تنزعج النساء من المفاهيم التي تختزل هويتهن الوجودية في الترميز الجنسي، انطلاقا من وظيفة الحمل : الجنس والأمومة. لكن بعمق هذا المنطلق نجد أن المرأة من ضمن المساهمين في توسيع هذه الرؤية وفرضها. فالنساء بالتعبير عن أنفسهن ووجودهن، لا يتخذن موقعا إنسانيا : لا يتعلق الأمر بتسوية أنفسهن مع الرجال، فهنا تكمن المغالطة ! بل بنزع هذا التأطير الجنسي وعدم الاندماج في اللعبة ـ لعبة أن على المرأة أن تبذل مجهودا لتثبت أنها مساوية للرجل ـ هناك "إنسان" لا أقل ولا أكثر، أما الرجل والمرأة فهي محددات مفاهيمية تبلورت تاريخيا لا تحمل أي فائدة أو معنى أو مغزى أو دلالة، سوى جلب المشاكل والصراع والضغوطات النفسية، دون ذكر الإبقاء على الرجعية والأساطير والحماقات البشرية المتوارثة.
هنا ينقلب السحر على الساحر، بدل الصراع لإثبات مساواة المرأة للرجل، يسقط هذا التأطير بين النساء، بالسعي لتفوق كتلة نسوية عن أخرى، يتخذ الصراع منحنا مختلفا : بسعي المرأة للدفاع عن ذاتها كأنثى شريفة عفيفة أو حداثية منفتحة، والدفع بمفاهيم العهر من نعوت وألقاب محملة بانفعالات جنسية مهينة، وذلك بإسقاطها على أخريات، أو الدفع بالتقزيم السياسي والاجتماعي كتقييد بالمطبخ. تصبح المتحجبات مدافعات عن أنفسهن مقابل الليبيراليات، والليبيراليات بدورهن يلقين باللوم على المتحجبات بهذا الوضع الذي تعيشه المرأة. والغريب في الأمر والذي لا تنتبه له جموع هاته النسوة، هو أن الخلاف ليس خلاف نساء بالأصل، بل هو خلاف منبثق من عقل رجل، من عقول الرجال المسيطرين على تاريخ الكتابة : فالرجل هو الذي يرى الأنثى من هذا المنطلق، من زواية الجنس القطبية : عاهرة/شريفة، أم/عاقرة، مطلقة/متزوجة، بكارة/بدون بكارة، متحجبة/فيمينيست، طاهرة/نجسة. ويكمن الانخذاع الذاتي، حينما تأتي النسوة للتعبير والكتابة، فمن خلال طغيان الرجال الأدبي والطبي والسياسي، تأتي النساء لا لتكتبن كنساء وتعري سخافات الرجل التاريخية التي تُراهِنُ على موقعه الرجولي، بل لتكتب مثله وعلى طريقته وبمستواه الإدراكي في النظر للأمور : وذلك حتى لا تفشل ككاتبة، وتبرهن عندها بطريقة مباشرة، بأنها ليست بمستوى المواهب الرجولية ! فلنجاح المرأة بالكتابة، يجب أن تكتب كرجل، وقد تطرق البعض لهذه الإشكالية ـ من ضمنهم رجاء بن سلامة (بنيان الفحولة) بتوضيح أن الكتابة لا جنس لها ـ لكن كيف سيتم تأكيد هذه النقطة، ولا زالت لدينا تفرِقات عولمية غير ذات معنى تتجلى في : أدب نسائي، أدب رجالي وما سواه ؟ من ضمن ذلك العنوان الذي انفلت بنفسه "انقلاب الفكر النسوي.. !
إن تاريخ العالم الذكوري، تاريخ حرب ـ كما في إشارة فوكو بأن "التاريخ الذي يحملنا ويحددنا له شكل الحرب بدلاً من اللغة : علاقات القوة، وليس علاقات المعنى" ـ وحينما يكتب المحارب فإنه يكتب انطلاقا من أزمة نفسية : وهي صدمة الحرب، وما يترتب عنها من حذر واضطهاد ومواجهة.. بذلك يتضح التاريخ الأدبي والسياسي (بما فيه الفلسفي) : محمّلا بالأزمات النفسية، والتي لمست بتأثيرها النساء على مر الأجيال. بذلك فدور المرأة بتأكيد دورها المساوي للرجل، ليس سوى مواجهات قوة ـ بما هي قاعدة مفاهيمية ترتكز عليها عدالة الأرض والسماء، كما شرّح ذلك نيتشه ـ فليس هناك من مفاوضات مع محارب، هناك تنازلات تأتي انطلاقا من ضغوط اخضاعه والقضاء عليه. فكلما أبدت النساء استعدادا للتسوية، يشهر المحارب معارضته استعدادا للحرب، أو الخضوع لجهته كأسير(ة) مستسلم(ة)، بالإمكان استغلاله(ا) اقتصاديا وجنسيا بعد إشباعه(ا) بقيم المتفوق : كما بمتلازمة ستوكهولم أو "في مديح الجلاد" ! حيث يصبح الغازي منقذا وقيده حماية.
إن اللامبالاة بتاريخ القيم الذكورية والبطولات الدنكيشوتية، هو الأنسب لاستثمار "الإنسان" لوجوده دون تأزمات صدموية، ما يفتح أفقا وجوديا لاكتشاف أبعاد الجسد بعلاقته مع المتخيل (العقل) ضمن رهان البقاء والتوافق ـ سواء من خلال محددات طبيعية أو كونية أو حتى ذاتية أنانية ـ أي الحياة كأثر فني خاص (كما عرفه الإغريق) بعيدا عن استبداد الأخلاق الفلسفية (اليونا-روما-سيحية-موية المسترسلة تاريخيا). حيث يصبح الاستمناء ككتابة قصيدة، والقبلة اللسانية كتحضير الشاي ! حيث لا عذروات ولا عاهرات، ولا احتكارا مؤسسيا للانفعالات والميولات الحيوية. "إنسان" بمساحة نفسية هواؤها غير مطعون أيديولوجيا.