يؤسس طه عبد الرحمن نظره في مراتب الترجمة العربية للنص الفلسفي على وجوه التعارض أو التقارب بين الفلسفة والترجمة. هذا ما يمكن اختصاره فيما يلي:
1- وجوه التعارض بين الفلسفة والترجمة
1-1 - التعارض بين عقلانية الفلسفة و فكرانية الترجمة:
يرى طه عبد الرحمن أنه لما كــان الأصـل فـي نشأة الفلسفة هو طلب معرفة تقطع صلتها بمــا هـو تمثيل أسطوري، أي معرفة مبنية على مبدأ اللوغوس، أي العقل، بخلاف المعارف المبنية على مبدأ الميتـوس أو الوهم، وكانت الترجمة ترجع إلى التأثير الديني الذي يتجلى في أمرين أولهما قصـة برج بابل فـي التوراة ، حيث استوجب التفاهم بين الشعوب - التي بلبل الله لسانها - قيام الترجمة، وثانيهما ترجمة الإنجيـل من الآرامية إلى اليونانية واللغات الأوربية، فإن العلاقة هي علاقة تعارض، بحيث يلزم " أن الفلسفة التي تدعي الأخذ بأسباب العقلانية تسقط في العمل بأسباب الفكرانية متى جعلت من الترجمة أداة تكشف بها الحقائق وتفتح بها الآفاق".(2)
1-2- التعارض بين شمولية الفلسفة وخصوصية الترجمـة: لما كـانت الفلسفة تدعي أنها لغة شمولية من حيث كونها تهتم بدراسة الكليات والمعقولات، وكانت الترجمة تتصف بالخصوصية اللغوية رغم ادعـاء بعض التراجمـة باللغة الخالصة ومنـاداة بعـض اللسانيين بالكليات اللغوية، فإن العلاقة الثابتة بين الفلسفة والترجمة هي التعارض بين شمولية الأولى وخصوصية الثانية.
1- 3 - التعارض بين معنوية الفلسفة ولفظية الترجمة: لما كانت الفلسفة لا تعلق لها باللفظ وإنما بالمعنى، حيث غرض الفيلسـوف أن ينشئ الفكـر الذي هـو جملـة مـن المعاني المرتبطة فيما بينها ارتباطا استدلاليا، وكان المترجم على خلاف المتفلسف ينظـر فـي اللفظ نظره في المعنى وذلك باهتمامه بـالبنى المعجميـة والنحويـة والبنى النصية، فإن طه عبـد الرحمان يثبت التعارض الثالث بين معنوية الفلسفة ولفظية الترجمة.
1-4 التعارض بين تبعية الفلسفة واستقلالية الترجمة : وهذا الوجه مـن التعارض يخص فقط الفلسفة العربية التي هي تابعـة للترجمة، ولقد وسـم هـذا التعارض بيـن التبعية والاستقلالية كل أطوار الترجمة العربية التي حددها عبـد الرحمن فـي ثلاث هـي: الطور الابتدائي، والطور الاستصلاحي والطور الإستئنافي.(3)
صحيح أن مؤلف "الفلسفة والترجمة" تفطن إلى الاعتراضات الممكن قيامها على دعواه في القول بالتعارض بين الفلسفة والترجمـة، خاصـة أن بعـض المشتغلين بالفلسفة والترجمـة يقولون يقول بوجود التقارب الماهوي بين الفلسفة والترجمـة. يقـول: " يبقـى علينـا أن نرد علـى مـا يدعيه بعض الفلاسفة وبعض التراجمة المحدثين من وجود تقارب في الماهية بين الفلسفة والترجمة "(4). فما هي أسس دعاوى التقارب بين الفلسفة والترجمة؟ وما هي حـدود اعتراضات المؤلف عليها؟
2- دعاوى التقارب بين الفلسفة و الترجمة و الاعتراض عليها (5)
يحدد طه عبد الرحمن العلاقة بيـن الفلسفة والترجمة علـى جهـة الإضافة فـي أربعة وجوه، ذلـك أن الفلسفة إما أن تكون خادمـة للترجمة مــن حيث المناهج، وهو ما يعرف بالترجمة الفلسفية، أو أن الفلسفة تنظر في مواضيعها بمناهج مقررة فـي نظريات الترجمة وهو ما يعرف بالفلسفة. وهذان الصنفان يختلفان عن فلسفة الترجمـة التـي تتعلق بالنظر الفلسفي فــي الترجمة كمـا يختلفان عـن ترجمة الفلسفة التـي هـي نقل النصوص الفلسفية من لغة إلى أخرى.
ومعلوم أن طـه عبـد الرحمن فحص الوجوه التي تقلب فيهـا التقارب بين الفلســفة والترجمة عند فئة من اشتغل بالفلسفة الترجميـة، والترجمـة الفلسفية علـى حد سواء. ومـن خلال كشف المؤلف يمكن إيجاز دعاوى التقارب بين الفلسفة والترجمة في الطرق التالية(6):
- التقارب يكون عن طريق مفهومي البقاء والأصل حيث يكون للترجمة تعلق بطـــور البقاء الذي يدخل فيه الأصل (نظرية بنيامين).
- التقارب يكون على مستوى الترجمة التحقيقية التي تصلنا بالوجود ضـدا علـى الترجمة التحريفية التي تفصلنا عن الوجود (مارتن هايذغر)
- الفلسفة والترجمة تجتمعان من جهتين أساسيتين إحداهما تأويلية والأخـرى حوارية (نظرية كادمير).
- يرفع التعارض القائم بين الفلسفة والترجمة بواسطة مفهومي الاختلاف والبقاء بحيث أن الترجمة بقيامها على الاختلاف تغدو قادرة على هدم نمط التفكير الميتافيزيقي، كمـا أن اتصاف الترجمة بالحياة والبقاء يجعلها قادرة على تجاوز نمط التفكير المضيق (نظريـة جاك دريدا)
- كما أن وجوه التعارض قد تنمحـي اعتمادا على مفهـوم الترجميـات وخاصة مبدأ التأمل والتجربة (نظرية بيرمان)
- و أخيرا، يحل التعارض بين الفلسفة والترجمة على أساس التجديد في مفهومي الكلمة والاستعمال (نظرية اندريو بنجامين)
وبخصوص عقلانيـة الفلسفة فـإن طـه عبـد الرحمن يقسمها قسمها، عقلانية ضيقة وأخرى متسعة، وبما أن هذه الأخيرة تستند إلى القيم فإنها توافق فكرانية الترجمة، ومــن ثم يرتفع التعارض بين الفلسفة والترجمة.
أما فيما يتعلق بخاصية التبعية التي تتصف بها الممارسة الفلسفية العربية، فقد عمد طه عبد الرحمن إلى إبطال المبدأين اللذين ترجع إليهما أسباب تبعيـة الفلسفة العربيـة للترجمة وهما مبدأ الإطلاقية، الذي يوجب التسليم باستقلال الفلسفة المنقولــة، ومبـدأ الإلزامية الـذي يوجب القول بالاضطرار إلى الفلسفة المنقولة. ومـن خلال هـذا الإبطال تمكـن المؤلف مـن تمييز طريقين في ترجمة الفلسفة العربية : أحدهما يستند إلى التصور السائد للفلسفة، وإليه يرجع سبب تبعية الفلسفة العربية للترجمة أصولا وفروعا. وهذا الضرب مــن التبعية أسماه المؤلف بالاتباعية، وثانيهما هو عبارة عـن الاستقلال فـي الأصول والتبعية فـي الفروع وأســماه بالاتصالية وهي التي تمكن في نظره من فتح أبواب الاستشكال الفلسفي.
الحاصل أن طـه عبـد الرحمن، بمراجعته للفلسفة، استخرج صفاتها التجديديـة والتي أسماها ب"الخصائص التجديدية للفلسفة" وهي : النموذجية و القصدية و الاتساعية والاتصالية وهذه الخصائص هي التي مكنته من رفع التعارض مع "الخصائص الأصليـة للترجمة" التي هي : الخصوصية واللفظية والفكرانية والاستقلالية(7).
وبالنظر إلى مراعاة الترجمة للخصائص التجديدية للفلسفة، كلها أو بعضهـا، أو عـدم مراعاتها يؤسس طه عبد الرحمن نموذجه النظري للترجمة العربية للنص الفلسفي فما هي خصوصيات هذا النموذج ؟ وما هي خصائصه؟ وما هي النتائج المترتبة عن مراتبه؟
3- النموذج النظري للترجمة العربية للنص الفلسفي وتطبيقاته:
المعلوم أن طه عبد الرحمن يميّز بين ثلاثة أنماط متتالية من الترجمة، تتدرج من الأسوأ إلى المتوسط إلى الأفضل، فهو يكتب في ص 404 من "فقه الفلسفة":
" وضعنا نموذجًا نظريًّا في ترجمة الفلسفة يتألف من مراتب ثلاث متفاوتة فيما بينها؛ أولاها: الترجمة التحصيلية، وتقع في التعارض الكلي بين الفلسفة والترجمة وتتولى نقل كل ما في النصوص الأصلية من غير تمييز ولا تقويم، وتعمل جاهدة على محاكاة الصور التعبيرية لهذه النصوص، ألفاظًا وتراكيب، فيكون مآلها تطويل العبارة بما يرهق الفكر ويزهق الوقت. والثانية: الترجمة التوصيلية، وتبقي على تعارض جزئي بين الفلسفة والترجمة، قد تشتد قوته أو تضعف، وذلك بحسب درجة التمسك بالصفات التقليدية للفلسفة، كما أنها تنقل كل ما لا يبدو فيه إخلال ظاهر بالقواعد المقررة للغة وبالأركان الأساسية للعقيدة، وتبذل غاية الجهد في نقل كل ما يحتمل الانتساب إلى حقل المعرفة من غير كبير تفريق ولا دقيق تقدير. والثالثة: الترجمة التأصيلية، وترفع التعارض بين الفلسفة والترجمة، وتجتهد في نقل ما تثبت لديها موافقته لضوابط المجال التداولي المنقول إليه "اللغوية والعقدية والمعرفية" متوسلة في ذلك بأنجع أدوات التمييز والتقويم؛ لأن العبرة هنا ليست بالحكاية عن الغير، وإنما بتمكين الذات من الممارسة الفكرية".
ويؤكد طه عبد الرحمن على أن مراتب هذا النموذج تتعلق بترجمة النصــوص الفلسفية، تختلف عن التقسيمات العامة لطرق الترجمة، والتي تجمع كلها على المقابلة بين الترجمة الحرفية القاصدة للأمانة والترجمة الحرة القاصدة للابانة، فهذه الأخيرة تتعلق بتقسيم طرق التبليغ التي تسلكها ترجمة عموم النصوص. لكن مراتب هذا النموذج وإن اختلفت عـن طرق التبليغ فإنها تتوسل بها بطرق قد تجمع بين طرق الأمانة أو طرق الإبانة.
و يلخص طه عبد الرحمن مراتب نموذجه بقوله "نسمي الضرب الأول الذي لا يحفظ أية خاصية من الخصائص التجديدية للفلسفة ب " الترجمة التحصيلية " والضرب الثاني الذي يحفظ بعضها باسم "الترجمة التوصيلية" والضرب الثالث الذي يحفظ جميع الخصائص باسم "الترجمة التوصيلية". أما المقتضيات واللوازم الخاصة بكل مرتبة فهي كما يلي:
3-1 الترجمة التحصيلية : الخصائص و الآثار:
3-1-1 التعارض الكلي : إن طغيان هذا التعارض على هـذا الضرب مـن الترجمة يجعل المتلقي يتنـازع فكره نوعان مـن المقتضيـات الخطابية أحدهمـا، محددات الواقع الترجمي التي تتغلغل في التخصيص والتقييد والثاني، موجبات المطلوب الفلسفي التي توغل في التعميم والإطلاق هذا التعارض يؤدي بـه إلـى التذبذب فـي استيعاب مقاصد المنقول والتعثر في تكوين ملكته الفلسفية.
3-1-2 النقل الكلي : يصير المترجم التحصيلي إلى نقل جميع الحقائق التي يصادفها في النصوص التي بين يديه تستوي عنه في ذلك الأصول الفلسفية الخاصة التـي تتميز بهـا اللغة المنقولة, والتي لا نظير لها في اللغة النافلة، والأصول الفلسفية العامة التي قــد تشترك فيها هاتان اللغتان، كما تستوي عنده في ذلك الفروع الفلسفية المبنية على الأصول الخاصـة والفروع الفلسفية المبنية على الأصول المشتركة.
3 -1-3 التوجه اللغوي : إن تمسك المترجم التحصيلي بظاهر التعبير للغة المنقولة صرفا وتركيبا، يؤدي به إلى تقديم طريق الترجمة الحرفية على غيرها من طرقها التبليغية، معتقدا أنها تمكنه من الظهور بالقيام بشرط الأمانة في أداء عبارة المنقول.
"فالمترجم التحصيلي إذن هو عبارة عــن المترجم الـذي ينقل النص الفلسفي علـى مقتضى التحصيل، الفارق بينه وبين المتعلم إلا أن هذا يتلقى تعليمه بقصد التمكن فيـه، وهو يتلقاه بقصد تمكين المتلقي من".
وتستلزم هذه الخاصيات تعرض الترجمة التحصيلية لآفة التطويل الذي يتخذ صورتين:
- تطويل سقم : والمقصود به إيراد المعاني في تراكيب ملتوية تبتعد عـن المقتضيـات النحوية للتركيب العربي السليم.
- تطويل حشو : والمقصود به زيــادة فـي اللفظ لاتخـل بالتركيب الناقل، وإنما تخل بفائدته، فيتطرق إليها اللغو أو الإبهام.
وتتولد عن آفة التطويل مجموعة من الآثار السلبية منها إرهاق الفكـر وتضييــع الوقت في استيعاب المنقول.
وإذا كــان طه عبـد الرحمن قـد مثل ودلل علـى صحـة مراتب نموذجـه بالنظر فـي الترجمات العربية للنصوص الارسطية، فإنه خصص بابا كاملا من كتابه "الفلسفة والترجمة" لتطبيق نموذجه على ترجمة أصل الفلسفة الحديثة عند ديكارت والذي تستمد منـه الكتابات الفلسفية العربية عن طريق الترجمة. وحتى يتضح لنـا مدلول الترجمة التحصيلية نقرب وجهها التطبيقي في ترجمة الكوجيطو الديكارتي كما صاغها طه عبد الرحمن.
3-2 الترجمة التحصيلية للكوجيطـو (8): يستخلص طـه عبـد الرحمان أن المقابل العربي يخــالف الأصل الفرنسي، فإذا كــان الكوجيطــو فــي نصـه الأصلي هــو je pense ; donc je suis ، فإن ترجمته التحصيليـة هـي "أنـا أفكر إذن أنـا موجود" لكن هذا المقابل العربي يخالف الصيغة الفرنسية الأصلية من وجوه متعددة : فالأصل الفرنسي يتكـون من جملتين فعليتين بينما المقابل العربي يتكون من جملتين اسميتين، كما أن الأصل الفرنسي مناسب من حيث اشتراك جملتيه في البنية التركيبية التي هي البنية الفعلية، بينما النجد نفـس التناسب في المقابل العربي.
كما أن إيراد ضمير المتكلم المنفصل المفرد : "أنا" في جزئها الأول: "أنا أفكر" يـؤدي في نظر المؤلف إلى حملها على اعتبارات مقاميـة لا يحتملهـا الأصـل الفرنسي, منهـا تأكيد الذات بناء على الاستخبار، ونفي ما سواء الذات دفعا لاحتمـال قيام الغير بالتفكير، و اثبـاث الوحدانية رفعا لاحتمال اشتراك الجماعة فيـه كمـا أن التنصيص على معنـى "الوجود" فـي الجزء الثاني من هذه الترجمــة، وهـو "أنـا موجود" يخــالف مقتضيات دلالية وتداوليـة بقدر يتعدى مخالفة الأصل لها، منها تكرار معنى "الوجود" وإهمال شهادة الحال التـي تقوم مقام التصريح بهذا المعنى وتر ك العمل بمقتضى الخاصية الشرطية لهذا المعنى والتي تغني عن ذكره باللفظ، يلزم من ذلك أن الصيغة التحصيلية ل"الكتوجيطو" دخل عليهـا مـن التكلف مـا جعل تركيبها غير قصير وفهمهــا غير قريب فيتعين صرفها وطلـب غيرها مما لاتطول عبارته وال يبعد إدراكه" وهذا الغير هو:
3-3 الترجمة التوصيلية : المقتضيات واللوازم (9): تتميز الطريقة التوصيليـة فـي ترجمة الفلسفة بالخصائص الآتية التي صاغها طه عبد الرحمن.
3-3-1 التعارض الجزئي : مقتضاه أن المترجم يراعي بعض الخصائص التجديديـة للفلسفة في ممارسته لترجمة الفلسفة، كأن يحذف صفة الاتصال وحدها أو يحذف ثلاث صفات محتفظا بواحدة.
3-3-2 النقل االكثري : ما دام المترجم التوصيلي يجتهد فـي أن يكـون نقله موجها بقصد إفادة المتلقي على الوجه الذي لا يضر بأرسخ مبادئه العقدية وأعم قواعده للغوية، فإنه ينقل كل الأصول والفروع الفلسفية التي يعتقد أنها توافق هذه المبادئ والقواعد ويترك نقـل الأصول الخاصة بالمنقول الفلسفي التـي يثبت عنده أنها تخالف هـذه القواعد والمبادئ أو تخالف ما يتفرع عنها.
3-3-3 التوجه العريف : لما كان المترجم التوصيلــي يترك الحقائق الفلسفية المخالفة لمجال التداول المنقول إليه : عقيدة ولغة، فإنه في مقابل ذلك، ينقل كل الحقائق الفلسفية التـي تبدو لـه ذات صبغة معرفية، ظاهرة أو خفيـة،ومـن تم فهو يجمع بين الترجمة الحــرة والترجمة الحرفية.
فالمترجم التوصيلـي هـو إذن عبارة عـن المترجم الذي ينقل النص الفلسفي علـى مقتضى التوصيل: الفارق بينه وبين الراوي، إلا أن هذا ينقل مـا علم به بقصد إخبار المتلقي بينما هو ينقله إليه بقصد تعليمه.
واعتبارا لهذه الخصائص تتعرض الترجمة التوصيلية لآفة التهويـل التـي هي المبالغة في المعنى الناتجة عن إيراد الألفاظ الفلسفية في صيغ اصطلاحية غريبة تؤدي إلى التعـثر في تحصيل أغراض المعرفة الفلسفية فيكون التهويل سببا في تعطيل القدرة علـى التفلسف اكتسابا وإنتاجا. (10)
وإذا كان طه عبد الرحمان قد وقف على أصناف مـن الأسماء الغريبة والألفاظ غير المألوفة في النصوص الفلسفية التـي نقلها العـرب فـي الطور الابتدائي والاستصلاحي فـي لترجمة العربية (11)، فإنه طبق هـذا الطريق التوصيلي علـى الكوجيطـو الديكـارتي، هـذا التطبيق الذي نقربه فيما هو موال.
3-4 الترجمة التوصيلية للكوجيطو:
إن الترجمة العربية ل"الكوجيطو" التي تبدو اقرب إلى الضرب التوصيلي هي في نظــر طه عبد الرحمن الصيغة التالية : أفكر ، إذن أنا موجود.
فقد حذف فيها ضمير المتكلم المنفصل المفرد "أنا" الذي كان، فـي الترجمـة التحصيلية مقرونا بلفظ " أفكر" كما حذفت الفاء التي كـانت فـي هذه الترجمـة داخلة علـى " أنا " فـي موقعها الثاني
لكن هذه الترجمة - من خلال تحليل صاحب " الفلسفة و الترجمة " - تقع في تهويليــن اثنين : أحدهما، تهويل لفظ "موجود" ء إذ وقع التمسك به على علاته، حتى بدا كأنه لا بديل له ،لا صيغة و لا مضمونا، وقد بين طه عبد الرحمن كيف أن صيغة الفعل من هذا اللفظ أدل على مقصود ديكارت، وكيف أن ألفاظا أخرى تفضله فـي أداء هـذا المقصـود : مثـل الكون"، "الذات" و " الحق " أما التهويل الثاني : فهو تهويل لفظ " إذن" : إذ حصل إيــراده في الجملة من غير محله، وقـد وضح المؤلف بتفصيل كيـف أنه - أي إذن - أريـد بـه الجزاء أو الجواب على الأقل، مع أنه استعمل استعمالا دالا على التوكيد أو الحشو.
وهكـذا، فإن " الترجمة التوصيلية ل " الكتوجيطــو " و إن اجتهـدت فـي اجتنـاب الأخطاء اللغوية للترجمة التحصيلية له، فإنها وقعت فـي أخطاء معرفية صريحة، فلزم بذلك أن يكون النقل التوصيلي للكوجيطو، ركيكا في بنيته جامدا على مضمونه".
ولما كانت الترجمة التحصيلية و الترجمة التوصيلية تعيق الإبداع في الفلسفة العربيـة استشكالا و استدلالا، وجب البحث عن طريقة أو مرتبة ثالثة في النموذج هذه الطريقة التـي تمكن من تجاوز عيوب المرتبتين السابقتين كما تمكن من جعل الفلسفة قادرة على التجديد و مضامينها، وهذه الطريقة هي ما اسماه طله عبد الرحمن ب:
3-5 الطريقة التأصيلية في ترجمة الفلسفة (12): فإذا كانت هذه الطريقة هي أفضـل طرق الترجمة فلأنها تتميز بكونها تحفظ الصفات التجديدية الأربع للفلسفة الحية، وهي :"النموذجية " و " القصديـة " و "الاتساعية " و الاتصاليـة" . وبذلك فعمل المترجم التأصيلي يتصف بخصائص ثلاث : صاغها المؤلف وذلك كما يلي:
3-5-1 التوفيق الكلي : إن اتصـاف الفلسفة بالصفــات التجديديــة يجعلــــا توافق الصفات الأصلية للترجمة و ذلك كما يلي:
أ- إن الخصوصية اللغوية التي تتصف بها الترجمة تفيد النموذجية الفلسفية مــن جهـة إمدادها بشاهد أمثل هو بالذات اللسان الذي يستعمله الفيلسوف فـي صـوغ أفكاره و نقلها إلى الغير
ب- إن اللفظية التي نتجلى بها الترجمة تنفع القصدية الفلسفية مـن جهـة أنها تربطها بسياق الاستعمال
ج- أما الفكرانية التي تتصف بها الترجمة فتفيد الفلسفة مـن جهـة أنها تمدهـا بأسباب التعلق بأصول قيمية مخصوصة.
د- إن الاستقلاقية التي تتجلى بها الترجمة تنفع الاتصالية الفلسفية من حيث أنها تنقل
إليها القوة على التصرف، ( فتغدو قادرة علـى التجديد والتوليد بوجـوه قـد ال تقدر
عليها النصوص الفلسفية التي حدث الاتصال بها)
3-5-2 النقل الأقلي : فبمراعاته لمقتضيات أصول المجال التداولي للمتلقيى العقديـة و الغوية و المعرفية، يلتجئ المترجم ألتأصيلي إلـى حذف أوسع يشمل الأصول و الفروع المخالفة سواء كانت هذه الأصول و الفروع عقدية أو لغوية أو معرفية. و هكذا فإن مراعاة المترجم التأصيلي للمقتضيات التداوليـة تجعله لا ينقل مـن النص الفلسفي إلا مـا يمكـن أن يستوفيها.
3-5-3 التوجه الفلسفي : إن المترجم ألتأصيلي يتميز بكونه يمارس العمل الفلسفي بقدر ما يمارس العمل الترجمي، فهو يجمع بينهما باعتبار أن القيام بالعمل الـترجمي فـي مجال الفلسفة هو قيام بموجبات الممارسة الفلسفية.
ولما كانت غاية المترجم التأصيلي أن يزود المتلقي بما يقوي به قدرته علـى التفلسـف فإنه ينوع طرقه بحسب ما يراه مناسبا لتحقيق هذه الغاية، كأن يعمد إلى الطريقة الثقافيـة ، فيعطي كل منقول بأوصاف المأصول ، أو يتنقل في مختلف مراتب الطريقة الحرة فيحذف من المنقول ما ينبغي حذفه و يغطي ما ينبغي تغطيته
فـالمترجم التأصيلي هـو إذن عبارة عـن المترجم الـذي ينقل النص الفلسفي علــى مقتضى التأصيل لا فارق بينه و بين المؤلف سوى أن هذا ينشئ ابتداء مـن نصوص متفرقة معلومة و غير معلومة دامجا بعضها في بعض وذاك ينشئ ابتــداء مـن نص واحد معلوم دامجا بعضه في بعض.
و إذا كانت الترجمة التأصيلية للنصوص الفلسفية تؤدي إلى إحيــاء التفلسـف« فان ذلـك راجع إلى صفة التحويل التي تتميز بها هذه الترجمة، فما دلالة هذا التحويل؟
3-6 فعل التحويل يف الترجمة التأصيلية:
بعد دراسة مفهوم التحويل عنـد المحدثين وفـي التصور العربي القديم وتميـيزه بيـن التحويل و مفاهيم أخرى كالنقل الذي يتداخل معه و الحفظ الذي يقابله ء يؤكد الأستاذ طه عبد الرحمن أن " التحويل الذي توجبه ترجمة الفلسفة هو نقل يغير المنقول تغييرا ينقله عـن صفاته الخاصة , بعضها أو جميعها ء إلى صفات مكتسبة , مثلها أو ضدها ء مستندا فـي ذلك إلى موجبات التداول و مستهدفا سد حاجة التفلسف للمتلقي. و هذا التحويل يراعي مــن جهة مقتضيات الاختلاف اللغوي و الثقافي بين اللسان العربي و الألسنة المنقولة كما يراعــي مقتضى تحصيل ملكة التفلسف الحي الذي جعل غرضا لها.
حاصل ما سبق أن الطريق التأصيلي في ترجمــة الفلسفة يتولد عنه حقائق فلسفية لا تطويل فيها، أي مختصرة شكلا ، ولا تهويل معها، أي هيئة مضمونا كما أن طـه عبد الرحمن حدد لهذا الاختصار ثلاثة شروط، أولها أن لا يعارض الاختصار إشباع الكـلام و ثانيها أنلا يخلو الاختصار من الأدلة عليه و آخرها أن لا يؤدي الاختصار إلى الاستغلاق و بذلك فالاختصار المهون هو عبارة عن تكثيف في البنية الدلالية للجملة و تخفيف فـي صورتها اللفظية و تقريب في مضمونها المعرفي، تقوية لوظيفتها التبليغية.
وبقصد تجاوز الآفات التي لازمـت ترجمــة الكوجيطـو التحصيلية و التوصيليـة يطبق المؤلف مقتضيات الترجمة التأصيلية و ذلك كما يلي.
3-7 الترجمة التأصيلية ل" الكوجيطو":
يحدد طه عبـد الرحمن الغرض مـن هذه الترجمـة بقوله " إننـا مطـالبون بأن نقوم بترجمـة تأصيليـة ل" الكتوجيطو تمكننـا مـن النهوض بالتفلسـف فيـه علـى أتم وجـه , ولا يشترط أبدا في هذا التفلسف أن يكون مطابقا لما جاء به ديكارت و لا محاكيا لما أتى به النقاد من أهل لغته و ثقافته". و انطلاقـا مما أصل فـي الترجمة التحصيلية قام المؤلف بإعادة نقل الكوجيطو إلـى العربيـة وفق هذه الترجمة ولهذا اعترض على استخدام لفظ التفكير لنقل مقدمة الكوجيطو كما اختبر قوة فعل تفكــر ) التشديد علـى الكاف ( مستخلصا عدم مناسبتها لترجمة لفظ penser كما لا يناسب لفظ التذكر و الاعتبـار اللفظ الفرنسي ، و لهذا حاول المؤلف البحـث عـن لفظ أنسب لأداء مدلول الكلمـة الأصليـة و تأدى إلـى أن أنسب كلمـة هي " نظر" ويقول " و علـى هذا يكون الفعل " نظر" من جهة شيوع الاستعمال، أقرب إلى أداء معنى الفعل الفرنسي " penser " مـن مقابله "فكر" إذ يصل بين معنييه : اللغوي و الاصطلاحي، وصلا مفيدا كما أنه يدل في جانب منه على المعنى الخاص للفكر. وبقصـد ترك النقل المشهور لمقدمـة الكوجيطـو و استبداله بنقــل يراعــي مقتضيات مجال التداول العربي، العقدية اللغوية و المعرفية قام طه عبـد الرحمــن بثالثة تحولات : أولها تحويل معجمي اقتضى استعمال لفظ " النظر" مكان اللفظ الشائع " التفكير" و الثاني تحويل أسلوبي استلزم تبديل صيغة الخطاب بصيغة المتكلم، و الثالث ، تحويل نحوي اقتضى استعمال صيغة فعل الأمـر مكان صيغة فعل المضارع ، فأصبح المقابل التداولي العربي للجملة الأولى من الكوجيطو هو " أنظر".
ورغبة في ترجمة الجزء الثاني من الكوجيطو توسل المؤلف بمعايير " الاستعمال" و الإفادة" و "الاستنباط " كما اعتمد " مبدأ قلب الوظيفة" ليرد عبارة الأصل الفرنسي " je suis" إلى لفظ واحــد هو " تجد" بوصفه جوبا على طلب هـو " أنظر" ،وهكذا تأدى لترجمة التأصيلية للكوجيطو و هي " أنظر تجد " مؤكدا على إجرائية هـذا النقل بقوله : " فقـد تبين أننا لم نأت بهذه التحولات بطريق التشهي و التحكــم ،و إنما بطريق معايير محددة و مبادئ مقررة و أحكام مدللة " و بفضـل هـذه الترجمـة التأصيليـة التـي تشكل ترجمــة الكوجيطو نموذجا لها ، يعتقد طه عبد الرحمن أن العـرب المسلمون سيشقون طريقهم إلـى العطاء و الإبداع الفلسفي.
ملخص النموذج لنظري للترجمة العربية للنص الفلسفي عند طه عبد الرحمان
مراتب النموذج |
خصائص كل مرتبة |
أثارها |
صفة المترجم |
مثال تطبيقي للكوجيطو |
النتائج الفلسفية لكل مرتبة |
|
الترجمة التحصيلية |
- التعارض الكلي - النقل الكلي - -التوجه اللغوي |
آفة الطويل : السقم الحشو - إرهاق الفكر - إهدار الوقت |
مثل المتعلم |
أنا أفكر، إذن أنا موجود |
التكلف في التركيب والبعد عن الفهم : إعاقة الإبداع الفلسفي |
|
الترجمة التوصيلية |
التعارض الجزئي -النقل الأكثري -التوجه لمعرفي |
آفة التهويل: غرابة الأسماء الغراب في الاصطلاح - التعثر في التحصيل الفلسفي |
مثل الراوي |
أفكر،إذن أنا موجود |
الركاكة في البنية والجمود في المضمون، تعثر القدرة على التفلسف |
|
الترجمة التأصيلية |
- التوفيق الكلي - النقل الأقلي -التوجه الفلسفي |
التحويل: النقل الحفظ -التهوين و الاختصار |
مثل المؤلف |
أنظر تجد |
التكثيف في البنية الدلالية والتخفيف في صورها اللفظية تقوية القدرة عل الإبداع الفلسفي |
وإذا كنت قد عرضت بإيجاز للنموذج النظري للترجمة العربية للنص الفلسفي عند طـه عبد الرحمن مبرزا منطلقاته، مقتضياته وآثاره, فإنني أشير إلى بعض الانتقادات التي وجهت للمؤلف.
4- اعتراضات: يجمع النقاد ممن نظروا جزئيا في كتـاب الفلسفة والترجمة" علـى أن دراسة الكتاب تحتاج لوقت أطول وتتطلب عناء كبيرا مثلما تطلبـت كتابته مـن الكاتب عناء كبيرا، بـل واعتبر الكتاب كتابا حيا يثير السجال والأسئلة. ويمكـن إجمـال الانتقـادات التـي وجهت إلـى عمل المؤلف فيما يلي (13):
1 - الاعتراض على الترجمة التأصيلية للكوجيطو، لأنها انتهت إلى تقديم صيغة مختلفة كليا مبنى ومعنى عن الكوجيطو الديكارتي ذلك أن صيغة المتكلم المنصوص عليها بالضمير المنفصل "أنا" - والتي حذفتها الترجمة التأصيلية- هي الركيزة الأساسية لكل الفلسفة الحديثة.
2 - الاعتراض على حرية التحويل في الترجمة التأصيلية.
3- نقد مفهوم المجال التداولي الذي تراعيه الترجمة التأصيلية.
4- التصريح بوجود موانع منطقية صورية تمنع تأصيل الكوجيطو (14).
وبصدد الاعتراضات الثلاثة الأولى لاحظت أنها تبقى محدودة حيث أن صيغة الأمـر مألوفة في اللغة العربية، بل وإن استثمار الكوجيطو فــي الفكـر الغربي نفسـه اعتمد صيغة الأمر فهذا كـانط فـي تنظيره للعقل المحض يقــول فـي مقدمـة : نقــد العقل الخالص: « aie le courage de te servir de ton propre entendement » ومـن جهة أخرى فالترجمـة التأصيليـة هــي ترجمــة تحويليـة، لكـن تحويلها مشروط بقواعد المجــال التداولـي العربــي الإسلامي أما القول بوجود موانع منطقية فإن تلك الموانع تبقى مجردة، مادامت الترجمة تتعلق باللسان الطبيعي الذي يقوم على الأصل التداولي والأصل الاجتمـاعي بخــلاف اللغة الصورية التـي تقصي الذوات المتخاطبـة والمضـامين اللغوية وعناصر المقام, أمـا باقي الانتقادات التي لم نوردها فإنها لم تتقيد بشروط النقد التي تقضي التحقيـق ثم التقويـم وليس الهجوم كما فعل البعض(15).
لكن كيفما كانت القراءات والانتقادات التي دارت حول كتاب "الفلسفة والترجمة"، فإنهـا تبقى ذات طابع فلسفي عــام، والحال أن الكتاب يحتاج أيضـا لقراءات أهل الترجمة حتـى يتبينوا وجوه الجــدة فـي مناهجــه ومضامينـه، والأكيـد أن تشريف مؤسسة الملك فهـد العليا للترجمة لهذا الكتاب من خلال هذه القراءة ليعتبر بادرة تستحق الشكر الجزيل، وتدل علـى الاهتمام بهذا النوع مـن الأعمـال الذي جمع بين مجــالين معرفييـن هامين هما الفلسفة و الترجمة كما جمع بين التنظير والممارسة في حقل الترجمة، و خاصة الترجمة العربية التـي هي مراتب تختلف اختلاف درجات المترجمين (16) من حيث استعاب المنقول و الاستقلال عنه في اللسان المنقول إليه.
الهوامش:
1- طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة -1- الفلسفة والترجمة، المركـــز الثقافي العربي الطبعة الأولى، 1995.
2- رغبـة فـي الاختصار، ونظرا للطبيعة العارضـة لهذه القراءة، نشير إلى أننا نقـرب مضمون العرض استنادا إلـى مـا ورد فـي الكتاب ولذلك سنتجاوز تفصيل الإحالات العائدة إلى الكتاب، لأن ذلك سيخلق تطويـلا فـي الهوامش، ولهذا لن نذكر مـن هذه الهوامش إلا ما كان ضروريا.
3- مفهوم الابداع عند المؤلف لايعني الانقطاع عن المأصول الديني وال المنقول الفلسفي،
انظر نفس المرجع السابق ص 49.
4- نفس المرجع: ص 59
5- نفس المرجع: ص 104
6- نفس المرجع ص 137
7- نفس المرجع ص 299
8- نفس المرجع.ص 409
9- نفس المرجع. ص 331
10- طه عبد الرحمن في فقه المصطلح الفلسفي العربي مجلة المناظرة، عدد 6, 1993
11- طه عبد الرحمن، ندوة ابن رشد، مطبوعات كلية الاداب، الرباط
12- طه عبد الرحمن, "الفلسفة والترجمة" ص 353
13- سبيلا محمـد، متى يعود زمن الإبداع الفلســفي، الملحــق الثقافي لجريــدة الاتحــاد الاشتراكي، عدد 456 بتاريخ 15 مارس 1996
14- مرسلي محمـد التداول العربي وموانع تأصيل الكوجيطـو الملحــق الثقافي انفـس الجريدة، عدد 480 بتاريخ 29 دجنبر 1995
15- علي حرب، جريدة الحياة: عدد 11946 بتاريخ 6 نونبر 1995
16- تفروت لحسن، مراتب الترجمة في الفكر العربي مداخلة ألقيت فـي ندوة الترجمة فـي الآداب والعلوم الإنسانية" التـي نظمتها ، جامعـة ابـن زهر: كليـة الآداب بأكادير بتاريخ 7-9 أبريل 1994. منشور بمجلة الترجمان عدد أبريل 1996.