"لماذا نتفلسف؟ يبدو أن اللفظ يجاب عليه من ذاته: من أجل الحكمة (صوفيا) حيث الفلسفة هي الحب ( فيلاين، يحب) أو المهمة. لكن لا شيء يؤكد بأن الايتمولوجيا لها حق. لماذا لفظ ما قد كان يقول الحق؟"[1]
1- تشتق الفلسفة من الفعل الإغريقي فيلاين الذي يفيد الحب ومن المصدر صوفيا الذي يعني الحكمة ، ولكن يمكن للفظ الفلسفة أن يتم تطبيقه أولا على فيلسوف معين فيقال على سبيل الذكر فلسفة مارتن هيدجر، وفي مرحلة ثانية على ثقافة معينة فيقال على جهة المثال فلسفة إغريقية ، وفي مرحلة ثالثة على ميدان معين فيقال من أجل الإفادة فلسفة الاقتصاد وفلسفة التاريخ وفلسفة الحضارة وفلسفة اللغة وفلسفة الرياضيات.
لقد كانت الفلسفة لمدة طويلة تفيد المعرفة المطلقة ، وكان اللفظ يتضمن ما يسمى اليوم جملة العلوم الدقيقة والمعارف الجزئية ويعرف بأم العلوم. كما بقيت الفيزياء في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر تسمى الفلسفة الطبيعية. أما المعنى الراهن للفلسفة فيغطي ميدانا محددا ومضبوطا من الفكر والمعرفة بالنظر إلى إحراز مختلف العلوم على استقلالها وسيادتها على موضوعها من جهة نحت المنهج والجهاز المفاهيمي.
بيد أن المعنى الأكثر قبولا في الوقت الراهن الذي اكتسبته الفلسفة يدور حول الفعالية العقلانية النقدية التي يتم التعبير عنها من خلال الدروس الشفوية المرتجلة والنصوص المكتوبة والحوارات الحية والنقاشات الجادة والتجارب المدونة والمقابلات الفكرية التي تستهدف بلوغ حقائق الكون ومعان الأشياء وقيم الفعل.
على خلاف الدين، لم تعد الفلسفة راضية على البقاء في خدمة اللاهوت والدفاع على آراء موروثة وعقدية تند عن كل برهنة موضوعية وتحقق تجريبي وتثبت منطقي.
لقد ضربت عرض الحائط بالتصورات التقليدية عن المجتمع والعالم التي تم التعبير عنها في الأنساق الميثولوجية وتحولت إلى شكل نوعي من الفكر الذي يقوم بتنظيم مواد المعرفة بصورة منهجية ومنطقية.
لقد قررت اعتماد كتابة مميزة والاشتغال على الأسئلة دون تقديم أجوبة مطلقة واتجهت نحو اعتماد مناهج مستقلة والاشتغال على جملة من المفاهيم ونسق من الرموز والعلامات وتوخي أساليب حجاجية خاصة.
لقد تحركت الفلسفة منذ الإغريق حول قيميتين كبيرتين: قيمة نظرية للحقيقة وقيمة عملية للخير. لقد كانت قيمة الحقيقة الموضوع الخاص بنظرية المعرفة وتصورها للطبيعة ونظريتها الميتافيزيقية، بينما كانت قيمة الخير الموضوع الخاص للفلسفة العملية من جهة الأخلاق والسياسة وشملت بعد ذلك الفن والاقتصاد.
بهذا المعنى يتناول المشكل الفلسفي الذي بقي من أول اهتمامات الفيلسوف في الآن نفسه الفكر والحياة ويجدر بالفلسفة أن تتطابق مع فكرة الحكمة وأن تتحول إلى نموذج الوجود المستمر من التحكم في الذات وتمرين الحرية الباطنية للحكيم في مواجهة ضرورات الحياة واكراهات العالم ومشاكل الواقع الاجتماعي.
2-الفيلسوف هو الباحث عن الحقيقة والمفتش عن المعنى والمشرع للقيمة ولكنه عند الإغريق هو المؤثر للحكمة والمحب للمعرفة ويوجد في منزلة وسطى بين الجاهل الذي يجهل جهله والسوفسطائي الذي يدعي امتلاك الحكمة وبالتالي يطلق عليه صفة الحكيم وتتعلق به مهمة التفكير في الوجود ويقظة الوعي بالذات.
ليس الفيلسوف كائنا مقدسا ولا معصوما من الأخطاء مثل الأنبياء بل يمكن أن تزل به قدمه ويرتكب العديد من الآثام ولكنه يتدارك أمره عندما يقتدر على التمييز بين الصواب والغلط ويعثر على القسطاس المستقيم ومعيار العلم ويصلح نفسه أولا ويسعى جاهدا إلى إصلاح مجتمعه بالابتعاد عن الرذائل وإتيان الفضائل.
لقد وقع فيثاغورس منذ القرن السادس قبل الميلاد نظرية في الرياضيات باسمه وكان أول من أطلق صفة فيلسوف على فئة من الناس تهتم بممارسة التفكير واستنباط القوانين وتأمل الكون واعتبار ظواهر الطبيعية فإذا كانت الآلهة هي التي تحوز على مطلق الحكمة وكليتها فإنه يبقى للبشر محاكاتها وإيثارها على الأقل.
لقد كان هذا الدرس دعوة إلى التواضع والاعتراف بالضعف البشري والسعي إلى كسب العلم على الرغم من أن الحكمة بالمعنى الإغريقي هي المعرفة الأكثر اكتمالا والسير بطريقة منتظمة ومستقيمة وفق العقل.
من هذا المنطلق لا يمكن إعطاء تعريف صارم ونهائي لمفهوم الفيلسوف، بل إن صورته وشكل حضوره في الفضاء الخاص وضمن النقاش العام قد تبدل في العديد من المرات وتغيرت بتطور الأزمنة التاريخية.
لقد حمل لنا التاريخ أن ديوجين اللايرتي كان محبا للحكمة وعاش هائما على وجهه ولم يكتب كتابا فلسفيا واحدا ولم يدرس الفلسفة مثل أفلاطون في أكاديميته أو أرسطو في معهده وأن كانط في القرن الثامن عشر هو أول من جسد شكل الفيلسوف بماهو أستاذ فلسفة يدرب على محبة الحكمة في مؤسسة تعليمية رسمية ويضع أفكاره في مؤلفات فلسفية ويؤثر، وفق قاعدة بيداغوجية مشهورة، تعليم التفلسف على تعليم الفلسفة.
لقد ظهر العديد من المثقفين الملتزمين في عصر الأنوار وأثناء الثورة الفرنسية على غرار فولتير وروسو وأصدروا مواقف تاريخية حاسمة طبيعة الحكم ومستقبل الدولة المدنية وناصروا العلمنة والديمقراطية وأثروا على صورة الفيلسوف ونبهوا إلى أهمية التفلسف والرسالة الحضارية النبيلة للفلسفة في المجتمع. في حين كان ديكارت قريبا من اللاهوتيين من رجال الكنيسة وأطلق على نفسه تسمية عالم وفيزيائي. لكن يبقى الفرق قائما بين الفيلسوف الملتزم والمثقف العضوي وبين المفكر الاستراتيجي والباحث الميداني.
لقد صار الفيلسوف في اللحظة الراهن ذلك المفكر الذي يكتب بحوثا استشرافية ويعبر عن أفكار سياسية ولقد جعله جيل دولوز مبدعا لمفاهيم ومخططا لمسطحات محايثة مقطعا إياها من السديم طارحا عليه مشاكل عصره وباحثا عن صور فكر جديدة تبدع أشكال جديدة من الحياة ومحتفلا ببراءة الصيرورة.
في هذا المقام " على الإنسان أن يكون صارما، على الإنسان أن يقف بثبات وأمان على ساقيه - وإلا فلن يحب على الإطلاق... هل أنصت الناس لتعريفي للحب؟ انه الشيء الوحيد الجدير بالفيلسوف..."[2]
3-التفلسف حركة ونشاط وتجربة وفاعلية تتراوح كلها بين العودة إلى الذات والوجود في العالم وبين الإقامة في النفس وشد الرحال على حوافي الوجود وبين الإقبال من الأقاصي والإدبار نحو البدايات.
التفلسف حركات ذهاب وإياب ومد وجز وهبوط وصعود ومفارقة ومحايثة واستيعاب وتجاوز وتنظير وتطبيق بين الجهل والمعرفة وبين العدم والوجود وبين الضرورة والحرية وبين الاغتراب والوعي.
التفلسف يمنح الفيلسوف ماهو عليه من مخاطرة ومكابدة ويمكنه من الاقتدار على الإبحار وراء الحدود والتمرس على فن الحفاظ على الذات الإنسانية والتمكن من مواجهة وحشية الزمن والتغلب على الشر.
التفلسف مهارة يتقنها الكائن المغامر دائم التساؤل وملازم الترحل وينزعج منها الفاشل المستسلم للأقدار ويقدم عليها من يقدر على هضم التفكير بطريقة جيدة وتتوفر في حياتهه تجربة الحقيقة على النحو الكافي.
كل إنسان قادر على التفلسف من خلال الأدوات المعرفية والوسائل النظرية التي بحوزته وكل فلسفة تتأثر بالطابع الشخصي للكائن البشري الذي أوجدها بالرغم من تعلقها بالمطلق وتوجهها نحو التعبير عن الكلي.
والحق" أن كل إنسان – إذا كان فيلسوفا – يطمح إلى الكل ويسعى لتحقيقه في صورة كلية مهما تكن هذه الصورة متهافتة أو جزئية أو غامضة...ولكن ما من إنسان يمكنه أن يكون فيلسوفا على نحو ما يمكنه مثلا أن يكون عالما في الرياضيات ، أي مبدع عمل أو انجاز خاص يقف تجاهه وينظر اليه من الخارج"[3].
اذا من الزائف تعريف التفلسف بالانطلاق من الانحرافات الممكنة في تفسير الطبيعة وتدبير الواقع الاجتماعي فإنه من المرجح أن يتم إشاعة الثقافة الفلسفية في الشعب وتشجيع الناس على التفلسف مادام ذلك يمثل طريقا ملكيا نحو التمدن والتطور وإمكانية حقيقية يلامس فيها الوجود الحاضر المحبة الأبدية.
ألم يصرح فيلسوف المطرقة عن هذا التلازم غير الأصلي بين التفلسف والمحبة بما يلي:"إن صنيعتي عن العظمة في الإنسان هي واقعة الحب: على الإنسان ألا يرغب في شيء يتغير سواء في المستقبل أو في الماضي أو للأبد .لا يجب فحسب أن يتحمل الضرورة ولا يخفيها بأي ثمن لكنه يجب أن يحبها..."[4]؟
الإحالات والهوامش:
[1] Comte-Sponville (André), la philosophie, édition PUF, Paris, 2005 p120.
[2] نيتشه (فريدريك)، هذا الإنسان، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار التنوير، بيروت، طبعة 2009 ، صص80-81
[3] ياسبرز (كارل) ، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، ترجمة عبد الغفار مكاوي، دار التنوير، بيروت، طبعة 2007،ص49.
[4] نيتشه (فريدريك)، هذا الإنسان، مرجع مذكور،ص67
المصادر والمراجع:
Comte-Sponville (André), la philosophie, édition PUF, Paris, 2005 .
[2] نيتشه (فريدريك)، هذا الإنسان، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار التنوير، بيروت، طبعة 2009
[3] ياسبرز (كارل) ، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، ترجمة عبد الغفار مكاوي، دار التنوير، بيروت، طبعة 2007،
كاتب فلسفي