جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الخامس عشر) - أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 الوجود إذن حقيقي لأنه حضور خالص معلن عنه بكلمة أوسيا (ousia) (Anwesenheit). كلمة ousia التي تم الترويج لها كجوهر عبر تاريخ الفلسفة لا تعني شيئا آخر غير الحضور بمعنى محدد، يتعلق ب"الإدراك". باتباع مجموع هذه العلاقات بين الوجود، الحقيقة، الحضور، الجوهر. الحرية نجد مشكلة الزمانية التي تركها بيليدور جانبا لأن توضيح هذه المشكلة يمكن أن يقوده إلى الاقتراب من هايدجر الثاني الذي أجل الحديث عنه إلى دراسة أخرى. إن فهم الوجود كحضور وحقيقة يعني فهم الحضور نفسه كخاصية للزمنية. مجموع هذه العلاقات يشكل ما نسميه: تناسق الفكر الهايدجري. ومع ذلك، يريد منا هايدجر أن ندرك أن السؤال الحاسم حول "معنى" الوجود، السؤال الأساسي في "الوجود والزمان"، أي السؤال عن مدى الإسقاط، بكلمات أخرى، عن الانفتاح، أو حتى عن حقيقة الوجود، وليس فقط الوجود، لم يتم تطويره فيه بشكل متعمد.
ومع ذلك، ينعقد فيه الفكر بشكل ظاهر على طريق الميتافيزيقا لكنه لا يحقق بقدر أقل خطواته الحاسمة - عندما ينتقل من الحقيقة كمطابقة إلى الحقيقة المنفتحة ومن هذه إلى اللاحقيقة كإخفاء وتيه، ثورة تؤدي، وفق هابدجر، إلى تجاوز للميتافيزيقا. المعرفة المكتسبة هنا تكمن في هذه التجربة الحاسمة: إنما انطلاقا من الدازاين فقط، الذي ينخرط فيه الإنسان، يتهيأ بالنسبة إلى الإنسان التاريخي القرب من الوجود. تتم متابعة حقيقة الوجود ك"أساس" لموقف تاريخي جديد، غير أن كتاب "في ماهية الحقيقة" يعيد التفكير فيها انطلاقا من هذا الأساس الجديد (من الدازاين). إن الصيغ اللغوية التي جرى بها التساؤل تشكل في ذاتها توجه فكر، بدل ان يمنحنا تمثلات ومفاهيم، يمتحن (مبني على المحهول) ويتعزز كثورة العلاقة بالوجود. في المقدمة حددنا لانفسنا هدفا؛ ألا وهو تبيان أن الحقيقة والحرية من حيث ماهيتهما بحسب هايدجر تكونان نفس الشيء الواحد وتشكلان على نحو مطلق البنية الأنطولوجية للإنسان. هل حققنا هدفنا؟ هذا ما سنحاول البرهنة عليه في الخاتمة التالية.
يريد الكاتب أن يبين، كما وعدنا في ورقته التمهيدية، ان الحقيقة والحرية تشكلان على نحو مطلق البنية الوجودية للإنسان وتكونان الوحدة مأخوذتين في جوهرهما. لتحقيق ذلك سوف نتبتى في هذا الجزء الأخير من هذا الدراسة تمشيا ذا بعدين اثنين (1) بعد أنطولوجي للحرية، و(2) بعد لاهوتي. وفقا للبعد الأول، سنحاول التفكير في جوهر الإنسان، مثل هذا التفكير سيسمح لنا بأن يبين لنا بشكل أفضل بماذا يجد الإنسان بحسب بنيته أساسه في الحقيقة والحرية. وفق البعد الثاني سنقدم من جهة القطب اللاهوتي الذي يحتوي على الرسالة الهايدجرية. باستعمال المنهج المقارن، سوف نبين، دون تفسير مفصل أن رسالته، حتى لما هايدجر، في بحثه عن حقيقة الوجود، لم يضعها نصب عينيه، محور بحثه حول وجود الإله الإنجيلي، تتوافق تماما مع الخطاب الإنجيلي عن الحقيقة. من ناحية أخرى، سوف نتناول التزام هايدجر القومي-الاشتراكي، مع الأخذ في الأعتبار إصرار فكره على العلاقة: الوجود-الحقيقة-الحرية. لنبدأ مقاربتنا بتقديم البعد الأول.

في الفصل الأول قمنا بعرض ثلاثة أنواع من الحقيقة: (1) حقيقة حملية (2) حقيقة قبحملية أو حقيقة أنطيقية و(3) حقيقة وجودية (أنطولوجية). حددنا الأنطيقي كما هو موجود، والأنطولوجي كما بجعل الموجود موجودا. كما قلنا لماذا استخدمنا مصطلحي "الأنطيقي" و"الأنطولوجي". إذا تصورنا الأنطولوجيا (علم الوجود) كسؤال حول وجود الموجود، ومن هنا كقلب الميتافيزيقا، يؤكد ذلك بوجيلر، تكون ميتافيزيقا الميتافيزيقا أساس علم الأنطولوجيا، أنطولوجيا أساسية. هذه الأنطولوجيا الأساسية، يسميها هايدجر في كتابه عن كانط "ميتافيزيقا الوجود-هنا". وفق المنظور المفتوح من قبل كانط، تبحث ميتافيزيقا الوجود-هنا عن وحدة جوهر التعالي في ملكة الخيال وزمانيته. هكذا تتساءل الميتافيزيقا عن الإنسان، ولكن ليس على طريقة الأنثروبولوجيا التي تعتبر الإنسان موجودا من بين موجودات أخرى (حتى ولو كان موجودا خاصاً)، ولا على طريقة النزعة الأنثروبولوجية التي تضع كل الموجود أمام الإنسان وتوجهه نحو ذاته وتشرحه بذاته. بينما تتساءل ميتافيزيقا الوجود-هنا، بخلاف ذلك، عن كيف ينتمي بالضبط سؤال "ما هو الإنسان"؟ إلى السؤال الميتافيزيقي.
بطرح السؤال "ما هو الإنسان؟" نتساءل عن الطريقة التي ينتمي بها السؤال عن الإنسان والسؤال عن الوجود إلى بعضهما البعض. في سؤال الوجود نتساءل عن وجود الموجود. في سؤال وجود الموجود يكمن السؤال الأكثر أصالة عن الوجود من حيث هو كذلك: يتضح أن الوجود يقال بطرق مختلفة، مثلا، باطن، وجود، وجود-حق. لا يمكن التعرف على وحدة هذه الأنماط للتعبير عن الوجود إلا إذا تم طرح سؤال الوجود من حيث هو كذلك (وهو ما قام به بيليدور في الفصل الثالث). لكن هذا السؤال يعود إلى سؤال أكثر بدائية: “على أي أساس يجب إذن أن نفهم شيئا مثل الوجود، مع كل الغنى الذي يحتويه من مفاصل وعلاقات؟ إن الوصول إلى هذا "الأين"، الذي يجب أن يُفهم انطلاقا منه الوجود كما هو، يتم السعي إليه عن طريق تأويل الفهم الأنطولوجي للإنسان. هذا الفهم للوجود ليس خاصية يمتلكها الإنسان. ولا يكون حقا الإنسان إنسانا بالأولى إلا بفضل هذا الفهم الأنطولوجي. فهو إذن ال"هنا، الذي مع وجوده يحدث الاقتحام اللامتحجب في الموجود. بفضل هذا "الاقتحام" يستطيع الموجود الذي يكون هو الإنسان والموجود الذي لا بكونه أن يظهرا. ميتافيزيقا الوجود-هنا (Da-sein) لا تعني: ميتافيزيقا حول الوجود-هنا، بل الميتافيزيقا التي "تحدث بالضرورة كوجود-هنا"، السؤال حول وجود الموجود والوجود كما هو يقدم نفسه في الهنا من الوجود-هنا. يصبح الوجود-هنا أساس الميتافيزيقا. هكذا إذن، بما أن الوجود-هنا هو هذا الأساس وأن لاتحجب وضعه أنطولوجي، تسمى بالتالي ميتافيزيقا الوجود-هنا الأنطولوجيا الأساسية. لكن هذه الأنطولوجيا (باعتبارها تحليلا وجوديا) ليست سوى "الدرجة الأولى من ميتافيزيقا الوجود-هنا". إنها تزيل الحجاب عن العوز الأنطولوجي للوجود-هنا، الذي يكمن في نسيان وزمنية هذا العوز.
إنه يستهدف إذن من هنا المعنى "الأساسي-الأنطولوجي" على نحو صحيح للسؤال حول الزمان، مهمة التفكير انطلاقا من زمانية الوجود-هنا، في هذا الزمن الذي ضمن أفقه وضعت الميتافيزيقا الوجود ك"استمرار في الوجود". لكن، لأن سؤال الوجود يشكل دائرة (لأن الوجود لا بداية له ولا نهاية)، فهو يحيل إلى سؤال وجود الإنسان الذي يتميز على وجه التحديد عن الموجودات الأخرى، باعتبار أن طرح سؤال الوجود هو هو طرح سؤاله الخاص. التساؤل عما هو الوجود هو بمثابة إحالة إلى الدازاين من حيث أنه موجود، في وجوده "يوجد" الوجود، وعلى العكس، السؤال عن الدازاين، هو اكتشاف معناه الأكثر عمقا كذازاين، أي كمكان يظهر فيه الوجود.
إن انفتاح الوجود يحفزه انفتاح الدازاين، مثل انفتاح الدازاين هو في انفتاح الوجود. وهذان الجانبان من نفس "الظاهرة" يحفزان بعضهما البعض بشكل متبادل وبشكل لا ينفصم "الإحساس بالوجود". هذا هو السبب في ان على الأنطولوجيا أن ترتكز على التحليل الوجودي للدازاين باعتباره البعد الذي يجعل من الممكن أن نطرح سؤال الوجود. وقد قمنا في الفصل السابق بتعريف كلمة "الوجود"؛ وبينا العلاقة القائمة بين الوجود، الحقيقة والحرية. إنما على حقيقة الوجود ذاته يحيل الدازاين، بحيث أنه يتحرك في الحقيقة التي تؤسس الماهية الأصلية للحرية. لكن الدازاين هو الحرية؛ والحقيقة لا تكون في علاقة وثيقة بالدازاين إلا على أساس الوجود نفسه. وهذا ما سمح لهايدجر بكتابة هذه الجمل الثلاثة الصغيرة الغامضة في كتاب "الوجود والزمان": "لا وجود - لا واجد - إلا بقدر ما توجد الحقيقة. هذه الاخيرة ليست سوى الدازاين. الوجود والحقيقة هما أصلان مشتركان." يكمن الفكر الهايدجري في تأكيد هذه العلاقات العميقة بين الوجود والموجود، بين الوجود والدازاين، والوجود والحقيقة. لهذا السبب، نؤكد أن الحقيقة والحرية، من حيث جوهرهما، هما نفس الشيء الواحد وتكونان بشكل مطلق البنية الأنطولوجية للإنسان. ومع ذلك، نواصل نهجنا، لأنه ما يزال هناك شيء آخر علينا تبيانه. رأينا أن الدازاين هو في الأساس كاشف. يظهر الموجود بتركه يوجد كما هو، أي يكون مُمنوحا للموجود في كليته. ولأن الحرية خضوع لم يعد الموجود في كليته يظهر لنا إلا بوجهه المتعالي كفهم مسبق يفتح أفق كل الواقع على شكل تطلع "دنيوي"، ولكن أيضا باعتباره بُعدا حقيقيا للموجود الذي يظهر دائما ضمن منفتح. ببقائه ضمن حدود الميتافيزيقا، ما يزال الوجود يسمى بالموجود في كليته.
تتضمن البنية الانطولوجية المسبقة للدازاين حضور الكينونة في الوجود ذاته، هكذا يكتب هايدجر: "الإنسان هو راعي أو انفراجة الوجود؛ عندما يتوقف عن التصلب على حريته باعتبارها الأساس النهائي لكل شيء، فهو يختبر نفسه باعتبار أن الوجود يطالبه بأن يكون مكان إنارته". إن جوهر الدازاين هو "الوقوف في ضوء الوجود"، فهو يسمح للوجود بالانكشاف. وجود الدازاين الذي به يتعلق الأمر في السؤال عن وجوده ذاته، يجب أن يُفهم انطلاقا من الوجود كوجود منفتح Ek-sistenz، أي من الوجود "المتعالي" الذي يصبح نور الوجود أو حقيقة الوجود من خلال إظهار نفسه في انفتاح الدازاين. في حد الدازاين هذا، يظهر حضور الوجود في جوهر الإنسان. الإنسان هو "هنا" (da) الوجود، مكان انكشافه. قلنا سابقا إن الدازاين حرية، وقبل أن يغلق الكاتب هذا البعد الأول، اقترح تفسير الحرية كشرط لإمكان ظاهرية الوجود في النقطة التالية.
الآن، حان وقت الحديث عن الحرية كشرط ممكن لوجود الموجود وفقا لهيدجر. تشكل الحرية جوهر كل موجود يكون قريبا من ذاته. جوهر الإنسان يعتبر المكان المتميز لتحديد الوجود بشكل عام ومن حيث ماهيته. في الفصل الثاني، عند معالجة ماهية الحرية الإنسانية، استشهدنا بكانط الذي يعرف الحرية كقوة موجود له وجود-سبب خاص ومتفرد (ص: 65 في النسخة الاصلية). فماذا لو أصبحت السببية، حتى بالمعنى الكانطي، مشكلة؟ السببية، مثل المقولات الأخرى للموجود التي في المتناول (vorhandenheit)، هي وفقا لكانط، خاصية موضوعية الأشياء. الأشياء هي الموجود كما هو متاح في التجربة النظرية كتجربة للإنسان المحدود. المقولات هي خصائص وجود الموجود المتجلي هكذا، تحديدات وجود الموجود، تسمح لهذا الموجود بأن يصبح متجليا في ذاته تبعا لجوانبه الأنطولوجية المختلفة. ومع ذلك، يقول هايدجر، لا يمكن للموجود أن يظهر من تلقاء ذاته، ولا يمكن حتى أن يتواجه كشيء إلا إذا كان ظهور الموجود، بالتالي، بالدرجة الأولى، ما يجعل مثل هذا الظهور ممكنا، فهم الوجود، له في حد ذاته خاصية الانفتاح على شيء ما. وهذا ما يسميه جاك تامينيو: الاختزال الفينومينولوجي. إنه يوحي بأن هذا الاختزال الفينومينولوجيي يعني، انطلاقا من فهم الموجود بغض النظر عن الطريقة التي يتم تحديده بها، إعادة توجيه النظرة الفينومينولوجية نحو فهم وجود هذا الموجود، أي نحو المشروع القائم على نمط لا تحجب هذا الوجود.
لنتركه-يفعل-التقابل لشيء كما تحدثنا عنه سابقاً، باعتباره معطى، يقال بطريقة أخرى: ظاهرية الموجود في الخاصية الإلزامية لوجوده-هكذا ولإنيته، لا تكون ممكنة فقط إلا عندما يكون السلوك تجاه الموجود من حيث هو كذلك سمة أساسية يتم بموجبها منح هذه الخاصية الإلزامية لما يمكن أن يوجد بطريقة أو بأخرى ظاهرة (لمعرفة نظرية أو معرفة عملية). لكن المنح المسبق للصفة الإلزامية، كما يؤكد هايدجر، هو أمر ذاتي، ارتباط بالذات: يجعل الارتباط ملزما لذاته، بمعنى آخر، باستعمال المعجم الكاتطي، فهو يمنح نفسه قانونا.
اتركه-يفعل-التقابل للموجود، السلوك تجاه الموجود بأي نمط كان من أنماط فاتحة الشهية لا يكون ممكنا إلا عندما تكون هناك حرية. هكذا إذن، بحسب هذه القراءة الكانطية، يمكننا أن نؤكد دون أدنى شك أن “الحرية هي شرط إمكان ظاهرية وجود الموجود، فهم الوجود. لكن تحديد وجود الموجود بين موجودات أخرى هو السببية. تتأسس السببية على الحرية. الحرية هي الماهية التي تضم الوجود-الإنسان وتنقله من طرف إلى طرف آخر؛ إنما إليها يجب على الإنسان أن يتوجه ليصبح إنسانا حقا، ومن هنا الاستنتاج: يقوم جوهر الإنسان على الحرية. وتبقى نقطة أخيرة يجب توضيحها: وهي موقف الفكر الهايدجري من اللاهوت الدوغمائي المسيحي.
لننتقل الآن إلى البعد الثاني: القطب اللاهوتي للفكر الهايدجري وتوافقه مع الرسالة الإنجيلية حول الحقيقة. يرى بعض المعلقين أن هايدجر، في رسالته، يبشر بالإلحاد. أما نحن فلسنا من هذا الرأي وسنحاول إلى حد ممكن، باستخدام نصوص هايدجر نفسه واخرى من الكتاب المقدس، إظهار أن رسالة الفيلسوف لا تؤثر سلبا على الرسالة الإنجيلية. سيتم تقديم هذه النصوص للقراء، ولذلك فهم مدعوون إلى المشاركة في النقاش. وبدون شرح مفصل، سوف نستخدم الطريقة المقارنة كما وعدنا بذلك، وسنترك الأمر للقراء لاستخلاص النتيجة. لننخرط في النقاش بالبدء أولاً بنصوص هايدجر. ليتكم تدركون القصد بوضوح. يتعلق الأمر بإثبات التوافق ولا شيء اكثر من ذلك: المفهوم الهايدجري عن الحقيقة يفتح منظورا على البعد الديني الذي بدا أن "الوجود والزمان" يستبعده.
في بداية كتابه: "مدخل إلى الميتافيزيقا" يطرح هايدجر السؤال التالي: "لماذا إذن يوجد الوجود وليس بالأحرى لا شيء؟. لماذا إذن يوجد الموجود..؟ لماذا، أي ما هو الأساس؟ من أي أساس يأتي الوجود؟ على أي أساس يقوم؟ نحو أي أساس يتجه الموحود؟ السؤال لا ينصب على هذا أوكذا أو ذاك من الموجود، على ما هو هنا أو هناك، على الطريقة التي ينشأ بها، على ما يمكن له تعديله، على استخداماته المحتملة، وما إلى ذلك. يبحث السائل عن أساس الموجود من حيث هو موجود. البحث عن الأساس، البحث عن القاع، ذلك يعني التعمق. ما تم وضعه موضع تساؤل يتعلق بأساسه وجوهره. الشخص الذي يعتبر الكتاب المقدس، مثلا، وحيا إلهيا وحقيقة إلهية (حقيقة نؤيدها)، يمتلك بالفعل، قبل كل طرح للسؤال: "لماذا يوجد الموجود وليس بالأحرى
لا شيء؟"، الجواب هو: إذا لم يكن الموجود هو الله نفسه فهو مخلوق من قبل الله. لله نفسه، بصفته الخالق غير المخلوق "موجود". في الفصل الثالث، عند عرض العلاقة بين الوجود والحقيقة، قمنا بتعريف الوجود بأنه phúsis، وفهمناه واستوعبناه كما يزدهر من تلقاء نفسه، كواقعة انتشاره وهو ينفتح، وفي مثل هذا الانتشار، إتجاز ظهوره، قيامه في هذا الظهور وبقائه فبه، باختصار، الهيمنة في ازدهار (انظر ص: 74 من النص الأصلي).
الفوسيس هو الوجود، بفضله وحده يصبح الموجود قابلا للملاحظة ويبقى كذلك. السؤال إرادة-معرفة، لكن ماذا تعني المعرفة؟ يجيب هايدجر: "المعرفة تعني أن تكون قادرا على الوقوف على الحقيقة". حقيقة الوجود هي ظهوره، انكشافه، خروجه إلى النور، أو باستخدام التعبير المسيحي: مجيئه إلى العالم. لنستمع إلى ما يقوله هايدجر عن الله: "إنما فقط انطلاقا من حقيقة الوجود، نستطيع أن نفكر في ماهية الألوهية، وأن نتفكر ونقول كلمة الله". إنما فقط باعتبار الوجود مستنيرا وتم اختباره وفق حقيقته، يمكن ان يظهر المقدس، الإلهي والله. الله هو المقياس الذي يجعل الإنسان يصل فورا إلى بعد عمرانه على الأرض. إنه "المجهول، اللا يمكن الوصول إليه، غير المرئي الذي يظهر من حيث هو كذلك (أي كما هو "موجود") في الإنسان وفي الأشياء المألوفة لذى الأخير. الوجود الهايدجري الذي يمكن وصفه على مستوى الإشكالية الفلسفية على وجه التحديد، من خلال السؤال: "لماذا هناك وجود وليس بالأحرى لا شيء"، مثل الذي لم يسبق له أبدا أن وجد بغير الموجود، يشير إلى مطلق كاشف يمكن أن يكون بكل حرية ظاهرا ومتحجبا في الوجود.
(يتبع)
نفس المرجع