على ما تبقى من أرض فلسطين، وتحت ظلال حالة الانقسام الجغرافي، والتنظيمي، تتشابك الأحداث، وتزدحم المعلومات، وتكثر التأويلات للخبر الواحد، وتتصادم الاجتهادات الفكرية، والثقافية، وتختلف التفسيرات، والتحليلات، تلتقي قليلاً، وتتناقض كثيراً، وكل صاحب رأي يدّعي أنه أم الطفل الحقيقية، والأخرى مدعية الأمومة، وكأن الساحة الفلسطينية ليلٌ ونهار، أسودٌ وأبيض، صديقُ وعدو، فإن لم تكن مع هذا فأنت مع ذاك، وفق منطق: إن لم تكن لي كاملاً، فأنت ضدي، وعليه فإن قلت رأياً يختلف قليلاً مع وجهة نظر طرف تتهم بالموالاة للطرف الثاني، ويحار العاقل المستقل عن الانتماءات التنظيمية في البحث عن مصدر معلومات غير منتمٍ، وعن رأي مستقل بلا هوى.
ما أكثر المواقع الإخبارية المنتمية للتوجهات الفكرية، والسياسية في الساحة الفلسطينية! وليس صعباً على كل متتبع أن يتعرف عليها من النظرة الأولى، فعلى سبيل المثال: لا يجهل القارئ انتماء موقع "شبكة فلسطين اليوم الإخبارية" وبالتالي يتلمس حيادية الشبكة في الخلاف الفلسطيني، بينما مواقع أخرى مثل: "فلسطين برس للأنباء"، و"الكوفية" و"شبكة فراس الإعلامية" و"معاً"، و"دنيا الوطن" و"مفتاح" بالإضافة إلى صحيفة "الأيام" و"الحياة الجديدة" يكتشف القارئ تحيزها في الخلاف لطرف دون الآخر، ولا يحتاج المثقف الفلسطيني إلى واسع خبره ليتعرف على الاتجاه السياسي لموقع "شبكة فلسطين للحوار" و "فلسطين الآن" أو "شبكة المعلومات الفلسطينية"، أو "المركز الفلسطيني للإعلام"، أو "شبكة ودراس الإعلامية"، أو "الركن الأخضر" و "مركز البيان للإعلام" بالإضافة إلى "صحيفة فلسطين" ويكفي أن تلقي نظرة على العنوان، وطرائق نشر الخبر، وأي التصريحات التي يبرزها الموقع، وأي المقالات ينشر، لتدرك مجال الرؤيا، وتحدد الاتجاه السياسي، والفكري.
إن ما يعاب على المواقع الإخبارية المنتمية تنظيمياً لهذا أو لذاك؛ ـ رغم احترامي الشديد لبعضها الذي أتعامل معها بالنشر ـ أنها لا تمنح الرأي المعارض فرصة للتعبير عن ذاته، والتحاور معه، وإلى حد ما هذا معقول، ومقبول، في المراحل الأولى للبناء التنظيمي، ولكن في مثل حالتنا الفلسطينية التي يفترض أن يكون المنتمي قد حدد اتجاهه، وحسم أمره، ليس من الخطأ أن تفتح المواقع نافذة في جدران الفكر، والمواقف، وذلك وفق فلسفة المفكر الإسلامي "الفارابي" في رؤيته للرأي الآخر، فإن لم تفد، فإنها لن تضر المنتمي، إنما تتركه أقل عدائية للآخر، أو تجبره على احترام للآخر، ويراه على صورة إنسان يمكن الآخذ بيده، وإن اختلف معه في وجهة النظر، لأن كل من الموافق، والمعارض للرأي هم أبناء شعب واحد، يلتقيان في المناسبة، أو في المسجد، أو في السوق، أو في المدرسة، وقد يكون لدى كل منهما ما يصلح الحال.
إن تقبل الاختلاف في الرأي لهي الخطوة أولى على طريق المصالحة الحتمية.
المأساة الفلسطينية؛ عدم توقف الخلاف لدى بعض المواقع الإخبارية المنتمية تنظيمياً على حجر الرأي الآخر، وتهشيم رأس كل فكره تختلف مع ولاء الموقع، بل تجاوزت "بعض المواقع التنظيمية المعروفة" حدود اللياقة، وفن الاختلاف في الرأي، أقول بعض المواقع، وأخص منها تلك التي تأذن لجمهورها بالتعليق الحر، والمفتوح، إذ تركت حبل الأقلام الموالية على الغارب ليدوس في أحشاء كل موقف لا يوافق هواها، فترى، في هذه المواقع، التشهير بالآخر، والإساءة، والتجريح، والتطاول، والسب، لا لسبب، وإنما لعدم موافقة الهوى، وهذه قمة التحقير للعقل البشري، واحتكار الرأي، وبالتالي فإن تلك المواقع تفرض السؤال المنطقي: لمصلحة من هذا التهجم، والتهكم، والاستخفاف المشين؟ لمصلحة من دق إسفين الكراهية؟. وسط هذه الدوامة من سوء الفهم والتقدير، تطل على العقل الفلسطيني مواقع إخبارية غير حزبية، وغير تنظيمية، وليس لها ولاءات شخصية، ولاسيما أن الساحة الثقافية، والفكرية لم تعد ملكاً للإعلام الحكومي الرسمي في رام الله، أو غزة، أو للإعلام الحزبي، والتنظيمي، ولم تعد الصحافة الورقية هي المصدر الوحيد للمعرفة، بل أوشك على القول: أن الصحافة الإلكترونية قد طغت على الصحافة الورقية، واحتلت مكانها في عقول، وقلوب القراء، وذلك لسرعة التقاط الخبر، ونشره، وسهولة وصول القارئ إليها، وبساطة تقليب صفحاتها، ومن ثم التعرف على ردود الأفعال على مجمل المواقف، كل ذلك يتم دون انتظار الصحافة الورقية التي تبيت ليلتها على فراش المطابع، وتشرب قهوة الصباح في التوزيع.
لقد برزت مواقع متميزة في حياديتها، واستقلاليتها عن الولاء التنظيمي، ويكاد القارئ أن يحار في انتمائها، وتبعيتها، ليكتشف أنها تنتمي للكل الفلسطيني، هدفها التوعية، والتثقيف، وقد أخذت على عاتقها مهمة نشر المعرفة، وخدمة المواطن الباحث عن الحيادية، لتوفر له الرأي، والرأي الآخر دون التفات إلى الخلفية الفكرية، أو الانتماء، وغاية هذه المواقع فتح بوابات المعرفة دون حدود، وترك الآراء تتصارع، وتفند بعضها، وتظهر عيوب، ومثالب كل منها، وللقارئ عقل يميز، وقلب يتعرف.
من هذه المواقع المستقلة عن الولاء يبرز موقع "سما الإخبارية" و "شبكة إخباريات للإعلام" و"التجديد العربي"، و"شبكة الانترنت للإعلام العربي أمين" و"قدس نت"، و"وطن تغرد خارج السرب", و"دنيا نيوز" و"عرب 48" بالإضافة إلى "منتديات واتا الحضارية" وتهتم بالنخبة الثقافية، والأدبية، والفكرية، و"القدس العربي" و"الحقائق" و"صحيفة القدس" هذه بعض المواقع التي انخرطت في عملية نشر الوعي، والمعرفة، وتفتيح عقل القارئ العربي، والفلسطيني على كل الآراء، والثقافات، والمعارف، والأخبار، دون تزكية وجهة نظر على أخرى، ودون تحامل على موقف، ودون تعصب لفكرة، ولا تسمح بتجريح، أو هوان الرأي الآخر.
كم نحن في حاجة إلى وسائل إعلام مرئية، ومسموعة تسير على هذا النهج الثقافي الذي لا يلغي الآخر، ولا يدوس عليه، وتنطق بما يجيش في صدر كل الناس، لا بعض الناس، وتصب في صالح الحوار، واللقاء الأخوي، والتقارب العائلي، على طريق تحقيق المصلحة الوطنية، والمصالحة الفلسطينية.