحديد أم لا؟ يجيب دوميت على هذا السؤال بطريقة إيجابية تماما، لأنه مهما كان رأي فيتجنشتاين حول هذه النقطة، فإن العمل التوضيحي يمكن أن يؤدي بالفعل إلى صياغة افتراضات فلسفية يتم الاعتراف بها على أنها صحيحة:
"أن تكون مهمة الفلسفة هي توضيح مفاهيمنا لا يعني عدم وجود حقائق فلسفية، ولا مقولات تجسد نتائج التوضيح الفلسفي. إن جوهر عمل فيتجنشتاين يكذب النفي الذي يعارض فكرة أن المشروع الفلسفي يمكن أن يحبس بين قضايا. تشير العديد من حججه إلى استنتاجات يمكن التعبير عنها كأطروحات فلسفية. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك تأملاته الشهيرة حول مفهوم اللغة الخاصة.
مع ذلك، قد يتم الاعتراض على أنه إذا كانت الفلسفة قادرة حقا على أن تقودنا إلى اكتشاف القضايا الفلسفية المعترف بها على أنها صادقة، فإنه يبدو من الصعب، مع كل الاحترام الواجب لدوميت، التأكيد على أنها لا تهتدي ولا تسعى أبدا إلى تزويدنا بمزيد من المعرفة المحددة، لأن معرفة الحقائق المعنية، والتي هي فلسفية، تبدو بالفعل ذات طبيعة فلسفية أيضا. لكن من الواضح أن هذه نقطة ذات أهمية ثانوية نسبيا.
في الفصل الأخير من "طبيعة الفلسفة ومستقبلها"، يشير دوميت إلى المقالة التي نشرها بيتر سيمونس عام 2000 في مجلة "The Monist" تحت عنوان "المراحل الأربعة للفلسفة"؛ ويصوغ نقدا ضد نموذج برينتانو الدائري، الذي منحه المؤلف، رغم عيوبه، استحسانه، نقدا يستحق النظر فيه عن كثب:
"العيب الرئيسي في نموذج برينتانو الدوري ليس واحدا من تلك العيوب التي ذكرها سيمونس. بل هو تجاهله حقيقة أن الفلسفة هي مجال البحث عن الحقيقة، أو، بشكل أكثر دقة، البحث عن فهم أوضح للحقائق التي نعرفها قبلا. فهو بالتالي لا يترك مجالاً للتقدم في الفلسفة؛ وإذا لم تحرز الفلسفة تقدما، فلا تستحق إضاعة أي وقت معها. لا يمكن مقارنة الفلسفة بالفنون الجميلة دون التقليل من قيمتها. إن النظرية الدائرية لتاريخ الفن أو الشعر لن تقلل من شأن هذه الفنون، لأنها لا تهدف إلى الذهاب إلى أي مكان؛ إذا كانت مثل هذه النظرية مناسبة للحقائق، فإنها ستفسر ببساطة سبب كون الفن أو الشعر ذا جودة أكبر في أوقات معينة منها في أوقات أخرى. لكن الفلسفة لها هدف؛ ولا يمكن متابعته إلا مع الاعتقاد بأنه يتم اتخاذ خطوات نحو هذا الهدف. إن العلوم تتقدم، إن لم يكن في خط مستقيم كامل، فعلى الأقل في منحنى أو منعرج لا ينحرف عنها إلا قليلاً. إن الخطأ في نموذج سيمونس للتقدم التراكمي ليس أنه يفترض تقدما في الفلسفة، ولكنه يمثل ذلك التقدم على أنه يتم إحرازه في خط مستقيم تقريبا. وبدلاً من ذلك، فإن المسار نحو هدف الفلسفة – أيا كان المسار الذي يمكننا أن نتخذه – هو مسار ملتو يقوم بمنعرجات بالنسبة إلى ذاته. في مرحلة معينة، قد تكون الطريقة الوحيدة للمضي قدما في هذا المسار هي قطع مسافة كبيرة جدا في اتجاه معاكس للاتجاه الذي يقع فيه الهدف، وقد يكون السير في هذا الاتجاه هو الطريقة الوحيدة لتحسين فرصنا في الوصول في النهاية إلى الهدف. ومع ذلك، وفقا لنموذج برينتانو، فإن الفلسفة لا تحرز أي تقدم نحو هدفها النهائي، سواء في خط مستقيم أو في مسار حلزوني: إنها ببساطة تسير عبر دوائر.
ليس كل الفلاسفة يميلون إلى الاعتقاد، كما يفعل دوميت، بأن مقارنة تاريخ الفلسفة بتاريخ الفن سيكون لها تأثير في التقليل من قيمة الفلسفة. إن عدداً لا بأس به منهم، وخاصة في الفلسفة القارية، مقتنعون على العكس من ذلك بأن هذا هو أعظم شرف لهم وأن المقارنة هي بالتحديد ما يناسب، خصوصا وأن الفلسفة تشكل حقلاً لا يبدو أن التقدم له فيه مكان أكبر بكثير من الفن. قد يكون من المثير للاهتمام أن نستشهد، في هذه النقطة، بمقطع من تعليقات آلان على الأدب، يعبر عن مفهوم منتشر جدا بين الفلاسفة، ويجب أن أقول أنه أثار دائما حيرة كبيرة في داخلي ومقاومة قوية:
"لن يتم خلق الإنسانية من خلال رتوشات على الرجال العظماء. كل جامعات السوربون مسمومة بالتفنيد. يقول السوربوناج: هناك أشياء جيدة في أفلاطون، لكن في نهاية المطاف لم يكن أفلاطون يعرف كل شيء، وكذلك ديكارت. يضيف عليهما رتوشات، كما يفعل الرسام مع أنف الموناليزا؛ فقط مثل هذا الرسام سيكون مثيرا للسخرية؛ الأمر متروك له للقيام بعمل أفضل بالانطلاق من قماش أبيض؛ بل الأمر متروك له أن يفعل شيئًا آخر، وأن ينير وجه الإنسان بشكل مختلف. لوحة مانيه لا تدحض الموناليزا. هوغو لا يدحض لامارتين. كل واحد يتعلم من الأعمال، ويقوم بعمله إذا استطاع. العمل الفني الذي لا يأتي بشيء غير قابل للتجزئة وجديد، نتركه جانبا. ولكن بمجرد أن يتحدث إلى رجل، عليك أن تأخذها كما هو، وبأكمله. الإعجاب هو الشعور الذي يجمعنا من الداخل ويصالحنا مع ذواتنا. إنه اختبار الاختيار، إنه الاختبار الوحيد ضد الانقسام المهين في داخلنا. […] الأشياء التافهة تستجدي وتقسم وتبلى؛ هذا المطر لا يتوقف. ومع ذلك، يجب علينا أولاً أن نكتشف نقطة الإعجاب هذه، وهي ليست واحدة عند الجميع، ولا هي لنفس الأعمال. يمكننا أن نفهم المؤلف، بل ونوافق عليه، ولا نعجب به. ولكن إذا بحثنا بجدية سنجد دائما (شيئا ما). نحن ندرك أنه ليس هناك أبدا مسألة دحض أو تنقيح. هناك أفلاطونيون وأرسطيون في جميع أنحاء العالم؛ كل شيء جيد بمجرد أن يوجدوا."
ما قصدت شخصيا من السوربوناج أن يقوله معظم الوقت، عندما كنت صغيرا، كان بالأحرى ما قاله آلان نفسه، أي أن كل شيء جيد ويجب الإعجاب به عند أفلاطون، وفي هذا الصدد أيضا عند أي فيلسوف عظيم آخر. على أية حال، لا تكاد توجد فكرة سمعتها تتكرر أكثر من تلك التي تتمثل في التأكيد على أنه لا يوجد شيء أكثر عبثا في الفلسفة من محاولات التفنيد. قد يبدو، على الأقل للوهلة الأولى، أننا نجد في كثير من الأحيان، حتى بين أعظم الفلاسفة، أشياء قد نرغب بشكل مشروع في مناقشتها وحتى دحضها. لكن من الواضح أن هذا الأمر ليس له معنى كبير إذا كانت المعايير التي يجب تطبيقها لتقييم العمل الفلسفي هي من نفس طبيعة تلك المستخدمة في الأعمال الفنية.
ما يثير الاهتمام في ما يخبرنا به آلان هو على وجه التحديد أن حالة الأعمال الفلسفية، بالنسبة للسؤال الذي يهمنا، يتم تحديدها بطريقة واضحة وصريحة بشكل خاص مع حالة الأعمال الأدبية والأعمال الفنية بشكل عام. حتى لو كان مؤلفوها قد حاولوا بانتظام دحض بعضهم البعض، فإن الروائع الفلسفية، كما يقول لنا، لم تعد تدحض بعضها البعض وربما لا ينتقد بعضها البعض بعد الآن، كما تفعل روائع الأدب. وهو مفهوم، حتى لو كان المؤلفان قد فوجئا بالإشارة إليه، فهو لا يختلف كثيرا عن ذلك الذي دافع عنه دولوز وغاتاري في "ما هي الفلسفة؟" ما يقترحانه، في الواقع، هو أنه لا ينبغي لنا أن نناقش الإجابة التي قدمها الفيلسوف للمشكلة التي طرحها؛ بل يجب أن نحاول نحن طرح مشكلة أخرى.
هذا لا يستبعد، بالطبع، بالضرورة أن الفلسفة يمكن اعتبارها، باستخدام صيغة دوميت، قطاعا للبحث عن الحقيقة، طالما يمكننا أن نعتبر ونعتبر بالفعل في كثير من الأحيان أن الفن له أيضا علاقة بالبحث عن الحقيقة ومن شأنه أن يكون قادرا على أن يوصل إلينا حقائق من نوع معين. ولكن، كما يشير دوميت، فإن الأمور لا تحدث على الإطلاق في هذه النقطة، كما هو الحال في حالة العلم. لا يتعلق الأمر هنا بوجود حقيقة سابقة على البحث والتي يمكننا أن نأمل في النجاح، على حساب الجهود التي يجب أن تتجدد باستمرار، في الاقتراب منها أكثر فأكثر. يبدو أنه يمكن تحقيق ذلك بطريقة مباشرة ومتكاملة. ولذلك فهي ليست على الإطلاق ذلك النوع من الحقيقة الجزئية والقابلة للتصحيح، والتي يمكن استكمالها أو تصحيحها لاحقا، والتي نتعامل معها في العلوم.
وغني عن القول إنه اعتمادا على ما إذا كنا نتصور الفلسفة أم لا كتخصص يمكن تصور التقدم فيه وحتى ملاحظته فعليا، فإننا نفكر أيضا بطريقتين مختلفتين جوهريا في المهمة الملقاة على عاتق تاريخ الفلسفة. يقدم كارناب توضيحا دالا للغاية على ذلك في مقطع من سيرته الذاتية الفكرية، حيث يناقش الطريقة التي مورس بها تاريخ الفلسفة في جامعة شيكاغو، التي، كما يقول، تحتل فيها دراسة المصادر اليونانية واللاتينية والقرووسطية مكانة أكثر أهمية من معظم الجامعات الأخرى في البلاد:
"تميز الموقف المنهجي الذي تعلمه الطلبة تجاه تاريخ الفلسفة بدراسة متعمقة للمصادر وبالتأكيد على ضرورة فهم مذهب الفيلسوف بشكل محايث، وبعبارة أخرى، لوجهة نظره الخاصة، بقدر ما لا ينصف النقد الخارجي خصوصية الفيلسوف المعني ومكانته في التطور التاريخي. بدا لي هذا التعليم في الدقة التاريخية والموقف المحايد مفيدا ومناسبا للهدف الذي تسعى إليه الدراسات التاريخية، ولكنه غير كافٍ للتدريب على الفلسفة نفسها. إن مهمة تاريخ الفلسفة لا تختلف جوهريا عن مهمة تاريخ العلم. لا يقدم مؤرخ العلوم وصفا للنظريات العلمية فحسب، بل يقدم أيضا حكما نقديا عليها، من وجهة نظر معرفتنا العلمية الحالية. أعتقد أن الشيء نفسه يجب أن يُطالب به في تاريخ الفلسفة. يرتكز هذا المفهوم على الاقتناع بأنه في الفلسفة، كما هو الحال في العلم، هناك إمكانية لتراكم البصيرة وبالتالي التقدم في المعرفة. هذا المفهوم، بطبيعة الحال، سوف ترفضه التاريخية في شكله الخالص."
لست بحاجة إلى الإصرار على حقيقة أن مسألة ما إذا كان تاريخ العلم يجب أن يسمح لنفسه أم لا، بل أن يشعر بأنه مجبر على صياغة حكم نقدي على النظريات التي يصف تطورها، يمكن أن تثير أيضا خلافات خطيرة، كما هو الحال الآن. وهذا هو الحال على وجه الخصوص مع ما يمكن ملاحظته بين المدافعين عن تاريخ العلم والإبستيمولوجيا التاريخية "على الطريقة الفرنسية" من جهة، وفلاسفة العلم مثل كارناب من جهة أخرى. ومن الواضح أن هذه مسألة يجب أن تكون موضوع مناقشة أخرى. إن ما يهمنا هنا أكثر تعقيدا بشكل مختلف وحله أكثر غموضا. لأنه على وجه التحديد، إذا كان من الصعب التحدث عن التقدم في ما يتعلق بمجال مثل الفلسفة، فمن الإشكالي، بطريقة معينة تقريبا، ومن غير المعقول رفض القيام بذلك تماما. في الواقع، يبدو من غير المُرضي أن ننكر ذلك، حتى لو استسلمنا لفكرة أن الفلسفة لا تنتج معرفة محددة من شأنها، مثل معرفة العلم، ان تتقدم، بل ربما لا تنتج أي معرفة على الإطلاق، فإنه ومع ذلك، سيظل صحيحا أنها تستطيع استخدام المعرفة من مكان آخر بشكل مفيد وقادرة على التقدم لتحرز بذاتها تقدما في مناقشة مشاكلها وحلها. وبهذه الطريقة فإن التقدم الحاسم الذي تم إحرازه في لحظة معينة عن طريق المنطق قد تم إدراكه من خلال تقليد فلسفي كامل يعتبر دوميت وريثا نموذجيا له. على حد تعبيره: "إن الفلسفة تحرز تقدما، بل وتحصل على نتائج مؤكدة، ويتجلى ذلك في حقيقة أن ما كان باعثا على الحيرة بالنسبة إلى علماء المنطق في العصور الوسطى أصبح الآن تمرينا في المهارة لدى المبتدئين." لكن هذا لا يمكن بالطبع أن يقنع إلا أولئك المقتنعين بأن المنطق والتحليل المنطقي للغة لهما أهمية حقيقية في حل المشكلات الفلسفية، وهو أمر بعيد كل البعد عن أن يعترف به جميع الفلاسفة.
(يتبع)
المصدر: https://books.openedition.org/cdf/4936

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟