تقديم:
يرى كثيرٌ من الدّارسين أنّ الرواية الأمريكيّة لم تحقّق خصوصيتها الفنّية والغرضيّة(Thématique) إلاّ في فترات مُتأخّرة ويعتبرون ما سبق تلك الحقبة من محاولات لا تخرج عن كونها مجرّد امتداد للأدب الأنقليزي بناءً على كون أمريكا كانت عبارة عن مجموعة من المستعمرات البريطانيّة وبالتّالي يعسُر الفصل في البدايات بين الموروث الأدبي الأنقليزي والموروث الأمريكي.

   في الحقبة الاستعماريّة كانت تُهيمن الكتابات الدينيّة والتّوثيقيّة المُتأثّرة بظاهرة "التطهيريّة"(Puritanisme) المسيحيّة والحاملة لتصوّرات أخلاقية ودينية وسياسيّة .وقد تُفسّر ظاهرة الفردانيّة والصفويّة الأمريكيّة انطلاقاً من هذه المعطيات الدّينية والتّاريخية. وستُترجم التّطهيريّة المسيحيّة أدبيّاً وفلسفيّاً في بروز تيّار "الفلسفة المُتعالية" (transcendantalisme) والقائمة على فكرة جوهريّة مُفادها أنّ الخير  متأصّل في الطبيعة والبشر في حين أن مؤسسات المجتمع تُفسدُ هذا النّقاء والطّهارة، وبالتّالي أفضل حالة يكون عليها الفرد هو بالتّعويل على ذاته والحفاظ على استقلاليته. هذه الفردانيّة المُتعالية تنبني على اعتقاد كون كلّ فرد يحملُ في داخله قبساً من الروح العليا الإلهيّة.

ديسمبر 2019، تاريخ صدور رواية "كافكا في طنجة" عن دار تبارك بالقاهرة، للكاتب المبدع والروائي محمد سعيد احجيوج، وكأنها انفلتت من بين أظافر جائحة كورونا  وتصدر كذلك بعد مرور أزيد عشر سنوات على صدور المجموعة القصصية الأولى للكاتب تحت عنوان: انتحار مرجأ سنة 2007، هكذا وفا بالوعد وتحققت نبوءتي بأن انتحار مرجأ المجموعة القصصية الأولى كانت إعلانا عن ميلاد كاتب مبدع سيقفز حتما لكتابة الرواية بشكل جديد ومغاير.

تصدر إذن رواية "كافكا في طنجة" ليستدعي الكاتب احجيوج الكاتب التشيكي فرانز كافكا Franz Kafka، جالبا إياه عنوة ليعانق طنجة وليشهد على مسخ لاحق ستشهده المدينة، وكأن الزمن التاريخي تأبد في اللحظة والآن حيث كان كافكا بداية القرن العشرين يعاني من الضياع والعبث مثلما يعانيه جواد الإدريسي بطل الرواية في الزمن الراهن. ربما أيضا تمكن الكاتب بذكاء أن يجعل من كافكا زائرا لطنجة كغيره من الكتاب العالميين خاصة بول بولز Paul Bowls وجون جيني Jean Jenet وصامويل بكيت Samuel Bekett  من خلال الرواية. يستدعي الكاتب كافكا عن طريق استلهام قصة المسخ حيث يوازي بين غريغور سامسا والبطل جواد الإدريسي.  وإذا كانت رواية كافكا "المسخ"أو "التحول"  [1]Die Verwandlung    هي التي دفعت غابريال غارسيا ماركيز  Gabriel Garcia Marquez أن يصبح روائيا، ها هي اليوم باستلهام نفس الرواية يعلن نص "كافكا في طنجة" عن ميلاد روائي مغربي مؤسسا لسرد مختلف ينشد العالمية من خلال انغماسه في البيئة المحلية بكل ما تحمله من رياء ونفاق و تناقضات.

محمد الماغوط (سلمية ،حماه 1934/دمشق2006 ) ظاهرة شعرية حديثة بامتياز في الأدب العربي الحديث وهو ليس كغيره من الشعراء الذين تخرجوا من أرقى المعاهد والكليات ولا من الذين أوصى بهم الأمراء والوجهاء إنه شاعر شحذته المواقف وتعهده الجوع وأوصى به الفقر فكان رجل مواقف وشاعر إباء خاض تجربة قصيدة النثر في وقت اشمخرت فيه صروح شعر التفعيلة برغم اعتراضات النقاد الكبار عليه ونخص بالذكر الراحل الكبير عباس العقاد الذي كان يسمه بالشعر السائب ويحيل قصائد الشعراء الشباب في ذلك الوقت من أمثال أحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني وصلاح عبد الصبور على لجنة النثر للاختصاص إمعانا في السخرية وفي عدم الاعتراف بهذا اللون من الشعر،أرض جديدة إذا قطعها الماغوط ،أرض بكر لم يقتحم مجاهلها رائد من قبل بمعية يوسف الخال وأدونيس في مجلة شعر وفي مدينة التجريب والمغامرة بيروت التي دخلها سرا في الخمسينات.

من بين أهم الأشياء التي يمكن أن تثير فضولنا المعرفي ؛ العلاقة التي ينسجها ، من خلال الإبداع ، الأدب بوقائعَ تاريخية واجتماعية . وهي رحلة نحو تمثيل الحياة بكل واقعية ، بل نسخها ونحتها في قالب أدبي و تخييلي مميز . في رحلة الأدب الواقعي لابد أن نصادف ، ونحن في الطريق ، نتفا تاريخية تجعلنا ننصت ، بل نرهف الإنصات إلى همسات منسية من سير أسمعت من به صمم . وبهذا ، لا يجرنا الحديث ، أبدا ، إلى أمهات السير ذاتية العربية ، التي شقت الأرض وغيَََمت السماء ( الأيام ، الخبز الحافي ، زمن الأخطاء ، في الطفولة ...) ، وإنما سيكون الكلام مقتصرا على روايتين كتبتا بلغة موليير؛ فأصبحتا مزارا لكل المتيمين بالأدب المغربي ـ الفرنكفوني .
إن " صندوق العجائب " لأحمد الصفريوي ، و" الماضي البسيط " لإدريس الشرايبي اعتبرتا من بين الإبداعات المؤسسة للأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية ؛ ولأنه التأسيس ، لابد أن يتفردا في بنائهما الأدبي ، وأن تكون لهما نقط مشركة ذات منحى واقعي وتاريخي بالأساس ، ومن هذه الزاوية يصبح التاريخُ معطفا أنيقا تتدثر به السيرة الذاتية . فالحياة التقليدانية التي عاشها المغرب ، إبان فرض الحماية للسلطات الفرنسية ، كانت مشتلا حيا لهاتين الروايتين. واستطاعتا أن تعبُرا مسافة زمنية دامت زهاء سبعة عقود من الحضور و التألق و التشكل المستمر .

" الدخان" تجربة روائية جيدة.. تشير إلي موهبة ومعالم نضج فني مبكر طاقة ورغبة عارمة مضطرمة لدى الكاتب ضياء الدين عثمان في انجاز مقاربات سردية للعالم وفي التحقق السردي- (ما يسميه [الناقد المغربي] يقطين بالهوية السردية بوصفها جسرا لتجاوز كافة الهويات الأخرى المكبلة لانطلاقات الذات في الهواء الكوني-الإنساني العريض).
" الدخان “تجمع و تتحرك -مهمومة بتحريك جملة من الممكنات- في اتجاه أن تحقق ذاتها السردية من خلال تشغيل شبكة من الأدوات: النقر الدائم على الذاكرة عبر تكنيك الاسترجاع الذي تتيحه الفلاش-باكات متخذة من محوري الأحداث (الخرطوم وقرية "أم بشوشة" المتخيلة) نقطتي انطلاق جيئة وذهابا. وضمن هذا المسعى التحقّقي, يلاحظ رج الرواية لرتابة الزمن التسلسلي بإصرار عبر تكسير وتقطيع زمني متواصل متجلٍ في أحداثها وفي تقسيم فصولها بطريقة لافتة وغير تقليدية، إذ تبدأ الرواية بالفصل "بعد الأخير "ثم يليه الفصل "قبل قبل الأخير"، وتظل تكرر بعض أسماء الفصول مع إضافات دالة هنا وهناك على الطريق المتعرجة. وهكذا تدور فصول النوفيلا على ظهر ذاكرة ملتهبة جامحة تقفز إلى الأمام كرةً وتنثني راجعة مرات؛ ساعية خلال العملية إلى تحقيق ما أمكن من اندغامات زمكانية-طاقية (سودانياً هذا الشكل من الشغل الذاكراتي المدّور هو المحبب لدى الكاتب الكبير[السوداني] عيسى الحلو ويتجلى في العديد من أعماله).

يعدّ اليامين بن تومي اسما جزائريا لامعًا في سماء النقد والإبداع، وهو أكاديميّ بارز، تمكّن من فرض حضوره في الساحة النقدية والأدبية من خلال أعماله، ويعتبر من الجيل الجديد الذي عاصر مرحلة التطوّرات الحرجة التي عاشها المجتمع، ثم واكبها بكتاباته، ومن هذه الكتابات رواية "زنباية" التي حاولت مقاربة واقع المجتمع بصورة شاملة وبأبعاد متعدّدة، عبر رصد امتداد هذا الواقع تاريخيّا أوّلا، ثم تفحّص بنيته الثقافية ثانيا، ثم النظر في أفق طموحات الجيل الذي واكبه ثالثا، وضمن مفاصل سردية مكثّفة الترميز، يسوق الروائي الأحداث في اتجاه الانتقال بالمرحلتين الأولى والثانية إلى المرحلة الثالثة، بما يشكّل مقدّمة تضفي المشروعية على الأحداث اللاّحقة، وقد أثار اليامين بن تومي مجموعة من التساؤلات الضمنية لخلخلة تركيبة الأحداث وإعادة بناء تصوّرات القارئ حولها.

يعود الكاتب الجزائري مبروك دريدي عبر عمله الروائي الصادر عام 2019 في 122 صفحة تحت عنوان "لامبيدوزا" إلى حقبة التسعينيات للقرن المنصرم، ويلحّ في طرح أسئلة عميقة حول الراهن والموقع من هذا العالم، كما ينبش في جانب آخر، في العلاقات التي دخلت سياق التداول الاجتماعي وحلّت مكان منظومة سلوك عريقة لها رصيد قيميّ محترم بين الجزائريين، وحاول دريدي عبر ظاهرة الفن إعطاء رؤية مختلفة جذريا عن الحلّ والخلاص في مجتمع عريق ينهشه المال والسياسة من جهة، والعنف والإرهاب من جهة أخرى.
تسعى رواية "لامبيدوزا" بوصفها عملا فنيا، للعودة إلى أسئلة تخصّ دور الفنّ ذاته في الحياة، بما يجعل الكاتب منافحًا في سبيل تشييد منطق قيميّ جديد، أو نفض الغبار عن منطق قيميّ قديم، سيزحف المال والسياسة والعنف في كل اتجاه ومن كل حدب وصوب لإنهاكه عبر فضاءات روايته، في إشارة إلى البُعد الروحي المتزن الذي أوشك على الاختفاء، تحت ضغط ظروف جدّ معقّدة، تلخّصها القوّة، ضمن ثلاثية؛ العنف الإرهابي، المال، والسلطة.

" المعطف " رواية قصيرة للكاتب الروسي نيكولاي غوغول ، شكلت نقطة تحوّل مفصلية بالغة الأهمية في الادب الروسي ، وامتد تأثيرها الى مجمل الأدب العالمي ، فقد كانت جديدة في موضوعها واسلوبها الساخر الكوميدي – المأساوي ، والأهم من ذلك انها كانت اول قصة عن " الأنسان المقهور" - من حيث موقعه في السلم الاحتماعي بصرف النظر عن صفاته الشخصية - وما يعانيه من ظلم اجتماعي وانتهاك لكرامته الانسانية ، في حين كان الادب السردي الروسي قبل " المعطف " يتناول في المقام الأول ، حياة ومشاغل الطبقة المرفهة من الأقطاعيين والنبلاء ، واصحاب السلطة والنفوذ في المجتمع .
في " المعطف " تهكم لاذع ، وانتقاد شديد للقيم الأجتماعية الزائفة ، التي كانت سائدة في المجتمع الروسي في العهد القيصري . وتوحي القصة بفكرة الحاجة الى بنية اجتماعية أكثر انسانية وعدالة . ولهذا اصبحت الأفكار والصور ، التي تزخر بها قصة " المعطف " معينا لا ينضب للكتاب الروس الآخرين ، وفي وقت لاحق للعديد من الكتّاب الأجانب في شتى انحاء العالم .