يأتي حضور الدّين بشكله المؤسّسي في الغرب، من بين أكثر الأنماط المؤسّسية الاجتماعية تركيبا وتداخلا ونشاطا، وفي مقابل ذلك يحضر التديّن بمفهومه الفِطْري الرّوحي دون ذلك بكثير، لضمور أثره وتواري ملامحه. خلّف ذلك التوّازي اللاّمتوازن أوجه عدّة من التّضارب، كانت وراء توليد أزمات مختلفة داخل الهيكل الدّيني العام، انعكست آثارها في الدّاخل كما الشّأن في الخارج. من ذلك التضارب، بين الدّين كمؤسّسة، والتديّن كتفعيل، نحاول استعراض بعض أوجه تلك الأزمة.
1- الكنيسة وخيار المحرومين أو المترفين:
برغم فسيفساء النّحل والعقائد التي تميّز الواقع الدّيني المسيحي الغربي، يجمع رابط مشترك بين كنائسه المختلفة، مما يجوّز إطلاق نعت كنيسة على شتاته المتنوّع، نظرا لوحدة الإيقاعات التي تضبط علاقاته الدّاخلية ونظرته للآخر الحضاري. فجرّاء القوّة المادّية التي تميّز الغرب الحالي، وسمات الهيمنة التي تطبع سياسته الخارجية، رافقتها قناعة لدى السّاهرين على مؤسّساته الدّينية، ترنو للعب نفس الدّور في مجال النّفوذ الرّوحي على العالم أيضا. تلخّص ذلك في السّعي للوصاية على "الأخلاق الدّينية"، والتطلّع لإعادة تربية الجنس البّشري، بغرض إعادة تهيئته روحيّا عبر مداخل مختلفة، منها ما سمّي بالأنجلة، أو بإعادة الأنجلة، أو بحوار الأديان أو بحوار الحضارات. وهو ما جعل بعض المفكّرين واللاّهوتيين المنشقّين، ينتقدون بشدّة هذه المركزية، فقد دعا اللاّهوتي الألماني السّويسري هانس كونغ لأخلاق كونية شاملة كبديل لمركزية طروحات الكنيسة الحالية.
وتحاول الكنيسة، في التاريخ المعاصر، وخصوصا منها تفرّعيها الكاثوليكي والإنجيلي الأمريكي، أن تبقى عين الغرب الرّاصدة في الخارج، عبر تنبيه العقل السّياسي وإشعاره، بنقاط التحذير والانتقاد للعالم الإسلامي أو للعالم الكنفشيوسي، وغيرها من الفضاءات الحضارية التي تشهد تدافعا مع الغرب أو مع الكنيسة. فنظرا لما تملكه المؤسّسة الدّينية الغربية من قدرات علمية وإمكانيات، متمثّلة في مراصد ومعاهد ورجالات وخبراء، تحاول من خلالهم صنع تلك الهيمنة، تعضدها في بلوغ مقصدها ارتباطات مع أقلّيات دينية منتشرة في أرجاء العالم، استطاعت أن تستوعبها وتحتضنها، تارة عبر التحذير من الذّوبان في الدّاخل وطورا عبر الإغراء بربط مصالحها بالخارج، موظّفة إياها لصنع الحدث السّياسي الدّيني الإشكالي الذي تنتَقَد منه بلدانها، أو مجتمعاتها، خصوصا إذا ما كانت متعدّدة الأعراق والدّيانات، سواء في خياراتها الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية. وضمن لعبة التوظيف تلك، غالبا ما أخطأ مسيحيو الشّرق التّقدير حين اعتبروا الغرب حامي المسيحية وراعيها، ولم يدركوا أنه مجموعة من المصالح الوطنية المختلفة، استغلّ مسيحيي الشّرق لتفتيت عديد المجتمعات، وفي أيّامنا لصياغة توازنات قوى خارجية وربط تطلّعات الأهالي المحلّيين وإرادتهم بالخارج.