من المعقول أن التقنية اليوم لم تعد تلك الأداة الطَيِّعَةَ في يد الإنسان، كما لم تعد تلك الوسيلة التي نقضي بواسطتها مآربنا ثم ينتهي الأمر، لقد تعدى الأمر وخرج عن طبيعة الإنسان، حيث أصبح هذا الأخير هو اللعبة وهو الأداة وهو المفعول به أمام اجتياح التقنية له، بل ولأن التاريخ يتميز بالمكر أكثر من أي شيء آخر، فقد حول التقنية من مجرد وسيلة إلى قدر ليس يمكن للإنسان الانفلات منه بتلك السهولة التي قد يعتقدها البعض، والواقع أن التقنية حاليا بفضل الثورة الرقمية قد انتقلت من روحها الأداتية إلى منطقها التجريدي الصرف، أي أنها انتقلت من الإدراك الملموس إلى الإدراك التجريدي.
هل يمكن أن نتخلص اليوم من التقنية؟ بل هل يمكن التخلص من نظرتنا الآلية للتقنية التي تحصر هاته الأخيرة في كونها مجرد قنطرة لتحقيق ما نصبو إليه ثم يتم التخلص منها بعدئذ؟ هل يمكن لمدينة كبيرة ما أن تعيش يوما واحدا بدون كهرباء مثلا؟ سيكون من الصعوبة بمكان اليوم أن ننخرط في لعبة الحياة دون الانصياع للتقنية بمعناها الحالي، أي باعتبارها قدرا وليست أداة كما كان عليه الامر في غابر السنين، بيد أننا ما ننفك نساءل التاريخ على سر هذا التحول العميق الذي أثر على الأخلاق كما على نمط عيش الإنسان وقس على ذلك في أغلب المجالات إن لم نقل كلها.
تختلف التقنية اليوم على تقنية الأمس في كون أن هاته الأخيرة تخلصت من تبعيتها للطبيعة منذ الفلسفة الديكارتية التي أسست لثنائية الذات والموضوع، الذات التي تتميز وتتباهى بقوة العقل القادر على تغيير كل شيء، والموضوع الذي يغيب فيه الفكر لصالح حضور الإمتداد حسب ديكارت طبعا، من هنا كان من الضروري أن تتميز الذات بتمثلها للموضوع وبخضوع الموضوع لهذا التمثل، وعليه وانطلاقا من هذا الفصل الأنطولوجي بينهما، سارت الذات على منوال التفوق على الموضوع وعلى ضرورة الخضوع المطلق لهذا الأخير، والحال أن الطريقة التي سيتحقق بها هذا التفوق لن تكون إلا التقنية، بما أن ديكارت قد عمل على التأسيس لفلسفة عملية والقطع مع الفلسفة النظرية التي أرسى معالمها المعلم الأول ـ أرسطوـ
إن الفلسفة العملية هي ذلك الفهم وذلك المنطق الذي سمح بانفصال الذات على الموضوع أي انفصال الذات على الطبيعة والخروج من قوانينها، بعودتنا إلى سؤالنا الرئيسي في هذا المقام سنقف عند التقنية قبل هذا الفصل وبعده، التقنية قبل ديكارت كانت مرتبطة بالطبيعة بل وتعتبر جزءا لا يتجزأ منها، مادام الإنسان هو الآخر لازال عنصرا ضمنها وليس خارجا عنها حسب فلسفة ديكارت بطبيعة الحال، لنأخذ مثال الطاحونة المائية أو الهوائية على لسان هايدغر، حيث أن عملهما يتوقف بتوقف قوة الماء والهواء والعكس بالعكس، أو خذ بنا مثلا إلى السفن البحرية حيث تسير هي الأخرى وقوة الرياح، بل إن مسارها يتغير بتقلب الطبيعة، وهو ما يجعل التقنية في تبعية مطلقة للطبيعة وليس بمعزل عنها، بعد ديكارت والفلسفة الديكارتية التي سخرت الطبيعة لخدمة الإنسان، وبسبب اعتقاد الإنسان أن هذا التسخير لن يتم إلا بواسطة تطوير التقنية، سيتم تعويض الطاحونات المائية والهوائية بمحطات إنتاج الطاقة النووية التي لا تتوقف أبدا، أي أنها ليست تخضع لمنطق الطبيعة ولعناصرها، نفس الشيء نجده أيضا بخصوص طبيعة الإنسان، حيث عمل هذا الكائن على تغيير طبيعته والتأسيس لطبيعة أخرى، طبيعة منفصلة عنه لكنها متصلة به في نفس الآن، حيث تكمن في أن الطبيعة الخالصة حدت من فعالية الإنسان المادية كالطيران والسرعة والتوالد... بيد أن الأزمنة الحديثة جعلت من الإنسان كائنا لا يطير على غرار باقي الكائنات التي تملك أجنحة بقدر ما أنه يخترق الأرض نحو الفضاء الخارجي، هذا ولم تعد سرعته محدودة بقدر ما أنها أصبحت تفوق سرعة الصوت، بل إنه أحدث ثورة كبيرة بفضل تطور طب الجينوم والهندسة الوراثية، حيث أصبع بإمكانه إنجاب مولود بحسب رغبته وذوقه...
صحيح أن التقنية قد عرفت تطورها الكبير عندما تزوجت بالعلم، بيد أننا لا بد من طرح السؤال: هل يمكن التخلص من اعتقادنا الراسخ بأنه لا حياة بدون تقنية؟ إن مكر التقنية يكمن في تضليلها للإنسان حيث لازال يعتقد هذا الكائن أنه هو من يتسيد الطبيعة وأن التقنية هي تلك الوسيلة والأداة التي تساعدنا على تحسين نمط عيشنا، لكن وبعودتنا لنتائج تطور هاته التقنية سيتبين لنا أنها تحولت إلى قدر يلعب بوجود الإنسان، كما تحولت إلى أنطولوجيا بفضل رقمنتها، إذ من خلالها نعبر على أحاسيسنا، ونقدم تعازينا، بواسطتها أيضا نربط علاقاتنا ونحد من أخرى، وعن طريقها نتواصل مع من نريد مختصرين المسافة ومحولين المكان إلى فضاء واحد مزيلين عنه خاصية التعدد ، من هنا تجد الفلسفة اليوم نفسها مجبرة على إعادة ترتيب فهمها للزمان والمكان، الزمان الذي لم يعد زمان الحضور العيني وإنما زمان الحضور الافتراضي، والمكان الذي تحول من مقولة قبلية ثابتة إلى مقولة بعدية تتغير بتغير رغبة الإنسان، مؤسسين بذلك لعوالم لا متناهية مكتشفين أن عالمنا ليس إلا حبة رمل لا غير، مؤمنين أشد الإيمان أننا لسنا إلا كائنات جد عادية وأننا لسنا نحتل مركز الكون، وأننا محكومين ببنى خفية كالاقتصاد والمجتمع والذهنية...
كلنا نعرف اليوم أن الإنسان يصنع حتفه بنفسه، وكلنا نعرف أن استنزافنا للطبيعة هو استنزاف لاستمرار الأجيال المقبلة في الحياة، وكلنا نعرف أيضا تمام المعرفة أن للطبيعة نظامها الخاص الذي ما إن يختل عنصر صغير منه حتى تنقلب علينا وعلى نفسها، وهو الأمر الحاصل اليوم من خلال التقلبات المناخية الكبرى، والانحباس الحراري، وثقب الأوزون، ونذرة الماء في عديد المناطق، لكن وفي مقابل ذلك كلنا نعرف أن الحد من هاته الكوارث ومن هاته الوحشية ليس يكمن إلا في التخلص من اعتقادنا بأن التقنية وسيلة، والابتعاد عن الفهم الساذج الذي يرى في العقل قوة مخَلِّصةً، والإيمان أننا جزء من الطبيعة وليس طبيعة خارج الطبيعة، بيد أن العمل على تكريس هذا المنطق سيجعل البعض يعتقد أننا ضد التقنية، كلا إذ ما ليست الأمور تؤخذ على هاته الشاكلة، مادامت التقنية قدرا من المستحيل التخلص من قبضته، وعليه فإننا نقر في هذا الباب بأننا لسنا ضد التقنية وإنما ضد الفهم الساذج لها وضد سوء استعمالها أيضا.