حين دخل نابليون بونابارت مصر غازيا فمحتلا في القرن الثامن عشر ، أحضر معه الة جديدة لم تعتدها الحضارة العربية والإسلامية من قبل ، ووقفت أمامها مصابة بالدهشة والانبهار ثم الرفض كما هي عادة العرب في رفض كل جديد ومستحدث باعتباره على غير ما اعتاده السلف الصالح، هذه الآلة الذي قدر لها أن تحدث ثورة في الثقافة العربية فيما بعد كانت المطبعة.
وقبل ذلك كان الوراقون هم المسيطرون على صناعة الكتاب، وذلك منذ اكتشاف العرب للورق بعد فتح مدينة سمرقند في القرن الثامن الميلادي، وقد استمرت هذه السيطرة إلى حين الغزو النابليوني لمصر.
قامت قائمة الوراقين- كما هو متوقع- وأخذوا بشن هجوم كاسح ضد المطبعة والكتاب المطبوع ، ووصل بهم الأمر إلى حد اعتباره رجسا من عمل الشيطان تنبغي محاربته ومقاطعته ، وفي حملتهم الإعلامية الشرسة ضد الكتاب المطبوع تم تجنيد شيوخ المساجد والزوايا والعتبات المقدسة، وتم إصدار الفتاوي الشرعية باعتبار المطبعة والكتاب المطبوع رجسا شيطانيا، وأداة إبليس اللعين في تخريب عقول الشباب العربي المسلم، واختراعا أجنبيا يهدف إلى القضاء على قيم المجتمع العربي الأصيلة، واستبدالها بقيم الكفار الفرنجة والعلوج الغازيين المحتلين.
وفي حربهم اليائسة تلك، وحتى يكون للهجوم وجهة نظره المنطقية ظاهريا على الأقل ، أخذ الوارقون ومن لف لفيفهم من المرعوبين على القيم والأخلاق الحميدة المتوارثة، بعقد المقارنات بين الكتاب المنسوخ بخط اليد الذي يصنعه الوراقون وبين الكتاب المطبوع ، منتصرين للأول متمسحين برائحة حبر الخط المكتوب الذي لا يوجد في الكتاب المطبوع، والخط العربي الجميل من كوفي وأندلسي ورقعي وغيره من جماليات الكتابة باليد التي لا يمكن أن يوفرها الكتاب المطبوع( لم تكن المطبعة قد تطورت لتوفير الخطوط المختلفة في الكتابة في ذلك الوقت).
ويذكرنا هذا الهجوم العاتي الذي تعرض له الكتاب المطبوع من قبل وراقي الزمن الغابر، بالهجوم الذي يتعرض له الكتاب الإلكتروني والكتابة الرقمية عموما من وراقي العصر الحاضر الغابر أيضا.
ومن الطريف والمثير للدهشة أن نفس الحجج التي استخدمت في مهاجمة الكتاب المطبوع، تستخدم اليوم في مهاجمة الكتاب الإلكتروني والكتابة الرقمية عموما، ففي الكتاب الإلكتروني لا يمكن الإحساس برائحة الورق، ودفء الورق ، وعطر الورق( يقصدون رائحة العث والغبرة)، وأين هي تلك العلاقة الحميمة التي يوفرها الكتاب المطبوع وأنت تقرأ مستلقيا في غرفة النوم على ضوء الإنارة الخافتة، وأن تحمل كتابك بيمينك وأنت في نزهة في جنان الحدائق، كل هذا غير موجود في الكتاب الالكتروني.
ثم إن الكتابة الرقمية والإنترنت ستخرب عقول الشباب العربي، والثقافة العربية الإسلامية، وهي أداة من أدوات الغزو الثقافي ، ووسيلة من وسائل العولمة في السيطرة على الأمة وغزوها وإحتلالها، وهي أداة تغريب وتدجين وتسطيح وما إلى ذلك من مسوغات الوراقين الجدد ، ومن والاهم ولف لفيفهم من أصحاب المقولة الخالدة"شر الأمور محدثاتها، ألا وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة وصاحبها في النار" ويا ويلي من النار وألسنتها التي لا تبقي ولا تذر.
لقد تجاور الوراقون والكتاب المطبوع مدة من الزمن لم تزد عن ثلاثين عاما ، ثم إنتصر ابن ذلك العصر وحامل معناه وساد، ونحن الان بدأنا ندخل للعيش في زمن اخر وفي عصر اخر، هما الزمن الرقمي والعصر الرقمي بتجلياتهما المختلفة والطاغية على كل مناحي الحياة بما فيها حرفة الكتابة والأدب.
وسيتجاور الكتاب المطبوع مع الكتاب الإلكتروني مدة يسيرة من الزمن لن تتجاوز العشرين عاما أخرى على أبعد تقدير، ثم بعد ذلك سيسود الكتاب الإلكتروني، وينتصر باعتباره ابن العصر الرقمي وحامل معناه أيضا.
وللمتشككين والمترددين والمتمسكين بالروائح والعطور نقول: أين هم الوراقون الان؟؟؟