يقترح الفلاسفة طريقين لمعرفة الفلسفة : أحدها هو الطريق الماهوي الذي يفترض جوفا ما للفلسفة يسكنها من الداخل و يعمل على تحريك مسارها في التاريخ. وآخر هو الطريق الوظيفي الذي يفترض غايات عليا موجهة للفلسفة من البداية. وإذا كان الأول يحدد ثوابت أولية تضفي الفلسفية على الخطاب، يذهب الثاني إلى اعتبار أن هناك أدوارا محددة للفلسفة لا تكون إلا بها.
فبينما يقول لنا الماهويون إن الرياح كانت تنوي إخراج الموجة نحو الشاطئ، يرد عليهم الوظيفيون أن الأمواج تعرف مصلحة البحر ككل وتتحرك من أجل هذا الهدف. وما وراء هذين الطريقين هناك طريق ثالث لا ينطلق من الماهية أو الغاية بل من عملية الإنتاج الفلسفي ذاتها؛ أي نشاط الفيلسوف المتمثل في العملية المولدة للمضامين الفلسفية، لكن بدل النظر للمضمون الفلسفي يتعين علينا الإنتباه للممارسات المنتجة له؛ تعيين طبيعة هذه الممارسة وتمييزها عما سواها.
نصير مطالبين بتركيب صورة الفيلسوف، وبالأخص ملامح وجهه التي يستطيع أصدقاؤه معرفته من خلالها. كتعبيرات عن عالم ممكن يُشكله ويتشكّله بالعبارة البرغسونية. الأمر الذي يتطلب إعادة تشكيل الشخصية القاعدية للفيلسوف، وما دمنا لا نستطيع افتراض هوية ما للفيلسوف فسنكون مطالبين بإعادة رسم هذا الوجه من خلال ممارساته التي أفترضها محددات لسيماته. فكيف يمكن توصيف هذا الذي يقوم به ؟ وأي دلالات تحملها شخصيته ؟ ثم ما طبيعة هذه الممارسة وما هي منطلقاتها ؟ وبأي معنى تكون طبيعة هذه الممارسة شرطا لإمكان الفلسفة ؟
تجدر الإشارة أنه ليست هناك ممارسة فلسفية بالمفرد، خالصة ومنتهية، وإلا كان يكفي وصفها وتنزيلها لخلق الفيلسوف. والحال أن هناك تفلسفات مفتوحة على التاريخ، تأخذ شكل حالات أكثر مما هي مراحل خطية. تبدو هذه الحالات متكاملة، متداخلة، وأحيانا متنافرة مثل ما حدث بين الممارسة السقراطية و النيتشوية -التي يذهب بعض المتسرعين إلى حد وصفها بالقطيعة-. المهم أن هذا التعدد في الممارسة لا يعني أن كل الطرق تؤدي إلى التفلسف، فليس هناك التفلسف لأن هناك الفلسفة، بل هذه الأخيرة تصير موجودة وممكنة لأن هناك ممارسة نستطيع أن ننعتها بالفلسفية. هذا يعني أن طبيعة الممارسة هي التي تحدد فلسفية الموضوع وحظه الذي ناله منها. وبالتالي نستطيع تمييزها عن الممارسات المزاحمة كالممارسة اللاهوتية أو التنويرية أو أي بناء إيديولوجي ينطلق من مبادئ مؤسسة يبرر بها جميع النتاج المعرفي.
إننا غالبا ما نسيء فهم الفلسفة حين نتلقاها بحثا عن عمق ما يجب سبره والإمساك به. فنضحي - بواسطة إنتقائيتنا - ببعضها لصالح بعض التصورات التي "تعيش في غبطة فكر جاهز يتجاهل جهد حتى أولئك الفلاسفة الذين يدعي أنه يتخذهم نماذج"1.فيصبح النتاج الفلسفي تبريرا للماهية القبلية المتصورة حول الفلسفة، وتأكيدا لما يعتقد أنها مناطة به. وهذه بالضبط هي نقطة إلتقاء الطريقان سالفي الذكر. أما الفلسفة فلا يرتسم وجهها إلا في أشيائها بشكل بعدي؛ بعد أن نكون قد عبرنا الجسر الذي يصل أسباب توليد الفكرة وطرحها بالنتائج التي يجب أن تترتب عنها. لذا لا نعرف ما الفلسفة ما لم نتفلسف. ولأن "الهاوي في الفلسفة - كما يقول يرغسون- هو الذي يقبل حدود المشكل العادي كما ترد عليه، أما التفلسف بحق فيتمثل في خلق/طرح المشكل و في خلق الحل"2. عدا هذا يكون العقل التبريري هو الذي يحرك إرادة المعرفة مثلما يحرك المخرج الفكرة وأطرافها في مسرح الدمى.
تعكس الشخصية المفهومية لسقراط ذلك البطل التراجيدي الذي يعود للكهف من جديد لأجل رفاقه، ليصاعد بهم نحو الحياة التي تستحق الحياة، رافضا التشبث بالحياة لمجرد العناية بالحياة. الذي يسرق المعرفة - على طريقة بروميثيوس- من البلاغيين وحواشي السلطة ليهديها للإنسان ثمنا لرأسه. بهذه الكيفية سيعمل أفلاطون على توليد الفلسفة من موت الأب، بوساطة هذه الشخصية كذات إبيستيمية خالصة تعمل على تشكيل المحاورة وتوجيهها. ذات لاشخصية، بلا أنا، لكنها تكون هو أو هي؛ فكرة، معرفة، حكمة، فهم...تكون قصدا لاشخصيا أيضا. هذه الشخصية المفهومية تتحدد كمسار لتتبع الأفكار وإفتحاص أسسها وتعريضها للمسائلة المستمرة تبينا لتماسك بنائها ثم التصاعد بها وإياها حتى تتأكد أنها صالحة لتكون نموذجا إرشاديا يمكننا من تعلم أشياء أخرى على أساسها. أو تكون هي نفسها المثال النموذجي القياسي كمفهوم أفلاطوني يمنح شرعية الإرادة الخيرة للمعرفة؛ إنسان الفلسفة.
كانت الشخصية المفهومية لسقراط هي الذات الإبستيمية الوحيدة المحايثة.
إن ما يترتب عن هذا : هو ذلك الإقتران بين ميلاد الفلسفة وعملية إنزالها، حيث يكون هذا الإنزال شرطا تأسيسيا لميلاد الفلسفة وإمكانها دائما. هذه العملية التي باشر سقراط إنجازها بطريقته الخاصة، لذلك صار منذ سيشرون أبا لهذه الحكمة المحبة التي تكون مشروعة وممكنة عندما تصير قابلة للنقل و التداول. أي أنها تكون ممكنة وفقط إذا صار من الممكن قولها ومشاركتها. ما يعنيه هذا هو أن البيداغوجي كان شرطا للفلسفي، أي أن طريقة نقل الفلسفي التي سماها سيشرون بالإنزال من السماء إلى الأرض هي الفلسفة ذاتها. لأجل هذا كانت محبة الحكمة صفة تتحدد بطبيعة الممارسة الفلسفية، لا بالمضمون الفلسفي نفسه : بعملية الإنزال لا بما سيتم تنزيله.
معلوم أن مفهوم الوجه كعالم ممكن هو إبداع دولوزي، ينشئه لتوصيف عالم قائم على إختلاف جدري كإمكان لتحقق هويته الخاصة، وأستخدمه هنا لتعيين ملامح الفيلسوف تحديدا. والتي أتصورها كتقمصات تاريخية تضفي ملمحا جديدا عليه إبان كل فلسفة جديرة بهذا الإسم. لكن هذه الملامح لا تمثل كماهيات قبلية أو غايات مؤسسة بل كفعل حي يمكن تلمسه و إدراك تعبيراته في طرق التفلسف، أي في مجموع الإجراءات الفلسفية التي يتبعها الفيلسوف في إنجاز طرحه، بالإضافة إلى الاستدعاءات المٌؤسسة التي ينشأ عليها أسلوبه في مباشرة هذا التاريخ الفلسفي بطريقة مغايرة. فالفيلسوف لا يكفي فقط أن يبدع المفاهيم إنما أن يخلق أسلوبا خاصا في مباشرتها.
إني أفكر في صورة الفيلسوف الذي يعبث الزمن بملامحه لكن رغم ذلك نعرفه من محياه الذي هو العالم القائم بداخله. أي الوجه الطافح بالمفاهيم والذي يحيل في الوقت نفسه على حالة عالم قابل للوصف و التحديد. وجه لا نستطيع التمييز فيه بين الملامح الحقيقية لكل فيلسوف إلا بالنظر لملامح الفيلسوف الصديق/المنافس الذي يساجله أو يؤسس عليه. حيث نرى ما تبقى من فيدون المتشكك من حواسه في ديكارت، مثلما نتعرف على نيتشه الذي هو نفسه كاليكليس السفسطائي مدافعا عن القوة كماهية للعدالة. وأن نسمع إبتهالات أنيكسيماندر مترددة في الوجود الآثم مع شوبنهاور، وهي تخفت شيئا فشيئا أمام إرادة الحياة الآتية من الوجود الهيرقليطي البريء والجميل وهو يعاود دعوتنا للعبه مرة أخرى. وجه لا نتمكن من إدراكه إلا في كليته حيث تتداخل الملامح وتتزاحم لرسم هذا الوجه وإعادة تشكيل قسماته كل مرة. ألا يكون هذا المسعى التركيبي لإعادة تشكيل ملامح الفيلسوف هي الفلسفة ذاتها؟
نيتشه الذي طالب أولا بإعادة تركيب وجه الفيلسوف، يتصور الفلسفة قناعا كان عليها دائما تقمصه،- كفخاخ ثعلب هيدغر- تخفي أقنعة أخرى تكون هي المتأمل، الزاهد، الراهب،...حتى تجد طريقها بين المكائد التي تتصيدها والطرائد التي هي تترصدها. بشكل تبدو عليه الفلسفة صيدا للوجود كما نعتها سقراط في محاورة فيدون3. وبما أن كلاب نيتشه كثيرة وليست كلها وفية ولا ككلب ديوجين - الذي كان أول تقمص لسقراط-؛ لذا فهو يتعرف عليها من خلال نبرة صوتها الآتي من دواخلها. وهذا الوفي الذي يرافقه أفضل من ظله وألمه هو الكلب اللاهث، الذي يلهث فقط؛ "بصوته الذهبي الذي يتردد صداه من جوف الأرض، اللعوب الذي ترتفع القهقهات من حوله"4، الباعث على المرح كما يصفه على لسان زرادشت، على خلاف الكلب النباح المعروف بعويله، وهو "المسؤول عن الثرثرة ونقل الأكاذيب"5؛ فيكون أحيانا اللاهوتي في هريره كتهديد بإمكانية العظ. وأحيانا يبدو هو الفيلسوف الميتافيزيقي في عواءه المنبعث خوفا وتبرما من الوجود. هؤلاء -الذين لا يلهثون- هم من يسميهم نيتشه صيادوا الطيور المتغافلة، من يسعون للإنتقام من مواضيعهم؛ من "يجعلون فريستهم تكفر عن تهيجهم"6. الذين "يدورون حول التفاحة المحرمة"7، ويتحرشون بها فقط ليفرغوا في منعها دوافعهم الإستبداية.
يصير صيد الوجود مع نيتشه لعبا مرحا، حيث يبدو محيا الفيلسوف بريئا كوجوده، ليس لميلاده صرخة، بل يولد ضاحكا كزرادشت الطفل. الطفولة التي هي الأوبة الأبدية للفيلسوف. يصير الفيلسوف كذلك، فقط حين يعود طفلا مع وجوده الجميل ليستأنف لعبه الذي هجره منذ أن صار حمارا وجملا ثم أسدا. لكنه الآن وقد عاد طفلا كما كان دائما تذكر أنه أقوى من القوة. تصبح الفلسفة ها هنا معرفة بهيجة. فيخلق اللعب حينها مبادئ تقييمات جديدة من حيث أنه لقاء ممتع مع العالم.
يعلن الفيلسوف نفسه في المحاورة الأخيرة (فيدون) كصياد للوجود يتوخى التورط معه لإستدراجه نحو الفكرة التي تبقى محجوبة لولا هذا التقفي السقراطي الذي يؤمن بإمكانية القبض عليها appréhender وتصيدها ولو على هامش ما يبدو أنه معرفة. سقراط الذي يصفه زينون في محاورة بارمنيد بكلب الصيد الإسبرطي8، كناية على ما يمهر فيه من تقفي أثار الفكرة وترصدها، بما يتوفر فيه من يقظة وشعور مرهف ورؤية حادة. حيث يكون الفيلسوف في حالة ترصد aux aguets بتعبير دولوز. فكلب سقراط كما يستعيره في محاورة فيدون هو الروح الفلسفية التي يصعب خنقها. فبمثل ما "يُشُربُ الدم لكلاب الصيد"9 - بتشبيه سقراط - ليتقصدوا طرائدهم، يجب للمقبلين على الفلسفة أن يألفوا قضايا الفلسفة ومشكلاتها، قبل الخروج لممارسة التفلسف. بمعنى "أن يكون عقل المتكلم مجهزا لمعرفة القضية التي سيتكلم بشأنها".10مادام الصيد يتطلب التأهب وعدم العرج في المشي إذا كان المبتغى هو الفلسفة على حد قول الصريح سقراط.
وإذا كان هناك من باعث لهذه الممارسة فهي القضايا الإشكالية التي تستحث التفكير بجدية، حيث يخلق المشكل الفلسفي حالة من التأهب المترقب واليقظة إتجاه العالم التي يحسن تشبيهها بما يرافق فعل الخروج للصيد مع كلب سقراط11، الذي تخرجه العظمة/القضية الفلسفية صوب الغابة. القضية التي تستثير حواسه وتستنفرها لتصبح مبثوثة بين الأشياء تتفرس آثارها البعيدة والشهية، تتتبعها و تترصد لحظة القبض عليها. والأهم في كل هذا ليس الصيد الذي قد يتحقق أو لا يتحقق، إنما شروط واستراتيجيات التربص والمطاردة. حيث يكون المضي على الطريق أهم من الوجهة، الهدف، الغاية...وليس الجواب بل السؤال الذي يعدي الجواب؛ السؤال الفلسفي الأصيل الذي يخلق سراديب جديدة نحو مواطن كانت تعتبر وعرة ومجهولة لكنها مغرية بصيد أكثر من جواب.
إن ما أريد التنبيه له هو أن الباتوس دعامة لإمكانية اللوغوس وليس مشوها له كما إدعت الأفلاطونية أو مشوشا عليه كما إدعت الديكارتية، فالفيلسوف الذي أتفرسه لا يعثر داخله على صريمة تلجم شعوره حتى يكون له وعي، بل ينظر له كإمتداد ودعامة لإمكانية هذا الوعي. يتلبس الجسد فكرته مثلما يحدث في الأداء المسرحي طيب السمعة. حيث يُأخذ الشعور والمعرفة بإنعكاس كل منهما في الآخر، لأنهما يفسران بغضهما البعض كما يقول ريكور، فما تفعله الفلسفة هي "أنها تحول ما كان في البدء انفعالا شعوريا عارما وضبابيا إلى مشكل فلسفي"12. حدث هذا في الفلسفة منذ تلك الجسور التي أقامها نيتشه بين الوعي والشعور فيما حدسه من إنسجام بين الفكر والعاطفة. بمثل ما إفترض ياسبيرز أيضا حضور مزاج فلسفي باعث على كل فلسفة، ربما كإمتداد لما هو حميمي وأكثر حميمية فينا؛ ما يتبقى من حرية الذات لنفسها بعد أن تكون قد عبثت فيها يد الضرورة، هذا النوع من الوعي بالحرية الداخلية التي يتم إستنقاذها بكدح شخصي جعل منه كانط شرطا لأي أخلاق ممكنة.
مع سقراط نعاين تجدر الفلسفة في الإنسان ومنه كممارسة مازجة بين المعرفة والحياة. فنحن لا نستطيع تحديد سقراط إلا كطريقة عيش، حيث تتشكل هذه الممارسة كإرادة للمعرفة، معرفة بالجهل الكامن في المعرفة؛ وهي بهذا تحيل على طريقة فكر ووجود تفترض قواعد لازمة لكل فكرة متصورة كإحالة على كيفٍ وجودي يمكن نعته بالسليم مادامت الفكرة المحددة له سليمة. معه تكون وضعية الجهل مقولة قبلية شارطة لإمكانية المعرفة. فهناك المعرفة لأن هناك الجهل وليس العكس. وهي وضعية لا تستهدف التهكم- كما هو دارج من داخل تاريخ الفلسفة- إنما كإمكان لإستثارة التساؤل سويا في أفق المشاركة في بناء المعرفة. حيث تكون وضعية الجهل هي منصة إنطلاق نحو إمكانية المعرفة، فلا مبرر لإستشكال ما نحن نعرفه معرفة تامة؛ لأن السؤال يصير غير ذي جدوى. إن السخرية السقراطية بهذا المعنى وظيفية وليست تهكمية، فسقراط لا نعثر عليه يتلهى بمحاوريه ليجعل منهم موضوعا للسخرية، بل يستخدمها كمفارقات و كنايات عن وقائع حقيقية، ومجملا من أجل فضح الجهل. كأنه بمجازه الساخر يخفف الصدمة الناتجة عن الحقيقة التي تكون قاسية أحيانا وصلدة.
بالعودة إلى شخصية الصريح الصادق الحر مع فوكو التي حاول من خلالها تحديد صفات الفيلسوف وأفعاله، نجده يشكلها على أنقاض شخصيات أخرى مزاحمة وليست منافسة كما عند دولوز. هذه المقاربة التي تتقاطع والفلسفة كقوة نافية مع برغسون تعمل على تجاوز اللافلسفي وتطرده خارج تاريخها. وأيضا تمشي بمحاذاة هيدغر حيث يجب على الفلسفة أن تتحدد بما ليست إياه. فصحيح أن الفلسفة لا تمضي قدما في تخطٍ لأخطائها مثل ما يفعل جارها العلم، لكنها تعمل على تخطي اللافلسفي القابع داخلها كفرضيات مُؤسِسة أو منطلقات ضمنية موجهة. لكن - ولحسن حظ الحكمة - يبقى دائما هذ " المتبقي " من كل فلسفة، ربما راهنيتها أو منطلقات جيدة وصالحة لإستمرارية التفكير ضمن مواطن أخرى مختلفة عن تلك التي افترضها صاحبها ملائمة. وأحيانا يستمر ما يمكن أن نسميه طريقة التفلسف والأدوات الجديدة التي تجعل الفكرة تعالج بكيفية أفضل.
يعمل فوكو على تحديد ملامح الفيلسوف بنواقضه التي هي الحكيم، العالم، الفنان واللاهوتي. هذا الأخير يُلهوتُ المعرفة بأكملها، والأدهى أنه يتنكر لحريته معتبرا نفسه مندوبا ومكلفا بإعادة القداسة للعالم، ومخلصا للناس من ظلمهم الأصلي الكامن في طبيعتهم ووجودهم. أما الفنان الذي لا نشكك كثيرا في قربه من الفلسفة لأنها أخته الشقيقة كما يقول نيتشه ويقاسمها نفس المصير، إلا أن ألوانه وخطوطه تعكس العالم و تصوره استعاريا ولا يبتنيه ليصير مسكنا لمن هم إلى الآن بدون عالم. في حين أن العالِم هو رجل " تقني يتحدث بإسم التراث"13 من خلال تلقين المعرفة التي هي موجود ومكتملة في إعتقاده. أما الحكيم كسول جدا، فيقول "عندما يريد، ما يهم الكائن والطبيعة"14 وقد يتعلل بقراءة الطالع لو لزمه الأمر.
الصريح يكون صادقا و حرا بالضرورة، يستيقظ فيتكلم كما يقول ميرولوبونتي، لكنه ليس ساذجا يلقي الكلام على عواهنه كما جاء واتفق، فهو يعرف أنه ليس هناك طريقة في القول لا يمكن فيها أن يساء فهمه،- كما يقول ريكور- لكنه لا يكترث لهذا من حيث أنه يقول لا ليقنع فيخلق أنصارا يتبعونه، بل ليعلمهم كيفية التخلص منه كما هو حال زرادشت نيتشه. إنه يعرف أن الفكرة الواهية هي من تحتاج لحجج كثيرة، أما الفكرة الجيدة تحتاج أن تقال فقط لتجد طريقها نحو العقول الحرة. لهذا يخبر سقراط محاوره جورجياس أن الإقناع هو غاية الخطاب البلاغي الذي لا يهتم بطبيعة الفكرة إنما فقط بإرادة غرسها في وعي المخاطب، ومن حيث أنه لا يهتم بالحجة في حد ذاتها بل لقصديتها الإقناعية يكون لاأخلاقيا ومغالطا.
لا تنطلق هذه الممارسة إذن، من فهم الحياة بالوعي إنما تتطلع لفهم الوعي بالحياة، حيث يكون هذا اللقاء نوعا من اليقظة اتجاه العالم وفعالية حذرة اتجاه المعرفة تفكر في إمكانها و إمكانياتها نعم، تتأمل في حدودها أجل، لكنها غالبا ما تطمئن لصورها التي ترتسم في أفقها بل تسعى لتجاوز هذا الأفق ذاته. تعتبر الإطمئنان المرادف الحقيقي للجهل. ولأنه لا أشجع من الحصان الأعمى كما تقول الحكمة السقراطية، فالشك وفق هذا المنظور هو تروٍ مشوب بكثير من الحذر اتجاه كل ما يمكن أن ينتحل صفة سلطة وصية على الفهم. كفعالية عقلية وانفعالية في نفس الوقت، لا مجرد موقف ذهني تأملي خالص. فبما هي تأنٍ رصين اتجاه عمليات إنبناء الأفكار تنادينا الفلسفة دائما بعدم التسرع. فالشك في تحديدات الفكر ومنتجاته والإستفهام حول مرجعياته، هو في حد ذاته إرتياب قائم أساسا على غريزة الحذر. فالفيلسوف لمّا يعلق الحكم على الشيء بداية، فهو ينظر في المعايير الضمنية المتبناة كمنطلق في الحكم، يقف عند مبرراتها وحدود إمكانها ثم القيمة النسبية لدرجة أهميتها؛ إنه يقاضي الأفكار لا يدافع عنها.
....................................................
مراجع الإحالات:
1 - جيل دولوز وفليس غاتاري؛ ما هي الفلسفة؟، ص 68، ترجمة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي 1997
2- ميرلوبونتي، تقريظ الحكمة ،ص 51، ترجمة محمد محجوب، دار أمية 1995
3- محاورة فيدون، ترجمة عزت قرنى، ص 65 مكتبة الحرية الحديثة، القاهرة 1996
4- فريديريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت.ص 164 ترجمة فليكس فارس، مؤسسة هنداوي،2014
5- نفس المرجع ص 165
6- فريديريك نيتشه؛ إنسان مفرط في إنسانيته.ترجمة؛ محمد الناجي،ص 9، أفريقيا الشرق، 2002
7- نفس المرجع ص12
8- محاورة بارمنيد، أفلاطون،المحاورات الكاملة المجلد الثاني،ص33،ترجمة شوقي داود تمراز.الأهلية للنشر والتوزيع 1994
9-الجمهورية: الكتاب السابع، المجلد الأول، ص353 ترجمة شوقي داود تمراز.أ.ن.ت.1994
10-محاورة جورجياس،أفلاطون،المحاورات الكاملة،المجلد الثاني، ص308، ترجمة شوقي داود تمراز.الأهلية للنشر والتوزيع 1994
11- محاورة فيدروس، أفلاطون،المحاورات الكاملة المجلد الخامس، ص،27 ترجمة شوقي داود تمراز.الأهلية للنشر والتوزيع 1994
12- بول ريكور؛ فلسفة الإرادة، الإنسان الخطاء.ص 129ترجمة عدنان نجيب الدين. مركز الإنماء القومي،الطبعة الثانية 2008
13 - ميشال فوكو؛ الإنهمام بالذات، ص 85،ترجمة محمد ازويتة، افريقيا الشرق 2015
14 - نفس المرجع، ص86