كتاب عبارة عن دراسة ميدانية من تأليف الباحث السوسيولوجي المغربي عبد الغني منديب (أفريقيا الشرق، 2006)، تتغيا فهم وتحليل وتفسير التمثلات الدينية السائدة لدى المغاربة، بحسبانها مجموع التصورات والمعتقدات التي يدعوها فيبر ب "النظرة إلى الكون"، هذا بالإضافة إلى الممارسات والطقوس الدينية المقترنة حكمًا بها، ومن ثم العمل على استخلاص دلالاتها ووظائفها الرمزية. أما بخصوص تقنيات البحث التي تَوَسلها الدارس، فهي تطاول كلا من الملاحظة والمقابلة الميدانية المعمقة للمبحوثين، والتي طبقها على مجتمع الدراسة المنصرف إلى خمسة دواوير من الوسط القروي بدكالة، بحيث في الوسع تعميم نتائجها على شتى المناطق الجغرافية بالمغرب:
التمثلات والمعتقدات الدينية للمغاربة
يُعد تصور الله ك "قوة مشاركة لا مفارقة" من أهم العناصر المشكلة للنظرة إلى الكون بالنسبة للمغاربة في نظر المؤلف، ومؤدى ذلك التمثل هو الاعتقاد في أن كل ما يجري من وقائع وأحداث دنيوية هو قطعا من صنع الإرادة والقدرة الإلهية، وهو ما يُعبر عنه في التعبير الدارج ب "المكتوب". بيد أن ما سلف ذكره لا يجمل أن يتأدى بنا – في تقدير الباحث – إلى القول بالمطابَقة بين تصور المغاربة ل "المكتوب" (= المقدر) والنظرة الجبرية التي تبنتها بعض المذاهب الفقهية الإسلامية، ذلك أن مفهوم "المكتوب" لا يسعنا فصله، بحسب الكاتب، عن مفهوم آخر ملازم له ألا وهو "السبوب"، الذي يفيد الأخذ بالأسباب والسعي في تحسين الأحوال. ولهذا فإن "المكتوب" أو القدر الإلهي لا نملك معرفته إلا بعد العمل بمقتضيات "السبوب"، الشيء الذي يحول دون الركون إلى الأمر الواقع والرضوخ له، مما يفسر – على سبيل المثال لا الحصر – أن المصابين بالعقم لا يألون جهدا للأخذ بالأسباب للتغلب عليه، رغم يقينهم بأن الإنجابَ نعمةٌ ربانيةٌ ومرتهنٌ بالمشيئة الإلهية.
كما يدخل مفهوم "الدنيا" في عداد العناصر المكونة للتمثلات الدينية عند المغاربة، إذ يُنظَر إليها (=الدنيا) من حيث هي مجال للتفاوت الاجتماعي متولد من المشيئة الإلهية التي اقتضت تباين حظوظ الناس من الرزق والثروة، الأمر الذي يسبغ المشروعية على التفاوت في توزيع المكانة الاجتماعية بين الأفراد، دون أن يلغي ذلك، في تَمَثل المغاربة، إمكانية التحول في المكانة الاجتماعية والوضعية الاقتصادية للأفراد تبعا للقدرة الإلهية، مما يفسر بالتبعة سعي الفئات الدنيا الدائب لتحسين مكانتهم الاجتماعية، واكتساب الوجاهة والحظوة في أعين الناس.
وعليه فإن العلاقات الاجتماعية التي ينتظم في إطارها المغاربة، مثلما يلحظ المؤلف، ليست مفصولة عن تلك الاعتبارات النفعية وثقافة المحسوبية ("الدنيا بالمعارف")، وفي مقدمتها علاقة الزواج التي تلبس – في كثير من الأحيان – لبوس صفقة تجارية بمنأى عن أي اعتبارات عاطفية (مشاعر الحب... إلخ)، بيد أن ذلك لا يعني البتة أن تلك العلاقات منفلتة عن ضوابط وقيود أخلاقية يحرص المجتمع على التقيد بها (نبذ "المال الحرام" الذي مصدره السرقة والغش والتدليس... إلخ).
هذا إلى جانب "الصلاح" بما هو أحد المفاهيم التي تتنزل في صلب تمثلات مجتمع الدراسة، والذي لا ينحصر معناه في التقيد بمبادئ العبادة والأخلاق الدينية، في منظور الكاتب، بحيث تنصرف دلالته إلى حسن التدبير والقدرة على إحراز النجاح لجهة تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي (يدخل في هذا المضمار سلوكيات من قبيل ترشيد النفقات، تفادي الإسراف والتبذير... إلخ).
الطقوس الدينية في المغرب ودلالاتها
يمكن تعريف الطقس بما هو "كل سلوك فردي أو جماعي يتسم بخاصية التكرار، وهو تجسيد ملموس لتصورات وتمثلات ذات وظائف محددة، بحيث لا تقتصر الأخيرة على تأكيد وإشهار الهوية الإسلامية بالنسبة للمبحوثين، بمقدار ما تنطوي على وظائف حيوية أخرى، كما تتوزع تلك الطقوس والممارسات بين اليومي والموسمي والظرفي:
أولا: الممارسات اليومية
يشمل هذا الصنف الأول مجموعة من الطقوس، وفي طليعتها البسملة التي تؤدي وظيفتين أساسيتين، أولاهما استعطافية تيمنية تبغي نشدان العون الإلهي في الأعمال الدنيوية، وثانيتهما وقائية ترمي لاتقاء شر "الجن" و"الأرواح الشريرة"، ناهيك بالحمدلة التي يُتلفظ بها في السراء والضراء، بما يفيد الإعراب عن الشكر والامتنان للخالق، وعدم الاعتراض على المشيئة الإلهية في أحوال الضيق والشدة. وعطفا على ما سبق، يُعتبر الاستغفار والتعوذ من أبرز الطقوس اليومية، ولا سيما حين يوشك المرء أن يقع، أو يقع فعلا في إتيان ذنب ما، إذ تصدر هذه الممارسة من قناعة مؤداها أن الشيطان يتربص دوما بالناس ليوقعهم في حبائل المعاصي والآثام، مما قد يقتادهم، في هذه الحالة، إلى التنصل من المسؤولية الشخصية عن الأخطاء المرتكَبة.
كما يُعد الدعاء من أبرز وسائل التماس المعونة الإلهية داخل مجتمع قروي يتسم بقدر من الخصوصية، حيث القلق والهواجس الدائمة بفعل تَقَلب الظروف المناخية (عدم انتظام تساقط الأمطار). وصولا إلى الصلاة، التي بالرغم من أهميتها بالنسبة لمجتمع الدراسة بحيث يبعث الإحجام عن أدائها أو الانقطاع عنها على نوع من العتاب، فإن عدم إتيانها ليس مسوغا كافيا، كما يلحظ المؤلف، لتجريد الشخص المعني من الهوية الإسلامية، نظرًا لانشغال معظم الأفراد بشؤون المعيشة. وبهذا الصدد لم يذهل المؤلف عن تناول صلاة الجماعة بمجتمع الدراسة، التي وإنْ كان يُفترض أن تشكل فضاء يتساوى فيه المصلون على اختلاف مراتبهم الاجتماعية، فإن الأعيان والوجهاء يَشْغَلون فعليًا أماكن خاصة بهم في المسجد، ولعل هذا المعطى يفسر، وفقا للباحث، قلة عدد المداومين على الصلاة الجماعية، حيث يود المبحوثون تلافي المواقف التي تضعهم في منزلة دونية إزاء كبراء وسادة المجتمع.
ثانيا: الممارسات الموسمية
تطرق الباحث لجملة من الطقوس والممارسات الموسمية، ونذكر من جملتها شعيرة الحج التي يُقبل عليها في الغالب أعيان وكبراء القوم بمجتمع الدراسة، مما يجعلها عنوانا للوجاهة الاجتماعية، أما بالنسبة لباقي الفئات المعوزة، فإن ضيق ذات اليد يحول دون تَمَكنها من أداء هذه الشعيرة، الشيء الذي يتأدى بها إلى الاكتفاء بزيارة الأضرحة، منظورا إليها من حيث هي "حج مصغر". كما عرضت الدراسة، أيضًا، للتمثلات والممارسات المقترنة بعيد الأضحى أو "العيد الكبير"، ولئن كانت الأخيرة تفيض بدلالات دينية – إسلامية صارخة، فإنها لا تشذ عن القواعد الناظمة لطقوس التضحية والوظائف المنوطة بها بمختلف الثقافات تبعا للمنظور الأنثروبولوجي، إذ يذهب روني جرار إلى أن تلك الطقوس تؤدي إلى التحام وتآزر الجماعة، وتفريغ العنف المتبادل الذي يتهدد وحدتها واستمرار وجودها بواسطة تلك الطقوس.
ثالثا: الممارسات الظرفية
تحيل الطقوس الظرفية إلى الممارسات التي يرتبط إتيانها بظروف ومواقف معينة، والجامع بينها، مثلما يفيد الكاتب، هو نهوضها بوظيفة احتواء القلق الذي يعتري المقبلين عليها، ولعل أظهرها الطقوس المتصلة بزيارة الاضرحة، بما هي ممارسة ممتدة الجذور بالمجتمع المغربي رغم الخطاب الفقهي المعارض لها، وقوامها الاعتقاد في قدرة الصلحاء على التوسط لقضاء حاجات ومآرب السائلين (إبراء الأمراض، عقد المواثيق، الاستخارة وطلب المشورة... إلخ)، بفضل ما لديهم من "بركات" و"كرامات" تُعزى إلى تقربهم من الحضرة الإلهية بحسب التمثل السائد. ومن ضمن تلك الممارسات نذكر أيضا طقس الختان، الذي يُجمع باحثون كثر على أنه "طقس جنسي يهدف إلى تحسيس الختين بمسؤوليته المستقبلية كعضو من جماعة الذكور"، وباعتباره "إعدادًا لفض البكارة وتحسيسا مبكرا بأهمية النشاط الإنجابي".
رابعا: الممارسات السحرية
يذهب المؤلف إلى أن استمرار الاعتقاد في وجود ومفعول القوى اللامرئية (الجن، العين الشريرة...) يشي بهشاشة الحدود الفاصلة بين الديني والسحري، وتتوزع تلك الممارسات بين "الوقائيات" الهادفة للوقاية من تلك القوى (كحمل التمائم والتعاويذ، إحراق الأبخرة... إلخ)، و"الغيبيات" التي تشير إلى القدرة المزعومة لبعض الأشخاص على التنبؤ بالمستقبل واستطلاع الغيب، والعراف في مجتمع الدراسة كما يورد الباحث، لا يرى نفسه ساحرا بل صاحب هبة ربانية، ناهيك ب "الممارسات السحرية" التي يُراد منها التأثير على الآخرين (الحصول على إعجاب رجل ما... إلخ).
وفي الختام، يشدد المؤلف على أن قدرة التمثلات والممارسات الدينية على الفعل والاستمرار في الوجود متوقفةٌ على مدى توافقها مع الحس المشترك والتنظيم الاجتماعي السائدين، وآية ذلك أن بعض التصورات والممارسات الدينية الموصومة بالتزمت لا تلقى قبولا لدى مجتمع الدراسة، على شاكلة حملات الوعظ والإرشاد التي تنظمها جماعات دينية منظمة، والتي تروج لأفكار تتعارض وقواعد التنظيم الاجتماعي السائدة، من قبيل مناداتها بترك ما تراه "بدعًا" و"خرافات" (زيارة الأضرحة، القراءة الجماعية للقرآن... إلخ)، ولعل ذلك ما يفسر، نسبيا، فشل مشروع بعض الحركات المحسوبة على الإسلام السياسي لا في المغرب فحسب، وإنما بمجموعة من الدول العربية، باعتبار أن الممارسات موضوع الاستهجان من لدنها قد بلغت درجة كبيرة من التجذر بالنسبة لقواعد المجتمع. كما أن قدرة بعض الممارسات الدينية على الصمود رغم تطاول الزمن (كزيارة الأضرحة) تفسر كذلك، بهذه الدرجة أو تلك، بدور السلطات المركزية في المحافظة عليها وإسنادها، بحسب الكاتب، لما تؤديه من وظائف حيوية لجهة تأمين استقرار النسق.