hللسرد الحكائي ، في تاريخ الأدب العربي ، عراقة تتأصل بتأصل الإبداع في الوجدان والشعور والإحساس . فمهما اختلف النقاد حول البدايات الأولى ، المرتبطة بالنشأة والتطور والامتداد ، فإن هذا التباين يرمي بظلال قاتمة حول تاريخية الأدب العربي . فالمنزع نحو السبق الأدبي ، يحفر شروخا لا تكف عن الامتلاء ، خصوصا مع التيارات الفكرية الحديثة التي ظهرت ، بداية القرن العشرين ، في أوروبا ، بما هي تنظر إلى الأدب كبينة ، تتألف من عناصرَ خاضعة للإبدال والتطور .
بمعنى أن هذا الاختلاف البنيوي الكامن وراء نشأة البداية للنمط السردي ، في الأدب العربي ، يؤثر سلبا على مختلف الدراسات والبحوث ، التي تسعى إلى تأصيل الجنس الأدبي ، بل إلى تثبيت الهوية التاريخية والاجتماعية ، والمشاركة الفعلية في البناء الحضاري للثقافة الإنسانية . إن هذا المنزع نحو السبق الأدبي سواء في الشعر أو القصة أو الرواية ، ليس مؤثرا بتلك الحساسية المفرطة التي عولجت به هذه البدايات ، وإنما يبقى مفهوم الجيل ، حسب أدونيس ، فاعلا و مساهما في تطوير الفكر و الإبداع . فأيَا كانت المؤثرات الأيديولوجية ، التي تغزو الجيل الثقافي و الفكري ، فإنه يظل متشبثا بقيمه ومبادئه التي ينفرد بها عن باقي الأجيال السابقة أو اللاحقة ، و بها يكون الجيل بأكمله مساهما في بلورة جنس أدبي معين ، وبعثه من رماد إرهاصاته الأولية كطائر الفينيق في الساحة الفكرية والأدبية .

تنحو فاطمة كطار منحى سرديا موسوما بالتطور والتغيير في نصوص باكورتها القصصية " من أين يأتي الضوء؟ " ، ونلمس ذلك في مقارنة قصص الجزء / الكتاب الأول من هذه الأضمومة بالجزء/ الكتاب الثاني الذي تخلصت نصوصه، بشكل كبير، من المرجعية الواقعية التي تمتح من مكونات المحيط القريب بشخوصه ووقائعه وانفتاحها على عوالم تزخر بزخم من رهافة حسية ، ورقة وجدانية عبرمسلكيات وجودية مفعمة بطابع إيحائي بعيد المرامي ، عميق المقصديات . فقد ارتأت القاصة أن توزع نصوص مجموعتها على كتابين عنونت الأول ب : من أين يأتي الضوء؟ ، والثا ني ب: عندما رحلت أوتارك.

مشكلة التجنيس:
 يطرح تجنيس النصوص إشكالا حقيقيا يرتفع إلى مستوى "المعضلة"، وقد عبر غير واحد من الدارسين عن هذه المشكلة التي تواجه المشتغلين بالأدب عامة وبنظريته خاصة، من هؤلاء جيرار جونيت الذي عرض لهذا الإشكال في كتابه "مدخل لجامع النص"، حيث انتهى من تقليب النظر في هذه المسألة إلى أنه بالرغم من الاجتهادات العديدة المطروحة داخل نظرية الأجناس، فإنه لا يوجد من بين هذه "الاجتهادات" موقف، في ترتيب الأنواع، "أكثر طبيعية" أو "مثالية" من غيره، ذلك صريح قوله:

"نرى أنه لا يوجد بشأن ترتيب الأنواع الأدبية موقف يكون في جوهره أكثر "طبيعية" أو أكثر "مثالية" من غيره، ولن يتوافر هذا الموقف إلا إذا أهملنا المعايير الأدبية نفسها كما كان يفعل القدماء ضمنيا بشأن الموقف الصيغي. لا يوجد مستوى "جنسي" يمكن اعتماده كأعلى "نظريا" من غيره، أو يمكن الوصول إليه بطريقة "استنباطية" أعلى من غيرها، فجميع الأنواع أو الأجناس الصغرى والأجناس الكبرى لا تعدو أن تكون طبقات تجريبية، وضعت بناء على معاينة المعطى التاريخي، وفي أقصى الحالات عن طريق التقدير الاستقرائي انطلاقا من المعطى نفسه؛ أي عن طريق حركة استنباطية قائمة هي نفسها على حركة أولية استقرائية وتحليلية أيضا. ولقد رأينا بوضوح هذه الحركة في الجداول (الحقيقية أو القابلة للوجود) التي وضعها أرسطو وفراي، حيث ساعد وجود خانة فارغة (السرد الهزلي، السرد العقلاني، المنفتح) على اكتشاف جنس كان بالإمكان ألا يدرك مثل المحاكاة الساخرة"[1].

يمكن الدفاع عن المسلمة التي تُفيد بأنّ الشّعر الشعبي و الشعر الفصيح بالجزائر، في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن عشر ين، شعر متمرد في مجمله، يرتفع إلى مستوى الشّعر الملتزم بقضايا الشعب، يدعو إلى المقاومة، وسيلة مثلى ضد المعتدي الغاصب، و الذي طوال تواجده لم ينفك من العمل بمقتضى المبدإ المشهور :"فرّق تسد" . تنخرط تجربة الشيخ الشاعر محمد بن يعقوب الفنية في هذا السياق؛ و لكن من دون إغفال أنّ الشاعر مادح للجمال بجانبيه، الحسيّ أيام الصبا و التسلي، و المنزه زمن الأفول و التواري، و بحسب إفادة حفيد الشاعر، السيّد عبد الحميد بن يعقوب، قد خلّف الكثير من الأبيات الشعريّة التي استحالت مع مرور الوقت إلى حِكًم شعبيّة تلتقطها الأذان التقاطا، و تتناقلها الألسن تباعا. سنحاول من خلال هذا العمل قراءة و تحليل إحدى قصائد الشاعر و المتمثلة في ملحمة مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، التي يربو عدد أبياتها عن الأربعة مئة بيت ، تحليل يرتكز على مقولتي الحركة و الزمن، بحسب تصور الفيلسوف أرسطو ؛ و بالتالي سيلاحظ القارئ الكريم أننا قد حدنا من الناحية المنهجية على الكيفية المعتمدة عادة في الكتابات الفلسفية، و ربما قد يصل الابتعاد فيمس جانب المضمون..

توطئة : أعتقد اعتقادا جازما، أنّ المجال الحيوي لفعل التفلسف لا يقف عند أعتاب حدود ما ألفه النّاس و تعارف عليه المهتمين بالقضايا الفكرية، فالفلسفة باعتبارها حركة تفكر تقصد قصدا حثيثا، أبعد نقطة تتحملها قدرات الإنسان العقلية – و ما أعظمها - مراعية في ذلك مقتضيات الواقع الاجتماعي، دون إثارة فارغة، و لا ضوضاء صاخبة. و هذه الحركة التي يراهن عليها أن تكون معقولة، تتجلى بين الفينة و الأخرى، في نسج قشيب صادر غن خيال روائي أو أديب، أو في فصول مسرحية تأخذ بالألباب، أو في فيلم سينمائي يعرض مشاهد تقطع الأنفاس من روعتها و دقتها، حتى لا يكاد القائل يقول هذا هو الواقع بعينه. و حتى يكون لما نبسطه و ننشر قوة تلزم القارئ الاقتناع لما نذهب إليه و نريده نُمثل بمشهد سينمائي، يبدو لي تعليميا يطلعنا عن كثب، فنعاين هذا التداخل بين السينمائي و الأدبي و الفلسفي. المشهد من فيلم، عنوانه " الرجل الذي قتلته"[1] نرى نحن مشهدا لاستعراض عسكري، بعين رجل بترت رجلاه، يراه هو من خلال شخص مبتور الرجل، تحديدا من خلال مكان الرِجْل المبتورة. المشاهد الحذق الذي أصابته شظايا حركة التفكر، سيرى فيُدرك الجواهر الحسان.  

ما الأدب ؟ ما العلاقة التي تربط بين الأدب والبلاغة ؟ وهل كل ما يكتب يندرج ضمن يافطة الأدب ؟ أسئلة وغيرها طرحها ، نهاية الأربعينيات من القرن الماضي ، الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر في كتابه الشهير" ما الأدب ؟ "
يغدو التمييز ، حسب سارتر ، بين الأدب وغير الأدب أمرا في غاية الصعوبة ، فبالرغم من الأبحاث التي وازت الدراسات النقدية الغربية ، منتصف القرن الماضي ، تظل أعمال كل من رومان ياكوبسون و بول ريكور رائدة في هذا المجال ، حيث لامست الجرح من خلال التفكير العقلاني والوجودي في موضوع الأدب . و به يكون العبور آمنا نحو الوظيفة التي يقوم بها الأدب في الحياة .

كلما سمعت عن الحكايات الشعبية أحس وخزا لذيذا في قلبي ووجداني ، وإن كان علي أن أستغل ما درسته في كلية الآداب والعلوم الإنسانية :من دراسة لبنية النصوص الأدبية وتشكيلها الفني ونكهتها الإبداعية ،وإن كان علي أن أمرس مهارتي النقدية وأن ألبس جبة الناقدة التي تمنيت أن أكونها وتعلمت مهارتها ، علي أن أدرس الحكاية الشعبية المغربية.
قد يقول البعض : هل تستحق الحكاية الشعبية المغربية الدراسة ؟ أليست مجرد إنتاج شفهي بدائي الميلاد و الهيئة ؟ ألم يتم إبدالها بالتلفزة وبرامج والتطبيقات الحاسوب الذكية ؟ ألم يمتلئ الفراغ العاطفي والزمني الذي كانت الحكاية تعوضه ؟
هل ما يزال الفرد يحتاج إلى ليالي السمر حيت يجتمع الكبار وتشرئب رؤوس الصغار لسماع قصص وحجايات الأم والجدة؟ ، في ظل الأشرطة القصيرة المسجلة والفيديوهات الغزيرة وحمى المعلومات والصور المهلوسة التي لا تنفك في الانهمار إليك اذا دخلت نسق الحياة الرقمية التي عوضت كل كيان ثابت ظُن أنه لن يهمل.

في الأدب أحداثٌ ووقائعُ يسجلها التاريخ ، فالخلود الذي يرسو عنده هذا الحلم ، يظل مشدودا إلى ظواهر تتناقلها نصوص غائبة ، تسعى نحو تجسير حوار بناء بين القديم والحديث . فمن زاوية التفاعل والانفتاح ، يصبح العبور آمنا بين عظماء في التاريخ الإنساني ، ويصبح أيضا ـ أي العبور ـ ذا مغزى يعجُّ بعبر وقيم نبيلة ، تخدم تاريخ الأدب . فمهما حاول النقد الأيديولوجي الحديث أن يطمس هذه الحقائق التاريخية ، إلا أنها تظل موشومة في ذاكرة الأدب ، تطفو بين الفينة والأخرى في الساحات الفكرية ، وتتلون بمنطق العصر .
في الأدب الغربي ، كما هو معروف ، مساحات شاسعة ومضيئة من قول وحرية وإبداع ، ينتقل عبرها الأديب نحو العالمية و الخلود بفعل الانتشار الواسع للترجمة والطباعة ، والمنافسة الشديدة بين دور الطبع والنشر . فكان الأدب الألماني ، من هيكل إلى حدود برتولد بريخت مرورا بهولدرلين ، قد استفاد من هذا التطور وغير مجرى التاريخ في أوروبا . فما عسى لشاعر ألمانيا العظيم ، يوهان فون غوته ، إلا أن ينظر إلى ما يخلده في الأدب . فعبر مصفاة المسرح ، باعتباره أبي الفنون ، استطاع غوته أن يكون مسرحيا وشاعرا وفيلسوفا ، وتمكن من أن يخلق لنفسه هالة من جنون العظمة ؛ أسوة بأبي الطيب المتنبي في الأدب العربي ، الذي اختار المنفى بقوله الشهير من الوافر :