الثورة التكنولوجية اختزلت الزمان والمكان,وغيرت من طبيعة الاقتصاد,من اقتصاد الصناعة الثقيلة المعتمدة على المواد الخام والمصانع الى اقتصاد المعلومات المعتمد على الرأسمال البشري المالك للمهارات الجديدة,والقادر على الإنتاج والابتكار فيما أصبح يسمى بالاقتصاد الجديد.وتغيرت طبيعة العمل والمهن,فأصبح القادرون على مباشرة التكنولوجيات الجديدة والتكيف مع تغيراتها السريعة أقدر على مسايرة تطورات الاقتصاد الجديد,في الوقت الذي تراجعت فيه القيمة المادية والاجتماعية للمهن التي لايمتلك أصحابها المهارات التكنولوجية الجديدة,أو لايستطيعون إعادة تأهيلهم لمسايرة التحولات الحاصلة في عالم الاقتصاد.
ولسنا هنا في حاجة الى استعراض مجالات ثورة الاتصال,وآثارها في مختلف الميادين,بل سنركز على آثارها الثقافية.
وأولها أن الثقافة أصبحت بضاعة معمولة الانتاج والاستهلاك.فهناك تنميط للبضاعة الثقافية وتسويقها عبر شبكات تتحكم فيها شركات عالمية تنتمي في الغالب الى بلدان الشمال.وعولمتها لا تعني أنها أصبحت ثقافة عالمية بالفعل,يشارك في إنتاجها الجميع,بل لأنها الأكثر انتشاراً على مستوى العالم بسبب تحكم الشركات المعولمة في انتاجها وتسويقها.ويكون الوجه الآخر لعولمة البضاعة الثقافية هو صعود الهويات الثقافية المتعمدة,والتي تسعى الى إثبات ذات جماعية :دينية,طائفية,إثنية,فتتصارع فيما بينها وتصارع العالم صراعاً غير متكافىء.والمظهر الآخر لتأثير ثورة الاتصال على طبيعة الثقافة هو التحول الحاصل في محتوى هذه الاخيرة.فإذا كانت الثقافة هي حصيلة ما يرسخ في عقول الناس ويطبع سلوكهم ويحدد الى حد كبير مدى نجاحهم أو فشلهم في الحياة العامة,فإن نوعية التربية والتعليم أساسية في تحديد طبيعة الناتج الثقافي.وهكذا نجد أن ثورة الاتصال والمعرفة قد زادت من التمايز بين نوعين من التعليم بمستويين وبسرعتين مختلفتين:تعليم يستوجب المعرفة الحديثة المطلوبة مهنياً في عالم اليوم,وهذا النوع من التعليم مايزال من حظ أقلية في بلدان الجنوب,وهو تعليم مكلف لاتقدر عليه إلا العائلات المحظوظة.وهذه العائلات بفضل شبكة علاقاتها المتبادلة المصالح تيسر لأبنائها دخولاً أفضل في الحياة المهنية,فيحتل أبناؤها المتخرجون مواقع متميزة في الإدارة ودواليب الاقتصاد والمهن الحرة.وبالمقابل,هناك أغلبية من أبناء وبنات الشعب,تبقى أمية أو تتعلم تعليماً غير نافع في عالم اليوم,يؤدي الى وظائف أو مهن متدنية مادياً واجتماعياً,أو الى البطالة.وهكذا لم يعد التعليم – إلا في حدود – وسيلة للترقية الاجتماعية وتجديد النخب داخل المجتمع.