"لدي تخوف رهيب من أن يتم تقديسي في يوم ما."
نيتشه
يؤكد المؤرخ الكبير زييف سترنهل فكرة مفادها أن العمل الكبير يحتمل دوما دلالتين مهمتين، تلك التي يعطيها الكاتب من جهة، ومن تقدمها الأجيال اللاحقة من جهة ثانية، لذا قد نقول في هذا الصدد إذن، أن كل عمل لا يمثل نفسه بقدر ما يمثل إما نظرة من أوجده، أو قراءة القارئين اللاحقين عنه.. لكن وبغض النظر عن هذا الأمر الذي يقف عند احتمالات لامتناهية، فقد يكون من المجحف الحكم على عمل ما انطلاقا مما نراه فيه، اللهم إلا إذا اعتبرناه قولا عابرا لا يمثل العمل الأصلي.. فكم من مفكر عبر عن امتعاضه المباشر من عديد التفسيرات التي اقترنت بأعماله، مؤكدا أنها حامت ولم تصب، أو أنها لم تحقق الاثنين..بل إن هذه القراءات التي قد تجانب الصواب أحيانا يمكن أن تجني على النص المقروء وصاحبه.. والحال أن مناسبة حديثنا في هذا الشأن، تدور حول موضوع قديم جديد ألا وهو علاقة نيتشه بالنازية، باعتباره موضوعا أسالت مداد العديد من المهتمين باللحظة النازية إبان العقد الثالث من القرن العشرين، بين من يؤيد هذا الارتباط الكبير، وبين من يرى فيه إجحافا للرجل وفهما عاميا لفلسفته.. من ثمة فما هي حدود الالتقاء بين التصور النازي وفلسفة نيتشه؟ أين تنتهي الأولى كي تبدأ الثانية؟ بل بأي معنى سنربط بين الاثنين رغم التباعد التاريخي الحاصل بينهما؟
وفي مقابل ذلك، قد لا يسعنا في هذا المقام، إلا أن نقف بدورنا عند هذا السؤال ليس بعين مدافعة أو مُدينة، وإنما بعين فاحصة إن أسعفنا القول.. حيث إن أول نقطة سنثيرها في هذا الشأن هي التي تتعلق بالذين وضعوا فلسفة نيتشه ـ وليس نيتشه ـ في نفس السلة إلى جانب النازية، وذلك من باب الاعتقاد بأن نقطة الالتقاء الأساسية بينهما هي النظرة المشتركة لليهودية، علما أن التاريخ لازال لم يخبرنا بتفاصيل ما حصل لليهود خلال فترة حكم هتلر، ناهيك عن الأسباب التي أدت بالرجل إلى نفيهم والتنكيل بهم، أو القيام بإحراقهم في حادثة الهولوكست. وهل وقعت فعلا أم أنها مجرد زعم، الغرض منه تأليب الرأي العام الدولي، وإيجاد موطئ قدم للإدانة العامة ضد النازية، وذلك باسم تضارب المصالح ليس إلا؟
يتحدث نيتشه بشكل مستفيض عن اليهودية في كتب عدة يبقى من بينها: جينيالوجيا الأخلاق، وما وراء الخير والشر، ثم إنسان مفرط في إنسانيته.. يتحدث عنها من باب الإدانة
والرفض، وكيف أنها تمثل العدو الأول لفلسفته من خلال عديد الصفات سنتحدث عنها بعد قليل، أما النازية فقد كانت لها أهدافا عرقية محضة عندما قررت محو اليهود عن بكرة أبيهم
من كل الأراضي التي تحكمها ألمانيا، إضافة إلى دواع سياسية واقتصادية، يبقى من بينها الوساطة التي لعبها الصهاينة لدى الولايات المتحدة الأمريكية لنصرة الانجليز إبان الحرب
العالمية الأولى، ضدا في المحور الذي كانت ألمانيا تشكل الحلقة المهمة فيه. والحال أن هتلر
قد عايش هذه الأحداث بأم عينيه عندما كان جنديا بسيطا مكلفا بنقل الرسائل بين الكتائب الألمانية، في مهمة كانت تعتبر آنذاك صعبة ومحفوفة بالمخاطر.. أما بخصوص نيتشه، فلا شك أن الرجل قد عبر عن موقفه المعادي لليهودية، ليس من هذه الدواعي التي حركت النازية، وإنما بناءً على تصور فلسفي خالص، حيث أن اليهودية تمثل لدى الرجل، الامتداد الأفلاطوني في الديانة المسيحية، وكيف أنها شكلت حجر عثرة أمام تصوره الفلسفي للحياة، وذلك من خلال تكريسها لروح الضغينة والحقد، والتشجيع على أخلاق التضحية والمساواة والصبر والشفقة..إضافة إلى العمل على التفنن في قتل الحياة، واعتبارها مرضا توجب أن نشفى منه عن طريق الموت.
هكذا أمكننا القول وبكثير من المغامرة أن مشكلة النازية مع اليهودية يحكمها ما هو تاريخي سياسي واقتصادي، بينما مشكلة فيلسوفنا مع هذا الشأن، إنما نابعة من تصور فكري محض، علما أن اليهودية التي يتقصدها الرجل، تحتمل كل تصور مناف للحياة، قوامه السقوط في براثن الميتافيزيقا التي تنتصر للأعلى على حساب الأسفل، للسماء على حساب الأرض، وللفكرة ضدا على الوثن.. هكذا نقول أن المقصد من هاته الإدانة مقصد فكري لا يخندق اليهودية كديانة، وإنما كتصور للحياة، يقول دولوز عن نيتشه "بدل وحدة حياة فعالة وفكر إيجابي، نرى الفكر يعطي لنفسه مهمة محاكمة الحياة. يعارض القيم المزعوم تفوقها، ويقيسها الحياة بهاته القيم حيث يحد منها ويدينها. 1" وما اليهودية/المسيحية التي تحمل بين طياتها نفحات أفلاطونية، سوى تكريسا لهذا الفكر المتوجس من الحياة، لفكر يمتعض من كل إقبال على هذه الأخيرة، بل إنه ينتج بدوره قيما بديلة يعتقد أنها الأصلح، وذلك عندما يعلي من الانتقام بدل النسيان، وينتصر للرفض بدل القبول.. هكذا وهكذا فقط، لم يلخص نيتشه اليهودية في اليهودية، وإنما اعتبرها امتدادا تاريخيا عرف أوجه عندما وجد لنفسه حاملا فلسفيا يبرره على المستوى العقلي/المنطقي وليس على المستوى العقدي الذي قد لا يخاطب إلا ثلة قليلة من الناس.. فسقراط إذن يهودي لأنه اعتبر الموت شفاء من الحياة، وإن أتيحت له فرصة الهروب من السجن، وأفلاطون أيضا لا يقل أهمية عن أستاذه، عندما يعلي من عالم مفارق على حساب العالم الذي نوجد فيه، نفس الشيء أيضا قد نقوله على كل الفلسفات التي تنسى الحياة لصالح الفكرة، وتعلي من الأصل والنموذج على حساب النسخة والاختلاف..
من ثمة، نكاد نقول إن التصورين النيتشوي والنازي لا يلتقيان بخصوص سؤال اليهودية، إذ شكلت حسب الأول لحظة من تاريخ الفكر وقد هيمنت فيه الميتافيزيقا بعد المجد الإغريقي قبل سقراط، بينما نظر إليها الثاني كعدو تاريخي، وعرق توجب التخلص منه، أو بالأحرى الانتقام منه، لهذا فلو زعمنا سلفا أن النازية امتداد للنيتشوية لما فكرت في الانتقام، مادام أن هذه الأخيرة تعلي من النسيان على حساب التذكر بخصوص الجانب الأخلاقي، معتبرة أن الوقوف بعين ضِدّيدة نحو قوة أخرى، من شأنه أن يوقعنا في تأكيد هذا الذي نقف ضده من حيث لا ندري. الشخصية الأخلاقية التي يتصورها نيتشه، لا تخلق لنفسها أعداءً تسعى إلى الانتقام منهم، بل إن الرجل طالما اعتبر فكرة الانتقام، فكرة أوجدتها اليهودية، لأن الانتقام في الأصل هزيمة في مباراة الحياة، ورسم لعالم آخر ينتصر فيه هذا الذي انهزم الآن..
وفي نفس المعرض، ترى النازية في اليهودي تلك الشخصية التي تعيش معك، وتعيش أيضا ضدك في نفس الآن، فإذا وجدت نفسها في موطن الضعف تعبر عن حبها إليك متحينة الفرصة السانحة للانقضاض، أما إذا ألفت نفسها في مصاف الأقوياء، تنقلب إلى مهاجم يأتي على الأخضر واليابس دون أن يجد لنفسه مبررا لما يقوم به. لكن وفي مقابل هذا الأمر، قد يأخذنا العجب عندما نقول أن الوجه الآخر للنازية هو اليهودية، فالاثنان يحركهما المبدأ العرقي قبل كل شيء، اليهودي يرى في نفسه عنصرا من شعب الله المختار، وأنه يشكل العرق الأسمى إلى جانب الأعراق الأخرى، وربما لهذا السبب ي فرض على كل من يريد أن يتهوَّد، أن تكون والدته يهودية في الأصل، أما غير ذلك فإنه سيعدو مطلبا مستحيل المنال، بينما يجد النازي نفسه معتزا بانتمائه لأرقى وأنظف الأعراق، ألا وهو العرق الآري كما هو معلوم، وبما أن التصورين معا تحركهما نزعة عرقية خالصة، فالصراع الضمني هو صراع من أجل إثبات قوة لصالح أخرى.
ينظر نيتشه في مقابل هذا الأمر، إلى القوة كنتاج لتطاحنات مستمرة وعائدة أبديا، إذ القوة ليست قوة إلا لأن قوة قبلها نفت نفسها من أجلها هي، وما على الثانية إلا أن تسير على نفس المنوال، أي تنفي وتجاوز نفسها لصالح قوة جديدة وهكذا دواليك، علما أن هذا النفي لا يأتي بمحض الصدفة ولا الإرادة، وإنما لأن كل قوة عندما تسعى إلى هاته الهيمنة المطلقة، تزداد إرادتها نحو القوة، فيحدث أن تقف دون الإرادة، من ثمة سيعدو الواقع حمال تأويلات لا متناهية وليس خاضعا لتأويل وحيد على غرار ما كرسته الأفلاطونية منذ بداياتها.. وبعودتنا لسؤال الأخلاق كما يتصوره نيتشه، سنجده منافيا تماما للتصورين النازي واليهودي، إذ أنهما يلتقيان معا في بناء المجد عن طريق الانتقام، كما يسعيان للهيمنة المطلقة والدائمة التي تنتج النموذج والهوية، وتدين النسخة والاختلاف.. لذا، إذا أدان فيلسوفنا اليهودية، فلأنها شكلت وصمة عار على فلسفته التي تنتصر للحياة كتجربة لها بداية ونهاية ثم انتهى الأمر، وليس على التصور اليهودي/المسيحي، الذي يدين الحياة ويدعو إلى قتلها.
إن الاختلاف هنا، اختلاف يتعلق بالتصور المناسب للانسان، بينما تلتقي النازية واليهودية في هذا التصور، حيث تسعيان معا إلى بناء نوع معين من الانسان، وجعله النموذج الأعلى الذي لا يجب إلا أن يسود دائما وأبدا، بينما ترى النيتشوية في الانسان حبلا يتجدد باستمرار دون الركون إلى معنى أو نمط بعينه، من ثمة فالعيب الذي يمكن أن نسقط فيه، هو عندما سيتبدى لنا الانسان "كحقيقة خالدة، كعنصر ثابت في كل الدوامات، وأيضا كمقياس مؤمِّن للأشياء". 2وما اليهودية إلا تمثيلا صارخا لموقف يسعى إلى تحقيق هذا الإنسان الحمال لصفات بعينها، بحيث توجب عليه أن يحفظها وأن يضمن خلودها.. وبناءً عليه، لا يسعنا إلا أن نقول أن النازية بدوها تسير على نفس المنوال الذي أرادته اليهودية،بينما يقر نيتشه على النقيض من هذا الأمر، كون أن أكبر سم زعّاف يمكن أن نقدمه للانسان في الحياة، هو عندما نجعل منه الحقيقة المطلقة التي تحتوي العالم، هكذا سنجد أن ما كان يشغل بال الرجل ليس هو ما شغل بال النازية ثم اليهودية..
وعلى النقيض من كل ما ذكرناه سلفا، يرى بعض المفكرين والباحثين، أن هناك ارتباطا وثيقا بين النازية والنيتشوية وذلك بناء على جملة من المعطيات، وإن اختلفوا في نقطة أساسية بين من يراه ممهدا un précurseur على غرار المؤرخ إرنست نولت، ومن يقر بأنه المؤسس الروحي للنازية، وهو الأمر الذي ذهب إليه الفيلسوف ألفرد بوملر. ثم المفكر باتريك ووتلينغ وإن بنوع من الحياد 3 إلا أن هذين الحكمين يتساويان معا في تحقيق الربط بين فلسفة نيتشه والنازية، لكن وعلاوة على كل ما ذكرناه سلفا، ما هي الدلائل التي يقيمها هذا الطرح من الفكرة القائلة بأنه ثمة علاقة وطيدة بين الاثنين؟ تدل في هذا الشأن عديد المعطيات التاريخية، التي لا تدع مجالا للشك بأن النازية تعتبر التطبيق الحرفي لفلسفة نيتشه على المستوى السياسي، أو قل إنها هي من أخرجت هاته الفلسفة من الصالونات والكتب والمؤلفات إلى حيز التنفيذ على المستوى التداولي، ومرد ذلك يعود إلى شقيقة فيلسوفنا إليزابيث،" التي حاولت بدورها تقديم نيتشه كنبي للنزعة الجرمانية، وذلك بفضل أداته الأكثر فعالية، ألا وهو مؤلف إرادة القوة الذي نشر إبان سنة 1901" 4خاصة في الكتاب الأول الذي يتحدث عن العدمية الأوربية، وكيف أن زواج اليهودية/المسيحية، مع الأفلاطونية ساهم بشكل أو بآخر في تنامي هاته الروح العدمية التي أغرقت أوربا في هذا الذي توجب أن نضع له حدا، أي أن كتاب إرادة القوة الذي أسيل حوله مداد كثير، سيعدو إنجيل النزعة الجرمانية التي ترى أنه لا بد من إعادة النظر في الخريطة الجيوأخلاقية والفكرية لأوربا، وذلك من خلال التبشير بأخلاق جديدة لا تقوم على المساواة وإنما على الانتصار لمن يستحق أن ينتصر، لهذا سنكون في" حاجة إلى نقد للقيم الأخلاقية، بل يجب أن نضع موضع تساؤل قيمة هذه القيم نفسها. 5" كل الأشياء قابلة لأن نفكر فيها، لأن نعيد فيها النظر، ولأن نتجاوزها وننفيها أيضا، وإلا فسنكون قد سقطنا بين براثن العدمية، والحال أن عيب الأفلاطونية لا يختلف من حيث المضمون لا الشكل، مع التصور اليهودي/المسيحي، حيث اعتبرتا حسب الرجل، عنوانا بارزا للعدمية وقد وجدت لها كبير مستقر ومستودع، وعليه سيكون أكبر أمر جاثم على عاتقنا، هو ضرورة إعادة قراءة كل شيء، والعمل على القطع مع جذورها، إذ قد يكون سبب رفض نيتشه لليهودية ـ أي لكل تصور ينفي الحياة ـ نابع بالضرورة من هذه القراءة التي أعلت من شأن قيم وبطريقة مطلقة، على حساب الحط من أخرى، والحال أنه لهذا السبب حصل هذا الارتباط غير السليم بين نيتشه والنازية واليهودية، صحيح أن فيلسوفنا يعبر عن موقفه المناهض والرافض أيضا لليهودية علنا، بيد أنه لا يعدو سوى محاولة إصلاح أو قل لهدم طريقة معينة في التأويل.
إن اليهودي يمثل حسب نيتشه وصمة عار على جبين فلسفته الخاصة، أي تلك التي تدعو إلى الانخراط في الحياة، بينما ترى اليهودية في الحياة داءً ستكون الموت علة الشفاء منه، يقول في معرض حديثه بخصوص هذا الشأن: "إن روما ترى في اليهودي شيئا مناقضا للطبيعة، أو بمثابة مسخ يقف ضدها، لقد تم اعتبار اليهودي في روما بمثابة حاقد ضد الجنس البشري. 6" حيث يكمن حقده هذا، في تمجيد ما لا يمكن أن يتحقق، لصالح هذا الذي يوجد الآن، إن اليهودي يزرع سمه الزعاف في الطبيعة البشرية، حينما يقول أن ما نعيشه في هاته اللحظة بالذات، ليس سوى شيئا عابرا، إذ كل ما يصيبنا فيه هو فقط اختبار يمنحنا حياة أخرى مفارقة، هي التي تمثل الحقيقة المطلقة، وما الشرور التي نراها، أو قد تصيبنا أيضا، إن هي إلا انتقام لمن يقوم بها، حيث سيكون الحل سهلا يتجلى في التضحية وأيضا الضغينة نحو هؤلاء الأسياد الذين يتأولون العالم بشكل آخر، إلى أن يتحقق فعل الانتقام عندما تتاح الفرصة السانحة له، فالإنسان الخير والصالح فينا، هو الذي يزهد في الحياة ويبتعد عما تقدمه لنا، معرضا وراغبا عنها.. والحال أن روما التي تمثل الارتباط بالأرض والجسد والحياة، تدين هذا التصور لأنها تراه ليس خاطئا وحسب، وإنما قاتلا لطبيعة الانسان الذي يريد أن ينفلت من الحياة رغم أنه جاء منها وإليها سيعود.
تمثل فلسفة نيتشه امتدادا للتصور الروماني للحياة، بينما تمثل اليهودية من هذا المنطلق تأويلا جديدا ضد الوثنية، لكن وفي مقابل هذا الشأن، ما هي الأوجه الخلفية لهذين التأويلين؟ يمثل الوثن في هذا الصدد، الارتباط الوثيق باللحظة وبالأرض أيضا، أي أن كل ما يحدث الآن هو ما يمكن أن يحدث بغض النظر عما إذا كانت لنا فيه مآرب أم لا، حياتنا شيء يعاش ويجسد مثلما تتجسد هاته الأشياء الماثلة أمامنا بكل وضوح، بينما تمثل اليهودية الانتصار للفكرة، والاحتقار الكبير للجسد أي للحياة، ما الذي يمكن أن تقوم به الفكرة؟ إنها عندما تنفلت من قبضة اللحظة تصنع لنفسها عوالم لا تحضر وإنما يتم استيهامها فقط، وحدهم الضعفاء أو بلغة نيتشه العبيد، هم من يسيرون حذو هذا الأمر، وذلك هروبا من هذا الذي يحدث بطبيعة الحال، والحق أن اليهودية تمثل هذا التصور السابق ذكره، لهذا يعبر الرجل في أكثر من معرض عن امتعاضه من هذا التفسير وإدانته أيضا، لأنه أفسد الانسان بل وقد تمكن من الانتصار والسيادة أيضا في مراحل طويلة من التاريخ.
إذا كان فيلسوفنا قد أقر وبصريح العبارة، موقفه المعادي لليهودية، فإن البعض ممن ربطوا بين النازية ونيتشه انطلقوا من النقطة التي تربط الاثنين معا، بيد أن المشكل يكمن هنا في نظرة كل جانب منهما لقضية اليهودية. حيث يرى نيتشه فيها جمعا صريحا بين الأفلاطونية والمسيحية القائمة على أخلاق الانبطاح والشفقة والضعف والزهد، بينما ترى فيها النازية حسابا سياسيا قائما بذاته، فيلسوفنا لا يفرق بينها وبين المسيحية، بل وكل التصورات التي تسير في نفس المنحى، عكس النازية التي وضعت نفسها ضديدا لليهودية، من ثمة فقد توجب الفصل بين هاتين القراءتين وذلك نظرا لاختلافهما من حيث الشكل والمضمون وأيضا من حيث الدوافع الابستيمولوجية. لكن هل ينفي هذا الأمر تبرئة نيتشه وفصله فصلا تاما والنازية؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد من الوقوف أولا عند الفرق بين نيتشه الفيلسوف من جهة، ثم القراءات والتأويلات التي حصلت لفلسفته بعيد وفاته بقليل، حيث سيكون من غير المقبول الإقرار بأن نيتشه هو مؤسس النازية، إذ كيف سنقر بذلك وقد ظهر هذا الانتماء أو قل هذا التيار السياسي بعد نيتشه بكثير، إذ أن مؤسس شيء ما، يفترض أنه على دراية بما قام به من جهة، وأن هناك إعدادا وإرادة قبليتين لفعل التأسيس. هل يتحدث نيتشه فعلا عن تصور سياسي على غرار النازية معليا من شأنها؟ بل وكيف يعقل التأسيس لشيء لا نعرفه؟ أفلا يدل هذا الأمر، أن متن نيتشه قد تمت قراءته بناءً على الأهداف التي كانت تؤمن بها النازية وليس بناء على التصور النيتشوي نفسه؟ يضعنا المؤرخ زييف سترنهل في هذا السياق عندما يقدم فرضيتين متكاملين ومتناقضتين في الآن نفسه، حيث يرى أن هناك تأثيرا واضحا من نيتشه على النازية، ثم العمل على إضفاء الطابع النازي على المتن النيتشوي، والشاهد على ذلك هو تلك العلاقة الرسمية المباشرة التي جمعت بين هتلر وإليزابيت نيتشه، من ثمة قلنا سابقا أن فيلسوفنا قد نُظر إليه "ممهدا للنازية 7" وهو ما حذا بأن يكون أهم مؤسس للتنظيم الصهيوني العالمي ضد النيتشوية 8 بيد أن ما يهمنا من كل ذلك، هو الذي أشرنا إليه سابقا، حيث سيبدأ سوء الفهم هذا، عندما قامت إليزالبيت بإنشاء أرشيف خاص بشقيقها إبان سنة 1894 بفيمار، "حيث تحول إلى أداة ناجعة لتسويق الفكر النيتشوي." 9 إذ لم يعد مقتصرا على المهتمين بالفكر الفلسفي وحسب، وإنما أصبح متاحا للعموم، مما جعله قابلا لأي تأويل مهما كانت طبيعته، ومن هذا المنطلق، بتنا أمام الفرضية الأولى للمؤرخ سترنهل، حيث هذا التأثير النيتشوي على النازية، ليتطور هذا الأمر خلال المجد النازي مع هتلر، حيث بدأ هذا التصور يعطي روحا نازية محضة لفلسفة نيتشه بصفة عامة، مما أفرز لنا هذا الأمر مجموعة من الشخصيات التي تبنت هذا الأمر، لدرجة أننا أصبحنا أمام صفات غريبة كل الغرابة من قبيل الحديث عن ألفرد بوملر (1877ـ1968) الذي اتسم بكونه أهم "فيلسوف نيتشوي/نازي 10" ثم سيكتمل المشهد بعدئذ وبالضبط إبان تاريخ 3 نونبر 1933 حيث "سيتوج الرجل بطابع نازي محض وذلك من خلال الاستقبال الحار للفوهرر في أرشيف نيتشه بفيمار، حيث قدمت إليزابيت إلى زائرها عصا أخيها كهدية، الغرض منها حشر نيتشه في هاته البروباغوندا."11 والتي لعبت دورا كبيرا بعدئذ من خلال الزيارات المتكررة لهتلر والبالغة سبع مرات متتالية، حيث سيعدو فيلسوفنا وفي غيبة منه، مثالا وملهما للتصور النازي، لم لا وقد خص أحد المنظرين النازيين لنيتشه، والذي ليس سوى روزنبورغ، مقالا مهما صدر يوم الثامن من نونبر 1933 ، أكد فيه كون أن الرجل يعتبر من الممهدين لنظام الرايخ الثالث، وذلك بناء على قراءة فلسفية حاولت التوفيق بين فيلسوف ونظام سياسي.. ثم سيصل تكريس هذه العلاقة الحميمية خلال اللقاء التاريخي الشهير الذي جمع بين هتلر وموسولوني يومي 14 و 15 يونيو 1934 ، حيث أرسلت إليزابيت للقائدين تلغرافا أكدت فيه قائلة: "إن روح نيتشه تحوم فوق هذا اللقاء القمة، بين أكبر رجلي دولة في أوربا. 12" حيث شكل هذا القول عنوانا بارزا تأكدت فيه بالملموس، هاته الرغبة المبطنة في الربط بين فلسفة نيتشه ونمط التفكير النازي بشتى الطرق والوسائل، وذلك في محاولة لإيجاد هذا الحامل العقلي الذي يبرر ما كانت تريد النازية تكريسه، ليعدو حينئذ محرر هاته الطاقة الدفينة التي بنت صرح النازية، بعد أن بحثت عمن بإمكانه تحريرها وإخراجها إلى العلن، من ثمة قد لا يأخذنا العجب ونحن نرى هؤلاء الجنود الأقوياء، يدكون أوربا بعتادهم المخيف وهم منغمسون بين سطور كتاب "هكذا تكلم زرادشت" في جبهات القتال، معتبرين إياه ملهما لروحهم ومحررا لطاقاتهم التواقة لتحقيق النصر والمجد. بينما كان أحد أكبر نحاثي نظام الرايخ الثالث يعمل بجهد جهيد لتجسيد منحوثة لبروميثيوس واعتبارها "نموذجا للانسان الأعلى النيتشوي. 13" وذلك في من أجل مد حبل التواصل الدائم بين نيتشه والنازية. لكن، هل ستدل هاته المعطيات التاريخية فعلا على جعل فلسفة نيتشه محركا لقيام النازية؟
بداية لقد توجب علينا أن نفصل بين نيتشه الذي يريده نيتشه نفسه، وبين نيتشه الذي تتم قراءته وفق حمولة تاريخية وتربوية معينة، حيث عمل قادة نظام الرايخ الثالث بمن فيهم الفوهرر، على إضفاء الطابع الأداتي بخصوص فلسفة نيتشه، بينما وفي الضفة الأخرى ساهمت قراءات كثيرة في إدانة الرجل واعتباره عنصريا محتقرا للسامية عامة واليهودية خاصة مهينا إياها، في حين أن الأهم من كل ذلك يكمن في أن نيتشه عندما تحدث عن اليهودية، إنما كان يرمز إلى كل تصور مهما كانت مرجعيته، تصورا ارتكاسيا عندما يجسد الأفلاطونية على أرض الواقع، خاصة من خلال موقفها من الحياة، هكذا سيكون من المغامرة الفكرية بمكان، التسليم بما جاء به باتريك ووتلينغ حول نيتشه باعتباره فيلسوفا معاديا للسامية، منتصرا للروح الألمانية الوطنية التي تقف على فكرة "الدم الخالص" 14 كأرقى وأنقى عرق يعرفه العالم.
يدين نيتشه اليهودية، لكن ليس كاختيار ديني، وإنما كنمط تفسير وتأويل للعالم.. تقف النازية ضدا على اليهودية كاختيار وكانتماء ديني، غرضه الانتقام ورد الثأر لما حصل خلال الحرب العالمية الأولى، بينما ترى اليهودية في نيتشه أصل نكباتها بأوربا خلال تلك الفترة من تاريخ القرن لعشرين، ثم ترى في النازي حيوانا همجيا غرضه الانقضاض من أجل الانقضاض لإشباع نزعة دفينة، أو قل إرضاءً لروح الهيمنة والسيطرة التي كانت النازية تريد إثباتها.. من ثمة وكصفوة لكل ما قلناه سلفا، لا بد من أن نفصل بداية، فكر الرجل عن هؤلاء الذين حمَّلوا فكره ما لا يمكن أن يحتمل، كما لا بد أن نعود إلى كيفية نظر نيتشه إلى اليهودية، وكيف أن الأمر ليست له أية علاقة بموقف عرقي ديني، بقدر ما أن اليهودية التي يشير إليها، ليست هي تلك المتعلقة بنمط واختيار سياسي محددين، وإنما كنظرة للعالم لا غير، أما على المستوى الثالث فإن اليهودية نفسها لا بد أن تعيد النبش في التاريخ تخلصا من سوء الفهم الذي ح شر نيتشه فيه من حيث لا يدري.. هل يعني أن الرجل قد كان على موقف حيادي من الأمور السياسية؟ ذلك أيضا قول آخر، لن يسعنا في هذا المقام سوى إثارته للقارئ دون الخوض فيه..
بيبليوغرافيا
1 - Deleuze, Nietzsche, PUF 1965, p : 19.
2 - Nietzsche, humain trop humain, ed : LGF 1995, p : 34.
3 - voir par exemple : Patrick Wotling, Nietzsche est un penseur nationaliste et pangermaniste, in : Nietzsche, ed : Le cavalier bleu 2009.
4 - Pierre-André Taguieff, Comment la postérité s’est emparée de Nietzsche, le point, hors-série, n° 14, 2013, pp : 84-89.
5 - Nietzsche, la généalogie de la morale, Gallimard, 1971, p : 14.
6 - ibid, p : 53.
7 - Pierre-André Taguieff, Comment la postérité s’est emparée de Nietzsche, op.cit, pp : 84-89.
8 ـ أتحدث هنا عن ماكس نوردو (1848ـ 1932)
9 - ibid.
10 - ibid.
11 - ibid.
12 - ibid.
13 - ibid.
14 - Patrick Wotling, op.cit, p : 49.
لائحة المصادر والمراجع
Deleuze (Gille), Nietzsche, PUF 1965.
Nietzsche (Friedrich), humain trop humain, ed : LGF (1995)
Nietzsche (Friedrich), la généalogie de la morale, Gallimard, (1971)
Wotling (Patrick), Nietzsche, ed : Le cavalier bleu (2009)
Taguieff ( André-Pierre), Comment la postérité s’est emparée de Nietzsche, le point, hors-série, n° 14, 2013, pp : 84-89.