يحاول هذا البحث الكشف عن مدى تقدم نظرة ابن رشد إلى قضايا المرأة ضمن الشروط المعرفية والوضعيات الاجتماعية في عصره. فعندما كان يشرح كتاب "الجمهورية" لأفلاطون قدم أطروحة متكاملة بهذا الصدد يمكن اختزالها كالتالي:
تشترك المرأة والرجل في النوع والطبع والكفاءات الذهنية والعملية وإن اختلفت عنه في بعض الخصائص والوظائف. وحالة التردي التي كانت تعيشها النساء في المجتمع العربي المسلم آنذاك تعود إلى تصورات خاطئة موروثة من ثقافة قبلية ـ أبويّة تحرم المرأة من اكتساب الفضائل والمهارات عبر تجربتي التعالم الجاد والعمل الخلاق. وتغيير هذه الوضعية البائسة يقتضي تغيير وتجاوز تلك التصورات الخاطئة والمتحيزة ضد المرأة والتي لابد أن تورث المجتمع كله الضعف المادي والمعنوي نظراً لكون النساء يشكلن أغلبية المجتمع.
وبما أن هذه الأطروحة الرشدية جزء من جهوده في سبيل إعادة بناء الوعي لدى النخب الفاعلة وتنظيم العلاقات فيما بين أفراد المجتمع وفق منطق العقل والعدل والمصلحة المشتركة فإن الحوار معها مبرر ومفيد اليوم في المستويين النظري والعملي. فالقضية المشكلة لا تزال مطروحة علينا في هذين المستويين كما لا يخفى على كثيرين منا. ووجودها في مختلف مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وإن بدرجات متفاوتة من الحدة، يعني فيما يعنيه أنها إشكالية حضارية كبرى لا يمكن لأحد أن يحقق تنمية أو نهضة أو تقدماً من دون حسمها وفق منطق العقل الذي يتصل بمنطق الشرع أوثق الاتصال بحسب ابن رشد وأمثاله.
1 ـ مدخل: الفقرة ـ النص:
لم يتعرض ابن رشد (520 ـ595 هـ/1126 ـ 1198م) لقضايا المرأة بشكل مباشر إلا في فقرة موجزة يبدو كما لو أن الصدف وحدها هي التي دفعته إليها. ففي سياق اختصاره لكتاب "السياسة"(1) لأفلاطون كتب هذه الفقرة التي تبرز مدى أصالة فكره وعمق آرائه وجرأة مواقفه مقارنة مع خطاب الفقهاء التقليديين الذين كرسوا الكثير من التصورات القبلية ـ الذكورية المتحيزة ضد المرأة. فإذا كان هؤلاء قد أدمجوا الكثير من التصورات الأسطورية الخرافية ضمن خطاباتهم "الشرعية" لتغدو جزءاً من المعتقدات الدينية بالنسبة لعامة الناس، بل ولدى فئات كثيرة من النخب المتعلقة من الجنسين، فإن ابن رشد لم يتردد في بيان تهافتها ونفيها في ضوء منطق العقل ومقاصد الشريعة وتجارب الحياة الإنسانية كما سيلاحظ.
ونظراً لتعدد ترجمات الفقرة بعد أن فقد النص الأصلي لابن رشد فإننا سننقلها كما صاغها محمد عابد الجابري في "العقل الأخلاقي العربي"(2) بلغة قريبة جداً من لغة ابن رشد ومن ثم نناقشها بما يتناسب مع طبيعة هذه المقاربة وأهدافها.
يكتب الجابري: "وعندما طرح أفلاطون مسألة ما إذا كان من الواجب أن تشارك النساء الرجال في مهام حفظ المدينة، أم أنه من الأفضل جعل مهمتهن مقصورة على الإنجاب وتدبير البيت.... الخ، تدخل ابن رشد ليبدي رأيه من خلال أربع ملاحظات".